رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عهـد جـديـد ^^

(( الفصل التاسع ))

لا يهتم لهذا القدر العالي من الجمال، ولكن ما أثار دهشتهُ وجعلهُ صامتًا وهو يتأملها هنيهة هو عمرها الصغير.. فـ بدت عشرينية العمر لا إمرأه أتمت الثلاثين ربيعًا، سحب كفهُ الذي احتوى كفها لحظات.. ثم أخفض بصرهُ عنها وردد :

  • أهلًا وسهلًا

ثم أفسح المجال أمامهما للمرور.. أشار نحو الطاولة التي ستحملهم، فـ اتجهت ” زرين ” أولًا.. أبرزت أسنانها اللؤلؤية أثناء إبتسامتها الآسره وهي تصافح ” أنس ” :
– مرحـبًا
– أهلًا

تلقائيًا انخفض طرفي ” زرين ” نحو ” حور ”، التي لم تكلف نفسها عناء النهوض حتى عن جلستها، بل ظلت عيناها المحتقنتين مرتكزة عليها دون أن ترمش.. فـ بادرت” زرين ” بقولها :
– مرحبًا هـور ” حور ”

التفتت جميع النظرات المدهوشة نحوها، حتى أن نظرات ” حور ” كانت الأكثر إندهاشًا وإنزعاجًا لتعرفها إليها، فقالت بإقتضاب ظاهر للعيان :
– أهلًا
” قاسم” وهو يسألها بفضول :
– أنتي تعرفي زوجتي؟

فـ تركت جسدها يستقر على المقعد المبطن وهي ترفع ساقًا أعلى ساق، لتقول بثقة :
– لقد تعرفنا على الكثير بشأنكم

انحنى ” إستيـڨان ” بجزعهُ ومد كفهُ ذا طبقة الجلد المجعدة لـ ” حور ” وهو يردد بالإنجليزية :
– Hello
– Hello!

وأتبع ذلك بـ قُبلة رقيقة على ظهر كفها، جعلت داخل ” قاسم ” يشتط بغيرة شديدة، بدا ذلك بين ثنايات وجههُ المتجهمة.. مما جعلها تنتشي، على الأقل ضايقتهُ كما افتعل هو برد فعلهُ الصادم منذ قليل..
أتخذ الجميع مواضعهم، وبدأت الأحاديث تأخذ شكل أكثر رسمية.. تلك العينان الجريئتان اللاتي تتمتع بهما ” زرين ” جعلت ” حور ” تستشعر بإنها حقًا أصبحت ضمن دائرة الخطر، لم تشعر بالراحة حيالها بتاتًا.. وكأنهُ الحدس النسائي القوي هو الذي دفعها لهذا الشعور.. كانت تختلس النظرات إليها لمراقبة تصرفاتها المريبة، وصوتها المتمايل في الحديث وكأنهُ أسلوب إغراء رخيص في نظرها، تحكمت في انفعالاتها بـ حرفية شديدة گالتي اعتادت على مثل تلك المواقف.. تناولت لقيمات صغيرة للغاية، فداخلها منتفخ على أثـر الغيظ..
شرد ” أنس” في هدوء أعصابها المتناهي، لو إنه لم يرى بعينهُ لا يصدق.. من أين لها بهذا القناع المزيف وهو يعلم حقيقة شعورها الداخلي، ألتهى ” قاسم ” في التحدث الجدي مع الشريك ” إستيـڨان ” ، فكانت ” زرين” تتدخل بالأمر من حين لآخر، فـ أثبتت قدراتها العالية على الإدارة والأعمال..
انتهت تلك الجلسة المليئة بالمجاملات، وانقضى الجمع كُل لمكانهُ.. استقل ” قاسم ” سيارتهُ بجوار ” حور ”، حافظ على ثباتهُ الإنفعالي لئلا ينفجر.. ولكنهُ لم يستطع كبح غضبهُ طويلًا، وإذ به يصيح فجأة وبدون سوابق إنذار :

  • دي آخر مرة هتحضري مقابلات أو اجتماعات زي دي، إنتي عندك حق.. الحجات دي متليقش بالمربية الفاضلة مديرة مدرسة الثانوية بنات

فلم يكن منها صمتًا بل إنها استدارت بجسدها فجأة، وأخرجت صرخة رافقت عبارتها المحتدمة :
– أنت ليك عين تتكلم كمان بعد اللي عملتهُ !

فـ أجاب بإحتداد :
– أنا! عملت إيه ان شاء الله؟
– عملك أسود ومهبب، عينك اتحطط عليها متشالتش! كأنك أول مرة تشوف ستات

كان يوزع نظراتهُ ما بينها وبين الطريق الذي يقتادهُ، حملق عيناه بإنزعاج، ونطق بسخط جلي :
– أنا هبص للملونة دي!! ؟ إنتي أكيد عقلك طار منك
لم تقتنع بحديثهُ رغم إيمانها وثقتها العمياء به، فرددت بطابع الغيرة النسائية المسيطر على حالتها الآن :
– أمال عينك دي كانت بتبص لمين؟ لخيالي!
– أنا كنت مندهش، إزاي واحد زي إستيـڨان يتجوز واحدة قد حفيدتهُ!

فلم تهدأ نبرتها العالية :
– وانت مالك؟ ان شاالله يتجوز العفاريت حتى!

فضاقت نظراتهُ المشتعلة وهو يرمي بالكلمات لها :
– على الأقل مبوستش إيدها، ولا فتحت بوءي من هنا لهنا وانا فرحان أوي بيها

كتفت ساعديها مستنكرة حديثهُ :
– عادي، أول مرة تشوف راجل چنتل بيبوس إيد ست
– چـ .. إيـه؟ چنتل ! دا إبن جـ ***

قبض بأصابعهُ على عجلة القيادة بإحتقان وهو يردد :
– عمومًا ملحوقة، أول وآخر مرة تحصل

لم تردد أو تعقب على حديثهُ.. بل إنها التزمت الصمت، فكرت في شكل اللقاءات المتوالية التي ستحدث بالأيام المقبلة جراء هذا المشروع المشؤوم.. ستكون غير موجودة، وإن افتعلت ” زرين ” كل تلك المحاولات اللغوية والصوتية في اجتذاب ” قاسم ” بحضورها، فما بالك أثناء غيابها! عليها بناء جدار يحمي عشها الأسري الجميل وإلا ستفقدهُ.
ترجلت عن سيارتهُ، واستبقت خطواتهُ للأعلى.. حيث نزعت حذائها العالي لترتاح قدماها وصعدت مستوفضة للأعلى، ولجت لحجرتها ثم أوصدتها عليها من الداخل.. وعندما حاول ” قاسم ” الدخول، استمع لصوتها وهي تصيح :

  • روح نام في أوضة المكتب، وخلي المعصعصة دي تنفعك!

وقف هنيهة أمام الباب يستوعب ما قالتهُ للتو، وحملق في باب الغرفة وهو يهمس :
– دي أكيد اتجننت!

كان ” أنس ” واقفًا على الدرجة الأولى من السُلم حينها ليستمع لكلمة زوجة خالهُ.. فـ حمحم وهو يبتلع ضحكة كادت تصدر منهُ، ثم قال :
– أنا ممكن أستضيفك عندي الليلة ياخالي

فـ حانت التفاتهُ من ” قاسم ” ليقول بجأر :
– أتلم ياض، أنا ورايا شغل هروح أخلصهُ
– براحتك، تصبح على خير

وتركهُ في الممر وحيدًا، فرك ” قاسم ” لحيتهُ ثم غمغم :
– ماشي ياحور، ماشي

…………………………………………………………..
وعقب أن بعثت ” حور ” بـ طاقم كامل من الملابس لكي يبدل ثيابهُ قبيل الذهاب لمقر عملهُ برفقة ” آسر ”.. ذهب دون أن يرتشف مشروبهُ الصباحي، أو أن يودعها گكل صباح.. مزاجهُ سيئًا للغاية منذ ليلة أمس، وهي لا تفرق عنهُ بل أكثر.. حينما تتخيل إنهُ سيراها اليوم في إجتماع عام سيضم الجانبين، يزداد لهيب صدرها..

تجمع الحضور على طاولة الإجتماع بغرفة مجهزة إلكترونيًا بأحدث معدات العرض لتناسب مثل هذه الإتفاقيات العالية في مستواها.. الجميع في انتظار حضور ” قاسم ” .. جلس ” أنس ” على يمينهُ، وكان اليسار يضم الشريك وزوجتهُ وبعض أعضاء الوفد، تهامس ” إستيـڨان ” وزوجتهُ قليلًا بلغة غريبة.. ليست إنجليزية أو فرنسية أو إيطالية، فـ ” أنس ” يتحدث الثلاث لغات بطلاقة.. ولكنها تبدو روسية أو ما شابه..
نظر ” أنس ” لساعة يدهُ بتوتر، فهذه ليست عادة خالهُ، لحظات واقتحم ” قاسم ” الغرفة برفقة أحد مستشاريهِ ، يبدو على وجهه الحزم منذ اليوم الأول.. رمقتهُ ” زرين ” بإعجاب شديد لهذه الملامح التي تكسو تعابير وجههُ، جلس ” قاسم ” وهو يردد

  • Good afternoon, Let’s get started
    ( مساء الخير، هيا بنا نبدأ )

وبدأت فعاليات العرض والشرح، بجانب الترجمة الفورية من مترجمي الوفد.. الجميع استعرض نقاط قوتهُ، واستغل نقاط الضعف لتكون مصدر قوة، أصبح قيام المشروع متوقفًا على توقيع العقود وبعض الإجراءات القانونية الروتينية..
أنفض مجلسهم، فكان أول المغادرين ” إستيـڨان ” بصحبة ” قاسم ”.. بينما بقيت زوجتهُ، تحركت نحو” أنس بخطى متمايلة، ابتسمت قبل أن تردف بصوتها الناعم :

  • إن لم تمانع، هل تصحبني لدورة المياه.. أرغب في تصحيح طلاء شفاهي إن فسد

أفسح ” أنس ” الطريق وهو ينطق بخشونة رافضة لميوعتها :
– أتفضلي

ترك أوراقهُ لـ ” رائف ” وقال :
– أسبقني وانا وراك

اصطحبها لـ دورة المياه الخاصة بموظفات الشركة، فنظرت لهن بإستغراب ورددت :
– هل جميعهن في نفس المكان؟

وكأن الإشمئزاز قد أحتل نبرة صوتها، فتهكم ” أنس ” قائلًا :
– الخطة الجاية وإحنا بنجدد الديكورات هنعمل لكل موظفة حمام خاص بيها

زرين وهي تبتسم بتكلف :
– لم أقصد، ولكن لابد من وجود دورات مياه مخصصة لذوات المكانات الرفيعة
تنهد بحنق وقال :
– لأ مفيش، معتقدش حمام مكتبي يناسبك!

ثم جاب أعلاها وأسفلها بإستنكار.. لاحظت إنها أطالت الأمر، فـ قررت الدخول أخيرًا؛ ولكنها اشترطت عليه :
– رجاءًا انتظرني ، سـ أفقد الطريق في هذا الصرح الواسع

أومأ برأسه موافقًا، وخطى بعيدًا خطوتين.. بينما ولجت هي، أعادت وضع طلاء الشفاه الصارخ.. فبرزت حجم شفاها المغرة بوضوح، ضبطت وضعية شعرها الذهبي على جانبها ونظرت بإستعلاء في المرآه.. ثم تحركت نحو الخارج من جديد، اقتربت منهُ.. وما أن أوشك على التحرك توقف بغته على أثر سقوطها المتعمد ناحيتهُ، حتى التصقت رأسها بـ عنقهُ.. اعتقد إنها شعرت بدوار، فعاونها لتعتدل وهو يسأل بقلق :
– أنتي كويسة!

تنفست الصعداء وهي ترد :
– بخير، لقد التوت قدمي فحسب

تشبثت بذراعهُ، ولكنهُ أفلتها بتهذيب.. طرد زفيرًا محتنقًا وهو يشير إلى الأمام :
– أتفضلي

قادها نحو غرفة مكتب ” قاسم ” حيث زوجها .. كان ” إستيـڨان” قد أنهى حديثهُ توًا، ونهض كي يغادر الشركة.. مد يدهُ لمصافحة “قاسم”، ثم توجه نحو الباب بنفس التوقيت الذي ولجت فيه ” زرين ” ، فأشار لها نحو الخارج :

  • Let’s go

لوحت ” زرين ” في الهواء لـ” قاسم ” وهي تردد :
– إلى اللقاء
– إلى اللقاء

اقترب ” أنس ” من مكتب ” قاسم ” وهو مرابطًا نظراتهُ عليهم حتى الخروج، ثم نظر لخالهُ وقبل أن يتحدث بادر ” قاسم ” بـ :
– أقعد ياأنس، عملت إيه في حكاية اللي اسمهُ عمر دا؟

أخرج ” أنس ” صورة فوتوغرافية من جيب سترتهُ ووضعها على سطح المكتب وهو يقول :
– عمر عبد المجيد، ٢٠ سنة كلية تجارة فرقة تانية.. الأهم بقى
– ها؟
– يبقى أخو رضوى صاحبة أفنان الأنتيم

نظر ” قاسم ” لصورة هذا الشاب الأخرق الذي على علاقة سرية بـ ابنتهُ.. ورغم كون ملامحهُ عادية للغاية إلا إنه رآه قبيحًا بغيض الخلقة، رفع بصرهُ عن الصورة وهو ينطق بـ :
– عايزك تراقب العيل دا الـ ٢٤ ساعة
– في حد تبعنا وراه

نهض ” قاسم ” عن جلستهُ وسحب حقيبتهُ وهو يهتف بإمتعاض مدفون :
– أنا هروح المصنع وهبقى أطلع على البيت على طول

وقف “أنس” عن جلستهُ :
– ماشي

وقبل أن يستطرد ” قاسم ” حديثهُ، لمح طيف هذه البقعة الحمراء على ياقة ” أنس ” البيضاء.. دقق بصرهُ فيها ليجد إنها شفاه مطبوعة، فتلوت شفتيهِ بإستهجان وقال بتلميحات متعرية :
– أحسنلك متروحش البيت بالشكل دا النهاردة، وإلا مش هتبات فيه تاني واحتمال تتطرد

عقد ” أنس ” ما بين حاحبيه بإستغراب :
– مش فاهم!
”قاسم ” وهو يشير برأسه نحو الياقة :
– بص على قميصك

ثم ألتوت شفتيهِ مستنكرًا وتابع :
– لما تحب تلعب بديلك متبقاش غبي للدرجة دي
– والله أبدًا ياخالي، دي الـ…. البومة مرات استيڨان

أحتدت ملامح ” أنس ” وتابع :
– أتكعبلت ووقعت عليا
” قاسم ” وهو ينتقل بإتجاه الباب :
– أنا نصحتك وانت حر

ثم غمغم بصوت خفيض :
– بومة فعلًا
…………………………………………………………..
لم يتأخر عن موعدهُ الإعتيادي، ولكنها تشعر بعكس ذلك.. يمكن لأنها في انتظارهُ تشعر بقيمة الوقت الممل، تنظر للتلفاز ولكنها لا تشاهدهُ.. انتقلت أنظارها نحو الساعة مرة أخرى، ثم تنهدت بإستياء ، لتجد باب غرفة المعيشة ينفتح على مصرعيه ليظهر ” قاسم ” من خلفهُ..
شمل الغرفة بعينيهِ قبل أن يوجه سؤالهُ لـ “ياسمين” :
– أفنان فين؟
ياسمين بتلقائية شديدة ومازال بصرها موجهًا نحو التلفاز :
– عند رضوى صحبتها

وما أن ذُكر أسم ” رضوي ” حتى قست تعابير وجهه وأظهرت عيناه شرارًا وهو يخرج هاتفهُ من جيب بنطالهُ، حاول الإتصال بـ ابنتهُ أكثر من مرة حتى أجابت :
– ألو
– أنتي فين؟
فأجابت بتوجس :
– عند واحدة صحبتي

وفجأة صاح بها بصوت أفزع الجميع :
– تنزلي وتيجي هنا حالًا، سمعتـي

وأغلق الهاتف مسرعًا، ثم نظر حيال ” حور ” التي كانت تتطلع لتصرفاتهُ الغريبة بترقب، حتى أمرها بـ :
– تعالى ورايا على المكتب
– آ….

وقبل أن تظهر أي إحتجاج، كرر عبارتهُ بقوة مضاعفة :
– قولت ورايـا!

واستبق خطواتها للأسفل.
بينما كانت” أفنان ” واقعة في حيرة من أمرها، فقد ألح عليها ” عمر ” لتبقى بعض الوقت قليلًا، ولكنها بررت :
– طالما بابا كلمني وهو متعصب كدا يبقى في حاجة، لازم امشي
عمر وهو يتمسك أكثر بكفها :
– خليكي شوية كمان يانوفا، أنا مش بعرف اشوفك غير الشوية اللي بتيجي فيهم لرضوى
رضوى وهي تتمسك بوجودها :
– خليكي يانوني دي ماما هتحضر العشا دلوقتي وناكل سوا
أفنان بإصرار :
– صدقيني مش هينفع

سئم ” عمر ” الإلحاح عليها، فـ أظهر ضيقهُ منها وهو يلوح لها بعدم اهتمام :
– روحي ياأفنان، انتي أصلاً عمرك ما عملتي ليا خاطر

ثم تركها ودلف لحجرتهُ ينفرد بها، في حين غادرت ” أفنان ” بالفعل خوفًا من بطش ذلك الأب الحاني، فـ عندما ينقلب مزاجهُ ليكون وحشًا.
……………………………………………………………

هبتّ ” حور ” عن جلستها، أحمر وجهها حُمرة غاضبة وهي تهدر بصوتها غير مصدقة :
– أنت بتتهمني أنا بالتقصير! دا انا حياتي كلها ليك وللولاد عمري ما قصرت مع حد منكم
قاسم وهو يضرب بكفهُ على سطح المكتب :
– لما بنتك تعرف واحد وانتي نايمة على ودانك تبقي مقصرة ياحضرت المديرة، يامربية يافاضلة

عقدت ذراعيها بتبرم وصاحت :
– والله لو في حد مقصر يبقي إحنا الاتنين، الأم مش بتربي لوحدها
– أنتي الأساس ياهانم
– وسيادتك المفروض المُكمل ليا

لم يروق له مناقشتها له، فهتف وقد تقلص وجهه بإحتدام :
– أنا مش جاي اناقشك عشان تكلميني بالفلسفة الفارغة دي.. في حاجة ناقصة بنتك وراحت تدور عليها برا، في ثغرة انتي سيبتيها مفتوحة
– وليه الحاجة الناقصة دي تكون مني!
قاسم وقد بدأ ينفذ صبرهُ :
– حـــور!

لم تهتم، بل تابعت حديثها الذي يبغضهُ :
– البنت في سن خطر، وحواليها بنات كتير أكيد أخلاقهم مش زيها.. طبيعي تتعرض لإضطرابات سلوكية، دا مش معناه إني…..

قاطعها بلهجة صارمة :
– حــور!!
أستكملت بعدم اهتمام :
– مش معناه إني مقصـرة
– بــــــــس

قالها وهو يطيح بذراعهُ ذلك الإطار الذي يحمل صورة تجمع كل العائلة.. فسقط ليتهشم الزجاج ويفسد الإطار، واستطرد بلهجة صادقة تعرفها جيدًا :
– لو مـ اتصرفتيش انتي هتصرف انا في أسرع وقت.. وتصرفي هيكون همجي أوي بالنسبالك، خلص الكلام

ثم تركها وبرح الغرفة، هي تدعي الثبات.. ولكن بداخلها براكين محمومة، حالها گحال أي أم عندما تعلم أن فتاتها الصغيرة في السن عديمة الخبرة على علاقة سرية بـ شاب لا تعلم هويتهُ، ودت لو صفعتها صفعة تُدميها.. ولكن ليت الحل في صفعة، وإنما الأمر يحتاج لإستراتيچية مُعقدة للغاية ليست كل الأمهات على دراية بها..
جلست ” حور ” في حديقة المنزل، لتكون أول من استقبل ” أفنان”.. استمعت لصوت السيارة وهي تُصف أمام الباب، فتأهبت لمواجهة ابنتها.. ولجت ” أفنان ” وأغلقت بوابة المنزل، فلمحت والدتها الجالسة على طاولة مستديرة في وسط الحديقة، اقتربت منها ودقات قلبها تتصارع بخوف شديد.. وسألتها :
– في إيه ياماما ؟ بابا كان متعصب أوي وهو بيكلمني ليه؟

تأملت وجه ابنتها البرئ قليلًا قبل أن تردف :
– شوية مشاكل في الشغل وعصبيته طلعت عليكي

تعرفت على نبرة والدتها الحزينة، فسألتها :
– وانتي مالك ياماما؟
– زعلانة أوي ياأفنان، أوي

جلست ” أفنان ” بجوارها، واستفسرت بإهتمام :
– ليه بس؟
– مدرسة زميلتي بنتها عندها مشكلة كبيرة وانا بفكر احلها ليها ازاي

فأثارت فضولها لتسأل بتلقائية :
– مشكلة اي دي؟
– بنتها تعرف شاب ومخبية عنها

توترت ” أفنان ” على الفور.. وشبكت أصابع كفها لتفركهم بإرتباك ملحوظ، بينما تابعت ” حور ” بنفس نبرتها الحزينة التي لمست صميم ” أفنان ” :
– المشكلة ان البنت في سن مراهقة، مشاعرها متخبطة ومضطربة.. ودا سن مينفعش فيه أي نوع من أنواع الإرتباط

فأجابت ” أفنان ” على لسان حالها، وكأن الحديث لها :
– مش يمكن بتحبهُ؟
– لأ، السن دا مبيحبش.. السن دا بينجذب بس يابنتي

ربتت على كف صغيرتها واستطردت :
– في السن دا، بتبدأ البنت تحس إنها خلاص كبرت.. محتاجة تكون مستقلة بنفسها، عايزة تتصرف بحرية بعيد عن أي تحكم.. بتشوف زميلاتها وبتحب تقلدهم لكن دا غلط.. مش كل حاجة بتتقلد، علاقة زي دي محكوم عليها بالموت من قبل ما تتولد.. وبعد ما تمر سنين من عمر البنت وتبص لنفسها في المراية، هتستغرب .. هي ازاي كانت منجذبة لشخص بلا مميزات، لأن الحكم في سنكم دا ظاهري، بتشوفي الشاب وطريقة لبسه وكلامهُ وشعره الجميل وعيونه الملونة.. بتنجذبي ليه بحكم طبيعة سنك، لكن عمرك ما هتفكري فيه بعقلانية .. انتوا محتاجين تتعلموا، تشتغلوا وتشوفوا ناس وتتعاملو مع ناس.. تخرجوا للدنيا، تعملوا كيان لنفسكم، لأن الإرتباط مش أسلوب حياه، وعمرك ما هتعرفي تختاري صح.. انتي بس محتاجة حاجة معينة من العلاقة دي، محتاجة تشبعي رغبة عندك انتي مفتقداها

عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم :
– يعني إيه ياماما؟
– يعني محتاجة تسمعي كلام حلو، محتاجة حد يقولك انتي جميلة أوي النهاردة ياأفنان.. محتاجة تحسي إنك رقم واحد في حد.. لكن متعرفيش إنك أول حاجة في حياة باباكي ومامتك ، عايزة تحسي شعور إنك إنسانة تتحب وفي حد عايزها، لكن حـب!

صمتت قليلًا وتابعت بتحسر :
– الحب أكبر بكتير من مجرد الشعور بالإحتياج يابنتي

شعرت ” حور ” بوخزة تؤلم صدرها، فـ ابتعدت بظهرها للوراء وتابعت :
– أنا زعلانة أوي ان البنت دي خذلت أمها، خانت الثقة وخبت عنها .. لو تعرفوا إحساس الأم إيه في اللحظة دي! ، عمركم ما هتفكرو تعملو كدا.. مش هتسرقوا ثقتهم أبدًا

ثم أعقبت عبارتها بنهوض، وسارت نحو الداخل بخطى متهادية وكأنها تحارب ساقيها الرخوتين.. تاركه ابنتها تُعصف هنا وهناك.. تطاير عقلها بتشتت وتخبط شديد، لا تعرف ماذا تفعل.. استشعرت لوهلة أو الحديث كاملًا موجهًا إليها، حتى أن قلبها يؤلمها على تلك الفعلة المشينة التي افتعلتها في حق والديها اللذان لم يؤخرا طلبًا عليها.. ترقرقت عبرتين من طرفيها بندم حقيقي، ولكنها سرعان ما أزاحتهم لكي لا تضطرب الأجواء من حولها.. تصنعت الثبات، وغدت للداخل لتختبئ بين وسائدها الوثيرة.
……………………………………………………………
وجبة شهية للعشاء أعدتها “ياسمين” بنفسها لأجلهُ عندما علمت بإنهُ سيحضر للمنزل متأخرًا.. صفت الأطباق بشكل أنيق على الحامل المعدني، ثم سكبت كأس من العصير الطازج ووضعتهُ في زاوية الحامل ثم تأملت شكل الحامل عن بُعد، فبرزت ابتسامة راضية على ثغرها..
بنفس الآن، كان ” أنس” يضبط ياقة قميصهُ الجديد وهو ينظر للمرآه الأمامية، ثم التقط الحقيبة الراقية التي تحمل قميصهُ الملطخ بطلاء الشفاه، وبدأ خطواتهُ نحو الداخل في نفس اللحظة التي كانت تستعد فيها ” ياسمين” لصعود غرفتهُ.. ولكنها لمحتهُ يدخل مرتبكًا، ينظر حولهُ يمينًا ويسارًا كأنه افتعل جريمة شنعاء ويخشى كشفها.. عقدت ” ياسمين ” حاجبيها بتعجب وهي تراقب خطواتهُ الهادئة نحو الأعلى..
ألتوت شفتيها بفضول شديد، وانتظرت حتى تأكدت إنه بمحل غرفتهُ.. فـ صعدت، تركت الطعام على المنضدة وكادت تخرج سريعًا قبيل أن يغادر المرحاض، ولكنها رأت طيف هذه الحقيبة.. فكرت في فتحها لترى ماهية ما تحملهُ، ولكنها تراجعت لـ لحظة وكادت تخرج.. ولكن الفضول أكلها، فـ اندفعت لترى محتواها خلسة.. لتقع النائبة، رأت مالا يجب رؤيتهُ، أخرجت القميص وحدقت بعدم تصديق في تلك الشفاه المطبوعة على ياقتهُ .. أنقبض قلبها بفزع، وصاحت بصوت أخرجهُ من المرحاض مستوفضًا بـ :

error: