رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عـهد جديد ^^

(( الفصل الحادي والعـشرين ))

في هذا اللحظة التي قررت فيها “ياسمين” إقتحام غرفة والدتها، كانت غير موجودة في محيط الغرفة.. لم يجعلها هذا ترتد عن أفكارها قليلًا، وإنما أخذت خطواتها للأمام بحثًا عن أوراق والدتها الخاصة والتي تضعها في أدراج الكومود المجاور للفراش.. فتشت بتوتر مخلوط بالخوف عن تلك الأوراق، ولكن جميعها أوراقًا عادية.. بحثت عن شهادة ميلاد “أفنان” ولكنها لم تجد لها أثرًا، فأعادت كُل شئ بمكانهُ وخرجت من المكان منتقلة لغرفة “أفنان”.. كانت تنتقي أماكن معينة تبحث فيها، حتى وجدت مبتغاها.. شهادة ميلاد” أفنان” والتي تحمل تاريخًا يعقب تاريخها بـ عشرة أشهر فقط.. كــيف! وإن كان فرضًا أن “أفنان” ولدت ذات سبعة أشهر وليس تسعًا، لن تستطيع “حور” الحمل بها قبل مرور سنة على ولادة “ياسمين” على الأقل.
بدأت الشكوك تكبر وتكبر حتى أصبحت حقيقة توقنها، ولكنها في حاجة لسماع هذا اليقين بأذنيها.. أحتفظت بشهادة الميلاد معها واختلت بنفسها تفكر تفكيرًا مليًا، الحل الآن هو الحصول على عقد زواج والدتها ووالدها، والذي سيكون مدونًا فيهِ تاريخ عقد القران بالتحديد..
عادت مرة أخرى لغرفة والدتها وأعادت البحث الدقيق مرة أخرى بنفس المكان، لتجد المنشود..
عقد زواج والديها والذي سبق تاريخ ميلادها بـ ستة أشهر تحديدًا..
تثلجت أطرافها، وبدأت رعشة تسري في جسدها وهي تربط الأمور ببعضها.. لم تهتم يومًا بهذا الشبه بين “أفنان” ووالدتها، بينما هي لم تحتفظ بأي من ملامحها.. الآن تدري السبب، هي ليست والدتها إطلاقًا، كيف لها أن تكون والدتها وقد تزوجت بـ والدها قبيل حلولها لهذه الأرض بـ ستة أشهر فقط..
حتى الدموع تأبى أن تنسال من عيونها، هي الآن لا تعلم حقيقة نسبها.. أين والدتها وكيف تتركها هكذا!
وهل هو والدها أم إنها دخلت عائلة لا تنتمي لدمائها بتاتًا.
أحتبست نفسها في غرفتها، ورأسها تكاد تنفجر من فرط التفكير! من تــكون هي إن لم تكن إبنتها؟
كيف لهم أن يفعلـوا بها هذا؟
استمعت لصوت الباب يقرع بهدوء، فنظرت نحوهُ بصمت مريب.. لـ تدلف والدتها إليها وعلى وجهها إبتسامة بشوشة وهي تقول :
– ياسمين، العشا جاهز وبابا في الطريق زمانهُ جاي.. حضري نفسك عشان نتعشا سوا

لم تنطق كلمة واحدة.. فـ انتاب “حور” القلق حول ما يشغل بالها، وما السبب وراء إختفاء إبتسامة السعادة التي كانت تغزو وجهها منذ الصباح!
اقتربت منها وجلست جوارها، مسحت على فخذها بدفء أموي جارف وقالت :
– مالك ياياسمين؟!

مازالت مرتكزة ببصرها عليها دون حديث، مما جعلها ترتاب أكثر وتتشكك في أمر “أنس”.. أو إنه أحزنها بأفعالهُ گعادتها، فسألتها :
– أنس زعلك تاني؟

سحبت” ياسمين ” جسدها لليمين ومددتهُ على الفراش وهي تردد :
– أنا عايزة أنام شوية، حاسة إني مرهقة

لم يكن سببًا مقنعًا بالنسبة لها بتاتًا، ولكنها حبذت ألا تضغط عليها الآن علها تبوح بما تكنّهُ لاحقًا، انسلت من غرفتها بهدوء وقد داعبت الشكوك رأسها حول تغيير ابنتها.. في حين كانت “ياسمين” تعاني ويلات الصمت وكتمان الأمر، ترغب وبشدة في مواجهة عائلاتها ليفسروا الأمر لها على الأقل، فقد أصبحت بين ليلة وضحاها إبنه لأم لا تعلم من هي.

……………………………………………………………
اختلى “قاسم” بنفسهُ في غرفة مكتبهُ وأوصد الباب من الداخل.. حيث قام بشراء مجموعة مميزة من الخامات والأدوات التي سيستخدمها في رسم “حور” گـ لوحة كبيرة كما رغبت هي..
جلس يضع التفاصيل الأولى لوجهها وينقشها بدقة بالغة وإحترافية تتناقض مع عدم إمتهانهُ الرسم، ولكنهُ يتذكر كافة الأسس ويقوم بتطبيقها عليها، لم يحتاج الأمر لصورة لها، فهو يحفظ تعابير وجهها حفظًا عن ظهر قلب.. حتى إنهُ يراها متجسدة الآن أمامهُ في حين إنها غير موجودة، ابتسم وهو يراها تضحك لهُ بمرحها.. ثم توقف هنيهه يتأمل نواقص البدايات، ثم عاد يستكمل الرسم بالأقلام الرصاصية ذات الجودة العالية..
في هذه اللحظة استمع لصوت طرقات علي باب الغرفة، فـ نهض ليفتح الباب بنفسهُ.. وإذ بـ أفنان تقف بإنزاوء على نفسها أمامهُ وتقول بصوت واهن :

  • ماما بتقول لحضرتك العشا جاهز

أفسح “قاسم” الطريق وهو يأمرها بـ :
– أدخلي ياأفنان ، عايـزك

اضطرب داخلها وتوترت وهي منحنية الرأس، وبخطوات بطيئة ولجت واستقرت في مكانها حتى أمرها بـ :
– أقعدي هنا

ثم جلس في مقابلتها، كانت نظراتهُ تفضح ما يجول في صدرهُ قبل أن يتحدث بعد لحظات من الصمت الذي أرعب نفسها :
– أنتي خذلتيني، مكنتش متوقع منك تخوني الثقة اللي عمري ما اديتها لمخلوق.. لكن أديتهالك انتي

بدأت الدموع تعرف طريقها لعينيها وهي تستمع لكلماتهُ السامة، في حين تابع هو :
– إيـه اللي ناقصك ياأفنان؟

هزت رأسها وهي تنطق بصوت متحشرج :
– ولا حاجة
– طب ليـه؟

أجابت بالصمت حينما انسدلت عبرتين ساخنتين على وجنتيها، فـ أيّا ما كانت الحُجة التي ستبرر موقفها بها لن تكون سببًا كافيًا لهُ ..

_ على الجانب الآخر ..
حان موعد العشاء، وحتى هذا الحين لم تغادر “ياسمين” حجرتها ولم تتناول شيئًا على الإطلاق طوال اليوم.. انتهت “حور” من تجهيز المائدة وصعدت بنفسها لتتفحص حال ابنتها، كانت الغرفة مظلمة والأضواء منطفئة.. فـ ضغطت “حور” على زر الإنارة ودنت من فراشها وهي تقول :
– ياسمين، انتي قاعدة كدا ليه ياحببتي مالك؟
– ماليش

جلست على طرف الفراش وهو تحاول إجتذاب الحديث منها :
– قوليلي بس إيه مزعلك وانا هتصرف

التفتت لتنظر إلى ملامحها بتدقيق، وكأنها تراها لأول مرة.. وأطالت النظر قليلًا مما دعى “حور” لتسأل بعدم فهم :
– بتبصيلي كدا ليه؟ لو عايزة تقوليلي حاجة معينة أنا هسمعك ياياسمينا، وانتي عارفه ماما كويس.. بتقدر تحل أي حاجة

فكان سؤالها الغير المتوقع گضربة قاسية على رأس “حور” :
– أنتـي ماما؟

لم تتفهم مقصدها أولًا، فرددت بعدم فهم :
– مش فاهمة تقصدي إيه؟
– أنا مين؟ أنا بنتك ولا بنت واحدة تانية؟

گصاعقة حطت على الكوكب فجأة فـ هلك جميع من فيها.. شعور سئ للغاية، وتضارب في المشاعر جعلها تتقن الصمت الطويل وهي تطيل النظر إليها غير متوقعة نهائيًا ما تسمعهُ الآن، مما أكد شكوك “ياسمين” وهي تتابع :
– فين أمـي الحقيقية؟

تلعثمت “حور” وقد تمكن الإرتباك منها وهي تقول :
– آ.. آ أنا أمك ياياسمين
– مش صح ! مستحيل تكوني أمي.. أنا بنت مين؟

بدأت تدخل في حالة هياج عصبي وهي تعيد كلماتها :
– أنا بنت مين ردي عليا؟

_ على جانب آخر..
تنهد “قاسم” غير راضيًا عن هذا التصرف الذي سيسلكهُ، ولكنهُ مضطر لذلك كي لا يخسر ابنتهُ نهائيًا :
– أنا موافق اسيبلك فرصة تانية، فرصة عشان ترجعي زي الأول وأحسن.. لكن عيني هتفضل عليكي على طول ياأفنان

هشَّ صدرها وانشرح وهي تبتسم بحبور شديد، ونزحت تلك العبرات وهي تردد بحماسة شديدة :
– أنا موافقة، المهم تسامحني

نظر لعينيها مباشرة نظرة أخجلتها، فأطرقت رأسها حياءًا.. بينما ابتسم هو بسعادة شديدة من هذا التناسخ العجيب بين عينيها وعين والدتها، نهض عن وضعيتهُ وهو يردف :
– متفقين ياأفنان

نهضت فجأة لتتعلق برقبتهُ گطفل ضل طريقهُ وعانى طويلًا حتى عاد لأحضان والديهِ.. استشعر ضربات قلبها العالية والمتسارعة من فرط حماستها، فمسح على شعرها المعقوص وقال :
– الفرص مش كتير وبتطير بسرعة، خلي بالك
– حاضر، أوعدك مفيش حاجة من دي هتتكرر

جذبها للخروج وهو يردد :
– أكيد أمك كل دا مستنيانا

كان يطوق كتفها بذراعهُ بتكون رأسها بجوار قلبهُ مباشرة عندما رآهم “أنس”.. أقدم عليهم وهو يتأملهم بتفاؤل، ثم قال :
– وأخيرًا أفنان ضحكت

ابتسم”قاسم” وهو يقول :
– خلاص مفيش زعل تاني، أمال فين حور؟

في هذه اللحظة تحديدًا، وعندما انتبهت حواسهُ لغيابها.. استمع لصوت “ياسمين” المرتفع والذي أشبه الصراخ من أعلى، فـ تنغض جبينهُ بذهول وهو يتجاوزهم ليصعد الدرجات القلائل التي تفصل بين الطابقين وهما من خلفهُ..

“ياسمين” وهي تصيح بصوت مرتفع صاحب دموعها المنهمرة بدون توقف :
– أنتي كــذابة، مستحيل أكـون بنتك.. في حقيقة تانية أنتي مخبياها ولازم أعرفها دلوقتي
– يـاســــــــــمين !

كان صوتهُ الصارم مميزًا، جعلها ترتجف وهي تلتفت لتراه أمامها مستعدًا للإنقضاض عليها.. اتسعت عيناه حتى كادتا تخرج عن محجريهما وهو يرمقها بنظرات أشد من الغضب عقب سماعهُ لحديثها الأخير..
وعندما رأتهُ “حور” في تلك الحالة الثائرة، تحركت لتحول بينهُ وبينها وهي تقول بهدوء يتناقض مع آلام قلبها :
– قاسم أنا وياسمين بنتكلم مع بعض سيبنا دلوقتي

لم يهتم “قاسم” لحديثها، بل وجهِ إليها نظراتهُ الرصاصية أثناء قولهُ :
– إزاي تكلمــي أمك باللهـجة دي يابـنت ؟!

“حور” :
– ياقاسم أنا قولتلك بـ……

قاطعها بإحتدام وهو يدفعها من أمامهُ بـ لين :
– متدخليش انتي

ثم عاد ينظر إليها وتابع :
– ردي عـليا إزاي صوتك يعلـى كـدا على أمك؟

نظرت “ياسمين” حولها ثم ضحكت بإستخفاف وهي تقول :
– هي فين أمي دي؟ فــين؟!
أنتـوا كذبتوا عليا طول السنين دي وعايشة معاكوا وانا معرفش مين أمي

للحظة تجمد الجميع بمكانهُ.. وتغيرت ملامح الجميع نظراتهُ عالقة عليها وهي على شفى حفرة من الانهيار.. بينما بدأ “أنس” يستذكر تفاصيل تلك الحادثة التي كانت في طفولتهُ، هذا المبنى العتيق الذي حُرم من دخولهُ.. وإحتباس زوجة “قاسم” الأولى بهِ (صفوة)، ورغبة “قاسم” في إجهاض الطفل قبل ولادتهُ لولا وجود “حور” .. وتبنيها لهذه الطفلة التي لم تنعم حتى برؤية والدتها التي توفت عقب الولادة مباشرة لسوء حالتها الصحية، كُل تلك التفاصيل عادت لعقلهُ في لحظة واحدة وهو يتأمل وجهها الباكي.. ورغم حالة الضيق التي اجتاحت “قاسم” لكشف حقيقة گهذه لم يحسب لها يومًا، إلا إنه تظاهر بالثبات والجلادة وهو ينطق بـ :

  • حور هي أمك، أي حاجة تانية ملهاش قيمة جمب الواقع دا

فقالت ونبرتها متشنجة:
– أنا عايزة أعرف مين أمي الحقيقية مش الست اللي ربتني

فكانت نظراتهُ قاسية لحد أكبر من زي قبل وهو يجيب :
– ماتت وهي بتولدك

أنقبض قلب “حور” وهي تستمع لكلمات زوجها القاسية، وراقبت شحوب وجه ابنتها بالتبني “ياسمين” عقب ما استمعت إليه، وكانت الصدمة الحقيقية من نصيب “أفنان” التي لا تعرف عن الأمر شيئًا على الإطلاق..
تزاحمت الأفكار والهواجس في عقلها، وسألت بصوت مبحوح :
– يعني إيه ماتت؟؟ طب ليه أنا مش على أسمها؟

فكان ردهُ جاهزًا :
– وليه تعيشي طول حياتك حاسة بالنقص عن غيرك من البنات وانتي شيفاهم في أحضان أمهاتهم!.. أنا ضمنتلك حياة سوية من غير عُقد، حطيتك في أيد أمينة.. والأيد دي صانت الأمانة

لم تشعر “ياسمين” بحالها من فرط الضغط العصبي إلا وهي تصرخ بأعلى صوت في وجه والدها قائلة :
– مين إداك الـحق تختار مصيري بالنيابة عني وتسميني على أسم ست تانية؟؟ مــين!؟

هوى على صدغها بـ أول صفعة يصفعها لها في حياتهُ.. صفعة جعلتها تهتز من فرط قوتها ولكنها بقيت جامدة، لولا وجود “حور” أمامهُ لـ كان أبرحها ضربًا عقب هذا التبجج الذي رآه منها اليوم..
لم يتدخل “أنس”، وبقى مشاهدًا صامتًا.. أجفل جفونهُ عقب أن رآها تُصفع، ورغم آلام صدرهُ عليها إلا إنهُ حزن من تصرفها الأهوج حيال تلك السيدة التي اعتنت بها طوال السنوات الغابرة.. حتى” أفنان” مسيطرًا عليها الذهول ولم تستطع التحرك من مكانها.
دفعتهُ “حور” بقواها الخائرة للخلف وهي تصيح :
– أنت بتعمل إيــه ياقاسـم؟

مازال ناظرًا إليها بنظرات تكاد تفترسها وهو يقول :
– المرة الجاية اللي هسمع فيها صوتك أعلى من صوتي، أنا ممكن أدفنك في مكانك قبل ما تعمليها.. والست اللي مش عجباكي دي انتي عايشة بفضلها بعد فضل ربنا.. كان زمانك ملكيش وجود لولاها، الست اللي قولتلها كذابة دي عمرها ما قصرت معاكي، دي كانت مدياكي أكتر من ولادها.. ميتهيأليش يكون دا جزاتها منك

ابتعد “قاسم” للخلف، وأشار لجميعهم :
– كلكم أطلعوا برا، محدش هيقعد معاها

“حور” :
– سيبني أ….
– أنتي أول واحدة هتطلع بــرا، مش هتحايلي فيها ولا تدلعيها، يـــلا

واستبقتهُ “حور” للخارج وقلبها يعتصر متألمة مما أصاب أسرتها.. گـ إرتطام عنيف ضرب كيانهم فجأة، سارت “أفنان” من خلف والدتها، بينما بقى “أنس” واقفًا يتطلع إليها بضيق يعتريهِ.. حتى أمرهُ “قاسم” :
– أطلع بــرا ياأنس

رمى عليها نظرة أخيرة، أعقبها بإختفاءهُ من حجرتها، فـ أصبحت وحيدة بمكانها.. متصلبة بوقفتها عاجزة عن الحراك، تخدر صدغها الذي صُفع وتسربت إليهِ حرارة شديدة.. وسالت دموعها عليه گقطرات الحميم الملتهب التي تؤلمها أكثر، لم يتعاطف أحدًا مع حالتها.. بل أن الجميع انشغل بحالة من الصدمة.
……………………………………………………
…………………………………………..

error: