رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عـهد جديـد ^^

(( الفصل الثالث عشـر ))

مازالت نظراتهُ مرتكزة على الطريق الذي يقتادهُ، ولكن عقلهُ غائبًا في مكان بعيد حيث ترك هؤلاء المتآمرين.. تُرى ما السبب الخطير الذي دفعهم لإختلاق تلك الكذبة! مُحال وجود أمور تُحاك من خلف ظهر خالهُ، لا يوجد تفسير آخر.. تنهد “أنس” بإختناق وهو يُرخي رابطة عنقهُ، بينما لكزهُ “عصام” الجالس جوارهُ بالسيارة وهو يردد :

  • روحت مني فين ياأنس! بقالي ساعة بكلمك
  • هـه! معلش مخدتش بالي.. بتقول إيه؟

عاد “عصام” ينظر عبر النافذة ثم قال بإبتهاج :
– بقولك مصر اتغيرت أوي، بقالي ١٧ سنة تقريبًا غايب عنها

فـ أجبر “أنس” مبسمهُ على رسم إبتسامة وهو يقول :
– مفيش حاجة بتفضل على حالها ياعصام، المهم انت أخبارك إيه؟
– الحياة في ألمانيا مختلفة تمامًا ياأنس، الناس والثقافة وحضارة البلد وتاريخها.. كل حاجة كما ينبغي أن تكون، الشغل هو رقم واحد في حياتهم.. العواطف مش واخدة حيز كبير عندهم زينا

ثم عاد ينظر إليه وهو يردد بنبرة مشتاقة :
– وديني لـنينة بسرعة ياأنس، عايز أشوفها
“أنس” وهو ينظر لساعة يدهُ الفضية :
– أحسب عشر دقايق بالظبط وهنكون وصلنا

بالفعل، تسع دقائق وعشرون ثانية تقريبًا وكان “أنس” يصف سيارتهُ أمام بناية الجـدة “وجيدة”.. ترجل” عصام ” متحمسًا لهذه المقابلة التي ينتظرها منذ سنوات، وانتقل اثنتاهم للطابق الموجودة فيه الجدة.. فتح” أنس” الباب ودلف للداخل، حيث كانت الخادمة في المطبخ فلم تشعر بوجودهم.. بينما انتقل “أنس” لحجرة “وجيدة” مباشرة ليجدها جالسة أمام الشرفة تتلقى بعض نسمات الهواء، حضر “أنس” من خلفها.. وكف بصرها بيدهُ لتبتسم الجدة وهي تردد بتلهف :
– أنس؟
– عرفتيني ازاي يانينة

ثم التفت ليجلس أمامها، بينما ابتسمت “وجيدة” وقالت :
– عرفتك من ريحتك
– طب بصي وراكي كدا

أستدارت برأسها لترى حفيدها “عصام”.. دققت بصرها عليه قليلًا ثم قالت بتشكيك :
– مين؟ عـصام

سرعان ما انحنى عليها ليغرق رأسها تقبيلًا وهو يردد :
– وحشتيني أوي أوي يانينة

ثم جلس بوضع القرفصاء ليُقبل كفيها، فـ احتضنتهُ وسالت الدموع من طرفيها وهي تردد :
– حمدالله على سلامتك ياحبيبي، واحشني يابني

اعتدل في وضعيتهُ، وأملى عيناه بالنظر إليها.. ورغم التجاعيد التي كست وجهها وكفيها إلا إنها احتفظت بملامحها البشوشة، مسح على وجهها بكفهُ وأردف :
– لسه زي القمر يانينة

فضحكت الجدة، ولكزت كتفهُ وهي تقول :
– لسه ياواد فيك البكش ده، خلاص عجزت ومش فاضلي كتير

عبس وجه “عصام” وقال :
– متقوليش كدا ياوجيدة طول العمر ليكي ان شاء الله، وبعدين انتي مش محتاجة غير جلستين مساچ من أيد بنت ألمانية، هترجعي تلاتين سنة ورا

فضاقت عيني “أنس” وهي يهتف بـ :
– وانت جربت أيد البنت الألمانية دي ياعصام؟

حمحم “عصام” بحرج ثم قال :
– لأ مش للدرجادي، أنا سمعت عنهُ بس

قرصت “وجيدة ” كفهُ لمحاولة الكذب، ثم قالت :
– عيني في عينك كدا
– برئ يانينة

ثم قبّل كفها مرة أخرى، وقال بتحمس شديد :
– أنا نفسي في كنافة من أيدك يانينة
– بس كدا

تحفزت “وجيدة” لصنع هذا النوع من الحلوى الشرقية التي كانت تمتهر صنعها قديمًا، فـ استندت على مسندي المقعد.. ثم أشارت نحو عكازها وقالت :
– ناولني العكاز دا ياأنس

“انس” وهو يوزع أنظارهُ عليهما بتردد :
– مابلاش تتعبي نفسك يانينة!
“عصام” وهو يغمز لهُ :
– سيبها تتحرك ياأنس

وتوجه الجميع نحو المطبخ لمساعدة “وجيدة” في صنع قالب من الكنافة.. كانت الحيوية تسيطر على الجميع، وعودة لذكريات من الطفولة التي لم يعيش “أنس” كثيرًا منها، أوقاتًا دافئة حظى بها كلا الشابين مع الجدة ، ومرحى لمن كانت جدتهُ “وجيدة”.

……………………………………………………………

جلست “ياسمين” بـ كئابة شديدة وسط محيط الكلأ.. تنتظر قدوم والديها في هذه الساعة الليلية عقب أن أكد لها “أنس” بحضورهم تلك الليلة.. ومن حولها “آسر” يزرع المكان بهجة بألعابه وحركاتهُ النشيطة، بينما كانت “أفنان” مختفية أغلب اليوم في غرفتها.. نظرت “ياسمين” لساعة هاتفها فوجدتها تعدت التاسعة والنصف ليلًا ولا يوجد خبر عن مكان والديها حتى الآن، فقررت التحدث إليه وقد بدا صوتها مزمجرًا وهي تقول :

  • أنا متأكدة إنك عارف مكانهم ياأنس، قولي بس هما فين عشان اطمن عليهم بس

زفر “أنس” بضيق جلي ثم ردد :
– هو خالي عيل صغير ياياسمين! سيبيهم يريحوا دماغهم شوية، دا من حقهم

تقوست شفتيها بسخط ثم قالت :
– وانت مش هترجع يعني ولا إيه؟ أنا زهقت من القعدة لوحدي
– حاضر، نص ساعة بالكتير وهكون عندك

فـ أغلقت هاتفها ونهضت عن جلستها متوجهة للداخل.. في نفس التوقيت الذي كانت فيه “أفنان” تقف بالمطبخ شاردة بملكوت آخر، راقبتها “ياسمين” خلسة، لتستمع إلى أنينها المكتوم وكأنها تمنع صوت بكائها.. ضاق ما بين حاجبيها وهي تلج بخطوات حسيسة، ثم رددت بصوت منخفض :
– أفنان!

أستدارت برأسها لا إراديًا لينكشف وجهها المغمور بالدموع.. وفجأة ارتمت في أحضان “ياسمين” وهتفت بنبرة نادمة :
– أنا مخنوقة أوي وزعلانة من نفسي، إزاي كنت بحب واحد زي دا مفكرش غير في أذيتي.. إزاي أعمل كدا في بابا وماما

ربتت “ياسمين” على كتفها وهي تآزرها بقول طيب منها :
– وانتي كنتي تعرفي منين بس ياأفنان؟ متعمليش في نفسك كدا

ضرب رأسها مشهد معاملة والدها لها في الصباح، فقبضت جفونها بقوة تعتصرهم ثم همست بصوت متألم :
– مشوفتيش بابا عاملني إزاي الصبح، لو كان ضربني كان أهون عليا من المعاملة دي! بابا اللي كان بيقولي انتي حورية الصغيرة دلوقتي مش طايق يبص في وشي

ثم ابتعدت عن أحضانها، مسحت دموعها.. ثم تابعت :
– عنده حق، أنا مطلعتش البنت اللي تشرفهُ

“ياسمين” وهي تعنفها لسوء تفكيرها :
– إيه اللي بتقوليه دا؟ كلها كام يوم وبابا هيرجع زي الأول، بابا بيحبنا أوي ومش هيقدر يفضل زعلان منك

أسبلت “أفنان” جفونها بخزي، بينما سحبتها “ياسمين” للخارج وهي تردد :
– تعالي معايا أنا محضره فيلم أجنبي نتفرج عليه تحفة

وسارت معها نحو الطابق الأعلى ومازالت الطاقة السلبية متملكة منها.
……………………………………………………………
متبقي من الزمن ساعة كاملة ريثما يؤذن لـ آذان الفجر.. في هذه المدينة الساحلية البديعة، جلست “حور” أعلى السطح الرملي أمام البحر وسط هذه الأجواء المظلمة، ممدًا “قاسم” جسدهُ جوارها ومستندًا برأسهُ على فخذها، مُطبق جفونهُ.. وقد قتل التفكير في رأسهُ حتى يسترخي تمامًا، عقب تلك الليلة الكاحلة التي عايشها وعادت إليه نوبات مرضهُ ثانيًة.. مسحت “حور” على جبهتهُ أولًا، ثم سارت بأصابعها الموسيقية حتى تخللت شعيرات رأسهُ، وراحت تُمشطها بشكل جميل جعلهُ ينسجم.. ولكن بداخلها إنزعاجًا من ابتعادها عن أبنائها، مطت شفتيها للأمام بضجر، ثم تسائلت بتشوق :

  • مش انت قولتلي هنرجع في نفس اليوم ياقاسم؟ إيه اللي مقعدنا هنا لحد الفجر؟

فقال ومازالت عيناه مُغمضة :
– لأ مش هنرجع النهاردة، كام يوم وبعدين نرجع
– إيـــه!

انقبض قلبها لمجرد التفكير بالبعد عن أبنائها عدة أيام، خاصة الصغير “آسر”، الذي يحتاج لرعايتها شخصيًا.. حاولت الضغط عليه لتغيير قرارهُ ولكن :

  • طب خلينا نبعت نجيب الولاد يقعدو معانا عشان اطمن، آسر مش هيعرف يقعد من من غيري

وبنفس نبرتهُ الهادئة المرتخية ردد :
– أنسي ياحور، أنسى عيالك شوية.. أنا جاي أقعد هنا مع مراتي مش مع عيلتي

ثم فتح عيناه ليلاقي حدقتيها القلقتين وتابع :
– أنس موجود وهما مش بيبيهات، كفاية قلق من غير لازمة

ربما هي أيضًا في حاجة ماسّة لهذا البعد الفتري، ولكن فطرتها الأمومية تطغى عليها فتضيع فرص الإستمتاع بما تعيشهُ الآن.. اعتدل “قاسم” في جلستهُ ثم نهض، بسط ذراعهُ كي تنهض هي الأخرى مستندة عليه.. ثم صحبها للسير على هُدى الشاطئ وهو يحيط بخصرها، لتضرب المياه المنعشة أقدامهم وتُدغدغ أصابعهم.. واستمر في التحدث إليها بعيدًا عن سيرة الأبناء التي سئمها :

  • بقالنا كتير أوي مسافرناش لوحدنا، فرصة جتلك متضيعاش ياحورية.. عارفه يعني إيه أسيب شغلي وشركتي ومشاريعي واجي معاكي هنا فجأة! يعني فعلًا محتاجك لوحدك

اطمئنت قليلًا وهي تستمع إليه، واستشعرت ضرورة تلك الرحلة التي ستعينهم على استكمال حياتهم الطبيعية فيما بعد.. فـ الإنسان ليس بـ آله، قليل من الترفيه والمرح يعيد إليه طاقتهُ وحيويتهُ التي نساها وسط زحام الحياه اليومية الروتينية المملة.
……………………………………………………………

تناولت “ياسمين” آخر قطعة من حلوى الكنافة، وهي تتلذذ بمذاقها الفريد.. حتى أن أشهر متاجر الحلويات لا يصنعها بتلك الطريقة، تمطقت بإستماع وهي تقول :
– أمـمـمـم، الكنافة بتاعت نينة فظيعــة

عبست ملامح “آسر” وهو ينظر للصحن الفارغ، ثم رفع بصرهُ المنزعج إليها وهو يصيح :
– أنتي جبتي الطفاسة دي منين؟ أروح أجيب شوكة أرجع ألاقيكي مخلصة الكنافة كلها!

قوست “ياسمين” شفتيها بتبرم وهي تردد :
– هبقى أجيبلك جاهزة ياآسر
– لأ أنا كنت عايز من بتاعة نينة وجيدة

ثم تقدم من “أنس” الذي أنخرط في البحث عما يدل عن هؤلاء الشركاء.. وهتف بنبرة عالية:
– شايف ياأنس، كلتها لوحدها كلها

“أنس” ومازالت عيناه عالقة على جهاز الحاسوب :
– معلش ياآسر، هبقى أجيبلك تاني

  • مش عـايز، لما ماما ترجع هخليها تعملي

ثم نظر لشقيقتهُ ونطق :
– ياطـفـسة

ثم تركهم وخرج بإتجاه غرفتهُ، لتتسائل “ياسمين” بإنزعاج:
– برضو معرفتش بابا وماما فين؟
– لأ
– طب بابا مكلمكش طول اليوم؟
– لأ

ضاقت نظراتها وهي ترمقهُ بسئم، ثم سألت مرة أخرى :
– تفتكر راحوا فين؟

فكان ردهُ جافًا گعادتهُ :
– معرفش

مما جعل داخلها يتأجج وهي تصيح فيه :
– في إيه ياأنس، مال ردودك باردة كدا ليه؟

فرفع بصرهُ إليها وهو يقول بتذمر :
– وانتي مالك متطفلة النهاردة ليه كدا، سافروا يغيروا جو إيه اللي مزعلك دلوقتي

ثم أغلق الحاسوب ووقف عن جلستهُ وهو يقول :
– أنا رايح انام وهسيبلك الأوضة كلها يمكن تهدي شوية

ثم برح مكانهُ عقب أن ضاق صدرهُ من تحدثها عن نفس الأمر بشكل أزعجهُ.. بينما ظلت نظراتها الحانقة تتبعهُ حتى اختفى من أمامها، فـ همست بشك راودها :
– أكيد في حاجة مزعلاه
……………………………………………………………
استيقظت في صباحها باكرًا كي تلحق به قبل أن يغادر.. ولكنهُ كان انصرف بالفعل، حدثتهُ هاتفيًا وألحت في اتصالاتها حتى أجاب عليها :
– أيوة ياياسمين، حصل حاجة؟

فركت أصابعها بتوتر وهي تجيب :
– لأ بطمن عليك

نظر في ساعة يدهُ قبل أن يقول :
– طب أنا هقفل واكلمك تاني، عشان عندي اجتماع مهم دلوقتي وخالي سايب وراه شغل أد كدا.. سلام

ثم أغلق الهاتف بعجالة وعاد ينظر حيث “رائف” الجالس أمامهُ واستطرد حديثهُ :
– وبعدين يارائف، مش عارف أوصل لخالي من امبارح عشان أعرفهُ اللي حصل

فرك “رائف” ذقنهُ وهو يفكر مليًا في الأمر الذي تفاجئ به، ثم قال :
– مش عارف أديك نصيحة ياأنس، ليه ناس زي دول يكذبوا إلا لو كان الموضوع كبير

طرق بأصابعهُ على سطح المكتب وقد انتابهُ شعور بالقلق وهو يقول :
– صح، بس لازم نعرف إيه اللعبة اللي بتتلعب علينا في أسرع وقت

ذمّ “رائف” شفتيه بسخط وقال :
– بس في مشكلة، إحنا خلاص مضينا العقود

عقب أن قرعت “أماني” عدة مرات على الباب سمح لها “أنس” بالدخول لـ تخبرهُ بـ :
– السيدة زرين برا وعايزة تقابلك يامستر أنس

أطبق “أنس” جفونهُ وهو يردد :
– خليها تدخل

ثم أخفض صوتهُ وهو يقول :
– أما نشوف جاية ليه دلوقتي

تثنت في خطواتها المختالة وهي تتقدم منهُ، وعلى ثغرها برزت إبتسامة شيطانية خبيثة لم يراها “أنس” قط إلا بعد إكتشاف جزء من مكرها.. صافحتهُ بحرارة زائدة، ثم جلست أمامهُ لترفع ساقًا أعلى أخرى وتقول :
– كيف حالك اليوم ياعزيزي؟

فأجاب بفتور شديد :
– بخير

ثم نظر للمستندات الموجودة أمامهُ وقال :
– ياترى في حاجة مهمة ولا زيارة عادية ؟

ابتسمت أثناء مداعبتها لخصلة من شعرها الأشقر وهي تقول :
– أجل، هناك أمر أود التحدث عنهُ مع السيد قاسم

نظر “أنس” لـ “رائف” كي يجيب نيابة عنهُ، فتفهم الأخير ذلك وقال :
– بس مستر قاسم مسافر ومش هيرجع اليومين دول.. تقدري تقوليلي إيه الموضوع ولو ضمن صلاحياتي أنا هتصرف
– ليس عاجلًا سيد رائف، فقط أريد تعديل نص هام في العقد

ارتفع حاجبي “أنس” بإندهاش لهذا القرار المفاجئ، وبغتة قال :
– بس إحنا مضينا العقود خلاص وفي حضور مستر إستيڨان كمان!، إيه اللي عايزاه يتغير
– بعض البنود الخاصة بالقيمة الجزائية

ابتسم “أنس” عقب أن تفهم جزءًا من مخططهم، هذا الخوف الذي يعترهم لإنهاء العقد فجأة.. جعلهم يرغبون في تأمين مشروعهم عن طريق رفع قيمة الشرط الجزائي الواقع على “قاسم” .. تلوت شفتي “أنس” بغرابة، ثم قال بثقة :
– للأسف أنا مش موافق

رغم ضيقها منهُ، إلا إنها لم تظهر ذلك وأجابت :
– أردت قول ذلك للسيد قاسم المسؤل الأول عن المشروع الغذائي، وليس أنت.. لذلك سأعتبر كوني لم أفضي لك بما أردتهُ، وسأنتظر عودتهُ حتى نتمم هذا الأمر

بدأت حدتهُ تطفو لسطح وجههُ وهو يقول :
– أنتي ناسية حاجة مهمة جدًا، أنا المدير العام هنا.. القرار بيتاخد من عندي الأول قبل ما يطلع فــوق لرئيس مجلس الإدارة

ثم تغير مسار الموضوع فجاة وسألها مباشرة :
– فين مستر إستيڨان يامدام زرين؟

وكون السؤال مفاجئًا لها إلا إنها أجابت بثبات :
– لقد سافر منذ أيام لإنهاء أعمالهُ بـ نيويورك، وسيأتي قريبًا

نهضت عن جلستها وتابعت :
– أتمنى ألا يعود ويجدني خالية الوفاض، ولم أحقق رغبتهُ في تعديل العقود

ثم استدارت لتنصرف وقد أصابها الغضب منهُ، تبعها “أنس” بعينيهِ حتى اختفت.. ثم نهض بإنفعال وهو يقول :
– مش قولتلك في حاجة

تحرك بتوتر حول المكتب، ثم قال :
– بس هعرف إزاي؟
……………………………………………………………

وصل أخيرًا لمحل منزلهم بالتجمع السكني، عبر البوابة ثم ترجل عنها وفي أعقابهِ “عصام”.. أشار له نحو المنزل وهو يقول :
– هو دا البيت، هطلع أشوف البنات لبسوا ولا لأ عشان نروح نتغدا سوا
” عصام” وهو يتفقد المكان من حولهُ :
– ماشي

ثم تركهُ ودلف للداخل.. كان سيتوجه نحو الدرج إلا إنهُ اشتم رائحة غير مألوفة، حريق أو شياط.. عقد ما بين حاجبيهِ بإستغراب وحاول ان يدقق حاسة الشم، ألتف برأسهُ ليجد هاله رمادية تخرج من المطبخ، فـ ركض للداخل ليجد مشهدًا بشعًا.. أواني محترقة وبقايا طعام متناثر في الأرجاء وكأنها قُنبلة انفجرت هنا توًا.. والموقد لم يعد موقدًا، بل آله خردة قديمة تلونت باللون الأسود المتفحم.. وفي وسط كل هذا تقف “ياسمين” بوجهها الشاحب وبشرتها التي لامست سواد الإحتراق، تنظر للمطبخ بذهول، وكأنها منومة مغناطيسيًا.. وبجوارها الصغير “آسر” الذي لم يقل فوضوية عنها، حتى أن شعرهُ مشعثًا.. لم يستطع منع فضولهُ من السؤال :
– إيه اللي حصل هنا! طنط حور لو شافت المطبخ بتاعها بالشكل دا هتولع فينا كلنا

“ياسمين ” وهي تنظر للمكان بنظرات مذهولة :
– آآ… انا معرفش، في إيه اللي حصل؟

فأجاب بإحتدام :
– أنتي بتسأليني أنا

فصاح” آسر” :
– كلهُ بسبب الشيف شربيني

اقترب “آسر” بيديه المتسختين من “أنس” وراح يفضي له :
– ياسمين كانت عايزة تعمل أكلة زي اللي عملها الشيف النهاردة

ثم أشار نحو حالة المطبخ المزرية وتابع :
– بص عملت إيه!

“انس”:
– دا المطبخ عايز يتعملهُ عمرة، إيـه اللي هببتيه دا

فقالت ببراءة شديدة وكأنها لم تفعل شيئًا :
– أنا كنت عايزة أقلب الأكل في الهوا زي ما الشيف بيعمل.. بدل ما يتقلب في الهوا اتقلب على البوتجاز.. نسيت ورميت القلاية في الزبالة عشان ألحق البوتجاز، بس في شرارة نار مسكت في باسكت الزبالة راح ولع، وانا بطفيه غرقت المطبخ ونسيت الأكل اللي اتقلب على البوتجاز لحد ما أسود، نسيت الحنفية مفتوحة عشان أقفل البوتجاز و……
– بــس، بـس

لم يطيق سماع ما تبقى من حديث، فقد أحدثت جريمة شنعاء في ساحة المطبخ لن يكفيها يومًا لتصليحهُ.. أشار لها لتغادر المطبخ على الفور و :
– أخرجي برا دلوقتي

فـ انصاعت له قبل أن ينفجر بها وانصرفت على الفور ، بينما نظر هو لـ آسر وسأله :
– وانت اتبهدلت كدا إزاي؟

فلوح بيده غير عابئـًا بما حدث :
– مش كنت بطفي الحريقة اللي عملتها

ثم تحرك للخارج هو الآخر، وبقى “أنس” بمفردهُ وسط هذا المنظر الغير مبشر بالمرة.. أجفل بصرهُ وهو يهمس بـ :
– بـلائي في الدنيا ياسمين، بلائي

كان “عصام” يقوم بجولة في حديقة المنزل ليستمتع بهذه المساحة الخضراء.. وعن مسافة ليست بقريبة لمح “أفنان” من ظهرها، سحبهُ فضولهُ ليقترب منها.. بإختلاس شديد حتى لا تشعر به، وكلما اقترب كلما استمع لصوت نحيبها بوضوح.. ضاقت عيناه وضاق صدرهُ عندما شعر إنها تبكي وهي تُحدث ورودها، ولم يمنع نفسهُ من التحدث بـ :
– ينفع القمر يعيط كدا؟

وفجأة، وبشكل غير أرادي وجدت حالها تلتفت لتصفعهُ صفعة عنيفة من فرط ذعرها.. وكأنها تدافع عن نفسها من المجهول الذي لا تعرفهُ، فـ قد أصبح الخوف گالدم يسير في أوردتها و…………
……………………………………………………………

error: