رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عهـد جـديـد ^^

(( الفصل الثاني عشر ))

كانت معظم الكلمات تخرج من فمها مبهمة غير معلوم معناها، ولكنهُ استطاع فهم ما حدث معها .. براكين محمومة تتقاذف بداخلهُ وهو يتعرف على المأزق الذي سقطت فيه ابنتهُ.. ودّ لو يبرحها ضربًا لأول مرة في حياتهُ، فقد سخنت رأسهُ وكأن الشيب تملك منهُ لعشرين سنة أخرى.. أنغرزت أصابعهُ في رسغها حتى تألمت عظامها بشدة، وبصوت جأش صاح فيها :

  • غـوري من قــدامـي دلوقتي، حـــالًا

ثم دفعها برغبة عارمة في الإنقضاض عليها، لتركض نحو الخارج ومنهُ للأعلى.. بينما التفت ” قاسم” لـ ” أنس” يأمرهُ بلهجة لا تقبل المناقشة :

  • تروح تجيـب الـــ ***** دا من قفا أمهُ .. إن شالله تجيبه من وسط بيته

أدرك” أنس ” حجم الفاجعة التي ستحل بـ إبنة خالهُ.. ولكنهُ مدركًا أيضًا أن لجام التعقل والرزانة قد انفلت من” قاسم ” وحانت لحظة إستخدام وجهًا آخر من وجوههُ الكثيرة.. فـ أخفض صوتهُ قليلًا واقترح :
– دلوقتي ياخالي مش هينفع، أهلهُ ممكن يبلغوا و….

فقاطعهُ بإحتداد وحزم :
– قولتلك دلـــوقتي، مش هيطلع عليه صبح وحياة بنتي
فـ انصاع لرغبة خالهُ :
– حـاضر

ثم توجه للخارج وهو يفكر في حيلة معقولة يجتذب بها هذا الملعون للأسفل ومن ثم يستطع إختطافهُ.. فـي كل الأحوال لن يترك ذيولًا خلف ” قاسم” ترشد عليه، ولهذا فـ هو يـعد لـ هجومًا مدروسًا..
بقيت ” أفنان” محاصرة بين والدتها وأختها الكبرى، ترتجف بين أيديهن، بينما تقرأ ” حور” بعض آيات الذكر الحكيم لتنجي ابنتها مما سقطت فيه.. ولكن مازالت حالة هيستيرية مرعبة تسيطر على كيانها، استمعت ” حور” لأصوات ” قاسم” وهو يهتف بـ سبابًا نابيًا، ويبدو من نبرة صوتهُ التي تقترب إنه قادم إليهن.. انتفضت ” حور” من مكانها و هي تقول بتخوف :

  • ياسمـين خلي بالك من أختك

فـ احتوتها ” ياسمين” بحنو، بينما أوفضت ” حور” للخارج وأوصدت الباب في اللحظة المناسبة.. فقد وصل ” قاسم” أمام الحجرة وبغى الدخول، ولكنها منعتهُ لأجل حالتهُ الثائرة المهتاجة وهي تردد بتوتر :

  • أهدى ياقاسم، هتعرف تحلها ان شاء الله
    فجأر بوجهها وهو يحاول إبعادها من أمام الباب :
  • وسعي من سكتي، أوعـي

تماسكت “حور” بكل قوة، وتشبثت بمقبض الباب وهي تدفعهُ بهدوء :
– لأ، مش هتدخلها
– قــولتلك وسعـي ، سيبيني أدخـل أربي بنتي بطريقتـي
فـ صاحت به :
– مينفعـش
فكان صوتهُ أعلى منها بمراحل :
– ينفــــع

ابتعلت ريقها ، ورمشت بأهدابها عدة مرات.. ثم رددت بلهجة مرتبكة :
– روح ياقاسم دلوقتي انت في لحظة غضب
– مش همشي من هنا، ومتخلنيش أبعدك بأسلوبي

فكانت متعنتة برأيها وهي ترد :
– وانا قولت مش هـوعى، من أمتى واحنا بنتعامل مع الولاد بالشكل دا
فـ ابتسم ساخرًا وقال :
– الدلع منفعش ياأستاذة

هذا الضغط العصبي الشديد الذي وضع فيه جعل رأسهُ غير متزن.. يشعر ببعض الدوران، وعيناه مشوشتان، وكأنه تأثير الصدمة ..
ارتعش صدغيهِ، وانتابهُ شعور بإقتراب حالة قديمة قد نسى أعراضها، وسـ تهاجمهُ الآن.. أحست هي بذلك، فـ دنت منهُ و :
– قاسم انت كويس؟

ولكنهُ أسرع بخطواتهُ نحو غرفتهُ ليختفي من أمامها، فـ لحقت به مسرعة.. لتجدهُ يقذف بمحتوايات الأدراج على الأرضية بحثًا عن مُبتغى معين..
تقدمت ” حور” من المرحاض، بحثت في صندوق الإسعافات الأولية حتى وجدت علاجهُ السريع الذي كان يستخدمهُ في الأوقات الحرجة، فـ أسرعت للخارج وهي تستخرج قرصًا صغيرًا، وقالت :
– خد بسرعة

تناولهُ منها گالشره المدمن الذي يستغيث بجرعة مخدرة تسكن ألام رأسهُ وجسدهُ.. وضعهُ أسفل لسانهُ وتسطح جسدهُ على الفراش، تهدجت أنفاسهُ وكأنهُ أنهى للتو ماراثون للركض، حدق بنظراتهُ الزائغة على السقفية للحظات وهي يستشعر هذا الألم الدماغي من جديد.. ليجد ” حور” تمسح على وجههُ بمنشفة باردة قد بللتها بالماء المثلج، وهمست بـ :
– أرجوك تهـدا، الدكاترة محذرينك من العصبية الزيادة

لم تُكفيهِ طاقتهُ الآن على الكلام، فـ ناوبت هي عنهُ وتابعت :
– عارفه إننا في مصيبة، بس لو جرالك حاجة مش هسامح حد أبدًا.. أوقف دماغك ١٠ دقايق بس أرجوك

غالبًا لا يسمع صوتها، كُل ما يهفو على مسامعهُ الآن هو صوت إطلاق نـاري متواصل لا يتوقف.. وكأنهُ سيقتل هذا الفاسق دون رحمة، طرف بصرهُ وأطبق جفونهُ بعنف.. ليذهب بعيدًا بعض الوقت، فـ هذا يلزمهُ الآن وبشدة.

……………………………………………………………

نظر ” أنس” يمينًا ويسارًا، راقب هدوء الشارع في هذه الساعة المتأخرة من الليل.. ثم نظر لـ أولئك الثلاث رجال التابعين له، وقال بنبرة منخفضة :

  • خلاص كل واحد عرف هيعمل إيه؟

فنظر له أحدهم وردد :
– تمام ياأنس باشا، كل حاجة هتم زي ما جنابك عايز

وقبيل أن يتحرك الرجال نحو البناية التي يقطن بها ” عمر” لتنفيذ المخطط، رآه ” أنس” يخرج عن البوابة الحديدية القديمة ليسير يسارًا.. فـ أشار لهم بالتوقف، وابتسم مرحبًّا :

  • عمر بيه نزل بنفسهُ، محدش هيضطر يطلعلهُ ولا حاجة

ثم أشار برأسهُ لأحدهم وردد :
– أسبقنا وإلهيه بأي حاجة

فـ نفذ الرجل أوامره وتقدم من” عمر ” حتى أصبح قبالتهُ، وقال :
– معاك شُعلة ياابن عمي

فـ نظر” عمر ” لسجارتهُ الركيكة قبل أن يرد بـ :
– أه

ثم أخرج قداحتهُ ليشعل بها سيجارة الرجل، وإذ بـ ضربة عنيفة يتلقاها على مؤخرة رأسهُ جعلتهُ يشعر بدوار شديد.. وأعقبها ضربة أكثر عنفًا على ظهرهُ ليفترش جسدهُ على الأرضية وهو يأن فـ انحنى عليهِ أحدهم وهو يردد :
– مالك بس ياابن عمي ما كنت كويس

تبادلا التغامز وهم يحملونهُ نحو السيارة على الطرف الآخر، بينما كان ” أنس” جالسًا خلف المقود منتظرًا لهم.. حتى وضعوهُ في الخلف، وجلس واحدًا بجوارهُ، والآخرين استقلا سيارة أخرى.. تحرك ” أنس” وهو يغمغم بحقد شديد :

  • ياترى فاضل أد إيه في عمرك، ساعة ولا اتنين؟

شعر ” قاسم” بإهتزاز هاتفهُ في جيب بنطالهُ، هبّ من وضعيتهُ منتفضًا، أخرجهُ وأجاب سريعًا :

  • عملت إيه؟
    ” أنس ” وهو ينظر للمرآه الأمامية :
  • الواد معايا

فـ تقلصت تعابير” قاسم ” وهو يأمرهُ بـ :
– وديه على مخزن ( …. )، وسيب الرجالة معاه، ملهوش ولا أكل ولا شرب، وقولهم لو عمل صوت يعدموهُ العافية

ارتفع حاجبي” أنس ” بإستغراب وهو يسأل :
– أنت مش هتيجي دلوقتي ياخالي
فقال بنوايا سيئة بائنة في عينيه :
– لأ، سيبه يستوي لحد الصبح

ثم أغلق الهاتف، كانت” حور ” تتطلع إليهِ بعدم إستيعاب.. فقد كان منذ لحظات طريح الفراش غير قادرًا على محادثتها، والآن قد عاد لحالتهُ الطبيعية وبـرء مما أصابهُ من نوبة آكلت رأسهُ..
ألقى الهاتف بعيدًا، ثم نهض وهو ينزع عنهُ قميصهُ مستعدًا لتبديل ثيابهُ ، جال بمخيلتهُ مائة سيناريو ينوي تنفيذهُ لهذا الذي مسّ طرف ابنتهُ وأحزنها وأحزن عائلتهُ ، بل والأسوأ إنه انتوى سوءًا بغاليتهُ وكاد يفضح أمرها وينشر عنها الشائعات أيضًا.. في منظورهُ لا يستحق سوى الرجم حيًا..

وفي هذا الصباح الكئيب، تسلطت شمس صيفية على منزل آل رسلان واخترقت ستائر الغرف أيضًا .. فـ جعلت ” حور” تفتح عينيها المُجهدتين بتأنٍ، ثم تنهدت بإستياء مما سيحدث اليوم من حوادث جـمة، التفت برأسها كي تتطلع لزوجها، ولكنها تفاجئت إنهُ برح الفراش مبكرًا .. استقامت في جلستها وهي تنظر حولها، ثم نهضت لتبحث عنهُ في الأرجاء، حتى إنها سألت السائق.. فـ أبلغها بخروج رب عملهُ منذ شروق الشمس، فـ عادت تجر قدميها للداخل وهي تتضرع للّه أن يمر الأمر مرورًا كريمًا.

……………………………………………………………

وطأت سيارة ” قاسم” الأرض التي عليها مخازنهُ، اشتاق لرؤية هذا الفاسق، وكأنه استوحش أساليبهُ القديمة في التعامل .. ترجل عن السيارة وتقدم من ” أنس” وهي يسأل بوجه گالصفحة الصخرية لا حياه فيها :

  • عملت إيه؟
    ” أنس ” وهو يشير بإتجاه أحد المتخصصين المخضرمين :
  • دا البشمهندس حسني، مسك تليفون الواد وفرمطهُ من أولهُ لآخره.. التليفون رجع كأنه جديد مفيش عليه أي حاجة

فـ لفت المهندس انتباههم بقولهُ :
– بس طبعًا ممكن يكون محتفظ بنسخة على كمبيوتر أو لاب توب
فـ أجاب” قاسم ” بلهجة مريبة :
– لأ متقلقش، حتى لو في هو بنفسهُ هيمسحهم

نزع” قاسم ” سترتهُ وحلّ أزرار قميصهُ، ثم شمر عن ساعدهُ، يتأهب لهذا اللقاء المحتدم .. ناول” أنس ” السُترة، ثم ولج للداخل بخطوات واسعة عجلت من وصولهُ..
كان” عمر ” مكبلًا بالسلاسل الحديدية، مفترشًا على الأرضية الصـلبة، يجاهد من أجل أن يحرك عضلة واحدة من جسدهُ، ولكنهُ فشل.. ألمًا عظيمًا يسيطر عليه أثر الضرب المبرح الذي تلقاه بالأمس نتيجة محاولتهُ للهـرب، رفع” عمر ” طرف بصرهُ ليرى خيال” قاسم ” وجسدهُ العريض يمنع عنهُ الضوء.. رمش عدة مرات محاولًا تبين ملامحهُ ولكنهُ لم يستطع، انحنى” قاسم ” ليكون متقرفصًا.. وارتكزت نظراتهُ عليهِ..
عينان لم يرى” عمر ” مثيلاتها قبل، هل وسبق لك رؤية عيون كلب” الـ هاسكي ” اللامعة في الظلام؟
وكأن طاقة مخيفة تنبعث منها لتبث الرعب بداخلهُ، تظلل عليهما حاجبين معقودين گالمسطرة.. تنحنح” عمر ” وأنّ وهو يسأل بإرتياب :
– أنت مين وعايز مني إيه؟
فكانت إجابتهُ سريعة بصوت عميق ولهجة متوعدة صادقة :
– أنا عملك الأسود، اللي هيطلع عليك دلوقتي

تصارعت أنفاس ” عمر” واضطرب أكثر وأكثر وهي يهتف متلعثمًا :
– آآ.. انا عملت فـ .. فيك إيه ؟!
– عملت كتـير ، أذتني أكبر أذيه ممكن تأذيها لحد في حياتك

ثم أطبق بأصابعهُ على عنقهُ يكاد يكسرهُ وهو يزأر بـ :
– أذتني في بنتــي

وسرعان ما حضر لذهنهُ ما افتعلهُ من جريمة أخلاقية بـ حق ” أفنان”.. التي كانت تتحدث كثيرًا عن طباع والدها الحادة والمتذمدة أمامهُ، كما إنه رأى صورة له من قبل ولكنهُ لا يتذكر تفاصيل وجههُ.. كاد يختنق ويلفظ آخر أنفاسهُ، أحمرت بشرتهُ وأمتلأت حجرات عينيهِ بالدموع إلا أن” قاسم ” ترك عنقهُ أخيرًا ليسعل بشدة، ورغم المعاناة التي لقاها في التقاط الهواء لصدرهُ إلا إنه ضغط على حالهُ ليقول :

  • آآ… كحكح كح، أنا كنت بـ آ.. بعمل فيها كحكح.. مقلب

برزت أسنان” قاسم ” المصطفة بتناسق وهو يكركر ساخرًا، ثم قال متهكمًا :
– أنت فاكرني عبيط ياض؟.. أمثالك الو***** و الأشكال بنت الـ ****** أنا حافظها كويس، واللي عملتهُ في بنتي مش هيعدي بالساهل أبدًا

استقام” قاسم ” في وقفتهُ ونظر لأحد رجالهُ ليتفهم مطلبهُ على الفـور، تحرك الرجلان ليسندا” عمر ” كي يقف في مواجهة ” قاسم “..
وبمجرد رؤية” قاسم ” له واقفًا، لم يقوَ على كبح غضبهُ العارم الذي دفعهُ لـ تسديد لكمة عنيفة تلاها أخرى جعلت” عمر ” يسقط طريح الأرض من جديد، لم يتوانى في ركلهُ ركلات عنيفة بصدرهُ وأسفل معدتهُ، ليصدر” عمر ” تأوهات عالية ويصرخ بلا توقف .. بينما كان” أنس ” گالمشاهد..

ودّ لو إنهُ يدهس رأسهُ الملتصقة بسطح الأرضية بنعل حذائهُ.. ضغط على رقبتهُ بقدميهِ، حتى كادت عظام العنق تنكسر .. ثم انحنى ليزأر بصوتهُ الذي خرج من بين أسنانهُ :

  • أنت دوست على طرف بنتي أنا، وانا اللي يلمس حتة بس مني مش بـ ارحمهُ

ثم رفع قدمهُ عنهُ ليصرخ ” عمر” بصراخ متواصل على أثر الألم المتملك من أغلب أجزاء جسدهُ.. أعطى ” أنس” هاتف ” عمر” لـ ” قاسم “، فـ قذفهُ الأخير بعنف لتنكسر شاشتهُ، ثم دعسهُ بنعلهِ وردد :

  • أنت هتفضل هنا لحد ما ربنا يرحمك من إيدي وياخدك، أو ابعتك أنا رحلة للسما

ثم التفت ليخرج تاركًا أمرهُ لرجالهُ ، لا يعلم كيف تحمل أن يترك” عمر ” حيّا رغم رغبتهُ المميتة في قتلهُ، يبدو إنها تدابير قدرية.. ولكن داخلهُ برد قليلًا..
لحق بهِ” أنس “، وما أن اقترب” قاسم ” من سيارتهُ توقف ليقول :
– أنا مش رايح الشركة النهاردة، لو في أي حاجة خلصها انت
– حاضر

ثم استقل سيارتهُ منتويًا العودة لمنزلهُ.. طوال الطريق وعقلهُ منشغلًا بأمر ابنتهُ التي أخطأت في حق نفسها عندما سمحت بدخول مثل هذا الفاسق حياتها، لا يستطيع الراحة ولو دقائق يرحم فيها عقلهُ من التفكير وفؤادهُ من التألم..
عبر بوابة التجمع السكني ” كومباوند” وسار نحو منزلهُ، فوصل أثناء خروج ” آسر” من بوابة المنزل بـ ملابسهُ الرياضية مرتديًا حقيبة ظهر، ترجل ” قاسم” عن سيارتهُ ليجد الصغير يركض إليهِ وهو يقول بفضول شديد :

  • بابا، عملت إيه في عمر؟
  • آسر، مش عايزك تتكلم في الموضوع دا تاني.. مفهوم؟

فتلوت شفتي الصغير وخضع لأمر والدهُ القطعي.. بينما سألهُ ” قاسم” والعبوس على ملامحهُ :
– عندك تدريب إيه النهاردة؟
– النهاردة سباحة، وبكرة كونغ فو

داعب شعر صغيرهُ وهو يردد :
– طب يلا عشان متتأخرش

ثم رفع بصرهُ بإتجاه السائق وقال :
– خلي بالك منهُ يامحمد، أنا عارف إن حركتهُ كتيرة
– في عيني ياقاسم بيه، عن أذنك

وشرع السائق في مساعدة الصغير ليستقر في مكانهُ بالخلف، بينما ولج ” قاسم” ليجد زوجتهُ تنتظر على باب المنزل، بدا على وجهها أرق التفكير وإجهادهُ.. اقترب منها ” قاسم” وبادر بـ :
– جهزي نفسك عشان رايحين مشوار مهم

تنغض جبين ” حور” وهي تسأل :
– مشوار؟
– آه، ومتسأليش كتير

ثم تجاوزها ودخل.. صعد الدرجات التي تفصلهُ عن الطابق الثاني، توقف قليلًا أمام حجرة ابنتهُ ” أفنان”.. رغب بشدة في تعنيفها وردعها، ولكنهُ يرغب في عدم رؤيتها أيضًا، غضبهُ الذي كبحهُ بالأمس والذي نفث قليلًا عنهُ منذ قليل مازال متحكمًا في ردود أفعالهُ ، وإذ بـ” أفنان ” تفتح الباب فجأة لتسقط نظراتها على والدها الذي مازال بمكانهُ.. خفق قلبها رعبًا وحزنًا بآن واحد، فقد رأت بنظرات والدها معاني كثيرة أحزنتها ..
رمقها” قاسم ” مزدريًا، وكأنه احتقر ما فعلتهُ بحقها وحقهُ أيضًا.. ثمة شعور داخلي بالإنكسار يغمر قلبهُ، شعورًا لم يشعر بهِ قط.. أبدًا لم يهاجمهُ شعورًا بهذا السوء، أولاها ظهرهُ كي ينصرف .. ولكنهُ نادت عليه وهي تلحق بهِ ووقفت أمامهُ :

  • بابا أنا آ ………….

ولكنها تفاجئت بهِ يدفعها من أمامهُ ويتجاوزها گأنها طيف حراري أزعجهُ ومرّ، تجاهلها تمامًا.. مما أشعرها بوخزة عنيفة تضرب قلبها، هذه المرة الأولى التي يتعامل فيها معها بهذا القدر من الجفاء.. ولج لغرفتهُ وصفع الباب صفعة جعلت أهدابها ترتمش عدة مرات، ثم أخفضت رأسها عقب أن هاجمها شعور بالخزي ، وقبيل أن تنهار باكية عادت لغرفتها.. حتى تطلق العنان لنفسها، فتنهمر عبراتها براحة.
لم يطيق ” قاسم” إنتظارًا عقب أن بدل ملابسهُ بأخرى أكثر راحة.. فـ انتظر ” حور” بداخل سيارتهُ، ارتدى نظارتهُ الشمسية القاتمة ليمنع وصول ضوء الشمس لحدقتيهِ .. وأسند رأسهُ مُصغيًا لهذه الموسيقى الهادئة ، ظهرت ” حور” وهي تتقدم برشاقة من سيارتهُ، فـ ترجل كي يفتح لها باب السيارة بنفسهُ.. تفاجئت من فعلتهُ، تقريبًا لم يفعل ذلك منذ أكثر من تسعة عشر عامًا.. ابتسمت بسعادة غمرتها ثم استقرت في مكانها، فـ عاد يجلس خلف المقود ليجدها تسألهُ :

  • مالك ياقاسم، فيك حاجة غريبة النهاردة؟
  • مفيش، فين موبايلك؟

أخرجت هاتفها الجوال وقالت :
– أهو
” قاسم ” وهو يمد يدهُ لها لإلتقاطهُ :
– هاتيهِ

تناولهُ منها، وفصل عنهُ الطاقة نهائيًا.. حملقت” حور ” وهي تقول :
– قفلتهُ ليه؟ ياسمين لما تصحى وتعرف إني مش موجودة هتتصل بيا أكيد
– أنس هيتصرف

ثم أدار المقود إستعدادًا للمغادرة، ولكنها حاوطتهِ بسؤال آخر :
– طب هنروح فين؟

تنهد وهو يجيب :
– مسافرين في أجازة، في أسئلة تاني

تحمست سريعًا، وتلاشى عبوسها وهي تردد بعدم تصديق :
– معقول! بس الأولاد آ…
– مش مهم، هما مش صغيرين.. وأنس معاهم

……………………………………………………………

يبدو أن تلك العطلة المفاجأة التي قرر ” قاسم” أن يقوم بها، سيحمل ” أنس” أعبائها .. طرد زفيرًا محتقنًا من صدرهُ ومسح على وجههُ وهو يقول :

  • صدقيني والله ما اعرف حاجة، كل اللي خالي قالهُ إنهُ مسافر وراجع في نفس اليوم، معنديش معلومة أكتر من كدا

نظر لبعض المارينّ أمامهُ في بهو الشركة، ثم عاد ليردد :
– عمومًا أنا طلبت ليكم دليڨري زمانهُ في الطريق والحساب مدفوع .. ياريت تعقلي شوية النهاردة بما أن طنط مش موجودة

بعض الوقت من الصمت ثم استطرد :
– ماشي ماشي، هروح لنينة أطمن عليها وبعدين ارجع.. سلام بقا

ثم أغلق وهو يهمس بـ :
– محطة أذاعة متنقلة مش بتفصل كلام

رنّ هاتفهُ مرة أخرى، ابتسم قبل أن يُجيب و :
– مش مصدق نفسي، عصام بنفسهُ بيكلمني؟ رجعت مصر أمتى؟.. لالا عرفني بس انت نزلت فـندق إيه وانا جايلك ، حلو أوي.. خلاص هعدي عليك دلوقتي، سلام

إتجه ” أنس” نحو البوابات، ومنها لسيارتهُ.. ومباشرة انتقل لهذا الفندق الراقي الذي اختارهُ إبن عمهُ ” عصام” كي يكون نزيلًا فيه.. صفّ ” أنس” سيارتهُ أمام بناية الفندق الشاهقة والملفتة للناظرين، عبث ” أنس” بهاتفهُ ثم استعد للترجل، ولكنهُ توقف فجأة.. دقق أنظارهُ أمامهُ ليتأكد إنهُ يراهم بحق، وعندما تأكد من دخولهما لمقر الفندق.. ترجل وأغلق سيارتهُ بعجالة، نظر من الخارج.. إنها هي بـ طريقتها المتمايلة أثناء السير، السيدة ” زريـن” .. وهذا زوجها المسافر ” إستيڨان”، حدق” أنس ” فيهم قليلًا حتى أختفيا بالداخل.. ثم ولج مسرعًا نحو جهة الإستقبال وسأل بإرتياب :

  • لو سمحت عايز أسأل عن نزيل عندكم إسمهُ عصام شرف الدين

بحث موظف الإستقبال عبر جهاز الحاسوب ثم قال :
– أه يافندم موجود، غرفة 1145
– بلغه إني موجود من فضلك، أسمي أنس عبدالرحمن
– حالًا يافندم

تردد ” أنس” كثيرًا قبل أن يسألهُ عن وجود ” إستيڨان ” .. ولكنهُ وجد حتمية ذلك.

خرج ” أنس” من بوابة الفندق متجهم الوجه.. أخرج هاتفهُ للتواصل مع ” قاسم”.. ولكنهُ وجد هاتفهُ مغلقًا و :

  • الهاتف المطلوب مغلق أو غير متاح.. لترك رسالة صوتية أضغط 1

فـ ضغط” أنس” على الرقم واحد وتحدث بلهجة محتدة :
– إستيڨان مسافرش ياخالي ، من ساعة ما جه مصر مسافرش تاني.. في حاجة بتحصل من ورانا بس أنا مش فاهمها

……………………………………………………………

تجرع ” إستيڨان” كأسهُ على دفعة واحدة.. ثم ترك الكأس وهو يردف بالعربية الفصحى :

  • يجب أن لا نلتقي هذه الفـترة، سيكون أفضل من أجل تنفيذ مشروعنا كاملًا دون عوائق

تمايلت ” زريـن” بجسدها عليهِ، حتى برز نهديها بوضوح.. فـ انخفضت أنظار زوجها مباشرة، وقد تحمس وتلاعب الخمر برأسه .. ثمة حرارة متوهجة تنبعث من داخلهُ، فـ هي صائدة ماهرة تتقن كيفية إقتناص فريستها .. وبالقرب من أذنهُ همست بـ :

  • عزيزي لا تقلق، سيكون كل شئ على مايرام.. ثق بقدرات زوجتك الفريدة

وكأنهُ دفعتهُ لفعل متهور معها، قادها نحو مضجعهُ بإنفعال عاطفي حاد.. ليشهد الفراش لقاءًا حاميًا بينهما و ……………………………….

error: