رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عـهد جديد ^^

(( الفـصل الخامس والعشرين ))

خطوة فـ الثانية فـ الثالثة حتى أصبح قبالتهُ مباشرة.. ابتسم “إستيڨان” بسخافة شديدة قبل أن يبسط كف يدهُ ليصافحهُ بمنتهى التبجح و :
– آسـف جدًا لما طال عائلتك من نوائب متتابعة

لم يعيرهُ إهتمامًا وكأن كفهُ الممتد للسلام شفافًا بالنسبة إليهِ.. ظلت نظراتهُ المغزية متعلقة بهِ قليلًا قبل أن يسأل :
– عرفت منين وجيت هنا إزاي؟

سحب “إستيڨان” كفهُ ليدسهُ في جيب بنطالهُ، ثم أجاب :
– لقد بلغتني مديرة مكتبك وحصلت على العنوان من شخصها.. ألن تتقبل مني واجب العزاء
– لأ

تعجب “عصام” لهذه الفظاظة العلنية من “أنس”، فتدخل جاهلًا بما يحدث :
– أنس ميصحش كدا
– استنى انت ياعصام لو سمحت

اجتذبهُ “أنس” بعيدًا عن هذه الدار المباركة، ثم توقف بهِ بعيدًا والشر ملء عيناه حتى ومضت گقطة تلونت عيناها في الظلمة الكالحة، وألقى عليهِ الإتهام بـ :
– أنت اللي عملتها!؟ إزاي مخدتش بالي إن مفيش غيرك ممكن يعملها!

قطب جبينهُ متعمدًا عدم إظهار نفسهُ و :
– عما تتحدث ياعزيزي؟

فـ اهتزت نبرتهُ وهو يصيح فيهِ :
– إنت عارف كويس بتكلم عن إيـــه
– أنصت إليّ

تحولت تعابير “إستيڨان” لأخرى مُعادية متوعدة، وأردف بـحقدٍ شديد يكنّهُ داخلهُ :
– إنني فرد من شبكة ضخمة لن تستطيع التغلب عليها إيًا كنت.. إن كنت حقًا تخشى العواقب الوخيمة التي قد تنال عائلتك، سـ يُعقد الإجتماع التنفيذي للمشروع في أقرب وقت

ثم ابتسم بـ خبث شديد واستكمل :
– فـ أنا لن أنتظر عودة قاسم من الموت

وقبل أن يشنّ “أنس” هجومًا منفعل عليهِ أتمم عبارتهُ بـ :
– تـذكر حديثي جيدًا، فـ التخلص مني عملية غاية في الصعوبة

ضبط “إستيڨان” ياقة قميصهُ أولًا، ثم برح مكانهُ منتقلًا صوب السيارة الضخمة التي تنتظرهُ.. والآن بدا كُل شئ واضحًا و بشدة.. إعتراف ممزوج بالتهديد وهو يقف بمكانهُ لا حراك فيهِ، أصبح عاجزًا بحق عن إسترداد إيًا مما يملك.. لقد حُـشر في الزاوية وأصبح من الصعب الفكاك منها، اقترب “عصام” منهُ وسألهُ بإقتضاب :
– في إيه ياأنس؟ فهمني!
– مفيش

نظر “أنس” لساعة يدهُ، ثم مرر بصرهُ على الداخل ليجد أن الجميع قد غادر.. فـ استعد للمغادرة و :
– أنا لازم امشي ياعصام، سلام دلوقتي

وذهب قبيل حتى إنتظار الرد.. منتقلًا للمشفى، وعقلهُ يكاد ينفجر من شدة الغليان.
وهنا أمام غرفة العناية المركزة، مازالت “حور” مستقرة أمام الحائل الشفاف تراقب سكونهُ المريب حتى حضر هو :

  • الدكتور مقالش حاجة جديدة؟

هزت رأسها بيأس شديد، ثم قالت :
– لحد دلوقتي مفيش أي مؤشرات إيجابية ياأنس، أنا هموت من الخوف

ثم التفتت برأسها إليهِ وتابعت :
– حتى المباحث لما جت النهاردة وسألوا عنهُ عشان يقدم إفادتهُ الدكتور بلغهم إن الحالة صعبة بجد
– خير ياطنط

نظرت “حور” لثيابها، ثم تأففت بإنزعاج من نفسها وقالت :
– أنا لازم أروح البيت أغير هدومي واجي تاني، هي الساعة كام؟
– ٩ ونص
– طب روحني ياأنس، أغير هدومي واجيب شوية حجات وارجع

رمى نظرة أخيرة عليه، ثم على جهاز قياس النبض قبل أن يردف بـ :
– حاضر

……………………………………………………………

منذ ظهيرة اليوم وهي مختلية بنفسها بين جدران غرفتها، شعور عظيم بالذنب يخالج كيانها كلما تتذكر هذه الصفعة التي مازالت تشعر بها على وجهها وكأنها وليدة اللحظة.. بينهُ وبين الموت شعره رفيعة، وإن اختطف “عـزرائيـل” روحهُ قبل أن يسامحها، ستعيش معذبة ما بقى لها..
حالة نفسية شديدة السوء تتحكم بها الآن، حتى إنها لا تدري كم من الدموع أذرفت.
تركت غرفتها وبقيت بالمرحاض، أمام المرآه العريضة التي تأخذ مساحة عرض الحائط.. وفجأة سيطرت عليها فكرة التخلص من شعرها الطويل الأشقر، وكأنهُ العقاب الذي تستحقهُ بأن تفقد شعيراتها الذهبية الغالية..
أخرجت المقص المعدني من أحد الأدراج الصغيرة، وبدأت في قصقصة شعرها وخصلاتها خصلة تليها الأخرى، وتسقطهن أرضًا دون إهتمام..
تتساقط خصلاتها وتنساب دموعها في آنٍ واحد، حتى أصبح شعرها قصيرًا بالكاد يصل لرقبتها.. هبطت بجسدها الرخو حتى اتخذت الأرضية موضع جلوس لها، ثم ضمت ساقيها لصدرها وهي تشهق بصوت مرتفع..
ليقتحم “أنس” المكان عقب إستماع صوت نحيبها وقد تملكهُ الذعر عليها، ليرى هذه الكارثة التي افتعلتها.. حدقت عيناه فيها وهو ينحني ليجلس جوارها، ثم شمل المكان المبعثر من حولهُ وهو يهتف :
– إيـــه اللي عملتيه دا؟

ثم نظر بإتجاهها وخلل أصابعهُ في خصلاتها القصيرة وهو يصيح بإنفعال :
– إزاي تعملي حــاجة زي دي؟

رفعت عيناها المنفوختين ناحيتهُ وتسألت بوهن شديد :
– بابا عامل إيه النهاردة ياأنس؟

تنهد وهو يجيبها :
– كويس ياياسمين

ثم تابعت بكائها وهي تقول من بين صوتها المتقطع :
– لو بابا جرالهُ حاجة وهو غضبان عليا انا مش هسامح نفسي أبدًا ياأنس، أبــدًا

وارتمت برأسها على صدرهُ وهي تشهق شهقات امتزجت بأنين آلامها النفسية.. احتضن رأسها ومسح على شعرها القصير بضيق جلي، وقد تذكر آخر وصية من “قاسم” له.. كانت هي الوصية دون غيرها، زفر “أنس” زفيرًا مختنقًا وهو تكالبت عليهِ الهموم، فلا يعلم بأي همّ يفكر وبأي أمر يبدأ.

هذا المكان المميز الذي كان يقضي بين جدرانهُ أغلب أوقاتهُ حتى أصبحت الحوائط تحمل من عبق رائحتهُ.. ولجت “حور” لغرفة مكتبهُ تنتظر أن تراه يحتل مكانهُ خلف المكتب، أو يتخذ الأريكة مكانًا للراحة ليستعيد بعضًا من نشاطهُ ويتابع
أعمالهُ ، ولكن خاب ظنها.. فلم يعد موجودًا هنا الآن، تقدمت من مكتبهُ وجلست على مقعدهُ وهي تستعيد آخر ذكرى لهم سويًا في هذه الغرفة.. ورغم إختناق صدرها إلا إنها لم تريد المغادرة، عبثت في أشيائهُ دون أن تبعثرها.. وتفقدت محتويات سطح المكتب بعدم إهتمام، حتى وجدت هذه اللوحة المندسة بين الأشياء.. وإذ بوجهها مرسومًا بحرفية عالية على اللوحة، ولكن بقيت الرسمة ناقصة ولم يستكملها.. تجمعت الدموع في عينيها وهي تتلمس الخطوط الرصاصية وتهمس بـ قهر :
– ملحقـش يكمـلها! مـلحقـش

ثم انفجرت بالبكاء المصحوب بصوت الألم، والذي حبستهِ داخلها طيلة الأيام الماضية.. وقفت عن مجلسها، وطوت هذه اللوحة لتحتفظ بها معها ريثما يعود فيكمل رسمها .

……………………………………………………………
هذه هي المرة الأولى التي تراه فيها منذ الأحداث العصيبة التي توالت هذه الفترة.. كان حزينًا شاردًا، ولأول مرة ترى وجههُ نبتت فيهِ بصيلات الذقن القصيرة.
اقتربت “أفنان” منهُ بخطوات حسيسة، ثم قالت :
– آ.. أحم، البقاء لله

وقف فور سماع صوتها المميز على أذنيهِ، وارتكزت أنظارهُ على عيناها القاتمتين الحزينة.. ثم رد :
– ونعمة بالله

ثم سألها وكأنهُ يرغب في إطالة الحديث :
– عمي لسه مفاقش؟

طأطأت رأسها بحزن وقالت :
– لأ لسه، مفيش أي جديد
– أفــنان

كان صوت والدتها وهي تنادي عليها أثناء نزولها على الدرج.. فـ اقتربت منها و :
– نعم ياماما
– أنا مش عايزة أصحي آسر من النوم، لو صحي قبل بكرة شربيه اللبن بتاعهُ وخلي بالك منهُ
– حاضر

فـ اقترح عليها “عصام” :
– طب ما تباتي هنا النهاردة ياطنط وبكرة الصبح تطلعي على المستشفى
– مقدرش ياعصام، مقدرش أسيب جوزي هناك لوحدهُ

لحق بها “أنس” وهو يحمل حقيبة صغيرة للغاية تضع فيها بعض المستلزمات الضرورية لبقائها في المشفى.. وعندما أصبح على بعد خطوة منها أردف :
– أنا جاهز ياطنط، بس في حاجة

نظر لأعلى وهو يتابع :
– لازم تطلعي لياسمين الأول، حالتها زي الزفت

لم تعقب.. تركتهم و صعدت من جديد، بينما ناول “أنس” الحقيبة لـ “عصام” واستأذنهُ لعمل مكالمة هاتفية.. خرج من المنزل وانفرد بنفسهُ خارجًا وهو يتحدث لـ “رائف”، ليقرر قرارًا سيصنع ضجة جديدة :
– أنا مسؤل عن قراري يارائف، جهز اجتماع مع الشركاء وبلغني بالمعاد عشان نتابع المشروع.. أنا مش مضطر أبرر نفسي دلوقتي، جهز كل حاجة وبعدين هفهمك ناوي على إيه.. سلام

كانت قد وصلت للذروة، الهواجس السيئة تطاردها أينما كانت.. وفكرة موت والدها في أي لحظة تُشعرها شعور لا مثيل لهُ، فقدان السند والعماد لها.. تكاد تلفظ أنفاسها من هول هذا الشعور..
ضمتها “حور” بعاطفة جياشة، وكأنها تضم الغائب الذي افتقدتهُ، في النهاية هي قطعة منهُ.. مسحت على رأسها بحزن بالغ وهي تردد بإستياء مما فعلت :
– كدا ياياسمين؟! بابا لو شاف شعرك بالشكل دا هيزعل أوي منك.. دا كان بيحب الشعر الطويل فيكي أوي

تمالكت “ياسمين” نفسها بصعوبة شديدة وهي تستنجد بعبارة منها ترد الروح فيها :
– بابا هيبقى كويس، صح؟

غالبت رغبتها في البكاء وقالت :
– صح، أنا متأكدة إنهُ مش هيسيبنا.. بس انتي لازم تكوني قوية، مينفعش يرجع يلاقيكي بالحالة دي

دوى صوت صغيرها “آسـر” بالخارج عقب أن علم بوجود والدتهُ.. صاح ينادي عليها حتى خرجت إليه، فتعلق بأحضانها معترضًا على غيابها الطويل عنهُ :
– بقى كدا ياماما، بتسيبيني كل دا لوحـدي

أغرقتهُ تقبيلًا عقب اشتياق لرائحتهُ المميزة، ثم بررت :
– معلش ياحبيبي، بابا مسافر و…….

زمجر الصغير فجأة وهو يصيح :
– متكذبيش ياماما، أنا عارف ان بابا في المستشفى ومتعور وسمعت ياسمين وهي بتحكي لـ فنان

ابتعد عن حضن والدتهُ وتابع بإنفعال طفولي :
– خديني معاكي دلوقتي، أنا عايز اشوفه
– حبيبي مينفعش آ….

تشنج الصغير بجسدهُ لتتركهُ، ثم قال متمسكًا برأيهُ :
– لأ لأ لأ، هاجي.. لازم اشوف بابا دلوقتي

جاهدت بـ شتى الطرق أن تغيير رأيه.. ولكنهُ كان متذمدًا في قرارهُ، فـ اضطرت أن تصحبهُ معها.. تعجبت لصمودهُ الذي لم يأتي من كبار السن.. كان جامدًا وكأنهُ نسخة من “قاسم”، جامدًا صلبًا..
وقفت “حور” في انتظار خروج الطبيب المعالج من قسم العناية المركزة، أعصابها تدمرت فعليًا خلال الأيام السابقة ولا تتحمل عبئًا أكثر من ذلك..
خرج الطبيب وملامحهُ تعبر عنهُ، شملهم بنظراتهُ قبل أن يقول :
– مفيش تقدم واحد في الميا، ولا في أدنى أشارات نقدر نقييم الحالة على أساسها

بدأ “أنس” ينفعل وهو يعرض عليه :
– طيب انا عايز امشي في إجراءات نقلهُ من هنا
– صدقني محدش هيعمل أكتر من اللي بنعملهُ هنا، لكن الغيبوبة اللي دخل فيها مسيطرة عليه تمامًا وكأن عقلهُ الباطن رافض الرجوع

ثم استأذنهم :
– عن أذنكم

غادر الردهة، وخرجت الممرضة من بعدهِ.. استوقفها “أنس” ودس في يديها بضع ورقات نقدية وهو يردد بتهامس :
– أنا عايز ادخل أشوفهُ

مررت الممرضة نظرها للأمام تستكشف الطريق، ثم قالت :
– تعالى

ثم صحبتهُ للداخل بهدوء شديد.. اقترب منهُ وهو يستشعر برودة الغرفة، اقشعر بدنهُ من ملامح وجه “قاسم” وبشرتهُ شديدة الصفار.. وقف يتحدث إليهِ وفي قلبهِ ألمًا عنيفًا :
– أنا من غيرك مسواش ياخالي، أوعى تسيبني لوحدي.. أرجع عشان نرجع حقك، أرجـع إحنا محتاجينك

كاد يذرف الدمع لولا إنهُ تماسك وهو يستطرد :
– أنا إبـنك، إزاي عايز تعمل كدا معايا

انحنى ليكون صوتهُ أقرب وقال :
– خالي، مش هسمح لحد يمسك ولا يمس حد مننا تاني بس أرجع

كان “آسر” يلح على والدتهُ كي يدلف للداخل، يرى والدهُ ويتطلع إليه بضع لحظات فقط.. فـ أشارت “حور” لـ “أنس”، حتى خرج هو وأتاح الفرصة لدخولهم..
ركض الصغير على فراش والدهُ، حتى إنهُ قفز وصعد عليهِ ليكون أقرب و :
– بــابـا

فزعت” حور” من تلك الحركة المباغتة وأسرعت تنتزعهُ من قرب والدهُ وهي تقول :
– آســـر، بابا كدا يتعب أكتر

حملتهُ ليكون على مسافة معينة، ثم قربتهُ منهُ ليُقبل جبهتهُ و :
– أنا هقربك منهُ وانت بوس راسه

تمسك الصغير بوجه والدهُ وطبع العديد من القُبلات عليه، حتى سحبتهُ والدتهُ وهي تقول :
– كفاية كدا عشان منتعبش بابا

تذمر “آسر” وقد عبس وجههُ وانقطب جبينهُ كما لو كان “قاسم”، ثم قال :
– أنا ملحقتش يامــاما، عايز أقول لبابا حاجـه

فـ انحنت بجسدها ليكون قريبًا منهُ مرة أخرى، ليضع” آسر” كفهُ الصغير على بشرتهُ ليجزع وهو ينطق بـ :
– وشك بارد كدا ليـه يابابا؟
قوم كلمـني أنا جيت

تنهدت “حور” بضيق شديد وقالت :
– ياحبيبي مش هيسمعك

فـ انفعل وهو يؤكد :
– لأ هيسمعنـي، عشان بيحبني أكتر واحـد وبيسمع كـلامي.. هتشوفي دلوقتي يقوم يرد علينا

گذبذبات تتردد على عقلهُ الغافي.. وكأنهُ بالفعل يستمع لهم ولكنهُ لا يصدر أدنى إيماءات، ومشهد محاولة إغتيالهُ يهجم بشراسة على عقله ويتكرر مرات ومرات ومرات.. وإذ بالدماء تضخ في دماغهُ، وتنفتح عينـاه فجأة.. حدق “آســر” غير مصدقًا وصرخ بـ :
– بابا فــتح عينه، بابا فــــتح

تركتهُ وركضت “حور” للخارج مهرولة وهي تصــرخ بــ :
– دكـــــتور، فــتح عينـــه.. دكــــــــتور ………………..
……………………………………………………..

error: