رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عهـد جـديـد ^^

(( الفصل الثامن ))

كانت خطوات ” قاسم ” حيال ابنتهُ لا يُشعَر بها.. ولكنهُ قد تأخر، فوصل إليها وهي تغلق المكالمة وتلتفت إليه، لـ ينتفض داخلها بفزع وهي تردد من بين حشرجة صوتها :
– بـ بابا!

رسم هدوءًا كاذبًا على وجهه وهو يسأل :
– بتكلمي مين ياأفنان؟
أفنان وهي ترمش بعيناها عدة مرات :
– آ.. صحبتي، بكلم صحبتي
– طب كفاية كدا وتعالي أقعدي مع أختك وصحابها
– حاضر

لا تصدق إنها نجت بسهولة من محاصرات واستفسارات والدها، ولكنها لا تدري إنها لم تنجو.. بل إنها حُشرت في زواية ضيقة منذ أن علم والدها بهذه العلاقة.. تركها تمضي ومازالت عيونهُ مرتكزة عليها لا تفارقها، تُري ماذا تُخبئ.
…………………………………………………………

انتزع منهُ هذا الطرد عنوة، ومزق الأنشوطة المعقودة على سطحهُ بإنفعال شديد.. في حين صرخ به الساعي لوقع المسؤلية كاملة على عاتقهُ :
– بتعمل إيـه ياأفندي، الطرد لازم يتسلم لصاحبتهُ وتمضي بالإستلام انت كدا هتوديني في داهيه

دفعهُ ” أنس ” ليرتد للخلف وجأر فيه :
– أبعد عني أحسن ورحمة أمي ما هتروح بيتكوا النهاردة

تدخل الحارس ليكون حائلًا بينهما، في حين تابع هو فتح هذا الصندوق ليجد ( فستان ) ذهبي، شاع بريق فصوصهُ الماسية.. طاقة حرارية تكونت بداخلهُ وكأنهُ سيفتك بأحدهم لينفث عن الحقد والغيظ اللذان أكلا من صدرهُ، أشار لأحد الحرس وهو يهتف بلهجة محتدمة :
– روح هاتلي مقص من جوه فورًا

ولج الحارس للداخل، بينما سحب ” أنس ” الدفتر الموجود بين يدي الساعي وصاح بـ :
– أمضيلك فين؟

الساعي وهو يشير إليه بأسفل الورقة :
– هنا

قام بالتوقيع متعجلًا، ثم نطق بـ :
– أمشي من قدامي دلوقتي
وسرعان ما انصرف لينقذ عمرهُ من هذه النظرات الشرسة وسط أجواء مظلمة.. فـ بدت لهُ كعيون قط مفترس سينقض عليه في الحال.
ولج الحارس إلى المطبخ، وأقترض ” مقص معدني ” من الخادم ثم خرج متوجهًا نحو الباب، إلا أن ” قاسم ” استوقفهُ وهو يتسائل بإرتياب :
– في إيه ياسعد؟
– أنس بيه أمر أجيبلهُ مقص يافندم

فـ خرج ” قاسم ” لـ يتفقد الأوضاع بنفسهُ عسى أن يكون هناك أمرًا لا يعلم به.. أنتقل نحو البوابة وعيناه تجوب المحيط، حتى وقف قبالة ” أنس ” مباشرًة..
رمقهُ ” أنس ” بنظرات مشتعلة، وبادر هو بالسؤال :
– أنت مخبي عني حاجة ياخالي؟

ضاقت المساحة ما بين حاجبيهُ ونطق بـ :
– حاجة إيه؟

إنحنى ” أنس ” يلتقط البطاقة ثم ناولها له وهو يقول بلهجة يشوبها التلميح الغير صريح :
– معناه إيه الواد دا يبعت هدية زي دي

قرأ ” قاسم ” هذا الأسم مرة واحدة، قبل أن يمزق البطاقة لجزيئات صغيرة.. بينما انحنى ” أنس ” وشرع بتنفيذ ما انتواه..
مزق الثوب تمزيقًا مريعًا جعلهُ لا يُنتفع به بعد الآن، أستمر في القص والقطع بشكل عنيف ومنفعل، فلم يود ” قاسم ” التدخل فيما يفعلهُ، علهُ يهدأ.. ولكن هيهات لم يهدأ، بل أن داخلهُ عصف يمينًا ويسارًا وهو يفكر في المعنى والمدلول وراء هذه الفعله..
وعقب أن تأكد من تدهور ملامح الثوب تركهُ، وأمر بـ :

  • عبي الزبالة دي في الصندوق، وتاخده وتطلع دلوقتي على بيت عيلة السلمانية، تسيبهُ على بابهم وتيجي
  • أوامر ياأنس بيه

كاد ” أنس ” ينطلق بإندفاع نحو الداخل، ولكن استوقفهُ ” قاسم ” عالمًا بما سيفعلهُ من تهور سيؤدي لنتائج غير محمودة.. قبض على كلتا ذراعيهِ ونطق بـ :
– أهـدا

فـ صاح ” أنس ” بدون وعي :
– سـيبني دلـوقتـي ياخـــالي !

فكانت نبرة ” قاسم ” هي الغالبة بقولهُ :
– قــولت إهــــدا

ظلت حدقتي ” أنس ” عالقتين على عيون ” قاسم ” الغامضة، واستمع لحديثهُ و :
– خليهم يجيبوا آخرهم، أما أشوف عايزين إيه

ضغط على فكيهِ ضغطًا أدى لتألم اللثة، ضرب بقبضتهُ على صدرهُ ناحية الأصابة التي أُصيب بها في الثانية عشر من عمرهُ.. وقال بنبرة متوعدة :
– المرة اللي فاتت رصاصتهم كانت في صدري، مش هستنى لما الضربة تكون في قلبي

طرد ” أنس ” زفيرًا متوهجًا من صدرهُ أعقبه بـ :
– مش عارف ليـه مخلصتش منهم من زمان وخلصتنا إحنا كمان، ده نسل ****

ثم برح مكانهُ للداخل.. تتعقبهُ عيني ” قاسم ”، فـ إبن شقيقتهُ غارقًا في عشق ابنتهُ، عطب ” سراج ” الليلة وفسد مزاج ” أنس ”.. حتى إنه استكمل ليلهُ عاكفًا عنهم في غرفتهُ، حاولت” ياسمين ” مرارًا أن تجتذبهُ من هذه الحالة المفاجأة التي سيطرت عليه، ولكنها فشلت..
ظلت تحدثهُ طويلًا من خلف الباب؛ ولكنهُ لم يجيب.. فقد حصر نفسهُ في تساؤلات لا إجابة لها.

ياسمين وهي تقرع على الباب للمرة العاشرة:
– ياأنس، أفتح الباب بقى!

تنهدت بإختناق ، وعادت تقول :
– ينفع يعني تعمل كدا في يوم زي ده؟
حور وهي تقترب منها :
– سيبيه دلوقتي ياياسمين
– ياماما دا آ….
– معلش، طالما مضايق يبقى متعتبيش عليه.. روحي غيري هدومك وارتاحي

أجفلت أهدابها بقنوط ، ثم سحبت طرف ثوبها الطويل وسارت متأدة نحو غرفتها.. في حين عادت ” حور ” لحجرتها مرة أخرى، نظرت حيال ” قاسم ” وهو يـُدخن بشراهة لم تراه عليها منذ فترة طويلة .. دنت منهُ وعلى وجهها ملامح معترضة، ثم قالت :

  • هتعمل إيه؟ أنا من الأول كنت ضد الفكرة دي.. قولتلك بلاش نيجي هنا
    قاسم وهو يزفر الدخان من صدرهُ :
  • أظن إني قولتلك السبب اللي خلاني أجي، ومكنتش عايز أسيبكم لوحدكم
    عقدت ساعديها بتبرم قبل أن ترد بـ :
  • برضو مفهمتش هتعمل إيه؟
  • ولا حاجة

ابتسمت بسخرية وقالت :
– متبقاش قاسم!، أكيد في حاجة في راسك

أطفأ سيجارتهُ في المنفضة، ثم توجه بإتجاه المرحاض دون أن يعيرها اهتمامًا.. فـ ذمّت شفتيها بإستنكار وغمغمت :
– إزاي طول السنين دي ومش قادرة أفهم إن قاسم جواه قاسم برضو! أوف.

…………………………………………………………..

بدلت ملابسها، ونعمت بجلسة إستحمام دافئة قبل أن تهرب إلى مخدعها.. وما لبثت أن وضعت جسدها على حافة الفراش حتى لمحت هذا المجسم الغريب على فراشها..
تنغض جبينها وهي تتطلع إليه بتدقيق، ثم التقطتهُ لتتفحصهُ .. قامت بفتحه فوجدت ورقة مطوية على السطح، فتحتها لتجد بطاقة ترشيحها لـ كُلية الإعلام بجامعة القاهرة .. وثبت على الفراش بسعادة شديدة عقب أن تحقق حلمها بالإنتساب لهذا الصرح العظيم، أكتملت فرحتها اليوم بهذا الخبر السـار.. تهدجت أنفاسها وهي تعود لجلستها، وفتحت سحاب الحقيبة لتجد كاميرا كبيرة ذات ماركة شهيرة.. لم تحلم قط أن تمتلك كاميرا گهذه، شهقت غير مصدقة، فـ هذه كانت هدية ” أنـس ” لها، والتي لم يحبذ أن تراها أمام أيهم..
فكرت كيف ستجتمع به الآن عقب أن أغلق على حالهُ وامتنع عن الحديث، فقامت بإستخدام هاتفها لإرسال رسالة نصية عقب ” تطبيق الواتساب للمحادثات ”.. تُبلغه إنها مرضت فجأة وتعاني من آلامًا شديدة في جوف المعدة..
لم يصبر، بل إنه انتقل لحجرتها مهرولًا، وفتح الباب ليبحث عنها في أنحاء الغرفة ولكنها لم تكن موجودة.. وفجأة، وجدها تظهر من خلفهُ لتحتضنهُ ، لمح هديتهُ الموضوعة على طرف الفراش.. فتأكد إنها رأتها، شدد ساعديهِ على خصرها، وكأنه بحاجة ماسّـة إليها وليس العكس.. كان في احتياج لأن يستشعر من جديد ملكيتهُ لها، ابتعدت عنهُ قليلًا وتجرأت بطلب نبع عن داخلها :
– أنس، أرقص معايا

لم يجلو بخاطرهُ أي نوع من الرقص رغبت، ولكن ما علق برأسه هو نمط واحد من أنماط الرقص.. فأظهر رفضًا وهو يقول :
– نرقص! بتهـزري أكيد
– لأ

إستعانت بهاتفها لتشغيل أحد الأغنيات الأجنبية الهادئة، دنت منهُ لتضع كفيها على كتفهُ.. وتلقائيًا كانت كفتاه أخذتا محلهما على خصرها لتبدأ رقصة ناعمة بينهما.. حتى أن الوقت مـر دون الشعور بقدرهُ.

……………………………………………………………

الجميع استيقظ بساعة متأخرة، عـدا ” قاسم ” الذي كان مستيقظًا بساعة مبكرة..
دلفت ” حور ” لحجرة ابنتها ” ياسمين ”، لتجدها جالسة برفقة صديقتها” رهف ”.. اقتربت من جلستهم و :
– ياسمينا خلصتي تجهيز شنطتك ؟
– لسه ياماما، هو ليه بابا قرر نرجع النهاردة؟
– عنده شغل ياحببتي، جهزي نفسك عشان هو هيخلص حاجة وراه ونتحرك
– حاضر

خرجت” حور ” فـ نهضت ” ياسمين ” لـ تضب أغراضها في الحقيبة، بينما علقت ” رهف ” بعينها وعقلها على هذه الكاميرا الباهظة التي تمنت أن تكون لها .. إلتوت شفتيها بضجر، وهمست وشعور الغيرة مسيطرًا عليها :
– حظها نار بنت المحظوظة، إشمعنا انا كل اللي اعرفهم عرر

أجتمع ” قاسم ”،” أنس ” .. ببعض الفلاحين، وأبناء الفلاحين الورثة، لمناقشة الأسعار الجديدة للمحاصيل الزراعية التي يحصل ” قاسم ” على نصفها بأسعار معينة .. فقد أبدى معظمهم حالة من الرفض للبيع، مبررين ذلك بعدم إقتناعهم بالأسعار التي فرضها ” قاسم ” رغم إنها نسب معقولة..
ترأس ” قاسم ” هذه الجلسة، وأظهر لهم وجهًا غليظًا وتعابيرًا منزعجة وهو يقول :

  • هو كدا الإنسان لما يشبع بيطمع، إنما زمان مكنش حد فيكم
    يقدر يعترض.. دلوقتي واقفين قدامي وعايزين السعر تلات أضعاف!

فقال أحد الفتيان الشباب بلهجة ريفية تلقائية :
– والله ياقاسم بيه الدنيا نار والأسعار كلها طلعت للسما، وإحنا عندنا التزامات تانية

فقال ” أنس ” بجدية بيّنة :
– إحنا مش رافضين الزيادة، لكن مش لـ ٣ أضعاف .. مين عاقل يقول كدا!

فتدخل آخر :
– الأسعار اللي كان الحج أبويا الله يرحمهُ بيبع لكم بيها مـا عدتش تنفع

نظر ” قاسم ” لساعة يدهُ متذمرًا، ثم نطق بنفاذ صبر :
– أنا هضاعف السعر، الطاق أتنين.. لو كنتوا بتاخدوا ألف هيبقوا أتنين، غير كدا مفيش

نظر الجميع لبعضهم البعض، ثم خرج أحدهم عن صمتهُ :
– يفتح الله، إحنا عايزين السعر اللي نقولهُ

توجه ” قاسم ” ناحية باب المكتب، فتحهُ وقال :
– وانا مش هتعامل تاني معاكم، ولا انا ولا غيري

فسأل أحدهم بإرتياب :
– يعني إيه؟
– يعني قابلوني لو حد خد منكم شوال واحد، شرفتوا

ثم أشار نحو الخارج وكأنه يقوم بطردهم بشكل مباشر.. حمحم الجميع بحرج منهُ، وطأطأ بعضهم الرأس للأسفل.. بينما تابع ” أنس ” انصرافهم ثم قال :
– وبعدين، المصنع كان مستنينا عشان يبدأ في الطلبية الجديدة

برزت بسمة ماكرة على ثغرهُ وهو يقول :
– عامل حسابي.. المهم روح شوف البنات جهزوا ولا لأ عشان نرجع مصر

……………………………………………………………

عودة لأرض مصـر .. يومان لم ترى فيهم ” ياسمين ” ” أنس ”، بسبب تجهيزات إستقبال الوفد الأجنبي الذي يتضمن الشريك وزوجتهُ..
تركت” حور ” كأس العصير على الطاولة، ثم عادت تتابع قراءة هذا الكتاب الأدبي.. بينما كانت ” ياسمين ” تلتقط عدة صور فوتوغرافية للحديقة من الأعلى لتعتاد على إستخدام الكاميرا الجديدة.
إنسحب ” آسر ” من جلستهم ودلف للمطبخ، قام بالتلاعب في مؤشرات الموقد حتى ارتفع .. ووقف يراقب صوت غليان الطعام بسعادة طفولية..
بنفس الآن الذي وصلت فيه رائحة الطعام المستشيط لأنف ” أفنان ”.. فضاقت نظراتها وهي تقول :
– تقريبًا كدا والله أعلم، آسر في المطبخ

انتفضت” حور ” من جلستها وسقط الكتاب من يديها وهي تركض للطابق الأسفل حيث يتواجد المطبخ، وبالفعل كان ” آسر ” هناك ونيران الموقد مرتفعة، فصاحت به ” حور ” :
– آســــر! أنت عملتها تاني وعليـت النــار؟ هتولع فينا يامـؤذي

أغلقت الموقد وتفحصت أسفل الإناء لتحد الإحتراق قد أصاب أصابع الملفوف ” محشي ”.. فـ نظرت إليه بإستياء وهي تعنفهُ بـ :
– ميت مره أقولك متعليش النار على الأكل

ضرب” آسر ” الأرض بقدميهِ الصغيرتين معترضًا وهتف :
– ياماما بحب أكل ورق العنب وهو محروق

فأطبقت بأصابعها على ساعده وقالت:
– في حد ياكل أكل محروق! أنت عايز تجنني؟.. لو دخلت المطبخ تاني مفيش بلايستيشن طول الأسبوع
فـ رد عليها بزمجره :
– لما يجيلي بابا لازم أقوله، أنا مينفعنيش الكلام دا

وانصرف راكضًا، بينما صرخت هي فيه :
– ولــد! خد هنا!

ضاقت عيناها وهي تغمغم :
– عنيد زي أبوه، دا إيه اللي انا فيه دا!

……………………………………………………………

كانت أيامًا عصيبة، مزدحمة بالأعمال والأشغال.. ورغم تكبد ” أنس ” العناء في العمل إلا إنهُ اهتم بمطلب خالهُ وسعى خلف ” عُمر ” ليأتي بتفاصيل تخصهُ..
واليوم هو خط فاصل، ستكون هناك مأدبة كاملة على شرف ” الشريك الأجنبي ” وزوجتهُ المصون ، فقد قام ” قاسم ” بحجز قاعة المقهى الراقي لحضور الوفد وحضور بعض رؤساء الأقسام بشركتهُ في حدث لم يحدث من قبل ..
وصل ” قاسم ” أمام بناية منزلهُ في التجمع السكني.. صف سيارتهُ وولج للداخل ليجد ” أنس ” أمامهُ، متأهبًا في أبهى طلة من أجل عشاء العمل.. ابتسم ” قاسم ” بمجاملة وهو يقول :

  • عشرة على عشرة، أنا طالع اغير هدومي واحاول اقنع حور تيجي معانا
  • وانا هستناكم هنا، عشان ما صدقت أخلص من زن ياسمين

ولج ” قاسم ” للداخل قاصدًا الدرج القصير، ومنهُ إلى حجرتهُ، فـ كانت المفاجأة گـ ملامسة جسم ساخن لـ ماء مُثلج..
كانت ” حور ” تجلس أمام منضدة الزينة، تستعد لوضع أولى طبقات مساحيق الزينة.. اقترب منها ” قاسم ” متأدًا حتى وقف قبالتها، أجتذبها لتقف.. جاب أعلاها وأسفلها ليجدها ترتدي ثوبًا ضيقًا يصل لبعد ركبتيها بعدة سنتيمترات، مما أبرز ساقيها اللامعتين من أسفل الجوارب الشفافة.. وذا فتحة صدر مثلثية أظهرت نهديها .. تأملها بإعجاب قبل أن يهتف بإنبهار جـلـي:

  • Wow! إيه اللي انتي عملاه دا؟
    حور وهي تبتسم بعبث :
  • قررت أحضر عشا العمل معاك
  • دا بـجد! إيه اللي غير رأيك فجأة كدا؟

أسبلت خصلات شعرها الأسود المنساب على كتفيها للخلف واستطردت :
– عادي، حبيت اشاركك فرحة المشروع الجديد

إلتوى ثغرهُ بإحتجاج وقال :
– وانتي فاكراني هوافق تخرجي كدا!
حور وهي تنظر لحالها :
– مالي؟
قاسم وهو يشير نحو نهديها البارزين :
– مش شايفة جسمك باين ازاي وصدرك كلهُ بره؟ بتهـرجي!

ثم تركها واتجهُ نحو خزانتهُ لإنتقاء حُلة جديدة، ولكنها استوقفتهُ بـ :
– على فكرة، أنا خليت المحل اللي بتتعامل معاه يبعتلك بدلة وقميص وجرافت جداد، هتلاقيهم في شماعة لوحدهم

حقًا أُثيرت دهشتهُ وإعجابهُ في آن واحد وهو يحدجها بعدم تصديق لكل هذه المفاجأت، في حين تابعت هي :
– ونفس البراند والماركات اللي بتحبها

نظر لساعة يدهُ وهو يردد :
– غيري الفستان دا لو فعلًا هتيجي معايا، أنا مراتي متظهرش قدام الناس بالشكل دا

ثم التقط منشفة عريضة وانتقل للمرحاض الملحق بالغرفة كي يغتسل أولًا.. ابتسمت ” حور ” بسعادة وراحت تُخرج الثوب البديل الذي أعدتهُ لأجل الليلة، هي فقط أرادت أن تستشعر إنه مازال يغار عليها حد الجنون، حبذت شعور إمتلاكهُ لها.. تأنقت في ثوبها الطويل الأزرق القاتم الذي أظهر بشرتها البضة، ذا فتحة قصيرة من الجانب أظهرت نعل حذائها العالي.. صدريتهُ مغلقة وأكمامهُ نُقش عليها نفس الرسمة المطرزة على الذيل .. لملمت شعرها وصففتهُ بشكل أنيق أعطاها وقارًا ولم يُظهر حقيقة سنها الأربعيني، وتوًا انتهت من رسم شفاها بطلاء الشفاه الوردي الناعم، نظرت لهيئتها المكتملة عبر إنعكاس المرآه وابتسمت بـرضا عن حالها، في حين خرج ” قاسم ” مُغلفًا خصرهُ بالمنشفة .. وأول ما وقع على عينيهِ هي فاتنتهُ التي لا تكبر أبدًا، تفحص هيئتها وردد :
– كدا أقدر أقولك تجنني

تثنت في خطواتها نحوهُ حتى أصبحت قبالتهُ، وبدون حديث عاونتهُ في ارتداء ملابسهُ..
كانت حُلتهُ الكحلية غاية في الأناقة، بجانب رابطة العُنق الرمادية التي تتماشى مع لون المنديل، انتقت ” حور ” ساعة يد فضية ذات ماركة شهيرة وطوقت بها معصم كفهُ.. وقبل أن يـهمّ بإختيار إحدى العطور كانت هي قد اختارت واحدة، نثرت منها القليل فـ فاحت الرائحة النفاذة في الأرجاء.. ضبطت رابطة العنق، ثم مسحت على صدرهُ بكلتا كفتاها وهمست :
– خـلصنا

تلك الخصلة المتمردة التي التصقت بنحرها أغرتهُ، أزاحها بطرف إبهامهُ، وطبع محلها قُبلة طويلة تحسس فيها نبضات عروقها التي التصقت بشفتيه.. كادت تنغرز معهُ في هذه الموجه العاطفية الجامحة، إلا إنها تحكمت في رغبتها به وهي تهمس :
– في ناس مستنيانا

فكان صوتهُ القريب من أذنيها وأنفاسهُ المتوهجة تلفحها :
– إيه رأيك نسيب أنس يتصرف، وكدا كدا في meeting الصبح

دفعتهُ بخفة، فلم يتحرك جسدهُ الصلب قيد أُنملة .. كاد يصل لشفتاها المغرتين.. إلا إنها لثمت فمهُ بكفها وهي تردد :
– وبعـدين! ، وشي لو اتبهدل بالروچ زي كل مرة مش هيحصل كويس

فكانت القُبلة من نصيب باطن كفها الملثم لفمهُ.. ابتعد، سحب هاتفهُ ومفاتيحهُ، وطوق خصرها لتلتصق بجانبهُ وهو ينطق بـ :
– تتعوض في السهرة، وانا معاكي للصبح

فوصلت أصداء ضحكتها لصغيرها ” آسر ” الذي ترك مشاهدة التلفاز وانتقل إليهم سريعًا ليجدهم على وشك هبوط الدرج ، صدمهُ خروج والدتهُ.. فـ اعترض قائلًا بتذمر طفولي :
– مــامـا!
– بسم الله الرحمن الرحيم!

التفتت ” حور ” وهي تسألهُ :
– آسر، انت لسه منمتش؟
فقال بزمجره :
– بقى كنتي عيزاني انام عشان تخرجي مع بابا لوحدك؟
حور وهي تنحني لتوازيه :
– لأ طبعًا ياقلب ماما، بس جه مشوار مفاجئ ولازم اخرج مع بابا
– خلاص خديني معاكي

جذبهُ قاسم قبل أن يحملهُ، ثم سألهُ بجدية :
– ومين يخلي بالهُ من إخواتهُ البنات غيرك انت؟

مسد على وجهه وهو يتابع :
– إنت راجل البيت وانا مش موجود، ينفع يعني تسيبهم لوحدهم

تحمس الصغير لهذه المسؤلية التي يتطلع إليها، فـ عدل عن رأيه وهتف :
– لأ خلاص أنا هقعد عشان أخلى فنان متكلمش عمر
– إيــه!

قالتها ” حور ” بعدم فهم وهي تسأل الصغير :
– عمر مين؟

بينما حملق ” قاسم ” في الصغير.. ليتراجع سريعًا عن قولهُ خوفًا من نظرات والدهُ الجامدة :
– آآ.. آ
قاسم وهو يتركهُ على الأرضية :
– روح اعمل اللي اتفقنا عليه، يلا

ركض الصغير من أمامهم، بينما أعادت ” حور ” سؤالها المتوتر :
– في إيه ياقاسم؟
قاسم وهو يقتادها معهُ لأسفل :
– هفهمك بعدين، بس يلا بينا دلوقتي

لم يكن هروبهُ سوى تأكيدًا لها بوجود ما تجهلهُ، ظل الأمر هو شاغلها الأول طوال الطريق.. ولكنها لن تستطع التحدث بهذا الشأن ريثما يعودان لمنزلهم.. وصلت سيارة ” قاسم ” أمام المقهى، فـ استقبلهُ النادل وقادهُ هو وزوجتهُ نحو الداخل.. الكثير من موظفوا الشركة انبهروا بزوجة مديرهم ورب عملهم، فـ هي اختارت عدم الظهور في هذه الأجواء الصاخبة وعدم المشاركة في هذه الفعاليات، كانت رسالتها الأهم تربية أبنائها والاهتمام بتربية نشئ آخر عن طريق رسالتها التعليمية گمعلمة ثم مديرة لمدرسة..
جلس ” قاسم ” على الطاولة التي تنتصف ساحة المقهى.. بجوارهُ زوجتهُ التي انتصفت الجلوس بينهُ وبين ” أنس ”، مـر أكثر من نصف ساعة ولم يحضر سوى الوفد الخاص بالشريك الأجنبي، نظر” قاسم ” لساعة يدهُ وقد تجهمت تعابير وجههُ وهو يردد :

  • بكره الناس اللي مش بتحترم مواعيدها
    أنس وهو يلتقط كأس المياه :
  • زمانهم على وصول ياخالي

وما لبث أن أنهى عبارتهُ حتى بدأت الأجواء في الفوضى أثر حضور سيارة الشريك الأجنبي.. تخفزت ” حور ” لرؤية تلك التي كانت السبب في حضورها، علقت أنظارها على مدخل المقهى.. وكأن الوقت لا يمر في لحظات الإنتظار المملة تلك.
حتى فتح النادل باب المقهى، لتلج منهُ أولًا تلك الفاتنة.. بديعة الجمال، ومن خلفها الوقور الذي اشتعلت رأسهُ شيبًا.. في البداية نظرات إنبهار الجميع تحولت نحو تلك الجميلة، دون العلم بحقيقة هويتها.. حتى ” قاسم ”، نهض لإستقبالهم معتقدًا إنها ابنتهُ أو المسؤلة عن أعمالهُ، هي الوحيدة التي تعلم من تلك وما هي هويتها.. ثمة غيرة نسائية وحقد علني في نظرات” حور ” إلى أن انتبهت لعدم مناسبة المكان والزمان لإعلان رفضها الحازم لهذه الشراكة .. اقترب الشريك نحو ” قاسم” عقب أن أقتادهُ المترجم الخاص به إليه، مـد ” إستيـڨان ” كفهُ لمصافحة ” قاسم ” وهو يردد بالإنجليزية :
– Hello Mr Qasim , how are you? ( أهلا سيد قاسم، كيف حالك)
– I’m fine, welcome to Egypt ( إنني بخير، أهلا بك في مصر)
– This is my wife Zarin ( هذه زوجتي زرين)
– What?! ( مــاذا)

وبشكل تلقائي تحولت نظرات ” قاسم ” الغير مصدقة لتلك الساحرة ” زريـن ”.. يالـ روعـة عيناها من قريب، وكأن حدقتـاه علقتا على أمواجها الصافية، وقبل أي رد فعل.. كانت الصدمة هي تحدثها اللغة العربية بفصـاحة وهي تفتح كفها الرفيع لمصافحتهُ :
– سُـررت بلقائك قاسم

وكأن عبارتها هي البنزين الذي انسكب على ” حور ” .. فـ اندلعت نيـرانها لتنشب الحــرائق…………..
…………………………………………………………..

error: