رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عـهد جديد ^^

(( الفصل الثامن والعشرين ))

ولجت الممرضة ذات الهيئة الأنيقة والجمال الفطري الآخّاذ لغرفة “قاسم” وهي تدفع المقعد الكهربي المتحرك للأمام.. تركتهُ جانبًا ثم انسحبت بهدوء، لتتعلق نظراتهُ المختنقة بهذا المقعد الذي أشعرهُ بالعجز حقًا..
سحب زفيرًا عميقًا لصدرهُ أعقبهُ بشهيق على دفعة واحدة، ثم أراح رأسهُ على الفراش وآلاف الموضوعات تطارد تفكيرهُ.. إلى أن دلفت “حور” إليه مبتسمة بوداعة، اقتربت منهُ وهي تنطق بـ :
– حالًا الفطار هييجي وهفطرك بنفسي

وقعت أبصارها على هذا المقعد الباهظ وابتهج وجهها وهي تقول :
– هما لحقوا جابوا الكرسي!

فكانت نبرتهُ لا تبشر بخير أبدًا وهو يسأل :
– مين قال إني عايز كرسي المشلولين دا؟

فأجابت بعفوية لا تتناسب مع الموقف الحساس الذي هو آسيرهُ :
– أنا اللي طلبتهُ عشانك، عشان لما تحب تتحرك أو تنزل الجنينة تكون براحتك

التفتت رأسهُ فجأة وهي يحدجها بإحتقان جلّ في نظراتهُ.. وقد تحركت ثنايات وجههُ وانفردت عقب أن شدد على عضلات صدغيهِ وهي يصيح فيها :
– حد قالك إني بقيت عاجز! خلاص هعيش على كرسي؟

تفهمت الوضع الحساس الذي وقعت فيه دون قصد، فتراجعت سريعًا وهي تبرر نفسها له و :
– آآ… أنا مقصدش كدا والله ياقاسم أنا…..

لم ينتظر حتى تتابع حديثها، بل قاطعها بصرامة دون التمييز أو التروّي نتاج أعصابهُ التالفة :
– قصدك أو مش قصدك متفرقش، خليهم يشيلوا الزفت دا من قدامي.. حــالًا

هزت رأسها عدة مرات متتالية وخرجت مهرولة للخارج لتنفيذ رغبتهُ عقب أن شعرت بالذنب.. فهي ضغطت على منطقة حرجة بالكاد يحاول تلافيها بداخلهُ..
انتهز “قاسم” فرصة خروجها، ونزع الغطاء عنهُ.. نظر قليلًا لساقيهِ قبل أن يشرع بتحريكهما، ثم حركهما بمساعدة ذراعيهِ ليضعهما على الأرضية.. كان أمرًا شاقًا للغاية، ولكنهُ أزمع عليهِ لكسر شعورهُ بالعجز الذي يقتلهُ ببطء.. وكأن نصفهُ الثاني منفصل عنهُ لا يوجد أدنى شعور بهِ، يدفع نفسهُ أكثر وأكثر لحافة الفراش، حتى لمست أطراف أصابعهُ الأرض.. استند بكفيهِ على الفراش وألقى بثقل جسدهُ على ذراعيهِ لتحملانهُ، حتى وقف محني الظهر، ولكنهُ انتصب بشموخ وهو يؤكد لنفسهُ أن كُل شئ على ما يرام.. تمت خطوة وبقى أخرى، الحركة..
فكرة مخيفة سيطرت على عقلهُ بإنهُ سيفشل، ابتلع ريقهُ بتوجس.. وتأهبت كُل عضلات جسدهُ لهذه الحركة التي سيقدم عليها، ولكنهُ لا يستطع.. لم ييأس.. وظل واقفًا بمحله لا يستطيع الجلوس مرة أخرى، أو التقدم خطوة للأمام.. عافر بحق، حتى تقدمت قدم عن الأخرى، وهنا لم يستطع إكمال محاولته اليائسة.. حيث هوى جسدهُ وارتطم بالإرضية إرتطامًا عنيفًا اهتزّ له جسدهُ، في اللحظة التي ظهرت فيها “حور” ومن خلفها الممرضة لإخراج المقعد من الغرفة، لتصطدم برؤية هذا الحال المتدهور.. صرخت وهي تنتقل نحوهُ بهلع حينما خرجت الممرضة لإبلاغ الطبيب المسؤل، جلست “حور” على ركبتيها جوارهُ لتساندهُ كي ينهض، ولكنها تفاجئت به يدفعها بإنفعال شديد وهي يجأر بصوتهُ جأرًا صادحًا :
– أبعـــدي إيدك عــنـي، أنا لـسه معجــزتش

وهنا ظهرت لمعة لدمعة تكونت في محجري عيناه وهو يتابع صياحهُ :
– انتـــي فـــاهمة

كبحت رغبتها في البكاء لأجل هذه اللحظة القاسية التي تعايشها.. لأول مرة منذ أن رأت هذا الجبل الذي لا ينهار تراه مُدمع العينين، هذه النظرة المنكسرة التي ظهرت بحدقتيهِ تكاد تقتلها.. لا تستطيع مساعدتهُ ولا تقوَ على رؤيتهُ هكذا، فعرضت عليهِ المساعدة من جديد :

  • قاسم، انت لسه خارج من غيبوية واللي بتعملهُ دا مينفعش.. خليني اساعدك

فلم ينخفض صوتهُ عن ذي قبل.. بل ارتفع أكثر :
– مش محتاج مساعدة من حد، مش مـــحـتـاج

واصل محاولاتهُ المتنعتة كي ينهض بمفردهُ، فارتفع نصف جسده وبقى النصف الآخر عاجزًا عن تحريكهُ.
ليظهر الطبيب “هيكتور” في هذه اللحظة ويسأل بإحتدام :
– What is happening here?
( ما الذي يحدث هنا؟)

فأجابت الممرضة :
– He fell to the ground

اقترب “هيكتور” وهو ينظر حيال “حور” ثم أمرها بتهذيب :
– Madam, please turn away from him
( سيدتي ، رجاءًا ابتعدي عنهُ)

فنفذت “حور” الأمر على مضض وابتعدت عدة أمتار.. حينما تقدم الطبيب من “قاسم” و نطق بـ :

  • Mr Kassem, Stand Up ( مستر قاسم، أنهض عن الأرض )

كان يتحامل على نفسهُ من أجل إثبات إنه يستطيع فعلها.. ليس لأجلهم، إنما لأجل شرخ تولد داخلهُ نتيجة الشعور بالعجز وقلة الحيلة، كان يعافر ولكنهُ يفشل.. راقبهُ الطبيب منتظرًا نهوضهُ، وأثناء ذلك حمسهُ قائلًا :
– You have a healthy body, you do it if you want
( إنك ذو جسم رياضي سليم، تفعلها إن شئت )

كان في مراحلهُ الأخيرة من التنفيذ.. حتى نفذ بالفعل.. فــعـلهـا أخيرًا ووقف على أقدامهُ، ثم ألقى بثقل جسدهُ على الفراش وهو يتنفس بصعوبة..
أشرق وجه “حور” بحبور شديد، حينما أثنى عليهِ الطبيب قائلًا :
– You have done well, excellent
( لقد أبليت بلاءًا حسنًا، ممتاز )

ثم نظر بإتجاه الممرضة وتحدث بالألمانية :
– Wir brauchen ein Kalb, um gut zu schlafen
( سنحتاج لحقنهُ بالمهدئ كي ينام جيدًا)

  • Sofort ( على الفور )

استجاب “قاسم” لمساعدة زوجتهُ عقب أن ارتاح داخلهُ قليلًا وقد نفذ رغبتهُ وبمفردهُ.. ارتخى وهو ينظر للأعلى، مستكينًا عكس ما كان عليهِ من حالة هياج عصبي نفسي جسدي منذ قليل..
لم تتحدث ولم تصدر صوتًا، كفاها أن ينعم ببعض الراحة
والهدوء.
……………………………………………………………

عقب ساعات مطولة قضاها “أنس” في قيادة السيارة نحو مزرعة خالهُ.. هذه الطريقة المُثلى لضمان أمانها، الآن فقط شعر بالخطأ الذي ارتكبهُ دون حساب متعقل.. الجميع غفل عن الوضع الخطير الذي بقيت فيه “ياسمين” بسبب تعندها وإصرارها السفر بصحبتهُ.
كان جليّا عليهِ الضجر والإنزعاج الممزوجين بالرهبة، ولكنهُ لم يتحدث، لاحظت “ياسمين” ذلك.. فسألتهُ :
– مالك ياأنس، أنت كنت كويس لما رجعنا الصبح

هز رأسهُ بنفي وقال :
– مفيش، عشر دقايق ونبقى في المزرعة.. أنا مش هسيبك كتير.. هنقضي اليوم هنا النهاردة وبعدين هرجع مصر أخلص مصلحة بعد كدا هرجعلك

توترت وهي تسألهُ بإرتياب :
– يعني هقعد لوحدي؟
– يوم واحد وراجع، متقلقيش

وصل بها أمام البوابة، ترجل عن السيارة وفتح الأبواب.. ثم عاد يستقل سيارتهُ ليمرق للداخل، وما أن توقف أمام الباب الداخلي ترجلت “ياسمين” وسحبت حقيبتها خلفها للداخل عقب أن فتح الأبواب لها.. كان المكان كئيبًا إلى حد ما، فهي لم تعتاد زيارة القصر وحدها دون أفراد عائلتها.. صعدت للأعلى حاملة حقيبتها.. بينما اهتم “أنس” بتفقد ما يحويهِ القصر من زاد وطعام..
ثم صعد إليها ليجدها ممدة على الفراش وقد أصابها الإرهاق الشديد، فجلس على حافة الفراش بجوارها وردد :
– ياسمين، أنا هنزل المدينة اشتري شوية حجات.. القصر مفيهوش أي حاجة تتاكل

اعتدلت في جلستها ورددت :
– خلاص ماشي، بس متتأخرش

تنهد وهو يملي عليها الأمر بـ :
– متتحركيش خطوة من هنا.. أنا مش هتأخر، ساعة بالكتير
– حاضر

وعادت تتمدد من جديد وهي تتابع :
– انا أصلا تعبانة جدًا وهرتاح لحد ما ترجع

وقف عن جلستهُ وتحرك نحو الخارج منتقلًا لسيارتهُ.. أغلق البوابة الداخلية والخارجية ثم مضى في طريقهُ لشراء نواقص القصر بما يكفي لأيام مقبلة، حينما كانت هي ترتاح من عناء السفر.
……………………………………………………………

انتظرت “أفنان” بالخارج وهي تمنع الصغير “آسر” من الدخول لغرفة والدهُ في وجود الطبيب.. تقف بتوتر ملحوظ عقب ما سمعتهُ عن اضطراب في حال والدها اليوم، حتى خرجت والدتها في أعقاب الطبيب وقد مضى هو في طريقهُ واستقرت “حور” أمام ابنتها لتردد :
– الحمد لله نام

زمجر “آسر” قائلًا :
– ماما أنا مشوفتوش خالص، دخليني عندهُ ياماما

داعبت خصلات شعرهُ القصير وهي تسأله :
– خلصت مذاكرة قبل ما تيجي ياآسر؟

صمت ولم يجيبها، بينما أجابت “أفنان” نيابة عنهُ وهي تزجرهُ بنظرات غاضبة :
– مكنش راضي خالص ياماما

عبس وجهها وهي تردد :
– كدا بابا هيزعل منك ياآسر، والمس بتاعتك لو عرفت هتخاصمك.. مش كفاية الأجازة الطويلة اللي خدتها من المدرسة، كمان مش هتذاكر؟

تمسك ببنطالها الكلاسيكي وألح عليها :
– طب دخليني عندهُ وانا هذاكر النهاردة، وعـد

أمسكت بيدهُ ورافقتهُ للداخل، بينما ظلت “أفنان” بمكانها.. لتجد “عصام” يتقدم منها حاملًا علبة مغلفة كرتونية من المشروب المُحلى، قدمهُ لها وهو يردد :
– خدي ياأفنان اشربي العصير دا
– شكرًا

قالتها بفتور وهي تلتقطها، وكادت تتركهُ وتذهب فرارًا منهُ، إلا إنه استوقفها قائلًا :
– أفنان! هتفضلي تهربي مني لحد أمتى؟
من ساعة ما سألتك عن سبب دموعك وانتي مبقتيش تكلمي معايا وعلى طول بتهربي من المكان اللي بكون فيه

توترت من جديد وهي تنظر حولها بعيون زائغة.. فـ هي فاشلة حتى في مصارحة نفسها، فما بالك بهِ هو! تشعر بالخزي كلما تذكرت ما حدث معها من حادثة لن تنساها مهما كان، وأسبلت جفونها بتحرج منهُ.. لاحظ هو ذلك، فقرر حمل العبئ عنها و :
– أنا مش عايز اعرف، بس متهربيش مني

حمحم بحرج وعاد يصيغ عبارتهُ بشكل أوضح :

  • قصدي بلاش التجاهل ده
  • حاضر

قالتها بطواعيه لطيفة راقت لهُ وجعلتهُ يبتسم.. حينما سحب هو المشروب منها وقام بفتحهُ لها ونظراتهُ تفضح أمره، ثم قال :
– تعالي نقعد في الكافتيريا بتاعت المستشفى
– أوكي

وسارت معهُ برضا شديد.

_ في غرفة “قاسم”..
تمدد الصغير بجوار والدهُ الغافي بعمق، وراح يلمس وجههُ ولحيتهُ، خصلات شعرهُ التي نمت أكثر من السابق.. ثم أسند رأسهُ على ذراعهُ و :
– ما تصحى بقى يابابا

حدجتهُ”حور” بنفاذ صبر وهي تقول مرة أخرى :
– مش قولتلك ياآسر إن بابا تعبان ومش هيصحى دلوقتي! لو مسكتش هطلعك برا
– خلاص خلاص حاضر

وعاد يتشبث به من جديد وهي جالسة بالقرب منهم.. وجود الإثنين بمقربة من بعضهما جعلها تلاحظ الشبه القوي والذي يزداد يومًا عن يوم بينهما، ابتسمت بسعادة وهي ترى تعلق الصغير بوالدهُ.. وظلت تراقبهم بإستمتاع شديد للغاية.
………………………………………………………….

_ في مكان ما..

نشبت الحرائق المشتعلة في كُل مكان وزاوية بشكل كارثي ومفجع، لدرجة فشل الجميع في إخماد هذه الألسنة المتوهجة التي أكلت الأخضر واليابس..
إنها ليست مجرد خسائر، إنها القيامة وقد قامت.

_ في نفس التوقيت تقريبًا :

كانت أضواء مصابيح سيارتهُ مضاءة في هذا الظلام الدامس لتنير أمامهُ.. اقترب من موقع القصر اقترابًا ملحوظًا، خطف انتباههُ شيئًا.. بوابة القصر مفتوحة على مصرعيها على غير الحال الذي تركها به.. امتعض وجههُ على الفور وشد على فكيهِ وهو يزأر بـ :

  • قولتلها متفتحيش الباب ولا تتحركي لحد ما ارجع ومفيش فايدة، ده انتي ليلتك مش فايتة ياياسمين

ومرق للداخل بإنفعال جلّي، ثم توقفت السيارة فجأة ليصدر عنها صوت إحتكاك بالأرضية الصلبة.. ترجل عنها بتشنج ليجد البوابة الداخلية أيضًا مفتوحة، انقبض قلبهُ بقلق.. فهي ليست بغبية لهذا الحد كي تترك البوابات مفتوحة هكذا.
ركض يلتهم الطريق أمامهُ صاعدًا إليها، وهو يصيح مناديًا :
– يـاســــمــين!

لا شئ سوى صدى صوتهُ، تصارعت دقات قلبهُ وهو يدفع الباب.. ليجد الغرفة خاوية، اضطربت أنفاسهُ وأخرج هاتفهُ ليتصل بها، ارتجفت أطرافهُ وهو يرجو الله أن يكون ظنهُ خاطئًا.. وفجأة استمع لصوت رنين هاتفها المنخفض، بحث عن مصدر الصوت ليجدهُ ملقى على الأرضية وشاشتهُ مصابة بشرخ كبير وكأنهُ سقط مرتطمًا بالأرض إرتطامًا قويًا.. ازدرد ريقهُ وهو يهمس :

  • يعنـي إيـه الكلام دا !

رن هاتفهُ برقم غير مسجل.. فلم يتردد بالرد عليهِ عسى أن يكون خبرًا عنها، ليجد الصوت اللاهث آتيهِ :

  • ألحقنا ياأنس باشا، المصنع والعربيات والبضاعة اللي كانت هتتحمل بكرة كلهُ راح.. كلهُ ولع حريقـة ياأنس بيه، كُــله ضــاع.. ضـــــاع

“أنس” :
-……..
………………………………………….
…………………………………………………………..

error: