رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عـهد جديد ^^

(الفصل الحادي والثلاثين)

تهدجت أنفاسها من فرط المجهود الذي بذلتهُ أثناء الركض حتى وصلت لغرفتها بالفندق.. كان يحاول اللحاق بها ولكنها كانت گالغزالة الطائرة على الأرض، أغلقت الباب على نفسها ووقفت تلتقط أنفاسها بصعوبة.. ولكن الفرح يعانق روحها بشكل لا يوصف وشعور لم تعيشهُ قبلًا حتى في تجربتها السابقة.. تشعر إنهُ رجـلًا يستحق أن تفرح لوجودهُ، وهنا أيقنت أنها حزنت وخُذلت من أجل أن يهديها اللّه هدية أفضل وأعظم..
ملأت الإبتسامة العريضة فمها حتى كادت تصل لأذنيها من شدة الفرح، ومضت عيناها ببريق لامع وهي تستعيد لحظات إعترافهُ بحبهُ لها.. كانت لحظات مميزة لن تنساها قط، وأثناء شرودها وسعادتها تلك وجدتهُ يطرق الباب بطرقات معروفة.. ونطق قائلًا :
– أفنان! أنتي زعلتي مني؟ .. أنا آسف لو زعلتك

فأجابت على عجلة من خلف الباب وقد بدا على صوتها الحماسة :
– لأ لأ، مزعلتش

فسأل لإستغراب لهروبها المتكرر منهُ :
– طب جريتي ليه قبل ما اكمل كلامي؟

تنحنحت قبل أن تهمس بصوتها الرقيق :
– احم، اتحرجت بس

أفتر ثغرهُ بإبتسامة سعيدة و :
– طب مقولتيش رأيك إيه؟
– في إيه؟
– فـ اللي قولتهُ

فلم تجيب، طال صمتها وهي منتظرة الرد.. حتى قال من جديد :
– أفنان انتي نمتي على الباب ولا إيه؟

فكان صوتها ينطق نيابة عن حبورها :
– لأ صاحية، بس هروح انام دلوقتي

فقال بصوت متلهف لقضاء وقت أكبر معها :
– لأ خليكي معايا شوية حتى لو من ورا الباب

ودّ قلبها لو أجابهُ وطلبت منهُ المكوث أكثر، ولكنها تمسكت بالصمت أكثر.. فكرر طلبهُ :
– خليكي معايا، من فضلك

فابتسمت بخجل وهي تقول بصوت أقرب للهمس :
– حاضر

كانت عدة دقائق، ولكنها شكلت فارقًا لدى كلاهما.. لأول مرة لا تواجههُ بالفرار، بل إنها حبذت لحظات جمعتهما سويًا.

……………………………………………………………
انتهى العامل من فحص سيارة “أنس”.. وعندما اقترب منهُ كان ممسكًا بجهاز صغير للغاية، بسط يدهُ بهِ وهو يردد :
– ظنك كان صح ياأنس بيه، عربيتك كان فيها جهاز تتبع بيرصد كل تحركاتك

عضّ على شفتيهِ بإنفعال جلي، والتقطتهُ منهُ يتفحصهُ بعيون مشتعلة.. ثم تمتم مع نفسهِ :
– كنت حاسس، هما مش هيوصلوا للمزرعة بسهولة كدا

ثم دسهُ في جيبهُ وقال :
– شكرًا

واستقر في سيارتهُ ليتابع القيادة وما زالت سيارتي “سراج” من خلفهُ.. وفي طريقهُ قذف بالجهاز الصغير بوسط الطريق ليضيع بين عجلات السيارات المارّة.
كان يتتبع إشارة الخريطة الظاهرة على هاتفهُ بتركيز شديد، حتى اقترب من الهدف المراد الوصول إليهِ.. فقام بالإتصال الهاتفي بأحدهم و :
– اشرحلي إيه الوضع عندك كدا
– العربية كان فيها راجل كبير وست صغيرة ومعاهم سواق.. وصلوا للفندق، الست دخلت والراجل مشي مع السواق تاني، ودلوقتي هما في كافيه (…..)

لحظات وظهر “إستيڨان” وهو يخرج من بوابة المقهى، فأسرع الموكّل بمراقبتهُ قائلًا :
– لسه خارج حالًا ياأنس بيه

فحذرهُ بتشديد :
– إياك يغيب عن عينك

اختار “أنس” مكانًا مناسبًا كي يصفّ سيارتهُ، فوقفت السيارات الأخرى من خلفهُ وترجل عنها “سراج” لينتقل إليه و :

  • في حاجة حصلت؟

تنهد “أنس” قبل أن يجيب بيأس :
– لسه

أخرج “سراج” هاتفهُ وقال :
– طب اديني رقم تليفونك عشان أفضل معاك على التليفون

أملى عليهِ الرقم ليقوم بتسجيلهُ، ثم عاد حيث مكانهُ.. في انتطار إشارة جديدة تدلهم على مكانها، جلس يفكر بها، فقد اشتاق لرؤيتها وسماع صوتها أكثر من أي وقت مضى.. ليتهُ اعترف لها بهذا الحُب الذي يكنّه لها، يخشى أن يكون الوقت قد أزفّ ولن يملك فرص أخرى.. ولكنهُ مازال يُمنّي نفسهُ بلقاء قريب يجمعهما من جديد.
شرد عقلهُ قليلًا وهو يستعيد بعضًا من ذكرياتهم سويًا، ولكنهُ أفاق في النهاية على صوت رنين هاتفهُ برقم غريب و :
– ألو
– مرحبًا، في الغد سيأتيك شخص تابع لي، ستقوم بإعطائهُ كافة الأوراق المسروقة.. ومن ثم نستطيع التفاوض حول موعد البدء في تنفيذ المشروع، ومن بعد ذلك نُحدد موعد رجوع غاليتكم

كانت الحروف تخرج من فم هذا اليهودي لتلتقطها آذانهُ وكأنها حروف مسمومة تصيب رأسهُ بالغليان.. استمع له حتى النهاية، ثم رد بإيجاز :
– لو مخلتكوش تدفعوا التمن، مبقاش أنا أنس.. وديني وما أعبد لأخليك تندم على حق

ثم أغلق الهاتف فجأة وهو يردد :
– ده انا هلبسك انت الخـ ***** الصح، هرجعك بلدكوا بالكلبشات يا ******، بس اصبر عليا

قام بمعاودة الإتصال بهذا المُراقب و :
– إيه الجديد؟
– الراجل الكبير رجع الأوتيل والسواق وقف اشتري أكل جاهز ومشي، وانا دلوقتي ورا السواق
– خليك وراه

……………………………………………………………
في هذا التوقيت الليلي بألمانيا والذي يختلف عن مصر بفرق ساعة زمنية واحدة فقط..
كانت “حور” قابعة بمكانها بجواره، بينما مازال هو نائمًا.. تأملتهُ قليلًا قبل أن تمد أطراف أناملها لتتحسس صدغهُ، ثم تمسكت بكفهُ وهمست بصوت خفيض :

  • سامحني ياقاسم، والله ما كان قصدي أبدًا

ثم أحنت رأسها لـ تُقبّل ظهر كفهُ، وعادت تنظر إليهِ وهي تتابع :
– مكنتش أقصد أغلط غلطة زي دي، أنا أهم حاجة عندي سلامتك وسلامة الولاد.. ولما ياسمين ترجع بالسلامة كل حاجة هتتحسن، صدقنـي

ولجت الممرضة المسؤلة عن حقنهُ بالإبرة الليلية.. لم تتحدث بأي كلمة، فقط باشرت عملها بصمت شديد.. وما أن انتهت من حقنهُ عادت تخرج بهدوء، في حين لاحظت “حور” بداية حركة في جفونهُ وكأنهُ تأثر بفعل دخول هذه المادة الكيماوية لجسدهُ.. انتظرت أن يفتح عيناه فتشحذهُ كي يسامحها، ولكنهُ لم يفعل.. بقى مستسلمًا للنوم غير شاعر بالوجود.
…………………………………………………………..
أخيرًا وبعد طرق جانبية كثيرة، توقف السائق أمام منزل قديم مكون من طابق واحد .. ترجل عن السيارة وهو يحمل حقيبة بلاستيكية كبيرة، ثم ولج للمنزل وتأخر بضع دقائق.. وخرج مرة أخرى خالي الوفاض، استقل سيارتهُ ومضى بها، فأسرع المكلف بالمراقبة بالإتصال به و :
– تقريبًا كدا ياأنس بيه عرفت مكانها فين، هبعتلك الموقع حالًا

بدأت الحركة فور تلقي “أنس” رسالة تفيد بالموقع.. مئات الأفكار تتردد على عقلهُ الآن فيما سيفعل فور رؤيتها، كانت مؤشرات سرعة السيارة تكاد تنفجر من سرعتها.. ولكنهُ غير مهتم سوى بالوصول إليها، كاد يقترب.. فـ ارتفع الإدرينالين في جسدهُ وتسارعت أنفاسهُ كلما قطع شوطًا من الطريق.. حتى وصل أمام الباب.
في هذا الحين، كان ثلاثتهم مهتمين بإنهاء ما تبقى من الطعام والشراب.. حتى استمع أحدهم لصوت اقتراب سيارة من موقعهم، شعروا بالريبة.. فهذا ليس موعد حضور أيهم.. فنهض متوجهًا نحو النافذة ليجد شكلًا مرعبًا، رجال كُثر يهبطون عن السيارات يحملون أسلحة مختلفة الأشكال.. ارتعدت فرائصهُ من هول المنظر وكأنها ستكون ساحة حرب.. تراجع للخلف وهو يردد بفزع :

  • لازم نمــشي من هـنا بسرعـة

فسأل أحدهم بتخوف :
– طب والبت اللي جوا دي؟! لو خدناها هتفضحنا
– نسيبها وننفد بجلدنا ، أكيد جايين عشانها

فرّ ثلاثتهم للطابق الأعلى حيث سطح البيت القديم.. حينما كانت جموعهم تستعد لمحاوطة المنزل من كل إتجاه، حاول “سراج” منع “أنس” من الدخول ولكنهُ واجه ردًا قاسيًا :

  • إنت اتجـننت ولا إيه؟! انت هتدخل وانا افضل هنا؟ أنا مش هسـتنى لحظة واحدة

واندفع نحو الباب يخترقهُ بدون خوف أو تردد.. لم يكن الدخول صعبًا، ولكنهُ وجد المكان خاويًا.. طاولة مستديرة مهترئة يعلوها صبابة طعامهم ، ومن حولهُ فراغ برائحة عفنة.. بحث عن أي مخرج، فلم يجد سوى باب مغلق.. ركض إليه وحاول فتحهُ ولكنهُ فشل، بينما فزعت “ياسمين” وارتجفت وهي تستمع لأصوات غريبة بالخارج.. انكمشت على نفسها برعب، حتى استمعت لصوتهُ يصيح مناديًا :
– ياســمـين

رُدت الروح لجسدها الضعيف عندما استمعت لصوتها.. أتسع فمها بإبتسامة سعيدة وهي تصيح بصوتها :
– أنـس انا هـــنا، ألحــقني ياأنس

جسدهُ غير كافي لفتح الباب رغم إنهُ دفعهُ بكل طاقتهُ.. فـ دفعهُ “سراج” بعيدًا وقال :
– لو انتي جمب الباب ابعـدي

ثم ضرب طلقتين لكسر القرص المعدني المسؤل عن إغلاق الباب.. وبالفعل انفتح..
أجبرت ساقيها على النهوض، وقبل أن تفكر في المُضي ركضًا إليه سقطت على وجهها متناسية تمامًا أمر ساقيها المربوطتين بحبل سميك يتصل بجنزير قوي مثبت بالحائط..
لحظات وكان جوارها على الأرضية يضمها لصدرهُ بإنفعال عاطفي، وكأن رأسها اندفنت فيه.. الآن فقط تنفس براحة، وهي سُلبت خوفها.. تمسكت بقميصهُ بأصابع مرتعشة، ثم قالت بصوت ضعيف :

  • روحـني ياأنس ، please بسرعة

في هذه الآونة، كان “سراج” منشغل بـ حلّ وثاقها الذي استغرق منهُ وقتًا.. فـ حثهُ “أنس” على الإسراع :
– بسرعة شوية ياسراج

تواجد أحد رجال “سراج” أمام الباب وهو يقول بصوت لاهث :
– مسكنا العيال فوق السطح

انتهى “سراج” من فكّ قيدها، فنهض “أنس” أولًا وحملها بين ذراعيهِ منتقلًا للأسفل متعجلًا.. وهي مرتخية بين يديه بإطمئنان، وضعها في السيارة بالخلف ممدة جسدها بإريحية وأغلق عليها.. ثم عاد يدخل مرة أخرى، كانوا متحفظين على أولئك الملاعين.. تحير في ما سيفعلهُ بهم، ولكنهُ في النهاية يرغب في إستدراج “إستيڨان”.. فقرر بإقامة تحالف مع الشيطان، مرر أنظارهُ عليهم قبل أن يعرض عليهم :
– أنا مستعد اسيبكم في حالكم، بس بشرط

فبادر أحدهم لتفادي هذه المعضلة :
– إيه هو؟

رمقهم بشماتة قبل أن يعرض عليهم……..
……………………………………………………………

كان “أنس” يقود سيارتهُ لا يدري إلى أين سينتقل بها وهي في حلقة الخطر طوال وجودها بمصر، نظر للمرآه ليجد “سراج” متتبعًا له.. ثم انتقل ببصرهُ إليها ليجدها غافية بعمق، ذمّ شفتيه بإختناق شديد.. فكان يريد إستجوابها حول ما عاشتهُ الأيام السابقة، ولكنهُ لا يرغب بالضغط عليها الآن.. طرق على المقود بتوتر ليجد صوتها الضعيف يظهر وهي تنطق بـ :
– أنس، أنا عطشانة أوي وجعانة أوي أوي

ارتفع حاجبيهِ بذهول واعتصر قلبهُ وهو يسألها :
– انتي مشربتيش خالص من ساعتها؟

حاولت إبتلاع ريقها الجاف وهي تجيب :
– مشربتش ومكلتش، كنت بخاف يسموني

كور قبضتهُ بعنف حتى برزت عروق الظهر الخضراء.. ثم تفحص الطريق من أمامهُ جيدًا ليجد أحد المتاجر الكبيرة على بُعد أمتار، فـ هدأ من سرعتهُ حتى وقف أمامها.. وهرول للداخل لإبتياع المياه والطعام أيًا كان هو، خرج مسرعًا.. فتح الباب الخلفي وناولها زجاجة المياه المفتوحة لتتجرعها كاملة بدون توقف، ثم قال :
– معلش الأكل هييجي على البيت، أنا طلبت دليڨري

لاحظ شحوب وجهها المُصفرّ وهالات سوداء تكونت أسفل عينيها.. مسح على وجهها بحنو وهو يردد :
– أنا آسف، سامحيني

زفر زفيرًا محتقنًا قبل أن يغلق الباب ويلتفت ليستقر في مقعدهُ.. ثم عاد يقود سيارتهُ من جديد.

……………………………………………………………

تململ “قاسم” في فراشهُ وكأنهُ على وشك إستعادة وعيهُ.. كان يراها في حلمهُ تبتسم لهُ وتطمئنهُ، تحتضنهُ وتُقبل رأسهُ گعادتها..
ضمّ “قاسم” أصابعهُ وكأنهُ يتمسك بيدها، أهتزت جفونهُ وهو يحاول فتحها.. حينما كانت “حور” تهتم بقراءة الأخبار عبر صفحات المواقع الإخبارية، فـ رنّ هاتفها بأسم “أنس”.. أجابت بسرعة وهي تسأل :

  • ها ياأنس، عملت إيه؟

لحظات وانفرجت شفتاها بإبتهاج، ووقفت عن جلستها وهي تردد :
– بـجد؟ ياســمين رجعت؟

تلقى عقلهُ إشارات صوتية جعلتهُ يفتح عينيهِ فجأة على هذا الخبر السّـار.. ليتردد في آذانهُ أكثر من مرة و…………………………………..
………………………………………………………….

error: