رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عهد جديد ^^

(( الفصل الخامس والثلاثين ))

كانت رأسها مرتخية على الوسادة بإسترخاء لأول مرة منذ شهور ، عندما كانت عيناه عالقة بها ورأسهُ على نفس الوسادة.. وأصابعهُ راحت تداعب شعرها المسترسل للخلف بحركات لطيفة أحبتها، حتى تحدث متسائلًا :
– لسه زعلانة؟

اقتربت برأسها منهُ حتى أصبحت مقدمة رأسها ملاصقة لجبهتهُ، ثم أجابت بدون تردد :
– لأ، مش بعرف ازعل منك

فـ قبّل خدها الأملس، بينما استعدت هي لتنهض عن وضعيتها وهي تقول :
– معاد الدوا بتاعك

فـ اجتذبها لتكون بجوارهُ من جديد، وردد :
– مش وقته، خليكي معايا شوية

ثم تسائل بفضول :
– ليه قدمتي استقالتك ياحورية؟، أنا عارف قيمة المهنة دي عندك ومكنتش أتصور تعملي كدا بسهولة

مسحت على صدغهُ بأناملها الدافئة، ثم ابتسمت بحبور امتزج بالرضا.. وقالت بقناعة :
– اكتفيت بيكوا، قررت أقضي كُل الوقت معاك ومع الولاد.. وكفاية طلبة وتلاميذ وشغل

انفرجت شفتاه ببسمة سعيدة وهو يقول :
– تعرفي إني عمري ما كنت راضي عن شغلك.. بس سيبتك براحتك، مقدرش بعد كل سنين التعليم والتعب والكفاح لحد ما خدتي الشهادة أقولك اقعدي في البيت وربي العيال.. لكن من جوايا كان نفسي متشتغليش
– أديني فضيت نفسي ليكم

غمز لها وقال بإحتجاج :
– لأ، قصدك فضيتي نفسك ليا.. خلاص البنات حملهم مش هيكون عليكي تاني، ياسمين في ضل أنس.. وعصام هياخد خطوة قريب ويضم أفنان ونخلص احنا بقى

ارتفع حاجبيها بعدم تصديق، واعتدلت في جلستها تنظر إليه بنظرات مندهشة.. ثم سألت :
– مين قالك كدا؟! عصام فاتحك في حاجة؟

قهقه بصوت خفيض وهو يتذكر كيف أمسك بهم البارحة في حديقة المنزل، ثم أجاب :
– حاجة زي كدا، عمومًا أنا اتمنى واحد زي عصام لأفنان.. وحاسس إنها ميالة ليه، لولا ثقتي فيه مكنتش سكت وسيبتهم كدا
– نسيت آسر

ضحك وقال :
– آسر دا يسكت بعلبة بسكويت بالعجوة

مالت برأسها على الوسادة مرة أخرى، ثم تنفست بسعادة لما هو مقبل عليهم الأيام المُقبلة و…….
……………………………………………………………

طوال طريقها للمنزل وعيناها لا تبتعد عن هذا الخاتم المُبهر الذي أهداه إليها.. قلبها يتراقص بين أضلعها من فرط السعادة، مضت نحو الداخل ثم صعدت الدرج وهو في أعقابها.. حتى وصلت لغرفتها، استدارت لتودعهُ قبل أن تخلد للنوم.. ولكنها رابطت عليهُ بنظراتها ولم تتحدث، بينما بادر هو والإبتسامة ملء شفتيهِ :

  • نسيت أقولك حاجة

عضت على شفتيها قبل أن تقول :
– إيه؟

دفن شفتيهِ بوجنتها يُقبّلها بشغف، ثم ابتعد ليجدها قد سافرت لعالم آخر.. وهمس :
– بـحبك

فتحت عينيها ولم يطول صمتها طويلًا :
– وانا كمان بحبك أوي

ثم أراحت رأسها على صدرهُ لحظات قبل أن تتركهُ وتدلف لحجرتها.. هجدت الليل، لا تستطيع النوم من فرط التفكير واستعادة تفاصيل اليوم أمام عينيها، تحسست موضع قُبلتهُ حتى خجلت.. ثم غطت رأسها بالوسادة وهي تضحك بإستمرار غير قادرة على منع نفسها من التفكير.

……………………………………………………………

كان إنشغال “حور” وحرصها على متابعة علاج “قاسم” حرصًا شديدًا، أهتمت بأقل التفاصيل حتى مواعيد العلاج خاصتهُ بالدقيقة والثانية.. مما ساعدهُ أكثر على العودة لما كان عليهِ، تنازل رويدًا رويدًا عن إستخدام عكازهُ.. حتى لم يعد لهُ حاجة.
فضّل هذا الصباح ارتشاف الشاي الأخضر بشرفة غرفتهُ.. حيث جلس وبصحبتهُ الصغير “آسر”، منتظران أن تحضر “حور” لتنضم إليهم، حتى ظهرت حاملة “صينية” كبيرة تحمل أنواع مختلفة من الأجبان بالإضافة لمشروب الحليب بالشيكولاتة لـ “آسر” ومشروب “قاسم” الخاص.. اعتدل “قاسم” في جلستهُ وسحب المقعد المصنوع من الخوص الأسود لتكون بجوارهُ، وضعت “حور” الطعام وجاورتهُ في جلستهُ.. ناولتهُ قطعة خبز أبيض محشوة بالجُبن، وقالت :

  • أتفضل

تناولها وسأل :
– البنات فين؟
– ياسمين عندها سكشن مهم النهاردة راحت تحضرهُ عشان امتحانات الترم قربت، وأفنان في أوضتها بتذاكر وانا طلعتلها الفطار بتاعها.. انت عارف إنها ثانوية عامة والسنة دي فاصلة بالنسبة ليها

كان “آسر” يراقب حديثهم بإستمتاع وهو يرتشف مشروبهُ.. حتى انتبه لهُ “قاسم”، أولًا ابتلع الطعام الذي ملء شدقيهِ.. ثم سألهُ :
– وانت عايز تطلع إيه ياآسر؟

فوقف عن جلستهُ وصاح فجأة بإفتخار :
– هطلع زيك يابابا

فضحك”قاسم” ضحكة جلجلت أصدائها، بينما استنكرت “حور” ذلك وقالت بتمني :
– بس انا كنت عيزاك تطلع طيار ياآسر، أو ظابط.. أو دكتور جامعي

عقد “قاسم” ما بين حاجبيه وعقب :
– أنا مش بحب الظباط، ولا بطيق الحياة الرسمية اللي بيحكمها قوانين وقواعد.. سيبي الولد يبقى حُر، مالهُ البيزنس!

فقال “آسر” مؤيدًا رأي والدهُ:
– وانا مش بحب الظباط برضو، رخمين أوي

تركت “حور” قهوتها ورددت :
– اللي يريحك ياأبن بابا

انتقل “آسر” ليجلس أعلى ساقي “قاسم”.. فـ احتضنهُ الأخير بعاطفة شديدة مبهورًا بهذه النسخة المصغرة التي تشبههُ.

……………………………………………………………

كان الليل قد حلّ، عندما وقفت”حور” تصنع وجبات عشاء خفيفة لفتياتها من أجل المساعدة على إستذكار دروسهم.. انتهت من صُنع أول “صينية”، تناولها “عصام” منها بكل حُب ونظر لمحتوياتها بتدقيق ثم قال :
– تسلم إيدك ياطنط، أنا هطلعها بنفسي

ابتسمت “حور” و :
– ماشي ياحبيبي

ثم خرج متعجلًا وهو يضبط وضعية الأطباق، وانتقل متحمسًا لغرفتها.. استوقفهُ “أنس” وهو يتأمل الأطعمة التي اكتظ بها الحامل، والتقط إحدى الزيتونات المخللة وسأل :
– أنت جعان ولا إيه ياعصام!

دفع “عصام” ذراعهُ وهو يقول بتذمر :
– يابني بلاش طفاسة دا أكل أفنان، قاعدة بتذاكر وانا هوديلها الأكل.. وسع بقى

ثم انصرف.. فـ ضاقت عيني “أنس” وهو يهمس :
– طب ما ياسمين بتذاكر برضو! ، يبقى لازم اتحرك

مضى متوجهًا نحو المطبخ، ليجد “حور” تخرج عن المطبخ وهي تحمل حامل الطعام الآخر.. استوقفها “أنس” وهو يدقق عيناه في الطعام و :
– الأكل دا عشان ياسمين ياطنط؟
– آه ياأنس، تحب أحضرلك حاجة؟

بسط ذراعهُ ليلتقطهُ منها وهو يبتسم بتحفز و :
– لأ، أنا هاخد العشا وأوصلهُ ليها بنفسي

ارتفع حاجبي “حور” بإستغراب وهي تقول :
– أنت؟

تنغض جبينهُ وقال :
– هو انا سمعتي وحشة للدرجة دي؟

ضحكت “حور” وهي تناولهُ الطعام و :
– لأ ياحبيبي، أتفضل

ألتقطها “أنس” وذهب إليها مستوفضًا، فتح الباب وولج ليجدها مُنكبة على مكتبها الصغير.. نظرت خلفها لتجدهُ، فـ تلاشت ملامحها العابسة لأخرى سعيدة وهي تستقبلهُ بسعادة :
– كمان جايب الأكل بنفسك، كدا كتير

وضع الطعام أمامها مباشرة عقب أن أزاح مراجعها الدراسية.. ثم قال بنبرة حانية :
– كُلي وكملي مذاكرة بعدين

نظرت للطعام بشهية مفتوحة، ثم قالت بضيق تجلى في صوتها :
– جه في وقتهُ، أنا كنت مخنوقة بسبب المذاكرة وبحاول ألم المادة

وبدأت بإلتهام الطعام أثناء متابعتهُ لها بشغف.

_ على الجانب الآخر :
أهتم “عصام” بصنع شطيرة الجُبن أثناء إنشغال “أفنان” بالكتابة.. وما أن انتهى حتى سحب القلم من بين أصابعها وناولها الشطيرة وهو يقول :
– هاتي القلم وكلي، لحد ما اشوف السؤال دا يتحل ازاي

ثم سحب كتاب اللغة الألمانية وتفقد نمط الأسئلة وهو يقول :
– السؤال دا أبسط سؤال هدربك عليه، خلصي أكل الأول وبعدين نشوفه سوا

ابتسمت وهي تمضع الطعام.. وما أن ابتلعتهُ حتى تفوهت بـ :
– مش عارفه من غيرك يا هير عصام كنت هعمل إيه!

فقال بغطرسة مزيفة :
– العفو العفو

تقريبًا استمر دوام المذاكرة لساعات طويلة، بدون ملل أو ضجر.. بل إنها كانت ساعات مميزة لكلتاهما حظيا بها.

……………………………………………………………
كانت أيام شاقة على “ياسمين”.. الخضوع لإمتحانات نصف العام الدراسي أرهبتها، ولكنها تجاوزت ذلك بوجودهُ الدائم معها.. اجتازت مادة وثانية وثالثة حتى انتهت، وبقيت لأيام كُل مهمتها النوم.. حتى إنها تركت مهام الإعداد لحفل الخِطبة لوالدتها التي حرصت على كُل شئ من بدايتهُ.
خطفت” حور” النظر بين ورقات المجلد الفاخر الذي تمسك به، تحيرت في اختيار المميز.. مطت شفتيها للأمام وقالت :
– أنا هسيب موضوع اختيار الفستان دا لياسمين.. لما تصحى من النوم هسيب لها الكتالوج تختار بنفسها

ترك “قاسم” هاتفهُ وقال :
– منظمين الحفلة جايين بعد شوية يكملوا شغل في الجنينة، لو في ملحوظات ليكي متنسيش تقوليها ليهم

سألت “حور” بفضول اعتراها :
– أنت ليه محجزتش فندق أو قاعة كبيرة برا ياقاسم؟ أنا شايفة كانت هتبقى أفضل
– في الزفاف هعملهم فرح أسطوري، تحكي مصر كلها عنهُ.. وبعدين أنا جايبلك أفضل شركة تنظيم في مصر وكُل حاجة هتتعمل كما ينبغي أن تكون، متقلقيش

أخيرًا انتبه كلاهما لـ “آسر” الذي يتابع حديثهم بإمتعاض واضح.. عقد ذراعيه بتبرم منتظرًا أن يراه أحدهم ويهتم به، حتى انتبهت “حور” وسألتهُ :

  • مالك ياآسر، واقف كدا ليه؟

فقال بإنزعاج شديد :
– أنا مش عجباني البدلة بتاعتي، مش عايزها

وقف “قاسم” عن جلستهُ، تقدم من الصغير وفجأة حملهُ عن الأرضية وقال :
– أحلى بدلة هتتفصل عشانك ياآسر، متقلقش.. المصنع اللي عمل بدلتي هيعملك الـ copy منها، زيها بالظبط بنفس التصميم واللون كمان.. مبسوط؟

احتضنهُ الصغير وقد زال عبوس وجههُ، ثم قال مبتهجًا :
– مبسوط، أوي أوي

قامت “حور” بإلتقاط عدة صور فوتوغرافية بهاتفها لهما أثناء غفلتهم.. ثم نظرت لهاتفها بإفتخار وقد قررت عمل شئ ما، شيئًا مجنونًا ولكنهُ مُبهجًا.

……………………………………………………………

أوصد “قاسم” باب حجرة المكتب من خلفهُ، ثم انتقل ليجلس بمقعدهُ الجلدي.. سحب مستندًا من بين الملفات الموجودة على السطح، نظر للأوراق الموجودة بداخلهُ بنظرات خاطفة.. ثم التقط هاتفهُ من جيبهُ ليجري إتصالًا هاتفيًا و :

  • أيوة ياأنس، انت لسه في الشركة؟.. طب خليك عندك أنا جاي، عايزك في موضوع مهم.. ماشي، سلام

أغلق الهاتف، ثم وقف عن جلستهُ وسحب المستند ليكون بحوزتهُ.. وغادر عالمًا بوجهتهُ.

في نفس التوقيت الذي قارب على العصر تقريبًا.. كانت “أفنان” تفتح الستائر لتمتلئ الغرفة بالضوء، ثم اقتربت من فراش “ياسمين”.. نزعت عنها الغطاء الناعم فجأة، ثم التصقت بها وهي تصيح بأعلى صوت :
– لأ ولأ ولأ ولأ عندنا عـــــــــروســـة وانتـوا لأ
………………………………………………………

error: