رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

 

^^ عـهد جـديد ^^

(( الفصل الرابع عشر ))

كانت غرفتهُ الفندقية تطل على ساحل البحـر مباشرة، فـ وقف في هذه الصبيحة المنعشة يمتع أنظارهُ بألوان البحر المتعددة ما بين الأزرق والسماوي واللبني أيضًا، حيث شكلت أمشاج من الخيوط بديعة الشكل.. سحب “قاسم” شهيقًا منعشًا لصدرهُ ثم زفرهُ على مهل، استمع لقرعات مهذبة على الباب.. فـ نهض نحوهُ وفتحهُ ليجد عامل الغرف قد أحضر طعام الفطور، كُل ما لذ وطاب بجانب المشروبات الطازجة.. تناولها منهُ وأغلق الباب، لتخرج “حور” عن الحمام عقب جلسة إستحمامية باردة تُغلف جسدها بالمنشفة البيضاء العريضة وقطرات المياه تتدلى على جبينها إنسيالًا على وجنتيها، ابتسم لها بعبث وهو يردد :
– تفطري الأول ولا….

ثم بتر عبارتهُ وهو يرمقها بنظرات جريئة تحفظها، أشاحت وجهها المتورد عنهُ وقالت :
– وبعدين بقى في اللي فاكر نفسهُ إبن العشرين دا!

كركر ومازالت عيناه عالقة عليها، ثم قال :
– على طول فهماني غلط، أنا قصدت أسأل هتفطري الأول ولا ننزل ولما نرجع نفطر

قطب جبينهُ وعاد يفضي بـ :
– وبعدين أنا أصغر من أي شاب دلوقتي

اقترب برأسهُ قليلًا منها وهمس مستنكرًا :
– تنكـري؟

سحبت نفسها قبيل الوقوع في هذا الفخ الذي نصبهُ لها، والتقطت ملابسها منتقلة للداخل إستعدادًا لتبديل ثيابها.. بينما اهتم هو بتجهيز طاولة الفطور الموضوعة أمام الشرفة، دقائق معدودة وكانت تجلس قبالتهُ.. اختلفت الموضوعات التي تناقشت حولها معهُ، منذ زمن لم يحظيا بلحظات منفردة گهذه.. لاحظ أن سنوات عمرهُ تناقصت النصف خلال يومان معها، عطلة
قصيرة أعادت له سنوات الشباب.. راقب أقل حركاتها والتي كانت تثير في نفسهُ عشقها، تلك الخصلات المبللة التي تركتها على أكتافها وظهرها يرغب في ملامسة نداها واشتمام عبقها.. وأخيرًا انتهى الفطور، ليتكمن من الإقتراب الفعلي منها.. ألتفت خصلاتها على أصابعهُ، وامتلأ كفهُ بتلك الرائحة المميزة.. رائحتها.

……………………………………………………………

أنهت “سعاد” خادمة الجدة “وجيدة” عملها في منزل آل رسلان.. حيث استدعاها “أنس” عقب أن فشلت “ياسمين” بتصليح ما أفسدتهُ..
ثم انصرفت عقب تقاضيها مبلغًا مرضيًا من المال، انتقل “أنس” نحو باحة المنزل حيث تجلس الأختان على الأريكة في مقابلة “عصام” الذي مازال محتقن الملامح على أثر فعلة “أفنان” المتسرعة.. شملهم “أنس” بنظرات متفحصة قبل أن يقول :

  • خلاص ياجماعة حصل خير، نسيت أعرفكم ببعض

فهمست “أفنان” لأختها :
– معرفة مهببة
“ياسمين” وهي تلكزها في مرفقها :
– ششش
“أنس” وهو يشير نحو أبن عمهِ :
– عصام أبن عمي، لسه راجع من ألمانيا إمبارح

ثم أشار بإتجاه الفتاتان وقال :
– ياسمين وأفنان بنات خالي ياعصام، ودا آسر أصغر فرد في العيلة

اقترب منهُ “آسر” وصافحهُ بتملق وهو يقول :
– أزيك ياعصام

فـ ابتسم “عصام” أخيرًا وصافحهُ :
– أنا كويس، أنس كلمني عنكو طول الطريق

عقد الصغير حاجبيه بفضول وتسائل :
– وشك أحمر كدا ليه؟

فـ تجهم وجه “عصام” وهو ينظر حيال تلك الشرسة الصغيرة :
– دا تذكار من حد كدا، حب يتعرف عليا بطريقة مختلفة

فـ ضحك “آسر” وهو ينطق بـ :
– سلم على وشك بدل ما يسلم على إيدك

وتابع الضحك، بينما تبادل الخصمين نظرات مشتعلة ليتذكر كل منهما المواجهة الحامية التي احتدمت منذ قليل :-
( عودة بالوقت للسابق )

تحركت أناملهُ الملامسة لصدغهُ المتوهج أثر صفعتها، ونظراتهُ تكاد تفترسها جراء فعلتها.. بينما رمشت أهدابها بتوتر وهي تحاول التحدث بـ :

  • أنا آآ….

فقاطعها بلهجة حازمة :
– إنتي إيه؟ إنتي أكيد abnormal ( غير طبيعية )، في حد يتصرف بالشكل الغبي ده؟

تضايقت من وصفهُ لها لمجرد رد فعل غير مدروس نتج عن إنفعال فوري.. فـ تقلص وجهها وتوسطت خصرها بذراعيها وهي تتخذ موضع التحدي بقولها :
– أحترم نفسك، أنت مين أصلًا!
– قصدك إني مش محترم!، يعني كمان لسانك طويل بدل ما تعتذري على تصرفك

تلوت شفتيها بإستنكار ورددت بنبرة متغطرسة :
– أعتذر! أنا مش بعتذر لحد

جال بخاطرها وجود هذا الغريب بداخل أسوار منزلهم، فـ ارتفع حاحبيها بإندهاش وقالت :
– أنت بتعمل إيه هنا ودخلت إزاي؟ أنت حرامي؟

جحظت عيناه غير مصدقًا تفكير عقلها الأخرق :
– حرامي؟ دا شكل حرامـي؟ كمان عـامية ومش بتعرفي تميزي!

أشتط داخلها وهي تصيح فيها مشيرة بسبابتها :
– أسمع، أنا مش هسكت على قلة زؤك كتير
– بس ياأوزعة

ثم دقق في فارق الطول بينهما ليجد إنها قزم بالنسبة لطولهُ الفارع وجسدهُ الرفيع الذي ساعد على بروز طولهُ، وأستطرد :
– دا انتي شبر ونص يابنتي لو دوست عليكي مش هاخد بالي

ابتسمت بسخرية من زاوية فمها وقالت بإستخفاف :
– أحسن ما ابقى زرافة ماشية ببص على الناس من فوق

كاد يتركها بمفردها قبل أن يتهور في الحديث معها وذلك ليس من عادتهُ بتاتًا، ولكنها استوقفتهُ وهددتهُ بنثر المياه عليه :
– أستنى هنا رايح فين، مفيش دخول غير لما تقولي بتعمل إيه في بيتنا
– انتي بتهدديني برشاش الميا البلاستيك اللي بتلعبي بيه دا؟
– مفيش دخول يعني مفيش دخول

أضطر لحملها من خصرها عن الأرضية ليبعد بها عن طريقهُ، فقامت بتفريغ محتوى بخاخ المياه على رأسهُ لتنفيذ تهديدها.. تجمد في مكانهُ وتصلب وما زال حاملًا إياها، أحتقن وجهه وبرزت شعيرات عينيه الحمراء وقد تعلقت نظراته بنظراتها المتحدية، ليظهر “أنس” في هذه اللحظة ويصطدم برؤية الوضع الذي جمعهم.

( عودة للوقت الحالي )
ألتقط “عصام” كوب العصير الخاص بهِ وبدأ في ارتشافهُ لعل سخونة صدرهُ تهدأ قليلًا.. بينما افترقت “أفنان” عن جلستهم لشعورها بالإختناق في وجودهُ، فكانت المقابلة الأولى بينهما غير مبشرة أبدًا.
……………………………………………………………
هذا المساء الثالث على التوالي بدون وجود أبويهم في المنزل.. الجميع يعيش في حالة كئابة، فقد كانت “حور” تشكل فارقًا جليّا بمرحها ووجودها في المنزل، بجانب إنشغال “أنس” المبالغ فيه لسد مكان خالهِ الفارغ.. فقد تثاقلت عليه المسؤليات والهموم، وما يريق تفكيره أكثر هو عدم معرفتهُ مكان “قاسم” وعدم وصول أية أخبار منهم.. توًا انتهى من عملهُ عبر البريد الإلكتروني خاصتهُ، ونهض يطمئن على صغيرتهُ التي انشغل عنها الأيام الماضية حتى إنه أهملها بشدة.. طرق على باب الغرفة قبيل أن يدلف، فوجدها تجلس بشرفتها مع الصغير “آسر”.. اقترب منهم ببطء لئلا يشعرهم بوجودهُ، ليكتشف أن الصغير غائصًا في نوم عميق بأحضان أختهِ الكبرى.. وقد غفت عيناها أيضًا، ابتسم بعفوية وهو يجتذب الصغير من بين ذراعيها المطوقتان له، ثم قام بنقلهُ لغرفتهُ وعاد مرة أخرى ليجدها ثابتة بمكانها.. بسط ذراعهُ أسفل ساقيها وأحاط خصرها لترتمي بجسدها على صدرهُ، ثم توجه بها بإتجاه الفراش.. مدد جسدها أعلاه ودثرها جيدًا، ثم جلس بجوارها يتأمل نومتها الرقيقة.. تزيد ملامحها جمالًا وبراءة أثناء النوم، مشط خصلات شعرها الطويل بأصابعهُ.. وكأنهُ خيوط من حرير تنزلق من بين يديهِ بسهولة، لم يستطع منع رغبتهُ في تقبيل جبهتها لتخترق رائحة شعرها المميز أنفهُ.. ابتعد قليلًا وهو يهمس :

  • كان نفسي اتكلم معاكي شوية يابرنسيس

ابتسم وهو يدقق نظرهُ في أهدابها الكثيفة، ثم تابع :
– بس مقدرش أصحي ملكة القطن، عشان بينها وبين النوم علاقة قوية جدًا

استند على ظهر الفراش برأسهُ، وتعلقت أنظارهُ بسقفية الحجرة.. لتستمر حلقة التفكير التي لا تنتهي من رأسهُ، حتى غلبهُ الإرهاق.. واستسلمت عيناه لغفوة طويلة استمرت حتى الصباح.. ولكنها غفوة مريحة لأول مرة منذ سفر “قاسم”، غادر حجرتها مبكرًا.. وسكن غرفتهُ كي يستعد للذهاب إلى العمل.
في نفس التوقيت الذي استيقظت هي فيه وعلى ثغرها بسمة عريضة يغمرها التفاؤل، فقد رأت حلمًا جميلًا شاركها فيه حبيبها الوحيد.. حتى إنها لا تدري هل حلمًا أم حقيقة فوتتها، نهضت بحيوية عن فراشها.. بدأت بتفريش أسنانها ثم اغتسلت وبرحت الغرفة إعتقادًا إنه غادر، ولكنها تفاجئت به يهبط درجات السلم ليقابل وقفتها.. ابتسم على غير عادتهُ ثم نطق بـ :
– صباح الخير؟

ارتفع حاجبيها بإندهاش ولم تجيب ، فغالبًا تغيب عنهُ الإبتسامة صباحًا.. فسألها :
– في إيه؟ بتبصيلي كدا ليه؟
– ولا حاجة، أصلك اتأخرت النهاردة على غير العادة

أمسكت بكف يدهُ لتنظر إلى ساعة اليد خاصتهُ، ثم قوست شفتيها وهي تردد :
– الساعة ١١ ونص الصبح، زمانك في الشركة من ساعتين
– بتعرفي تعملي شاي؟

تفاجئت من سؤاله الغريب، ولكنها أجابت بسرعة :
– أكيد بعرف
– طب اعمليلي شاي، ياريت من غير تدمير أي حاجة في المطبخ

ثم أقدم على تقبيل مقدمة رأسها ما بين حاجبيها تحديدًا، واستطرد :
– أنا في الجنينة

وبرح محلهُ تاركًا إياها في تلك الحالة من الحيرة والذهول.. لمست موضع قبلتهُ، فرح قلبها.. ولكنها عبست وهي تقول :
– هو انا تحت أمر مزاجهُ ولا إيه؟ شوية حنين وشوية مش طايق نفسه

“آسر” وهو يقترب منها :
– أنتي كمان بتكلمي نفسك ياياسمين.. طب روحي أقعدي مع فنان واتكلموا مع بعض بدل ما تكلموا نفسكوا

ثم لوح بيدهُ بسئم وهو يهمس :
– فينك ياماما، البيت اتقلب من ساعة ما مشيتي

انتقلت للحديقة الملحقة بمنزلهم الصغير عقب إعداد المشروبات، ثم تقدمت منه ووضعت “ياسمين” حامل الأكواب على المنضدة الصغيرة.. جلست أمامهُ والتقطت مشروبها البارد لتتجرع منهُ، في حين أشرف “أنس” على خدمة نفسهُ .. ومع أول رشفة من مشروب الشاي المخمر بصقها على الفور وتقلص وجههُ وهو يجأر بـ :

  • إيـــه دا! الشاي تقــيل أوي كدا ليه؟

ارتبكت وهي تنظر إليه، ثم قالت ببراءة :
– أنا عملاه مظبوط والله ، ثواني أجيبلك ميا سخنة

فسد مزاجهُ لـ شرب الشاي، فمنعها من المرور وهو يردد :
– لأ خلاص مش عايز، ماليش نفس

نهض ليغلق زر سترتهُ، ثم نظر حيال المنزل وهو يسأل :
– أفنان عاملة إيه؟

ذمّت شفتيها بضيق وقالت :
– زي ماهي، نفسيتها زي الزفت
– خليكي معاها، ولو خلصت بدري النهاردة هاخدكم نتغدا برا بدل التيك اواي اللي بهدل معدتي دا

ترددت كثيرًا قبل أن تقول :
– أنس، أنا عايزة أنزل أجيب لبس للجامعة.. ينفع أروح أنا ورهف النهاردة

ابتسم بسخافة عقب ذكر هذا الأسم، ثم رد ردًا قاطعًا :
– لأ، البت دي لأ.. أنا هاخدك تجيبي اللي عيزاه لما افضى، سلام

توقفت عن الإلحاح عقب تأكدها إنه لا يفلح معهُ، واستقرت في مقعدها وهي تغمغم بسخط بيّن :
– اتعودت تقريبًا، لو بابا هنا مكنش رفضلي طلب.. ماشي ياأنس

……………………………………………………………

أنهت “حور” ضبّ أغراضها في حقيبتها الصغيرة.. حيث ابتاعت كل ما ينقصها من متاجر المدينة الساحلية عقب أن رفض “قاسم” العودة.. وضعت الحقيبة جانبًا، ثم نادت بصوت مرتفع :
– قــاسم، أنا خلصت

ارتدى ثيابًا رياضية الطراز على غير عادتهُ ، فأظهرت عمرهُ شبابًا أكثر.. تأملتهُ بإعجاب شديد، فهي تراه أوسم رجال الدنيا، اقترب منهُ لتمسح على صدرهُ وقالت بإطراء :
– إيه الشياكة دي!؟ اللون الأبيض حلو أوي عليك

فـ ابتسم إبتسامة أهلكتها، وهمس بجوار أذنيها :
– دا زوء مراتي حببتي، هي اللي اختارت الطقم دا بنفسها وانا حبيتهُ منها

زادت ابتسامتها اتساعًا وتعلقت برقبتهُ وهي تقول :
– يارب يديم وجودك في حياتي

ضمها إليه أكثر، وتسللت يديهِ الخبيرة ليتحسس جسدها برفق جعل مشاعرها تتحرك على الفور وهو يقول :
– إيه رأيك نقعد كمان كام يوم، صدقيني الولاد بخير مش هيجرالهم حاجة

خجلت من رفض طلبهُ مباشرة، فـ ابتعدت قليلًا لتبقى أنفها ملامسة لأنفهُ وهي تهمس :
– بس انت وراك شغل كتير

نظرات قرنيتيهِ العميقتين القريبتين من عينيها مازالت تدغدغ أحساسيها حيالهُ، فـ أسبلت جفونها فرارًا من نظراتهُ وتابعت :
– خلينا نرجع دلوقتي ونبقى نيجي تاني بس مع الولاد

فـ خطف قُبلة سريعة من شفتيها قبيل أن يردد :
– براحتك، يلا بينا

ثم طوق خصرها وهو يقتادها نحو الأسفل حاملًا حقيبتهم الصغيرة.. مضى في طريقهُ أعلى الأرضية الرخامية الناعمة وهي ملتصقة بهِ، مرتديًا نظارتهُ الشمسية ذات الزجاج الرمادي الفاتح المُظهر لخلفية عينهُ.. وإذ بفتاتان من عمر العشرين ينظرن إليه بإعجاب شديد، فقد بدا لهما شابًا ثلاثيني العمر.. تلامذن بالكلمات وتهامسن عنهُ وهو يمر بجوارهم، حتى التقطتهم عينا “حور” الصائدة.. فتحولت أنظارها فجأة لزوجها، لتجدهُ غير مكترثًا بشئ وكأنهُ لم يراهم البتة.. تأججت نيران الغيرة بداخلها وهي تنتقل بصحبتهُ نحو مركز إستقبال الفندق.. وعيناها ما زالت تختلس النظر لهاتين الفتاتين، ترك “قاسم” مفتاح غرفتهُ وهو ينطق بـ :

  • عايز اعمل check out “تسجيل خروج”
  • تحت أمر سيادتك

انتظرت “حور” تلك اللحظة التي ستقترب فيها الفتيات منهم، لتلقن كل منهما درسًا لن تنساه.. ولكن لم يحدث، استندت بكفها على صدرهُ گالعروس المدللة التي تزوجت حديثًا، تناست في لحظة كونها أم لفتاتان شابتان وطفل صغير، كونها مديرة لمدرسة ثانوية ومعلمة للغة العربية.. فقد عادت لسنوات صباها وشبابها معهُ في تلك الأيام القليلة.. وفجأة انتبهت لصوته وهو يقول :
– حوريـة، خلصنا يلا بينا

تحركت للخارج، حيث انتظر “قاسم” حضور سيارتهُ من الجراچ الخاص بالفندق.. وعندما أصبحت قبالتهُ، فتح الباب الأمامي لتجلس هي أولًا.. ثم جلس خلف المقود وترك أمر الحقيبة ليحلهُ عامل الفندق.. ومن بعدها انطلق في رحلة نحو العاصمة من جديد.

……………………………………………………………
كانت جلسة أخوية هادئة، يستمتع ثلاثتهم بمشاهدة أحدث الأفلام الأجنبية.. قطعت عليهم تركيزهم الشديد في أحد المشاهد المرعبة فتح باب الغرفة فجأة ليصرخ الجميع من فرط الرعب المتولد من مشاهدة الفيلم.. لتظهر والدتهم الغائبة من خلف الباب، تصارع الثلاثة في من سيحظى بعناقها أولًا.. ليكون “آسر” هو أولهم، استكان بين ذراعيها وهو يهتف بتلهف :

  • ماما وحشتينــي أوي أوي واللـه، وحشتينــي

أغرقتهُ “حور” تقيبلًا وهي تردد :
– وانت كمان ياحبيبي واحشني جدًا

انتزعتهُ “ياسمين” عنوة من أحضانها لتحل محلهُ :
– أوعــى بقى ياآســر، ماما كنتي فيـن كل دا، ليه تسيبينا كدا

وعانقتها عناقًا طويلًا وهي تتنفس بمعدل سريع من فرط حماستها.. بينما وقفت “أفنان” منزوية على نفسها كأنها تخجل الإقتراب من والدتها، في حين لاحظت “حور” ذلك.. فبسطت كفها أمامها وهي تستدعيها لأحضانها الدافئة :

  • تعالي ياأفنان، تعالي في حضني

فـ ارتمت بين ذراعيها وهي تترك بكائها ينهمر، كانت في أشد إحتياج لها الأيام السابقة أكثر من أي وقت آخر.. تفهمت “حور” ذلك، وكان أول ما اهتمت به هو الإختلاء بصغيرتها المدمرة نفسيًا.. كي تسلبها حزنها وتبدلهُ أملًا وتفاؤل.
……………………………………………………………

كان فرد الأمن دا الملبس الأزرق الرسمي يقف منتصبًا مهتم بأداء مهامهُ بدقة.. حتى وجد ذلك الرجل ذا اللباس الأبيض الرياضي يقترب من واجهة الشركة بثقة وكاد يدلف للداخل أيضًا، أستوقفهُ وهو يردد بتجهم :
– رايح فين حضرتك؟!

نزع “قاسم” نظارتهُ وحدجهُ بسخط، بينما تراجع الآخر خطوة وقد اعتراه الخوف وهو ينطق متلعثمًا :
– قـ ا قاسم بيه!

شملهُ بنظرات متفحصة ليتفاجئ بهذا الطراز الجديد.. بنطال قماشي أبيض وقميص قطني “تيشيرت” أبيض ذا ماركة شهيرة.. وأكمل هيئتهُ بالساعة الرياضية الأنيقة والحذاء الأبيض ذا الخطوط الجانبية الزرقاء.. حمحم فرد الأمن بتحرج وأفسح له الطريق وهو يقول :
– آسف سيادتك، اتفضل

كانت العيون كلها عالقة عليه ما بين الإعجاب والإندهاش والإنبهار.. لقد بدا لهم أصغر عمرًا عن الثياب الرسمية والألوان القاتمة.. مرّ على مديرة مكتب “أنس”، فوقفت مذهولة وهي تقول :
– نورت يامستر قاسم
– شكرًا

ولج لغرفة “أنس” دون إستئذان.. ليجد الثنائي الرائع “رائف ، أنس” مجتمعين على الطاولة البيضاوية.. هبّ “أنس” من مكانهُ بسعادة جليّة وتقدم منهُ يعانقهُ بشوق جارف وكأنهُ والدهُ حقًا :

  • خــالي، رجعت أمتى

شدد “قاسم” ذراعيهِ عليه وهو يقول :
– حالًا، وصلت حور وجيت ع هنا

صافحهُ “رائف” بحرارة وهو ينطق بـ :
– وحشتنا ياغالي
– وانت

ثم تقدم “قاسم” من مكتب “أنس” وترأس مقعدهُ.. كانت ملامحهُ جادة بشكل كبير، في حين شملهُ “أنس” بنظرات معجبة وأردف :

  • صغرت ٢٠ سنة في ٣ أيام ياخالي

ابتسم بسمة خفيفة لم تصل حتى أطراف عينيه، ثم رد بـ :
– الأجازة نفعتني، المهم

نظر بجدية تناقضت مع مزاجهُ الجيد نحو “رائف”.. ثم قال بلهجة آمره :
– جهز شنطتك وباسبورك يارائف، عندك طلعة

انعقد ما بين حاجبيه بذهول، واتسعت شفتيه غير مدركًا هذه المفاجأة.. بينما قال”أنس” مستفسرًا :
– هيروح فين ياخالي؟

ابتسم “قاسم” بـ سخافة وهو يجيب :
– هيروح أمريكا

تبادلو النظرات فيما بينهما بعدم فهم لما يخطط له “قاسم”.. ولكن يبدو إنهُ أعدّ لكل شئ مسبقًا، فـ عودتـهُ قوية، لا مثيــل لـها.

error: