رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عهد جديد ^^

(( الفصل السادس والثلاثين – الأخـير ))

كان إستقبال “قاسم” من قِبل موظفيهِ إستقبالًا حافلًا لم يكن يتوقعهُ.. تجمعت أغلب الأقسام للترحيب بهِ عقب غيابهُ طيلة الفترة الماضية، وتهنئتهُ لتجاوز فترة المرض والعودة سالمًا معافى.. وكان لذلك أثرًا عظيمًا في نفسهُ، لم يدرك قط قيمة حُب المحاوطين لهُ.. ولكنهُ الآن تلمسها بالفعل.
اعتلى مقعدهُ براحة، وتحرك به يمينًا ويسارًا وعقلهُ لا يتوقف عن التفكير.. تأمل غرفتهُ الواسعة من حولهُ، فعاودهُ الكثير من الذكريات التي جمعتهُ بشركتهُ التي أصبحت في غضون سنوات مجموعة كبيرة لها أسمها الذي يهز ثقة المنافسين له، ولج “أنس” وقد أفتر ثغرهُ بإبتسامة متفائلة، ثم قال وهو يقترب ليجلس قبالتهُ :

  • نورت ياخالي، افتكرتك مش هتيجي الشركة لحد الخطوبة

ابتسم “قاسم” بتحمس وهو يسألهُ :
– بدلتك خلصت ولا لسه ياعريس؟

تحرج “أنس” منهُ، وابتسم مواريًا خجلهُ :
– خلصت ياخالي، هروح اشوفها انا وياسمين بالليل، عشان هي دلوقتي زمانها بتشوف فستانها
– ماشي

تقدم بجسدهُ للأمام، ثم استند بمرفقيه على سطح المكتب وسأل :
– المصنع حالتهُ إيه دلوقتي؟

فقال بجدية غطت ملامحهُ :
– المكن الجديد جاي أول الشهر، والعمالة اللي بتجهز المصنع شغالين على وردتين ليل ونهار عشان نستلم منهم في المعاد
– وخلصت حوار سليم؟

قضم شفتيهِ بإمتعاض وهو يجيب :
– الموضوع مكنش سهل بسبب اللي اسمهُ سلمان.. بس خلصنا وكل حاجه تمام

ثمة قرعات رسمية تدق على الباب، فـ سمح “قاسم” بالدخول.. ليظهر محامي العائلة شخصيًا وهو يحمل حقيبتهُ العسلية المصنوعة من الجلد الطبيعي.. صافح كلاهما، ثم جلس و :
– أوامرك ياقاسم بيه

ناولهُ “قاسم” هذا المستند ليتفحصهُ، ثم نطق بصوت رزين :
– عايزك تنقل الإدارة لأنس،إدارة كل حاجة

جحظت عيني “أنس” وهو يستمع لهذا الحديث، وبقى صامتًا بعض الوقت.. بينما قال المحامي :
– دا مش هياخد وقت كتير، عشر أيام بالكتير ويكون هو رئيس مجلس الإدارة الرسمي والقانوني

فقال “قاسم” :
– أسبوع كفاية يامتر، وهستناك تبلغني بنفسك ان الموضوع تم

فوقف عن جلستهُ وهو يردد :
– حاضر ياقاسم بيه، عن أذنك

ثم برح مكانهُ عقب أن صافحهُ.. بقيت صفحة وجههُ ممتلئة بالإستفسارات وعلامات الإستفهام لما فعلهُ توًا.. وقبل أن يبرر لهُ سأل “أنس” ببعض الضيق :
– ليه كدا ياخالي؟!
– في حد مش بيتمنى يترقى في شغلهُ ويكبر ياأنس!

فقال بصدق :
– مش عايز، أنا عايزك جمبي هنا.. انت اللي طول عمرك بترشدني وتحركني وتوجهني، مش هعرف امشي لوحدي
– متهيألك، أنت هتشتغل أفضل وانت بعيد عني
– خالي أنا آ……
– أنس

قاطعهُ وهو يقف عن جلستهُ، التفت حول المكتب وجلس أمامهُ.. ثم قال :
– أنا محتاج أجازة أبدية، عايز أكون أناني وأعيش لنفسي شوية.. أنا مقولتش هختفي من هنا، أنا قولت إن السلطة هتتنقل ليك عشان تتصرف براحتك قانونًا من غير ما ترجعلي.. لكن انا على طول في ضهرك وهفضل وراك في كل وقت

وقف عن جلستهُ مرة أخرى، ثم قال بتحمس شديد للغاية :
– عايز آخد حورية ونلف العالم.. هنسيب مصر ونطلع أي مكان قبل ما أجازة نص السنة تخلص، وطبعًا كل حاجة أمانة في أيدك

صمت هنيهه، ثم تابع بشغف أكبر :
– وأعيش شوية بقى

وقف “أنس” وقد ملأ الضيق صدرهُ، ثم قال بغير قناعة :
– اللي يريحك ياخالي، أنا معاك في أي حاجة

ثم تجول بنظرات مستاءة بالغرفة وقال :
– ومكتبك هيفضل زي ما هو محدش هيقرب منه، وقت ما تيجي هتلاقيه جاهز

ضرب “قاسم” ببطن يدهُ على كتف “أنس”، ثم نطق :
– أنا متأكد إنك هتعمل حجات كتير معملتهاش.. يلا أشوفك بالليل

ثم تركهُ مغادرًا، وظل هو في حيرتهُ.. يخشى أن يخيب ظنهُ رغم ثقتهُ الشديدة بنفسهُ، وبالوقت ذاتهُ لا يحبذ أن يكون صاحب السلطة العُليا.. ولكنهُ الآن مجبرًا على تمثيلهُ، والبدء في عهد جديد لهُ هو.. عقب أن وضعهُ “قاسم” على مبتدأ الطريق.

……………………………………………………………

الآن وقد وصلت أثواب الحفل من فساتين وحُلّات رسمية بدا عليها البهظ.. ولجت “حور” لغرفتها من أجل قياس فستانها الذهبي، وقفت أمام المرآه تتأملهُ بإعجاب شديد.. وحاولت مرارًا أن تغلق سحاب الفستان ولكنها فشلت، في اللحظة التي كان “قاسم” يقترب منها ببطء شديد.. حتى أصبح بالخلف، ابتسمت وهي تردف :
– ممكن تقفل السوسته

ضحك وهو يمازحها قائلًا :
– ياسلام بس كدا، جيتي للمكان الصح.. دا انا تخصص سوست

قهقت عاليًا، بينما كان “قاسم” متعمدًا لمس بشرة ظهرها.. فـ ارتعشت وهي تبتعد عنهُ و :
– لأ متفقناش على كدا، عايزة اشوف الفستان مظبوط عليا ولا لأ

فرفع كفيهِ عاليًا وهو يردد :
– خلاص خلاص

كان السحاب قويًا لدرجة إنهُ فشل في إغلاقهُ.. مما أزعجهُ واضطر لإستخدام بعض العنف، حتى أنقطع بيدهُ.. وقف مصدومًا للحظات، بينما شهقت هي و :
– هاااا؟! عاجبك كدا يعني؟

ذمّ شفتيه بعدم رضا و :
– أقلعي الزفت دا، هي السوسته أساسًا مكنتش مظبوطة.. اقلعي وهاتيه وانا هتصرف

عقدت ذراعيها أمام صدرها و :
– طب اتفضل برا

ارتفع حاجبيه و :
– انتي مكسوفة مني؟

أبعدت وجهها عنهُ بتحرج شديد وتلعثمت وهي تقول :
– قاسم!

نظر لساعة يدهُ ثم قال بجدية :
– طب خلصي واجهزي عشان نخرج

خرج مستعدًا لإجراء مكالمة تليفونية، لم تكن ملامحهُ هادئة وهو يتحدث :
– سنتر (……)، المديرة موجودة؟.. تمام

ثم أغلق الهاتف فجأة، وانتقل لأسفل منتويًا فعل شيئًا ما..
وخلال ساعة من الزمن كان “قاسم” وزوجتهُ يتواجدان بمقر المركز المخصص بفساتين السهرة والزفاف.. جال بمخيلة “حور” ما قد يفتعلهُ زوجها بالداخل، فتوقفت أمامهُ قبل أن يصعد درجات المركز.. ثم شحذتهُ لئلا يفتعل مشكلة و :
– قاسم أرجوك، أنا هتكلم معاهم واخليهم يصلحوا المشكلة اللي في الفستان وخلاص

ابتسم بفتور وهو يقول :
– متقلقيش، مش هعمل حاجة

ثم تجاوزها ومرّ للداخل، كان الجو هادئًا لا يعج بالكثير من رواد المركز، شمل “قاسم” المكان بنظرة خاطفة لتنتقل إليه فتاة تقريبًا ثلاثينية العمر وتسألهُ بتهذيب :
– أوامرك يافندم ، حضرتك بتدور عن حاجة معينة؟
– آه، عايز مديرة المكان

توجست العاملة في البداية وهي تسأله :
– خير يافندم في مشكلة؟

زفر بإنزعاج وهو يقول بفظاظة :
– أنا بتكلم هيروغليفي ولا حاجة؟ .. بقول مديرة المكان

وتعالى صوتهُ في عبارتهُ الأخيرة، لتحضر على أثرها سيدة في الخمسينات من عمرها.. تنتقل إليهم بخطوات متعجلة، صافحت “حور” أولًا و :
– أهلا وسهلا يامدام حور نورتي السنتر، الفساتين عجبت حضرتك؟
– لأ

أجاب “قاسم” نيابة عنها، ثم ناولها الفستان وهو يردد بإمتعاض :
– مش عاجبني، واتقطع منها وهي بتعمل بروڨه

التقطتهُ منه بإحراج وهي تردد :
– تحت أمرك يافندم

ثم أشارت لإحداهن لتأتي فورًا بين يديها و :
– خليكي مع مدام حور وشوفي طلبها إيه، وحطي الفستان دا على جمب
– حاضر

جولتها في المركز لتنتقي مع يناسبها.. ساعة وربع الساعة وهي تقوم بتجربة الفساتين، ثم تلقى رفضًا من “قاسم” عليه.. ثم تعيد الكرّة، إلى أن سئمت، وفي النهاية قال لها :
– مفيش أي حاجة عجبتني هنا.. يلا نمشي

ثم نظر للفتاه المرافقة لها و :
– تمن الفستان اللي رجعناه أخصميه من الفاتورة اللي هتتبعت على البيت عشان مش هدفع تمنهُ اعترضت الفتاة العاملة على ذلك وهي تقول :
– ياأستاذ مينفعش، بقالك ساعة بتختار وهي تجرب وفي الآخر هتمشي كدا وكمان الفستان الأولاني مش هتاخدوه؟!

رمقها بنظرات حازمة ، ثم قال :
– أنتي بتهزري ولا إيه؟ تحبي اعرفك بتكلمي مع مين دلوقتي ولا تاكلي عيش أحسن ؟

فقالت بتبجح :
– أنا مغلطش حضرتك و…..
– الكلام خلص

ثم تجاهلها وانصرف أولًا ومن خلفهُ زوجتهُ، بينما كانت الفتاه تغمغم بإستمرار طوال فترة إنصرافهُ.. عبست “حور” حتى وصلت أمام السيارة.. حدجتهُ بإستنكار ثم رددت :
– على فكرة كان زماني خلصت المشكلة بطريقتي من غير كل دا

فتح لها باب السيارة لتصعد أولًا وهو يبرر موقفهُ :
– مكنش ينفع، كان لازم يتربوا عشان يخرجوا شغل كويس بعد كدا

استقرت في مقعدها، ثم استقر هو لتتابع عتابها :
– وكمان مشينا من غير ما ناخد بديل، رغم إن كان في فساتين كتير حلوة

غمز لها وهو يلاطفها ممتصًا غضبها :
– حببتي فستانك جاهز وهنروح نستلمهُ من مكانه دلوقتي

حدقت فيه وهي تنطق بـ :
– ها؟!
– زي ما سمعتي، تفتكري أنا مش هعمل حسابي يعني!

ثم اقتاد سيارتهُ للمكان المنشود، حيث فستانها الذي اختارهُ بنفسهُ من بين عشرات التصميمات المختلفة.. لأجل عينيها.

……………………………………………………………

انتهت من ابتياع كُل ما تحتاجهُ لأجل يومها المميز وقد رافقتها “أفنان” أيضًا .. وأخيرًا وبعد عمليات تنقيب كثيرة، قالت برضا :
– تقريبًا خلاص كدا، ولا في حاجة نسيناها؟

رمقتها “أفنان” بطرف عينيها و :
– حاجة إيه؟ دا أنتي اشتريتي المحلات كلها.. يلا نمشي بقى رجلي وجعتني جدًا وعصام مستني من بدري عشان يوصلنا

غمزت لها “ياسمين” و :
– خايفة عليه ولا إيه يانوڨا؟

أجفلت “أفنان” جفونها وهي تجيب بإستحياء :
– لأ مش قصدي، بس عشان ميصحش يعني

خطوتين بينهما وبين سيارة “عصام” المنتظرة على الجانب الآخر.. عبرا الطريق واستقلا السيارة، ليقول هو بضجر :
– صحيح الرجالة مينفعش تخرج مع الستات في شوبينج أبدًا، لو أنس هو اللي كان معاكوا كان زمانهُ مشي وسابكوا عقابًا على تأخيركم

فبررت “أفنان” :
– الدنيا زحمة شوية ياعصام معلش
– عشان خاطرك بس ياأفنان

حمحمت “ياسمين” و :
– أحم، أنا قاعدة وراكم هه

فنظر للطريق أمامهُ برسمية، وتصنّع عدم الإهتمام رغم أن أشواقهُ لها على وجههُ.. في حين سلطت هي نظراتها للنافذة كي لا تواجهُ نظراتهُ، أغلق النافذة عن طريق مفتاح الإغلاق المجاور له.. فـ انتبهت له وانتقلت بنظراتها إليه، ليهمس لها بمزاح :
– أنا هنا مش هناك

فـ اتسع مبسمها بسعادة، حينما كانت “ياسمين” تراقبهم بإستمتاع.

……………………………………………………………
ليلة بألف ليلة وليلة..
التجهيزات والتحضيرات منذ الصبيحة على أشدها.. “حور” تهتم بكل تفصيله منذ البكور حتى إعدادات الطباخين المهرة تشرف عليها..
في حين كانت “ياسمين” تقضي وقتها في غرفتها مع فتاة محترفة بتجميل العرائس وتزيينهن.. الكُل في حالة عمل دؤوب، حتى الصغير “آسر”.. كانت يتجول من هنا لهناك دون راحة، وكأنهُ يباشر كل شئ بنفسهُ.. عمّت أجواء بديعة في البيت كُله وفي نفوس أعضاء عائلتهُ الكريمة، حتى شارف موعد بدء الحفل على البدء.
الحديقة جاهزة لإستقبال الضيوف، وقد تراصت الطاولات الزجاجية المزينة بالإضاءة الملونة بجانب مقاعد مكسوة بقماش الستان الفضي وأنشوطة من الحرير المُدهب.. مسرح مُضئ للرقص، وفي الجوانب انتشرت السماعات ذات الحجم الكبير.. أما “كوشة” العروسين تميزت بالبساطة والشكل الغير معتاد عليه.. تمامًا گقاعة كاملة مجهزة، والمشرفين على الحفل انتشروا في الزاويا.

_ في غرفة “قاسم”..
عقب أن انتهى “قاسم” من وضع رابطة العنق التي تمثلت في شكل أنشوطة صغيرة ( فيونكة) على عنق “آسر”.. ضبط وضعية بدلتهُ السوداء الصغيرة ثم قال بإنبهار شديد :
– خلصنا يابطل

ساعدهُ ليترجل عن المقعد، فركض بإتجاه المرآه ليتطلع إلى نفسه.. انفرجت شفتاه بإعجاب شديد، ثم همّ يسحب إحدى زجاجات عطر والدهُ لينثر منها، ولكنهُ استوقفهُ و :
– بس بس، هتعمل إيه! مش عندك إزازة البرفان بتاعتك؟

قطب الصغير جبينهُ بإمتعاض ورد بـ :
– لأ أنا عايز من بتاعك، عشان أحلى، وماما بتحبهُ

ثم بدأ بالضغط عليها لتنثر الكثير منها على ملابسهُ.. وحينما اكتفى، تركها وغادر للخارج بنفس التوقيت الذي كانت فيه “حور” تخرج من المرحاض مرتدية فستانها الأسود الأنيق وفي كامل زينتها..
تأمل هيئتها جيدًا، فستان أسود عاري الأكتاف مرفق معهُ سُترة صغيرة للغاية بالكاد تغطي الذراعين ونصف الصدر فقط.. منسوج بخيوط سوداء لامعة وتطريزات غير متكلفة.. كما امتد ذيلهُ لمترين تقريبًا وتم توصيلهُ بذراعها لتسحبهُ بسهولة ولا يكون خلفها ، رفعت شعرها عاليًا بشكل مهندم يليق بها وغرزت فيهُ بعض الماسات الصغيرة التي وهجت من إشراق وجهها الذي لم يمتلئ كثيرًا بمساحيق التجميل.. عدا طلاء الشفاه الناري الصارخ الذي برق في وجهها، تأملهُ بشبق ثم قال :
– لازم روچ أحمر؟ هو انا كُنت ناقص فتنة يعني

كركرت بصوت عالي، ثم سحبت حقيبة لامعة صغيرة وقالت :
– يلا روح شوف ياسمين خلصت ولا لسه عشان تنزلها بنفسك

أومأ رأسهُ وما زالت العيون متعلقة بها :
– حاضر، بس خلي بالك الليل معانا طويل

_ في غرفة أنس ..
عدة طرقات على الباب حتى سمح بالدخول، ولج “عصام” وهو يحمل باقة زهور راقية من زهور التيوليب الشهيرة.. كان “أنس” يغلق زر سترتهُ الفضية اللامعة الأخير.. التفت ينظر إليه، ليقول “عصام” :
– عظيم جدًا.. بس هات الفيونكة شمال شوية

اقترب منهُ و :
– دا الورد اللي هتقدمهُ لياسمين

تناولهُ منهُ وهو يدقق في شكلهُ، ثم قال :
– مش عارف من غيرك كنت هعمل إيه ياعصام، الحمد لله إنك نزلت مصر

تنهد “عصام” بإشتياق وهو يؤيد رأيه :
– الحمد لله أوي

دلف “قاسم” إليهم و :
– ها ياأنس؟ لو خلصت انزل تحت وانا هجيب ياسمين وانزل
– حاضر ياخالي

ارتكزت عيني “قاسم” عليه لحظات، ثم قال مهنئًا إياه :
– ألف مبروك ياأنس

عانقهُ “أنس” بعاطفة شديدة، ثم قال بصدق :
– مش عارف انت النهاردة أبو العريس، ولا أبو العروسة

ضمهُ “قاسم” لصدرهُ أكثر بإجابة مختفية، ثم ابتعد عنهُ و :
– يلا عشان الناس تحت، وانت كمان معاه ياعصام
– فورًا ياعمي

_ في غرفة العروس..
كانت “ياسمين” متوترة أكثر من أي وقت مضى.. تنهدت قبل أن تنظر لهيئتها الأخيرة في المرآه، ثم قالت بعدم اقتناع :
– لأ الـميك أب مش عاجبني، مش حلو

زفرت المتخصصة أنفاسها بتذمر وقالت :
– ياآنسة والله الميك أب تحفة عليكي، دي تالت مرة نغيرهُ ودا مش كويس على بشرتك.. وكدا هيطلع عيوب في وشك هي في الأساس مش موجودة

فقالت بعصبية أكثر :
– أنتي بتتعصبي عليا ليه؟

مسحت “حور” على كتفها برفق وهي تهدئها و :
– ياحببتي والله زي القمر، متهيألك إنه وحش لأنك عايزة تكوني أجمل

فتدخلت “أفنان” و :
– بقولها كدا من بدري ياماما، شكلها جميل أوي بس هي مش حاسه من العصبية

وجهت المتخصصة وجهها ناحيتها.. وسارت بالفرشاة العريضة من فوق وجنتيها وهي تردد :
– والله زي القمر ماشاءالله، متقلقيش

ثم نثرت بخاخ مثبت أعلى شعرها كي لا يتطاير تأثرًا بالهواء.. واجتذبتها كي تقف عن جلستها، فظهر فستانها المنتفخ عن آخره، ذا اللون الفضي الرائع.. خالي من أي تطريز، فقط لمعان براق أظهر رقة وجمال تصميمهُ، ذا فتحة أكتاف بيضاوية وأكمام فضية تصل لبعد منتصف عضدها.. لتظهر قطع مجوهراتها الماسية التي زينت معصمها وحلقة عنقها، وعندما تم تصفيف شعرها القصير بشكل مميز خاصة من جوانبهُ، ظهر جمال لونهُ وقصتهُ..
استدارت حول نفسها عدة مرات، وبدأت تقتنع بجمالها الآخاذ الآن فقط.. تحسست عقدها وأقراطها الصغيرة، ثم نظرت لفستانها مرة أخرى.. تكاد تصاب بالجنون من فرط فرحتها، ولهفتها على أشدها لرؤيتهُ هو أيضًا.

……………………………………………………………
الجميع في انتظار إطلالة العروس.. حتى “أنس” الذي وقف بالقرب من المدخل لإستقبالها، بجانب الفرقة الموسيقية التي سترافقهم حتى مجلسهم.. ضجر “أنس” من الإنتظار، ولم يقل عنهُ “عصام” توترًا منتظرًا رؤية جميلتهُ.. حتى بدأت الفرقة بالعزف مُعلنة قدوم العروس، الجميع شخص أنظارهُ على المدخل حيث ظهرت هي متأبطة بذراع والدها.. والجميع يصفقون ترحيبًا بها، وقف “أنس” مستقيمًا يمسك بباقة الورود.. حتى وقف “قاسم” أمامهُ مباشرة وتسلّمها “أنس” منهُ والبسمة عريضة على وجههُ.. ثم اقتادها لمسرح الرقص، لبداية اليوم برقصة عانقا فيها السعادة.

بحث “عصام” من حولهُ عنها، ولكنها لم تكن موجودة بالمحيط.. اعتراه الضيق لرغبتهُ التي لم يستطيع جمحها، فتسلل للداخل بحثًا عنها..
استمع لصوت حركة تدبّ بالمطبخ، فـ انتقل نحوهُ ليجدها بالداخل.. ترتدي فستان قصير بالكاد يصل لركبتها من اللون الوردي الفاتح، وتركت شعرها الطويل ينسدل على جانب عنقها ليكون الجانب الآخر حُرًا مكشوفًا، بدون أكمام.. فقط ذراعين قصيرين على كتفيها تحديدًا، كانت توليهِ ظهرها.. وعندما التفتت ووقعت عيناها عليهِ انتفضت بفزع.. ووقفت جانبًا وهي تردد :
– خضيتني ياعصام

أطلق صافرة معجبة وهو يخطف نظرة شاملة عليها.. أصبحت أجمل كثيرًا عقب وضع بعض اللمسات البارزة من مساحيق التجميل، تهربت من نظراتهُ وهي تسألهُ :
– جاي هنا ليه؟
– كنت بدور عليكي

ثم مد يدهُ المفتوحة لها، لتستقر أصابعها في بطن كفهُ ثم يطبق عليهِ ويجتذبها للخارج رافضًا ترك يدها.
كان “قاسم” مشاهدًا جيدًا اليوم، آتتهُ التهنئات والمباركات من جميع الحاضرين.. وجلس على إحدى الطاولات الأمامية يشاهد بصمت، كان “آسر” كثير الحركة مفرط الطاقة.. لم يكلّ أو يملّ من الرقص والحركة، عينا “قاسم” عليهِ تحديدًا.. يرى فيه مشروع نسخة مستنسخة منهُ، وينتوي زرع نفسهُ في هذا الصغير حتى يُخلّد هو.. بينما كانت “حور” كثيرة الحركة أيضًا للإشراف على العاملين بالحفل، وأخيرًا قررت الجلوس قليلًا.. وضعت كفها أعلى كفهُ، ثم رددت بحُب :
– مبسوط ياقاسم؟

فـ التقط كفها وقبّل ظهره.. وأعقب ذلك بـ :
– مبسوط جدًا، وانتي سبب السعادة دي.. ربنا يخليكي ليا

تأبطت بذراعهُ وكأنها تحتضنهُ، ثم نظرت حولها بحبور شديد.. بينما حانت التفاته من رأس “قاسم” لتقع عيناه على “أفنان” و “عصام”.. فـ لفت إنتباه زوجتهُ و :
– بصي هناك كدا

نظرت حيث يشير، لترى بعينيها صدق قولهُ بخصوص علاقتهم.. انشرح صدرها وهي ترى فلذة كبدها قد شبّت وأحبّت بصدق هذه المرة، لاحظت” أفنان ” مراقبتهم لها.. فسحبت كفها من بين يدي” عصام” و :
– عصام، بابا وماما باصين علينا مينفعش كدا

اجتذب يدها مرة أخرى وقادها معهُ وهو يتحدث :
– تعالي معايا طيب

ومضى بها نحو طاولة والديها رغم رفضها الشديد.. بنفس الآن الذي تجاهل فيه “قاسم” النظر حيالهما وكأنهُ غير مهتم.. حتى جلس “عصام” مشاركًا جلستهم وأجلسها أيضًا وهو يقول :
– عمي أنا عايزك في موضوع

أولاه اهتمامًا و :
– خير ياعصام؟

رغم توتر أعصابهُ، إلا إنهُ قال دفعة واحدة :
– أنا بحب أفنان وجاي أطلب من حضرتك إيدها رسمي دلوقتي

طأطأت “أفنان” رأسها بإحراج شديد وقد تسربت سخونة لطيفة لوجنتيها.. لم تتحمل التواجد اسفل نظراتهم العالقة عليها، فـ انسحبت من جلستهم بعيدًا.. حينما أظهر “قاسم” تعابيرًا غامضة وهو يقول :
– أيوة بس آ….

قاطعهُ “عصام” بإضطراب تجلىّ على وجهه :
– بس إيه ياعمي؟ حضرتك معترض عليا ولا إيه؟

فتدخلت “حور” على الفور خشية أن يفسد زوجها الأمر :
– بس إيه ياقاسم؟

فقال بجفاء :
– سيبني أفكر ياعصام
– لأ معلش قولي رأيك دلوقتي، أنا مش متحمل صبر أكتر من كدا.. ما تقولي حاجة ياطنط

فـ ألحت عليه هي الأخرى و :
– قاسم، وافق وخلي الفرحة اتنين
– يلا ياعمي بقى

نظر كلاهما قبل أن يردد :
– بعد ما تخلص الثانوية العامة وتدخل كُلية زي اختها

انفرجت شفتي “عصام” و :
– يبقى نقرا الفاتحة دلوقتي، يلا ياطنط أقري الفاتحة

رفع كلاهما كفيهِ للسماء يقرأون الفاتحة، وبقى هو يتطلع إليهم بإندهاش.. حتى انتهيا، ونهض “عصام” ليُقبّل رأسها وهو يقول :
– مبروك ياماما، ألف مبروك.. هروح أفرح نوڨا بقى

وانصرف مسرعًا.. حينما كان “قاسم” يتابع بذهول اعتراه، حتى وجدها هي الأخرى تهنئهُ :
– مبروك ياقاسم
– خلاص بقيتي ماما كمان!.. برضو بعد ثانوي

فـ مسحت على ذراعهُ بعاطفة و :
– طبعًا ياحبيبي، أمال هيبقى دلوقتي مثلًا

سار الحفل على نهج معين بكُل فقراتهُ.. حتى شارف على الإنتهاء، بقيت فقرة الختام للرقص الثنائي.. توسطت “ياسمين” منتصف المسرح لترقص معهُ، فـ ضمها أكثر وأكثر حتى تلاشت المسافات، حمحمت بتحرج وهي تقول :
– أنس، أبعد عني شوية
– تؤ، أبعد ليه؟.. مش خلاص بقيتي خطيبتي رسمي

توردت وجنتيها بحمرة الخجل وهي تقول :
– يعني كنت مستني الخطوبة عشان تحس يعني؟

فضحك ضحكة صغيرة وهو يرد بـ :
– طبعًا، دا انا لسه هبهرك الفترة الجاية، احتمال اطلب من خالي نقدم معاد الفرح كمان

تعمق النظر إليها أكثر وهمس :
– كفاية كدا، ولا إيه؟
– إيه؟
– آه
– لأ

ازدادت ابتسامتهم وتعالت أصوات ضحكاتهم والجميع ينظرون إليهما بإعجاب..
وقف “قاسم” عن جلستهُ وقبل أن يتحرك، وجد “آسر” يقترب منهُ و :
– بابا، أنا عايز ارقص مع البنت اللي هناك دي

نظر “قاسم” حيث يشير.. فوجد فتاة صغيرة لم تتعدى الست سنوات من عمرها ترتدي فستان أبيض اللون، ذا إطلالة مبهجة، وترتدي تاج من الماس الصغير.. قهقه “قاسم” بصوت مرتفع، ثم عاد ينظر لولدهُ وهو يقول :
– ما بلاش دي ياآسر، دي بنت محمود زهران يعني تناكة الدنيا فيها هي وأهلها
– مش مهم، عايز أرقص معاها برضو

فوجد “قاسم” من الحكمة أن يجعلهُ يجرب بنفسهُ.. فدفعهُ لذلك ووقف يراقب رد فعل الفتاه، سحبها “آسر” للمسرح وبدأ بالرقص الغير منتظم معها حسب خبرتهُ الضئيلة.. حتى دعس قدمها، فـ دفعتهُ الصغيرة بإنفعال وهي تصرخ فيه :
– انت دوست على الـ shoes بتاعتي، مش هرقص معاك

فـ رمقها الصغير بإحتقار وهو يقول :
– أحسن برضو، انتي رقصك وحش وانتي كمان وحشة

ثم تركها وانتقل نحو فتاه أخرى في عمرها تقريبًا.. وعندما تحركت معهُ نحو المسرح وبدأ الرقص، اشتطت الصغيرة الأولى بغيظ شديد من هذه الأخرى التي فضّلها عنها.. فـ ركضت نحوهم ودفعت هذه الفتاه وهي تردد بتذمر :
– أنا اللي هرقص معاك، مش هترقص مع دي

فرد عليها بكبرياء :
– انا مش عايز أرقص معاكي

فقالت بتشدد على رأيها :
– خلاص مش هسيبك ترقص مع حد تاني

وبعد مجادلات دامت طويلًا، عاود الرقص معها ولكن برغبتهُ.. لم يتمكن “قاسم” من منع نفسهُ عن الضحك الهيستيري الذي انتابهُ.. حتى حضرت “حور” لتجدهُ على هذه الحالة، فسألت بفضول :
– مالك ياقاسم، بتضحك أوي كدا ليه؟
– بصي هناك كدا

لم تقل عنهُ، بل إنها زادت وتعالت ضحكاتها وهي تراقب صغيرها.. حتى انتشلها “قاسم” وجذبها معهُ نحو المسرح ليرقصان سويًا، أصبح المسرح مكون من ثنائيات مختلفة.. أكثرهن إنسجامًا هم الأكبر عمرًا، لم يكتفي “قاسم” بالرقص معها، بل إنهُ ردد كلمات الأغنية التي حفظها خصيصًا لها :
– ياأجمل حب في الدنيا وفي عنيا، بقيت روحي وبقيت غالي أوي عليا.. أنا حلمي اللي بتمناه تكون ليا، واكون جنبك في دنيا احنا اللي فيها عايشين

انبهرت لهُ.. وحدقت فيه وهي تقول :
– قــاسم، من أمتى بتحب الأغاني؟
فـ ابتسم و :
– عادي، عجبتني

مالت برأسها على صدرهُ، وغامت عينيها أسفل جفونها المطبقة.. تنعم بهذه اللحظات التي حُسدت عليها.
……………………………………………………………
لم يرغب أيهم في انتهاء اليوم، ولكنهُ مر كمرور الطيف سريعًا ومضى.. الجميع سعيد، وحالة سرور تغطي الأجواء.
مدد “قاسم” جسدهُ بأريحية وهو يستعيد تفاصيل هذه الليلة التي لن تنسى في عقلهُ، حتى حضرت “حور”.. رفعت الغطاء وجاورتهُ، ثم تدثرت بهِ وهي تردد بنبرة سعيدة :
– أنا خلصت الشنط زي ما قولتلي، برضو مش هتعرفني رايحين فين؟

جذبها لتنام برأسها على صدرهُ.. ثم قال :
– هتعرفي بكرة واحنا في الطيارة، عايزك دلوقتي تنامي وترتاحي عشان تكوني فايقة الصبح، بس
– حاضر
– الولاد ناموا؟
– لأ، اتفقوا هيشغلوا فيلم ويقعدوا يتفرجو عليه كلهم سوا.. حتى عصام هيبات هنا النهاردة مع أنس عشان الوقت اتأخر

تنهد وقال :
– خلاص الوقت الجاي بتاعهم، كل واحد هيعيش بالطريقة اللي يحبها.. حتى إحنا، تخيلي كدا قدامك البحر دلوقتي،
سامعة صوتهُ ؟

هزت رأسها بالإيجاب، فتابع وهو يمشط شعرها بأصابعهُ :
– مفيش ناس قدامنا، صوت البحر ولون السما.. والشمس طالعة، وراكي في غابة.. وصوت عصافير جاي من ناحية الشجر، ونايمين على الرملة.. وانتي في حضني زي دلوقتي، مُتخيلة معايا؟

لم تُجيب، فسأل مجددًا :
– حورية، سمعاني؟

لم تجيب للمرة الثانية، فـ رفع رأسهُ ليكتشف إنها غفت.. فـ انبعج فمهُ بإبتسامة واسعة، ثم طبع بشفتيهِ على رأسها وجبهتها ، ثم وجنتيها.. وبمسحات لطيفة سار على بشرتها، واستسلم بعدها للنوم.. إستعدادًا لرحلة الغد التي أعدّ برنامجها بنفسهُ، لبدء عهدهما الجديد بعيدًا.. فقط بمفردهما.

** تـــمت بــحمد اللّه **

 

error: