رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

^^ عـهد جديد ^^

((الفصل الثالث والعـشرين))

لا يعلم كيف، ولكن جسدهُ تخدر تمامًا بدخول تلك الرصاصتين لجسدهُ.. حتى فقد وعيهِ غير شاعرًا بما يحدث حولهُ، في حين انتبه أفراد الأمن المحاوطين لبوابات الشركة لصرخة “أنس” وهو يصرخ محاولًا التمسك بهِ لئلا يسقط منه :

  • خــــــالي !

ولكنهُ بالفعل سقط منهُ، وحاوطهُ رجال الأمن وهو يتفقد جروحهُ غير مدركًا أو شاعرًا بفداحة ما حدث.. ومازال يناديهِ وكأنهُ يسمعهُ و :

  • خالي، رد عليا الله يخليك.. خــــــالي

تحول المحيط لساحة تجمهر.. حينما كان بعض رجال الأمن يتجولون في الأنحاء بحثًا عن مكان القناص الذي أطلق على رب عملهم الرصاص، سارع “أنس” بفتح باب سيارتهُ الخلفي ثم حملهُ بصعوبة شديدة لثقل جسدهُ بمعاونة أحد رجال الأمن.. ووضعوه في الخلف، قاد “أنس” سيارتهُ بسرعة قصوى.. لم يستغرق منهُ الأمر طويلًا، فقد كان موقع الشركة حيوي لدرجة إقترابهُ من إحدى أكبر المشافي بالعاصمة.. يداه ترتجفان وأقدامهُ يكاد يفقد السيطرة عليها من فرط الخوف الذي تملّك منهُ، ضغط على فكيهِ ليمنع اصطكاكهم، بينما حركة عيناه الزائغتين على “قاسم” الملقى بالخلف وينزف من دمهُ الكثير .. ورغم مُكيف السيارة المفتوح إلا إنهُ كان يقطر عرقًا مفرطًا.
الآن يقف أمام البوابة العامة للمشفى وتحتك عجلات سيارتهُ بالأسفلت إحتكاكًا عنيفًا أصدر صوت صاخب، ترجل عن مقعدهُ وترك الباب مفتوحًا من شدة حالة الذعر التي انتابتهُ.. وركض نحو البوابة يصرخ في موظفي المشفى بهيستيريا شديدة :

  • حد يلــحـقـنـا، معايا مصاب

أثنان من عاملين المشفى تحركوا مهرولين نحوهُ يسحبون سرير نقال خلفهم حتى دلهم على مكان السيارة وبدأ نقلهُ للداخل بأقصى سرعة، حيث تم إبلاغ قيادات الأطباء بسرعة التوجه لقسم العمليات للضرورة..وبالفعل دبت حركة مريبة بين ردهات المشفى وخاصة بالطابق الموجود بهِ غرف العمليات حين علمهم بهوية الحالة الحرجة الآتيه في هذا التوقيت الليلي، هو رجل الأعمال المعروف ” قاسم رسلان” صاحب أكبر مجموعة شركات غذائية بمصر..
تم منع “أنس” من التحرك لأكثر من هذه الحدود، وبقى واقفًا أمام هذا الباب.. كاد يختنق وكأن كفيّ أحدهم يطبق على أنفاسهُ، حرر رابطة عنقهُ عنهُ ليلمح قميصهُ الأبيض الملوث بدماء “قاسم”.. وهنا بدأ التركيز يعرف الطريق لعقلهُ، حتى هذه اللحظة لا يدري ماذا حدث وكيف.. ولكنهُ بدأ بتجميع خيوط القصة ليكتشف إنهُ كان فداء لهُ، داهمتهُ ذكريات قديمة ترجع لأكثر من ثماني عشر سنة.. عندما افتداه وانحني عليه يحميهِ من رصاصات آل السلمانية، ولكنهُ كان يرتدي الواقي من الرصاص حينها .. والآن هذه المرة الثانية التي يفتديهِ بها، بدون أن يطلب منهُ مقابل، تهدجت أنفاسهُ وبدأت الدموع تعرف طريقها لعينيهِ الجامدتين.. ظن إنهُ صلدًا گالصخر، ولكنهُ أضعف من تحمل صدمة فقدانهُ وبهذه الطريقة، ارتخت عضلاتهُ وكاد يسقط لولا إنهُ استند على الدرابزون وهو يفرك وجههُ بإنفعال عاطفي.. أخرج هاتفهُ من جيب بنطالهُ بأيدي مرتعشة، وحاول أن يتصل بأحدهم و…..

  • أيوة ياعصام، أنا في المستشفى

أمر إبلاغها بشئ كارثي گهذا كان في غاية الصعوبة، لذلك وجد “أنس” الحل في إرسال “عصام” لها وجلبها حتى المشفى، ثم من بعد ذلك تبليغها..
وقف “عصام” أمام المنزل في انتظار حضور “حور” ، حتى رآها تتعجل في خطاها نحوهُ.. لتقول بقلق شديد :

  • في إيه ياعصام، أنس لما كلمني وقالي إنك جاي تاخدني مفهمتش منه حاجة

تلجلج “عصام” فيما سيرويهِ عليها، ولكنهُ ارتجل في حديثهُ :
– معرفش حاجه ياطنط، كل اللي اعرفهُ إن أنس قالي لازم أجي أخدك وأوصلك لعنوان هيبعتهولي

فركت كفيها سويًا وهي تردد :
– طب قاسم فين؟ ليه مكلمنيش هو
– مش فاضي ياطنط، يلا بينا

وأسرع يستقر في مقعدهُ قبل أن تسأل سؤالًا آخر، ليقتادها إلى المشفى.. مجرد رؤيتها للمشفى جعل داخلها ينقبض وتفكر فيما هو أسوأ، ضمت قبضتيها لصدرها وهي تقول بصوت منخفض متوجسة من ردهُ :
– إحنا جايين هنا لـيه ياعصام ؟

فلم يجد مفرًا من مصارحتها :
– بصراحة كدا عمي قاسم تعبان شوية عشان كدا جبت حضرتك و…..

لم يتمم عبارتهُ، حيث أسرعت “حور” بالترجل عن السيارة وركضت نحو الداخل برشاقة گفتاه تبلغ العشرين من عمرها.. نادى عليها ولكنها لم تستمع لهُ حيث انتقلت مسرعة نحو الإستقبال وسألتهم بصوت لاهث :
– لو سمحتي، ألاقي فين قاسم صفوت رسلان؟

فأجابت الموظفة برسمية :
– حاليًا في غرفة العمليات يافندم

بلغ قلبها حنجرتها من شدة التخوف عليه وصدمتها فيما تسمع.. ولكنها جمعت شجاعتها لتسأل :
– لـ ليـه ؟

فأجابت دون إكتراث :
– إصابة بعيار ناري

استندت بكفيها على السطح الرخامي قبيل أن تهوى على الأرضية فاقدة وعيها.. بينما اقترب منها “عصام” راكضًا وهو يقول :
– ياطنط أنس قالي هما في الدور الكام، من فضلك خليكي معايا انا

سارت گالمغيبة معهُ، يقودها نحو الطريق الذي سار بهِ زوجها منذ قليل ولكنهُ غير شاعرًا، لمحت طيف “أنس” عن بُعد.. فأسرعت بخطاها نحوهُ وهي تسأل بصوت مرتفع :
– قاسم فين ؟ خالك فين ياأنس؟

كان شبه منهارًا، عيناه مُحمرتين وجفونهُ السفلية منتفخة أثر هيستيريا البكاء التي سيطرت عليه.. لم يستطع فتح شفتيهِ للحديث وكأنهُ أصيب بشلل مؤقت، مما دفعها للصراخ فيهِ :
– رد عـــليا فين جـوزي؟

ضغط على عنقهِ بإنفعال وهو ينطق بصعوبة بالغة :
– في العمليات آ….

وقبيل أن يتابع حديثهُ، انفتح باب الغرفة فجأة ليخرج منهُ طبيبًا خمسيني العمر، ذا ثوب أخضر معقم وكمامة تغطي فمهُ.. ركض جميعهم فجأة نحوهُ فكانت “حور” أول المتكلمين :

  • أرجوك طمني هو حالتهُ إيهِ؟

أخفض الكمامة عن فمهُ وبدا آسفًا وبشدة أثناء قولهُ :
– للأسف الحالة متطمنش، وفي إحتمال حدوث شلل نصفي

وكأنها غيمة أحجبت عنها الرؤية، ليتشوش نظرها فجأة نتيجة إرتفاع ضغط الدم.. في حين أستطرد الطبيب :
– لازم ناخد موافقة كتابية من أهل المريض قبل إجراء العملية.. تخلوا فيها مسؤليتنا ومسؤلية المستشفى من أي توابع

فـ هدر بهِ “أنس” بصوت صدح في الطوابق الأخرى من المشفى :
– يعني إيــه يعني بتخلوا مسؤليتكو.. لو مش قادرين تعملوها عرفوني وانا هاخدهُ على أكبر مستشفى

الطبيب بصوت منخفض ولهجة رذينة :
– حضرتك مش هتقدر تنقلهُ من هنا في حالتهُ دي، وكل الوقت اللي بنضيعهُ هنا مش في صالحنا

قطعت “حور” هذه المجادلات الغير مجدية بقرارها النهائي :
– أعمل اللازم يادكتور

لم يهتم “أنس” بمكانة من يحدثهُ.. بل إنهُ طاح في الجميع وهو يجأر بـ :
– أنتي بتقولي إيــه ياطنط! بيقولك شلل؟ انتي مستوعبة اللي بتقوليه!

“عصام” وهو يسحب “أنس” بهدوء :
– مفيش حل غير دا ياأنس، أهدى شوية
“حور” وهي تنظر للطبيب بثبات :
– أنا مراتهُ يادكتور ومستعدة أمضي على أي حاجة، بس أعمل أي حاجة عشان تنقذه.. أي حــاجة

أومأ “الطبيب” رأسهُ بتفهم وقال :
– الممرضة هتخرج دلوقتي وتوصلك للقسم عشان تمضي على الإقرار، عن أذنكم

ثم أسرع للداخل مرة أخرى ليتابع عملهُ.. ابتعدت “حور” عن وقفتهم وجلست على المقعد المعدني بجسدها الذي أشبه قطعة من الجليد الجامد.. تصل أصوات نبضاتها المتسارعة لأذنيها، والذعر يغلف كل كيانها.. ليست في حالة تستطيع بها التفكير أو التخمين، كُل ما يسيطر عليها الآن هو التضرع خفية للّه لإنقاذ هذا الذي لا تملك سواه في الدنيا.. رفيق روحها.
عيناها جافتين بالرغم من رغبتها الشديدة في البكاء والصراخ، ولكن ثمة جمود يعتريها من شدة الصدمة التي تلقتها.. لا تشعر بشئ، فهي الآن مُغيبة.

  • أول مرة أشوفك في الحالة دي ياأنس، أهدا شوية وهو هيبقى بخير صدقني، عمي قاسم قوي

قالها “عصام” وهو يآزر ابن عمهُ الذي انهار فعليًا عقب ما حدث، وكأن هذا الرجل هو السند والحماية وقد فقدهُ.. تنهمر الدموع من عينيهِ گشلالات لا تتوقف، ولا إمكانية لديهِ للسيطرة عليها.. أستخدم منديلًا ورقيًا ليجفف وجههُ ثم ردد بحزن بالغ :

  • كان زماني مكانهُ، خالي فداني ياعصام.. وبتقولي أهدا!

اقشعر “عصام” من شدة تأثير هذه العبارة ومعناها العميق، في حين تابع “أنس” :
– لو البنات عرفوا ممكن يجرالهم حاجة، خصوصًا ياسمين

مسح دموعهُ وتابع :
– كانت ناوية تصالحهُ لما يرجع! أقولها إيه دلوقتي لما تصحى وتتصل بيا؟
– كويس إنهم كانوا نايمين ومجاش خبر ليهم

لا يصل صوت لآذانها، سوى دقات عقارب الساعة وهي تنتظر على أحرّ من الجمر أن يطمئنهم أحد.. ساعة تليها أخرى والوضع ساكن للغاية، حتى مضى أكثر من خمس ساعات متواصلة.. ولم يظهر أحدهم في الوسط، جابت “حور” الردهة ذهابًا وعودة.. كلما مرّ الوقت كلما ضاق صدرها أكثر عليها، ولا جديد.. إلى أن انفتح الباب على مصرعيهِ وظهر السرير النقال ذا الحجم العريض ويدفعهُ للخارج ثلاثة من ( التمرجية )، ركضت “حور” إليهم وهي تتطلع لزوجها النائم على بطنهُ، صاح فيها أحدهم لتبتعد و :
– لو سمحتي يامدام وسعي من هنا

وكأنها تأمل في أن يجيبها وهي تناديهِ بصوت مفطور :
– قاسم ، سامعني ياحبيبي.. قاسم رد عليا أبوس إيدك
– يامدام وسعي لو سمحتي

تجاوزوها ومضوا في طريقهم.. وهي من خلفهم تسير بخطوات مرتبكة وهي تعافر لترى وجههُ.. في حين كان “أنس” متسمرًا في مكانهُ عاجزًا عن الحركة، يراه وهو يبتعد ولا يقوَ على ملاحقتهُ.. فقط حمّل نفسهُ المسؤلية كاملة ويشعر بالخزي أيضًـا ، وكل ما يجلو بخاطرهُ كيف لهُ أن يقف هكذا ويتركهُ يتلقى الرصاص نيابة عنهُ؟..
أفاق على صوت “عصام” وهو ينهرهُ بإنفعال :
– أنــس! مش وقت تتصدم فيه فوق أرجوك

ثم سحبهُ بإنفعال من خلفهُ نحوهم، ليجدهم قد استقلوا المصعد الكهربي للصعود إلى الطابق الرابع.. انتظر كلاهما حتى ظهر مؤشر المصعد ثم اتخذوا الدرج طريقًا أسرع لهم.

وفي إحدى غرف العناية المركزة، تم وضع جسدهُ الغائب عن الوعي على الفراش.. وشرعت إحدى الممرضات بتركيب بعض المحاليل الطبية وأكياس الدم تعويضًا عن الدماء التي استنزفها، حينما كانت “حور” تتطلع إليه عبر الحائل الزجاجي الشفاف عقب منعها من العبور للداخل.. وعندما لمحت الطبيب يستعد لمغادرة الغرفة، تأهبت للتحدث إليه و :

  • هو عامل إيه لو سمحت؟
  • مقدرش أقول أي حاجة دلوقتي، بعد ٤٨ ساعة نقدر نحدد الحالة استقرت على إيه وربنا يسترها

كان “أنس” على مقربة منهم، يرفض رؤية “قاسم” في هذه الحالة الواهنه.. لذلك بقى بعيدًا، حتى وجدها تقترب منهُ لتسأل بحزم يتناقض مع حالتها الحزينة :
– أنا عايزة اعرف إيه اللي حصل دلوقتي حالًا

أبعد “أنس” عيناه عن نظراتها، وقال :
– كان في حد مراقبنا واحنا قدام الشركة، وفجأة لقينا خالي أضرب بالرصاص.. ومحدش يعرف أي حاجة ولا مين ضربهُ

دفنت وجهها بين راحتيها لحظات.. ثم عادت لمكانها لتتطلع إليهِ من جديد، نظر “عصام” لساعة يدهُ.. فإذا بها الثامنة صباحًا، تنهد وهو يهمس بخفوت :
– لا حول ولا قوة إلا بالله!

أقترب أحد العاملين بالمشفى ذو ثوب رسمي موحد، ثم نطق بـ :
– ياريت حد من أهل المريض يروح الحسابات عشان مبلغ التأمين

فصرخ بهِ “أنس” بإنفعال شديد :
– أبعد عني ياجدع انت، انتوا مش عارفين مين اللي جوه دا ولا إيـه؟

عصام :
– أهدا ياأنس وهو مالهُ

ثم التفت “عصام” للعامل ودس في يدهُ بضع ورقات نقدية فئة العشر جنيهات، وقال له بخفوت :
– روح انت دلوقتي واحنا هنروح
– أمرك ياسعات البيه

وما أن انصرف، حتى قال “عصام” :
– أنا عايزك تتحكم في نفسك أكتر من كدا ياأنس، أنت المسؤل عن كل حاجة دلوقتي.. وبعدين وقفتك هنا هتعمل إيه يعني!، خلينا نشوف حكاية المصاريف عشان تريح نفسك

ومضى معهُ لقسم الحسابات ليتعرف على قيمة المبلغ الطائل المطلوب گتأمين المشفى الخاص.. بحث “أنس” عن بطاقتهُ الإئتمانية في جيوبهُ ومحفظتهُ ولكنهُ لم يجد لها أثرًا معهُ.. نفخ بزمجره وهو ينطق ب :
– الفيزا مش معايا

ذمّ “عصام” شفتيهِ بقلة حيلة وقال :
– وأنا مش عامل حسابي الحقيقة، ولسه الفيزا بتاعتي مطلعتش

زفر “أنس” زفيرًا محتنقًا وقال :
– أنا لازم اروح البيت، الفيزا بتاعتي على الكمودينو
– خلاص روح انت وانا هستنى مع طنط هنا، لو حاجه حصلت هكلمك

وبالفعل انتقل “أنس” لمقر منزلهم للحصول علي بطاقتهُ الإئتمانية لدفع المبلغ التأميني وتحسبًا لأي ظروف.. تناسى تمامًا أمر “ياسمين” وأخواتها، كل ما فكر فيهِ ضرورة الرجوع للمشفى بأسرع وقت.
وكأن الحظ معاكسًا لهُ.. حيث كانت “ياسمين” مستيقظة منذ الصباح إستعدادًا للذهاب إلى الجامعة، ولكنها لم تجد أيًا منهم في المنزل.. مما جعلها ترتاب وتقلق أكثر وأكثر، جلست في الحديقة عسى أن يحضر أحدهم.. حتى وجدت سيارة “أنس” تمر من البوابة، فـ انتقلت إليه مسرعة ووقفت أمام باب السيارة تستقبلهُ :

  • أنس انت فين من امبارح انت وبابا، حتى ماما منامتش هنا امبارح

لا يدري بماذا يجيبها، ولكنهُ قبل أن يختلق كذبة رأت هذه
البقعة الحمراء الداكنة على قميصهُ الأبيض الناصع، لتشهق بفزع وقد شحب وجهها وهي تتلمس صدرهُ وتصيح :
– أنــس ! إيــه اللي جرالك اتعورت إزاي؟ انت كـويـس؟
– أنا كويس وقدامك أهو متقلقيش أوي كدا

قالت ومازال الذعر مغلفًا تعابير وجهها وقد سرت الرجفة في أطرافها :
– أمال إيه اللي حصل؟ أرجوك تقولي

جاهد ليكون جافًا ثابتًا :
– حادثة لواحد زميلنا وكنا بنلحقه على المستشفى، بس

نظر لملابسهُ واستطرد :
– هروح اغير هدومي عشان لازم اخرج تاني

ثم تركها ودلف للداخل وهو يحمد اللّه سرًا إنها لم تكشف أمرهُ.. ولكنها جعلتهُ يظن ذلك، فهي لم تصدق هذه الكذبة البدائية للغاية منهُ.. فهو فاشل بالكذب، ولذلك تتبعت خطواتهُ بصمت وحرص شديدين لتراقبهُ بإختلاس..
كان يبدل ثيابهُ وهو يبكي، حملقت عينيها غير مصدقة.. هذا الصلب الذي اتهمتهُ بين خلجات نفسها بعدم الشعور وافتقادهُ للمشاعر يبكي حقًا الآن، أنقبض قلبها وتأكدت وجود ما يخفيهِ عنها.. وأول ما جال بخاطرها هو والدها الذي رأتهُ في حلمها بالأمس، أرتعدت أوصالها وشعرت ببرودة تضرب صدرها وكأن الهواء الذي تتنفسهُ تثلج فجأة.. ومازالت تراقبهُ، حتي انهى ارتداء القميص وكاد يخرج، إلا أن إتصالًا هاتفيًا استوقفهُ :

  • أيوة يارائف، معرفتش اكلمك بعد اللي حصل.. انت عرفت إزاي؟.. بعد ما ضربوا علينا رصاص اختفوا محدش ليه أثر منهم .. أنا رايح المستشفى أهو وعصام هناك مع مرات خالي

تأكدت من صدق حدسها.. قد يكون المصاب هو والدها، شُل تفكيرها لحظات، حتى إنها لم تعد تشعر.. ولكنها انتبهت مرة أخرى لهُ :
– خلاص أقفل عشان عصام على الـ waiting

ثم قام بتبديل المكالمات و :
– أيوة ياعصام.. إيـــــــه! بتقـــول إيــه ياعصام ؟ إزاي وأمتــى؟

ثمة حركة مضطربة أمام غرفة العناية المركزة التي يرقد
بها “قاسم”.. وبالداخل أيضًا، كانت”حور” تنظر إليهم بهلع وهي تهمس بنبرة مرتعشة :
– أتوسل إليك يارب، نجيه أرجوك يارب والنبي.. أرحمني من العذاب دا وخدني معاه لو هتاخدهُ مني يارب، أتوسل إليك

وانسالت الدموع من طرفيها أخيرًا عقب حالة من الجمود أصابتها منذ الأمس.. خرج الطبيب الصغير مهرولًا وهو يقول :

  • شوفيلي فين دكتور علي بسرعة، بســرعة

نظرت “حور” لمؤشر النبضات لتجدهُ يكاد يستكين ليعلن موتهُ.. خفق قلبها.. تسارعت أنفاسها، وانتشرت قطرات العرق على جبهتها وهي تردد :
– أرجوك يارب، مش عايزه من الدنيا غيره.. سيبهولي يارب والنبي، سيبهولي

حضرت الممرضة ومن خلفها الطبيب الذي أشرف على عمليتهُ الجراحية مهرولين.. وفي الداخل تتم الإستعدادات لصعقهُ كهربيًا كي لا يموت، قطعت الممرضة ثوبهُ الأخضر ليظهر صدرهُ العاري، ثم صعقهُ الطبيب على الفور لينتفض جسدهُ بإنفعال على الفراش و…………..

مكان أشبهِ بالصحراء.. خاوي من الناس جميعًا.. يجلس فيهِ “قاسم” بثيابهُ البيضاء الناصعة التي تشع نورًا.. مبتسمًا وهو يستمتع ببعض النسمات التي تحمل له رائحة طيبة گالمسك، التفت يمينًا ليرى “وجيـدة” تقترب منهُ بردائها الأبيض.. فنهض لإستقبالها حتى وقفت قبالتهُ، ابتسم لها بود وقال :
– أزيك ياوجيدة ، أوعي تكوني لسه زعلانة مني

هزت رأسها بحركة خفيفة وقالت بوداعة وبسمة بشوشة :
– مش زعلانة ياقاسم

ثم مدتّ يدها لهُ وقالت :
– تعالى معايا

تنغض جبينهُ بإستغراب وسألها :
– أجي معاكي فين؟

فكررت نفس العبارة :
– تعالى معايا ياقاسم

وجد شيئًا داخليا يجتذبهُ للذهاب معها، ولكنهُ قال بتردد قبل ذلك :
– بس حور مستنياني
– سيبها وتعالى، هي كويسة

مضى معها بخطوات بطيئة، وهو ينظر للعالم الخاوي من حولهُ.. حتى استمع لصوتها المألوف من الخلف وهي تناديهِ :
– قــاسم ، خليـك معايـا ، أنا محتجاك ياقاسم

نظر خلفهُ ليجدها تبكي وتستجديهِ ليبقى.. بينما “وجيدة” تجذبهُ گالمغناطيس بقولها :
– تعالى ياقاسم، تعالى معايا

ومن مسافة بعيدة، ظهرت والدتهُ وهي تلوح لهُ وتطلب منهُ الإقتراب.. فـ ابتسم وهو ينطق بإشتياق رهيب :
– أمــي!
– يــلا ياقـاسم ، كلنا مستنينك ………………….
………………………………………………….

error: