رواية عهد جديد للكاتبة ياسمين عادل

 

^^ عـهد جـديد ^^

( الفصل الثالث والثـلاثين )

انخفض بصرهُ وطأطأ رأسهُ بحرج.. وسرعان ما انتقل بخطوات متعجلة نحوهُ كي يساندهُ للداخل، ولكنهُ وجد “قاسم” يشير إليه ليتوقف و هو يقول :
– خليك مكانك، أنا بتحرك لوحدي

كان بطيئًا جدًا، ولكنهُ وصل أخيرًا لأقرب مقعد.. تنهد شاعرًا بخمول جسدهُ، وببطء شديد جلس أعلى المقعد.. ساد الصمت قليلًا، و “أنس” يتبادل النظرات مع “عصام” وكأنهُ يسألهُ متى وصلا لأرض الوطن، وكيف سمح الأطباء بسفرهُ..
نظر “قاسم” حولهُ بإشتياق لهذا المكان الذي بناه بنفسهُ وعمل بكد وإجتهاد للرفع من شأنهِ ومكانتهُ.. ابتسم بسخرية ثم نظر حيال “أنس” وقد امتعض وجههُ فجأة، ثم سأل :

  • فين تليفونك ياأفندي؟

توتر “أنس” وهو ينظر حولهُ باحثًا عن هاتفهُ، ثم بدأ يعبث بجيوب سترتهُ وبنطالهُ إلى أن وجدهُ.. رفعهُ أمام عيني خالهِ وقال :
– أهو

ضاقت نظرات “قاسم” وهو يردد :
– أفتحهُ كـدا

فتح “أنس” شاشتهُ ليجد خمسة وخمسون مكالمة فائتة.. اتسعت عيناه وعاد ينظر إليه وهو يبرر :
– التليفون صامت عشان كنت في اجتماع

فقال بصوت مرتفع معاتبًا تجاهلهُ :
– وطول الأسبوع اللي فات كان تليفونك صامت؟

طأطأ رأسهُ بحرج ، بينما تابع “قاسم” بنبرة أخجلت “أنس” أكثر :
– بتتهرب مني بدل ما تطمن عليا؟؟

فأسرع “أنس” بتوضيح مقصدهُ و :
– أنا كل يوم كنت بتصل بعصام واسأل عنك ياخالي، بس آ…..
– بس إيه؟

ضاق صدر “أنس” أكثر وهو يستطرد :
– كنت مكسوف منك عشان اللي حصل بسببي، لكن صدقني أنا مقصدتش استغفلك

استند “قاسم” على عكازهُ ليقف.. ثم بدأ التحدث :
– طالما صلحت غلطتك يبقى كأن حاجة محصلتش

فتح “قاسم” ذراعيهِ عن آخرهم وترك العكاز يسقط.. فـ انحنى “أنس” يلتقطهُ ثم ارتمى بين أحضانهُ التي ترعرع فيها، شدد ذراعيهِ دون انتباه لجرح “قاسم”.. حتى أصدر آنينًا خافتًا، فـ انتبه” أنس” وزحزح ذراعيهِ قليلًا، ثم قال :
– حمدالله على سلامتك ياخالي، وحشـتني أوي

وانسالت عبرات صامتة بدون وعي منهُ.. ربت “قاسم” على كتفهُ وهو يبتعد، فناولهُ “أنس” عكازهُ.. ليبتسم “قاسم” قائلًا :
– أنت عكازي ياأنس، لسه مش مصدق؟

فـ انفرجت شفتاه بسعادة وهو يعود لإحتضانهُ مرة أخرى، فـ حمحم “عصام” وهو يقطع لحظتهم المميزة :
– أنا قربت اعيط ياجماعة ما كفاية كدا
“أنس” :
– أقعد وارتاح ياخالي

جلس، فسأل :
– عملت إيه في إستيڨان ياأنس؟

أفتر ثغر “أنس” بإبتسامة متفائلة، ثم قال :
-مش انا اللي عملت، بعد ما جهاز المخابرات أتدخل والسفارة حولتهُ على بلدهُ.. تم إثبات التلاعب ببنود العقود، ومكنش قدامهم غير الحبس أو التنازل عن المشروع.. وطبعًا التنازل كان أضمن، من ساعتها محاولتش اعرف عنهم حاجة، خصوصًا لما سمعت إنهم خلاص سابوا مصر

لم يُعجب “قاسم” بهذه الطريقة كثيرًا، ولكن :
– كنت عايز حقي يرجع بشكل أقسى من كدا، عشان يعرفوا إن العرب لحمهم مُر.. لكن مش مهم

وزع “قاسم” نظراتهُ عليهم قبل أن يقول :
– أنس، في دين علينا ولازم نسددهُ

لم يستغرق الأمر كثيرًا منهُ، حيث تفهم مقصدهُ مباشرة و…
…………………………………………………………..

أعتقدت “حور” إنها ستغرق بنوم عميق عقب شقاء الليالي الطويلة الماضية.. ولكنها لم ترتاح، اهتمت بتفريغ حقائب السفر والتواصل مع المشفى التي ستقوم بمتابعة حالة “قاسم” فيها.. ثم تواصلت مع وكيل وزارة التربية والتعليم شخصيًا تطلب لقاء عاجل و :

  • طبعًا طبعًا يافندم.. هكون موجودة في المعاد، شكرًا لحضرتك.. مع السلامة

كانت “ياسمين” تضع رأسها على فخذ “حور”.. حينما كانت “حور” تداعب شعرها القصير، ثم أبدت إعجابها بهِ و :
– تعرفي رغم إن شكلك اتغير بعد ما قصيتي شعرك ، لكن لايق عليكي جدًا ياياسمين

اعتدلت “ياسمين” في جلستها، نظرت في عيني السيدة التي عهدت بتربيتها منذ أن كانت في مهدها.. ابتسمت بوداعة، ثم قالت متسائلة :
– لسه زعلانة مني ياماما؟

مسحت “حور” على بشرتها مسحات دافئة.. ثم ضمتها لصدرها وقالت بصدق جلّ في صوتها :
– محدش بيزعل من روحهُ، انتي واخواتك أغلى حاجة عندي في الدنيا.. انتي بنتي أنا ياياسمين

وقبل أن تنقلب للحظة درامية حزينة، ابتعدت “ياسمين” و :
– أنا هروح اشوف “أنس” جه ولا لسه

وخرجت قاصدة الخروج من المنزل، ولكنها توقفت عندما استمعت لصوتهُ يقترب من الباب.. نظرت حولها بترقب، ثم أسرعت تختبئ في غرفتهُ.. وقفت خلف الباب مستعدة لإصابتهُ الذعر، ولكنهُ تأخر قليلًا.. فركت كفيها بحماسة منتظرة لحظة فتح الباب، حتى استمعت للمقبض يتحرك.. وبمجرد ظهور خيالهُ أنقضت عليهِ وهي تصيح :

  • بـــــخ

ولكنهُ بقى جامدًا بدون حراك، ضغط على زر الإنارة لينفتح فتظهر تعابير وجهها الطفولي وهي تتسائل :
– انت متخضيتش؟

فأجاب بفتور :
– تؤ ، عشان عديت على أوضتك الأول ولما ملقتكيش عرفت إنك مستخبية هنا

ضحكت وهي تبتعد، ولكنها وجدت ذراعهُ مُطبقة على خصرها.. بقيت قريبة منه بشكل ملحوظ، تأمل عيناها بينما أجفلت جنونها وهي تهمس :
– ممكن تسيبني

فغمز لها وهو يردد :
– أدفعي الأول

جحطت عيناها غير مصدقة تلميحهُ الصريح.. ثم قالت :
– أتغيرت ياأنس ، من ساعة ما ابن عمك نزل مصر وانت اخلاقك اتغيرت

نفخ بتذمر وهو يقول :
– مفيش حاجة عجباكي أبدًا، ولا السكوت نافع ولا الكلام نافع.. أنا هنتحر

قهقهت بصوت مرتفع جلجل في أذنيهِ.. حتى أصابتهُ بالجنون أكثر ليقول :
– هو انا كنت ناقص فتنة بيكي عشان تضحكي بالشكل دا!

لاحظ ربكتها وعدم قدرتها على الرد عليهِ، فـ أفلت ذراعهُ عنها، ثم عرض عليها :
– إيه رأيك نتفرج على فيلم النهاردة كلنا، عصام جاي بعد شوية وهيجيب معاه أفلام جديدة وقالي نقعد سوا مع بعض

أنشرح صدرها لهذه التطورات، ثم قالت بحماسة :
– أنا ابتديت أحب عصام والله

تجهم وجههُ فجأة وهو يردف بصوت محتد :
– نـعم ياماما! ؟

تراجعت عن كلمتها سريعًا و :
– قصدي يعني عشان بيعرف يجمعنا سوا

لكزها بقبضتهُ المتحجرة قائلًا :
– طب اتعدلي بقى وخلي بالك من كلامك، أحسن تقعدي تعدي النجوم هنا لوحدك النهاردة

دفعت يدهُ عنها وهي تقول :
– طب أوعى إيدك دي

ثنى كفها وهي يقول :
– يابت هتغابى عليكي

جرحتهُ بأظافرها كي يحرر كفها، فـ سحب يدهُ سريعًا وهو يوبخها :
– إيـه الغباوة دي!

انسحبت مسرعة من أمامهُ وهي تلوح في الهواء لإثارة إستفزازه :
– أسيبك انا بقى

……………………………………………………………

كان “قاسم” نائمًا على جانبهُ لتفادي آلام ظهرهُ عندما ولجت “حور” إليه.. لم ينظر حتى إليها، إنما أطبق جفونهُ مستدعيًا النوم، حتى عندما سألتهُ :

  • قاسم انت نمت؟!.. كنت عايزة آخد رأيك في حاجة

ولكنهُ لم يُجيب، زفرت زفيرًا مختنقًا.. ثم سحبت الغطاء ودثرت نفسها جيدًا، تشتاق الآن لـعناق طويل يُمحي شوقها الجامح إليه.. ولكنها لم تجدهُ، فـ استسلمت بسهولة لسلطان النوم، بينما بقى هو مستيقظًا لوقت طويل.

_ كانت ساعة الظهيرة تقريبًا..
عندما حضرت الممرضة الجديدة التي أرسلها الطبيب للإهتمام بالتمارين الرياضية التي تسبق جلسات العلاج الطبيعي، وتهتم أيضًا بحقنهُ ومواعيد الأدوية الخاصة بهِ..
أعدت “حور” فنجان من مشروب الشاي الأخضر لأجلهِ، ثم فتحت الباب بتلقائية لتتفاجأ بإنحناء الممرضة عليهِ في مشهد أخجلها.. شهقت بصدمة وشملتهم بعيناها الحادتين وهي تصيح :
– إيـه دا؟

ابتعدت عنهُ الممرضة ونظرت حيالها وهي تردد :
– في حاجة يامدام؟

أقتربت منها “حور” بخطوات مندفعة وهي ترد بـ :
– انتي اللي في إيــه؟ بتعملي إيـه هنا؟

فأجابت الممرضة بتلقائية :
– كنت بعدل المخدة اللي ورا ضهرهُ

رمقتها “حور” بنظرات مشتعلة ضيقة وهي تأمرها بـ :
– أنتي اختصاصك بيقف عند الحُقنة وبس

كانت إجابتها فاترة للغاية وهي تقول :
– طب حضرتك متعصبة ليه؟

فصاحت “حور” بأعلى صوت لديها :
– أنا حُــرة أتعصب براحتي

نظرت “حور” لساعة الحائط، ثم قالت :
– خلاص أديتيلهُ العلاج؟.. تقدري تمشي
– بس لسه التمارين و….
– مفيش تمارين النهاردة

تحرجت الممرضة من أسلوبها وكأنها تطردها.. فتراجعت للخلف كي تلتقط حوائجها وتجمعها، سحبت حقيبتها ثم استأذنت :
– هابقى أجي بالليل عشان الحُقنة التانية، عن أذنكم

فغمغمت “حور” :
– دا على جثتي تدخلي البيت دا تاني، مش خلصت من بنات ألمانيا تطلعي مصر كمان

نظرت نحوهُ لتجد ملامح خالية من التعبيرات.. فحدجتهُ بإستنكار وهي تصيح فيه :
– وانت عاجبك اللي بيحصل طبعًا وشايف إنك كدا بتربيني؟!

تصنع عدم الإهتمام وهو يجيبها :
– مش فاهم!

فضربت على كتفهُ عدة مرات وهي تقول :
– خليك كدا مستعبط فيها، إنما انا مش هسكت

ثم تركت الفنجان وغادرت للخارج.. ابتسم بتشفي وهو يهمس بصوت خالجهُ نبرة مرهقة :
– خليكي كدا على نارك لحد ما تقولي حقي برقبتي

انتقلت “حور” للهاتف المنزلي، واستعانت بالمدونة الصغيرة كي تتصل بالطبيب المتخصص والمعالج.. انتظرت بضع ثواني حتى آتاها الرد :
– أيوة يادكتور، من فضلك عيزاك تبعتلي بعد كدا ممرض مش ممرضة.. من غير أسباب، لأ معملتش حاجة بس انا مش عيزاها.. شكرًا ليك، مع السلامة

ثم نظرت للأعلى وهي تردد بتوعد :
– ماشي ياقاسم، ماشي

……………………………………………………………

يوم مضى وتلاه آخر.. مازالت حالتهُ قيد التحسن، رغم شعورهُ المؤلم بإنه لم يعد كما كان، ولكن تقدم صحتهُ عن السابق يجعلهِ مؤمنًا بيوم سيكون لهُ عودة.. استند على سطح المكتب قبل أن يجلس بهدوء، ثم رفع بصرهُ نحو “أنس” وسأل :

  • قول ياأنس، إيه الموضوع المهم الي عايزني فيه؟

جلس “أنس” قبالتهُ، ثم استجمع شجاعتهُ ليقول :
– أنا طلبت الطلب دا قبل كدا منك ياخالي.. لكن انت رفضت وقولتلي ياسمين لسه صغيرة، دلوقتي بعيد عليك طلبي تاني.. أنا عايز اتجوز ياسمين، ومعنديش مانع نعمل خطوبة الأول وتستمر سنة اتنين.. زي ما تحب

هما على قيد بعضهما منذ الطفولة، منذ أن كانت “ياسمين” في مهدها وهو يدللها ويحملها ليداعبها.. منذ أن كان يكتب لها واجباتها المدرسية التي تتغافلها عمدًا كي لا يؤذيها المعلم.. ومنذ أن كانت جدائلها من صنع يديهِ فقط، وعندما شبّت لم تجد سواه أمامها..
هو غير متردد في ذلك الأمر، ولكنهُ لم يرغب في أن يتعجلهُ.. أخفض نظراتهُ يفكر، ثم قال بصدق تبينهُ “أنس” :

  • من يوم ما ياسمين جت الدنيا وانت شيلتها على إيدك وانا عارف إنها ليك، لكن دا مش قراري لوحدي.. لازم ياسمين نفسها توافق على الخطوبة دي

ابتسم “أنس” بثقة وقال :
– وهي دي محتاجة ياخالي، موافقة طبعًا

طرقت “ياسمين” على باب غرفة المكتب حتى سمح لها والدها بالدخول، وعندما رآها ابتسم وقال :
– أهي جت على السيرة

وزعت نظراتها عليهم وهي تسأل بفضول :
– أنتوا كنتوا بتتكلموا عني؟
– تعالي ياياسمين

ثم نظر لـ “أنس” واستطرد :
– أنس كان لسه بيطلب إيدك مني، إيه رأيك؟

ابتهجت ملامحها وكادت تتراقص أمامهم، ولكنها تماسكت وتصنعت الجدية وهي تقول :
– بس انا مش موافقة

انتفض “أنس” من جلستهُ مذهولًا ، بينما انعقد ما بين حاجبي “قاسم” وهي يسألها :
– ده قرارك متأكدة؟
– ليـه؟

فكانت متصلبة وهي تجيب :
– عشان أنس معرضش عليا الجواز قبل ما يكلمك

تنفس “أنس” بأريحية عقب أن علم سبب رفضها التافه.. ثم رمقها بإحتقان ونطق :
– ماشي، أنا دلوقتي أهو بعرض عليكي

عقدت ساعديها بتبرم وقالت :
– لأ، أنا مش أقل من الممثلين اللي في المسلسلات التركي عشان تعرض عليا بالطريقة الناشفة دي

فقال بإحتجاج وقد اشتعل غيظًا منها :
– أمال عيزاني أقف تحت البلكونة واحدفلك ورد واركع على ركبة ونص وأقولك اتجوزيني يابيبي!

أشاحت وجهها بالإتجاه الآخر ورددت :
– دي أقل حاجة
– لأ ياماما مش عندي الكلام دا

نهض “قاسم” عن جلستهُ وتركهم ما بين شد وجذب.. انتقل نحو الباب وغادر الغرفة بالكامل وهو يهمس بـ :
– أنا مش فايق لكم، ان شالله تولعوا في بعض

ألتفت “أنس” ينظر لخالهُ وهو يردد :
– ما تقول حاجة ياخـا……..

ولكنهُ قد غادر.. وليس موجودًا، ليبقى اثنتاهم سويًا بلا مرافق.

…………………………………………………………..

كانا يسيران سويًا بمحاذاة بعضهما أسفل صفحة السماء المظلمة.. وقد تكاثرت الأحاديث التي ناقشوها سويًا، ما بين ضحك ومرح وجدية وملاطفة.. حتى وصل “عصام” لـ :
– أول ما ديكورات المكتب الجديد تخلص هخدك ونروح نشوفهُ

ثم ابتسم وهو يتابع :
– هتكوني أول واحدة تدخلهُ

سعدت لسماعها ذلك وردت بـ :
– إن شاء الله، بكرة يبقى المكتب اتنين وتلاتة

فلم يتردد بشبك أصابعهُ بكفها وهو يهمس :
– وانتي معايا ان شاء الله

خجلت واكتفت بالنظر إليه، بينما تابع هو :
– صحيح إن كل حاجة وحشة جواها الحلو.. مين كان يصدق إن رحلة عمي قاسم العلاجية تكون سبب يقربنا من بعض بالشكل دا

أكدت حديثهُ وهي تتذكر تحربتها الأولى، ثم رددت :
– صح، ربنا بيديك الوحش عشان بعد كدا تقدر وتعرف قيمة الحلو وتحافظ عليه

جذبها لتكون أمامهُ وصرح لها للمرة الأولى :
– أنا فكرت أكلم عمي بخصوصنا، إيه رأيك؟

انتظر الإجابة منها، ولكنها شحبت فجأة وتفير وجهها لأكثر من لون.. اضطربت أنفاسها وهي تنظر للخلف، فـ أصابتهُ بالقلق ليسأل :
– في إيه؟

لم تجيب وبقيت نظراتها بالخلف، فـ اضطر يلتفت ليستكشف ما تسبب في هذا التغيير المفاجئ.. ليصطدم بوجود “قاسم” خلفهُ مباشرة لا يفرق بينهما سوى عدة سنتيمترات.. ركضت “أفنان” لداخل المنزل وتركتهُ بمفردهُ يواجه والدها، بينما بقى “عصام” مشدوهًا عدة لحظات لا يدري ماذا سيقول.. حتى بادر “قاسم” بسؤالهُ :

  • خير ياعصام، سمعت إنك عايز تقولي حاجة!؟

لم يصدر لهُ صوتًا، تنحنح كي يظهر صوتهُ.. ثم قال وهو ينظر للأسفل :
– كنت هسألك مسافر بكرة الساعة كام ياعمي

قطب “قاسم” جبينهُ غير مصدقًا، ثم ربت بقوة على صدر “عصام” وهو يرد بـ :
– مسافر بدري، شكرًا على اهتمامك ياعصام

ثم استدار ليسير نحو المنزل بخطوات متمهلة قليلًا بدون إستخدام عُكازهُ.. في حين تنفس “عصام” بأريحية وكأنهُ كان يبذل مجهودًا عنيفًا، ثم غمغم :
– بقى بتبيعيني ياأفنان؟ مــاشي يانوڨا.. ماشــي
……………………………………………………………

وفي الصباح الباكر، كان كُل شئ جاهز ومُعد مُسبقًا.. استعد “قاسم” للسفر، ارتدى كامل ثيابهُ الأنيقة واهتم بمظهرهِ المهيب، نظر عبر المرآه بـرضا عن حالهُ.. ثم نظر للعكاز الخاص بهِ بسأم، وتركهُ محلهُ مقررًا التحرك بدونهُ.
طوال طريق السفر وعقلهُ لم يتوقف عن العمل والتفكير في أمور شتّى، فتياتهُ اللاتي كاد يتركهن وولدهُ الصغير الذي لم يكبر بعد، و إبن شقيقتهُ الذي أصبح رجلًا يُعتمد عليه.. لم يهدأ ولو قليلًا، حتى إنه كان قليل الحديث.. وعندما شعر بإقتراب الوصول للمكان المطلوب، التفت برأسهُ ليسأل “أنس” :

  • كل حاجة جاهزة زي ما فهمتك ياأنس؟
  • كل حاجة تمام ياخالي، واللي طلبتهُ كله جبته وموجود في العربية اللي ورانا.. اطمن

تفحص “أنس” الطريق، ثم قال :
– دقايق ونكون قدام بيتهم

وبالفعل كانت بضع دقائق.. وصل “قاسم” أمام منزل كبير عتيق، فتح باب السيارة وترجل عنها بتمهل، نظر لهذا البناء الذي لم يتغير بتغيير السنون.. وكأنهُ كان هنا البارحة، تنفس بضيق قليلًا، ولكنهُ أقدم على ذلك وطرق الباب عدة طرقات حتى انفتح..
ظهر “سراج” من خلفهُ، والدهشة مغلفة وجههُ من رؤية “قاسم” أمام أعتاب منزلهم.. لم يصدر “قاسم” أدنى إيماءه، بل قال مستأذنًا :
– ممـكن أدخـل

انتبه “سراج” لسخافة فعلهُ.. وسرعان ما أفسح لهُ الطريق وهو يرحب بهِ :
– اتفضل
– مين ياسـراچ؟

فأجاب :
– دهه قاسم رسـلان يابوي

لحظات وكان “سليم” يقف في مواجهتهُ لأول مرة منذ سنين طويلة.. الملامح لم تتغير كثيرًا ، بل ازدادت وقارًا وهيبة رغم إرهاقها.. لم يندهش كثيرًا عكس ولدهُ، تقدم منهُ وهو يضع إحدى يداه في جيب جلبابهُ الفضفاض الأبيض.. ثم رحب بهِ :

  • يامـرحب، أتفـضلوا

مد “قاسم” يدهُ ليصافحهُ، ثم قال :
– أنا جاي أبدأ معاكم عـهد جـديد ياسلمانية

نظر “سليم” لكفهُ الممدود، ثم صافحهُ بحدية وهو يجيب :
– البلد نورت

error: