رواية ” أنت مكافأتي”
الفصل 14
طمن قلبي يا دكتور .. بنتي ولدت بالسلامة؟!
وقف العم جلال ينتظر بلهفة قول طبيب ابنته الذي تنحنح قائلا : الحمد لله يا حج جلال ، مدام زينة بخير ، والمولودة بخير بس…………
قاطعه العجوز بهلع : مالها حفيدتي يادكتور؟!
ربت معاذ على كتف العجوز تعاطفًا : أهدى يا حج ، هي بخير بس ضعيفة طبعا بسبب ولادتها المبكرة وعدم اكتمال النمو ، هتفضل في الحضانة فترة ، وبأذن الله ربنا يحفظها وتكون أفضل ..
بس ادعيلها ، وربنا مش هيخيب رجائك أبدا ..
………………………
وسط هدوء الغرفة القاطنة بها زينة بالمشفى عقب ولادتها.. جلست جوارها بيسان تتأمل قطرات المحلول الملحي المتدفق من ذلك الأنبوب البلاستيكي المحتوي على جرعة مسكن مدروسة .. نقلت بصرها لوجه صديقتها الشاحب وعلامات الإعياء تكسوه .. غير مصدقة نجاة طفلتها ، وكيف كانت حالتها ومهارة طبيبها معاذ الذي قاتل كي تنجو الطفلة ، واستأصل تلك الكتلة اللحمية الكبيرة دون الإضرار بتلك الرضيعة ..!
أنتبهت من شرودها على همهمة طفيفة تصدر من زينة ..التي شعرت بثقل جفنيها ، وبرودة المكان حولها ، وعجز كامل بتحريك أطرافها ..!
تحدثت بصوتٍ خافت متقطع : بابا.. بنتي .. فين؟
أجابتها بيسان : حمد لله على سلامتك يا حبيبتي
زينة بنفس الضعف، ولا تقوى على فصل جفنيها : فين بنتي؟
أمسكت بيسان يدها برفق : بنتك بخير وزي القمر يا زينة ..
أرتجف قلبها وتدفقت دموعها بفرحة من جانبي عينيها المغمضة وهتفت باكية بشفاه ترتعش تأثرًا :
يعني عايشة! عايزة أشوفها عايزة اسمع صوتها جمبي
بيسان محاولة التماسك : حبيبتي هتشوفيها وتسمعيها براحتك، بس فوقي الأول، هي في الحضانة ، مش هينفع اجيبها دلوقت
زينة : بجد بنتي بخير يا بيسان ؟
بيسان بتأثر : بخير يازينة متخافيش،هي بس ضعيفة وده طبيعي بسبب ولادتها المبكرة.. الحمد لله يا حبيبتي ربنا سخر دكتور معاذ وعمل كل اللي قدر عليه، وربنا وقف معاه والولادة نجحت بامتياز ، يعني نقول نحمد ربنا على النتيجة دي… بنتك هتفضل بس شوية تحت الملاحظة ، وزي ما ربنا كتبلها الحياة ، هيكتبلها العافية والصحة وهتضميها وتشبعي منها .
بصعوبة شديدة أستطاعت زينة فصل جفنيها ، واستقبلت مقلتيها الضوء ببطء :
طب ممكن أطلب منك طلب يا بيسان؟
أجابت : أؤمريني ياقلبي ، طلباتك أوامر
ابتسمت زينة امتنانا لتلك الجارة الصديقة:
هما طلبين منك أنتي ودكتور معاذ
أول طلب ليا ، أن دكتور معاذ هو اللي يآذن الآذان بصوته لبنتي ، عشان يكون أول مرة تسمعه يكون منه!
صمتت لتملأ رئتيها ببعض الهواء ، وبيسان تحاول استيعاب ما طلبت ، فاستأنفت زينة حديثها :
وتاني طلب منك أنتي .. أختاري اسم لبنتي يا بيسان!
بيسان تعجباً : أيه اللي بتقوليه ده يا زينة؟!
دي بنتك أنتي ، أول فرحتك ، واختيار اسمها ده حقك وحق والدها أو والدك اللي مستنيكي برة بفارغ الصبر!
زينة بأعياء شديد :
دي رغبتي ولازم تحققيها أنتي ودكتور معاذ .. مش هقبل رفض منكم، بلغي دكتور معاذ بطلبي وخليه ينفذه .. أرجوكي يا بيسان ..
……………………………
أنتهي للتو من أداء صلاة الظهر بغرفته الخاصة بالمشفى، وطوى سجادة الصلاة ، ثم جلس ً خلف مكتبه واضعًا رأسه على حافة مقعده ، وأغمض عيناه باسترخاء ، في انتظار قهوته التي أرسل بطلبها ..
تسيطر على معاذ حالة من السعادة بعد نجاح عملية ولادة مريضته زينة، وسلامة طفلتها ، حتى وإن ولدت ضعيفة ..فنجاة روحها من براثن موت مؤكد حقاً معجزة طبية .. سبحان من يُحي ويُميت وهو على كل شئ قدير ..
قاطع أفكاره ، طرق على باب غرفته ، فأذن بالدخول متوقعا أن عامل البوفيه جلب قهوته
فوجدها بيسان، فقال :
أتفضلي يا بيسان ، مدام زينة فاقت ؟
بيسان : أيوة يادكتور فاقت ، بس………… ..
صمتت ، فحثها معاذ على الحديث : في أيه يا بيسان ؟! المريصة بخير والط……………….
قاطعته : أطمن يادكتور ، زينة فاقت والطفلة في الحضانة وبخير ، بس المريضة عندها طلب عايزاه منك، وبتترجاك تحققه ليها..!
ضم معاذ حاجبيه: طلب ايه ؟!
تجرعت بعض الهواء برئتيها، ثم هتفت :
زينة عايزاك أنت اللي تآذن للطفله عشان تسمع الآذان أول مرة بصوتك يا دكتور.. !
لم يصدر من معاذ اي رد فعل، فقط صامت ينظر لها بتمعن ويحاول استيعاب ما قالت ، متشككاً فيما سمع! هل حقاً قالت ما سمعه، ام هى تخيلاته؟!!!
بيسان مقتربة من جانب مكتبه :
أنا روحت لبابا زينة يامعاذ ، لقيتها رغبته هو كمان ، وفهمت إن ده كان أتفاقه مع زينة ، لو أراد ربنا لبنتها النجاه ، يكون صوتك اول صوت تسمع بيه الآذان!
وافق ومتكسفهاش .. صدقني دي أقل حاجة تتقدم لطبيب زيك وقف نفسياً مع مريضته وعامل حالتها بشكل انساني ودعمها ..!
………………………………
حملت بيسان الطفلة ثم اقتربت من معاذ ومدت يدها تحثه على حملها بين يديه!
فنقل معاذ بصره بينها وبين الطفلة ، ثم قال بنبرة أقرب للرجاء :
مش عايز يا بيسان ، مش عايز أعيش الإحساس ده!
اقتربت اكثر هاتفة برفق : ده طلبها .. يعني بقا حقك يا معاذ .. زي ما قبلت قضاء ربنا في امرك ..أقبل عطيته ليك .. ده نصيبك .. ماترفضوش!
أرغمته تلقائيا على حمل الرضيعة حين وضعتها بين يديه .. وما أن احتواها بذراعيه وضمها برفق لصدره، حتى اقشعر بدنه ، وارتعش قلبه بين ضلوعه!
ونظر لبيسان وكأنه يستغيث من هذا الشعور ، الذي لا يريد تجربته .. أو الاشتياق له ،
فمازال يحاول التأقلم على حرمانه من أن تنعم أحضانه بملاك گ تلك الصغيرة.. قطعة تخصه هو وتنتمي لروحه وقلبه ..!
أيقنت بيسان لما يدور داخله ، فقالت:
_ردد الآذان يا معاذ ..الطفلة مستنياك!
” عايز تتجوز صفا يا سليم؟!!
سليم : أيوة يا أمي ، مالك مستغربة ليه كده .. أنا من زمان عايز صفا ..بس للأسف سبقني ليها أمجد الله يرحمه ، ساعتها قلت ده نصيب ، لكن دلوقت هي بقيت أرملة ومن حقي أخد فرصتي معاها ..
أم معاذ : أول مرة أعرف إنك كنت عايز صفا بنت خالتك، عمرك ماجبت سيرة لحد!!
سليم : يمكن عشان كده ضاعت مني في الأول يا أمي، عمري ماحكيت عن رغبتي فيها، كنت فاكر الوقت لسه معايا، لحد ما اتفاجأت بخطوبتها..!
أم معاذ : بس أنت يا ابني لسه ما دخلتش دنيا، أيه يجبرك تاخد واحدة بعيالها وأنت ت………… .
قاطعها سليم : أيه الكلام ده يا امي ، وهو يعيبها إنها أرملة ومعاها ولاد ؟ دي في الأخر لحمي ودمي ، وأنا أولى الناس بيها ، خصوصًا أني بحبها من الأول !
أرجوكي يا أمي ماتعترضيش على رغبتي دي ، أنا حاسس إن سعادتي مش هتكمل غير معاها !!
تعجبت أم معاذ من تدابير القدر!! هي من حاولت أن تقرب ولدها الأكبر معاذ من صفا لأنها الأنسب لظروفه فهو عقيم ، وهي لديها ولدان ولن تمثل لها علته مشكلة مستقبلًا.. ولكنه رفض رفضًا قاطعًا .. وأغلق الموضوع نهائيًا معها..!
والآن يُفاجأها ولدها الأصغر سليم برغبته بنفس الفتاة، الغريب أن فكرة تزويج صفا ومعاذ لم يأتي ذكرها أمام سليم على الإطلاق .. وكأنها حكمة رب العالمين أن يُخفى هذا الأمر عنه ..وكان فيه كل الخير ولا تدري!!
سليم وقد انتابه القلق من صمت والدته الشارد:
قلتِ أيه يا أمي .. طمنيني!!
منحته نظرة حانيه وقالت : قلت ربنا يكتبلك الخير يا سليم ، ومادام دي رغبتك يا ابني ، فأنا مش هلاقي أحسن من صفا زوجة ليك ، دي بنت أختي وبعتبرها بنتي اللي مخلفتهاش !
الحقيني ياخالتي خديجة!!!
أستغاثة صدرت عن سجدة، عقب سيل طرقاتٍ على باب منزل جارتها العمة خديجة، گ أول من خطر على عقلها لتستنجد بها كدرعٍ يحميها من بطش خالها القاسي!
هتفت العمة بهلع : أيه يا بنتي حصل أيه، خلعتي قلبي!
سجدة بصوت لاهث متقطع :
خااااا… خالي هيموتني يا عمتي، لو اكتشف غيابي!
أمسكت العمة بكوب ماء كان جوارها مصادفاً :
طب اهدي وخدي نفسك يا ضنايا، وفهميني خالك مصطفي ماله بيكي وجه من أمتى؟!
تجرعت سجدة شربة ماء قليلة، والتقطت أنفاسها
وقالت : جه من الصبح وقعد مع جدتي، وأنا كنت بحضر الغدا ، بس بالصدفة سمعت كلامهم اللي خلاني أطفش واسيب البيت اول ما راح في نومه هو وجدتي!
دبت العمة خديجة صدرها بذهول : طفشتي ؟!
ليه كدة يابنتي! في بنت أصول تعمل عاملتك دي؟!
سجدة بقهر :
مش أحسن ما استنى أما يبعني لواحد رجله والقبر، خالي جايبلي عريس قد أبويا وخلاص قبض مهري، وجاي بس يبلغني لمجرد العلم كأني جارية بيبعها، وأما اعترصت أنا وجدتي ضربني وزعق معاها وحذرها تتدخل بحجة إني…………..
واصلت بصوت يقطر ألم :
إني مطلقة ومايصحش افضل من غير جواز..!!
تيبثت قدمي بهاء ، فور سماع عبارتها..!!!
فقد حضر قدرًا لتوه من خلوته الليلية ، فكان من نصيبه سماع تلك الحقيقة الغير متوقعة!
سجدة؟!.. تلك الصغيرة!! مطلقة؟!!!!
…… ……….…… .
_ذنبي أيه ياعمتي أني أتجوزت واحد أتخلى عني وطلقني عشان حاجة ماليش فيها ذنب .
ما انتِ عارفة حكايتي، وازاي ظلمني هو وأمه باعوني ورموني بعد 6 شهور بس من جوازي!
جففت دموعٍ عالقةً بطرف عينيها، وتمتمت بحزن :
خالي المرة دي مصمم يجوزني عشان سُمعته، لمجرد أني مطلقة وعايشة مع جدتي من غير راجل!
وواصلت:
مش عايزة أتجوز، أنا مرتاحه في عشتي، صعب أعيد تجربتي تاني وحد يجرحني ويعاملني على أني معيوبه ولا ناقصة!..أنا بشتغل وبصرف على نفسي، عشان خالي مايقولش أني باخد رزق عياله ، متكفله بلقمتي، ومراعيه ربنا في سمعتي وتصرفاتي وكله قدامك يا عمتي، قوليلي أعمل أيه عشان أخلص من الظلم ده؟!!! لو خالي أخد باله من غيابي، مش هيرحمني وهيجوزني أنهاردة قبل بكرة لصاحبه العجوز ..
أنفطر قلب العمة حزناً لحالها، فضمتها لصدرها مربته على ظهرها برفق: أستهدي بالله يا بنتي، كل مشكلة ليها حل، أنا هكلم مصطفي وا………………… ..
قاطعتها سجدة بقهر يائس: مش هيسمعلك، كان سمع كلمة جدتي قبلك!
صمتت، لتسطرد حديثها بنبرة قوية حاسمة :
لكن أقسم بالله، لو غصبني أتجوز حد مش عايزاه
لاموت نفسي، ومش هخاف اعملها..!
_ ومين هيسيبك تعملي كدة ؟!!
بوغتا كلاً من سجدة والعمة، باقتحام بهاء لمجلسهما، وتدخله المفاجيء بحديثهما وإلقاء جملته السابقة!!
فلمعت عين العمة بفرحة.. فحضور بهاء وسماعه لهما، حقق داخلها غرضٍ ما!
حِسها المرهف، وخبرة عمرها الطويل ، يخبراها أن اتحاد كلاً منهما، سيكون حتمًا دواء لعلة صاحبه ..
فالثلج لا يذيبه ويصهره سوى فتيل نار ..!
سجدة تلك الفرسة الجامحة بطبعها الناري ، لن يروضها سوى أبن أخيها!
فإن كان هو گ لوح ثلج متجمد، محصور بين سياج ندمه وحزنه وآلامه ، هي بلهيبها ستحطم جميع أسواره الثلجية وتفك آسره ،ليتحرر من قوقعته ويخرج لعالمها..!
أفاقت من شرودها على صوت شجارهما..!!
سجدة بحدة: أنت مين عشان تدخل في أمري؟!
بهاء ببرود : مش مهم أنا مين ، لكن أكيد مش هسمحلك تأذي نفسك!
هتفت غاصبة: أيه اللي مش هسمحلك يا بتاع أنت!
بهاء بضيق : بطلي طولة لسان يامنخوليا انتي
جزت أسنانها غيظاً : انا منخوليا يا ارخم خلق الله
هم بهاء بالرد ، فقاطعته العمة بنبرة حادة:
عيب كده منك ليها، أحترموا وقفتي وسطيكم!
بهاء بنفاذ صبر: ما انتِ شايفة يا عمتي طولة لسانها..!
سجدة : أحترم نفسك يا حشري، وإلا …….
باغتها بهاء باقترابه، وحدق بعمق عينيها بتحدي :
وإلا أيه؟؟؟؟
بادلته سجدة نفس نظرة التحدي وهتفت:
هعمل كده .. ثم فوجئ بضربة قوية على أصابع قدمه من نعل حذائها ، فدخولها المباغت جعلها تغفل عن خلع حذائها كما تتطلب العادة أحتراما لدخول مسكن أحدهم ..!
ألمته ضربتها حقا ، فكظم غيظه وحاول إخفاء ألمه ..و أحمر وجهه غضباً رامقها بحنق :
والله ما حاميكي مني غير إنك بنت، وإلا كنت عملتك عجينة ياللي شبه القطة الجربانة انتي!
بالطبع لن تعدم سجدة ردًا أكثر فظاظة، ولكن قاطعتها العمة سريعاً :
ماتنطقيش كلمة زيادة يا سجدة ، واسمعني أنتِ وهو وبطلو نقار الديوك ده!!
جلست وأشارت لهما آمره إياهم بالجلوس..
تأملتهما برهة، وبعقلها تدور فكرة لن تكون هينة عليهما،فهو العنيد الصلب ميت القلب زاهد الحياة!! وهي الشرسة العنيفة، كارهة جنسه وزاهدة بهم أيضاً..!
تنفست بعمق لشحن همتها لإلقاء مالديها، مستعدة بكل قوة وعزم محاربة رفضهما وعنادهما معًا، حتى ولو أضطرت لاستخدام مكرها وخداعها لتحصل على ما تريد ..
أجلت صوتها قائلة: أظن أنا بكلم ناس كبار عاقلين وهيفهموني، أحنا دلوقت في مشكلة حقيقية، خالك يا سجدة لو أخدك من هنا بعد ساعات معدودة هتكوني متجوزة غصب ،وحياتك هتكون جحيم يا بنتي، وأنا مايرضنيش ده يحصلك بعد ما جيتي عتبة بيتي تستنجدي بالضعيفة الفقيرة لله
ثم صوبت بصرها لأبن أخيها :
وأنت يا بهاء ، أكيد مش هترضي الهلاك لبنت ضعيفة أستنجدت بينا ، والشهامة والنخوة بيقولوا أنك لازم تمد أيد المساعدة والعون ليها
رمق بهاء سجدة بامتعاض : آل بنت ضعيفة ٱل !
بادلته الأخيرة نظرة كارهة ممتعضة أيضاً ، فقال هو :
عموما ياعمتي لو في أيدي حاجة أعملها، مش هتأخر عشان خاطرك أنتِ بس..!
عقدت سجدة ذراعيها، قائلة بتهكم :
لا والله فيك الخير يا أصيل يامحترم..!
هز رأسه يأسا من غرورها..!!
الحمقاء بكارثة حقيقية، وتكابر بغباء شديد!
العمة بهيبة لا تليق سوى بسيدة بعمرها :
أنا هقول كلمتي والحل اللي عندي، وهشوف هتكبروني وتطيعوني ، ولا هتصغروني وتعصوا كلامي ..
دارت عيناها بصفحة وجهيهما المترقب لقولها
ورمت بثبات شديد فتيل قنبلة موقوتة!
الحل الوحيد لإنقاذك يا سجدة .. إنك تتجوزي بهاء!!