رواية ” أنت مكافأتي”

الفصلين ((٢٢..٢٣ ))


يوم جديد وحافل ..تولت الإعلان عن قدومه .. شمس ساطعة،أرسلت خيوطها الذهبية بسخاء، فغطى ضيائها السماء ، ونشرت دفئها بكل مظاهر الحياة على الأرض!

يوم ، ربما ستُحفر أحداثه بذاكرة الجميع!

سيتعانق فيه ، قلب عاشقٍ بمعشوقته ، بعد عناء صبر طويل ، وانتظار أعوام، ليحصد أخيرًا فرحة هذا اللقاء!

وتتشابگ أيادي ناعمة ، تحت مظلة قماشة بيضاء ، مرددين كلماتٍ مقدسة، ليُعلَن بعدها، أقتران أصحابهما ، على سنة الله ورسوله !

كما سيبتعد أحدهم، ويتوارى بكل آلامه وعذابه، ويضيع وجوده بعالم من أحب إلى الأبد!!!


مبروگ عليگ أروى يا بلال!

مازال لا يصدق ما يحدث!!
اليوم خطبته على صغيرته أروى ؟! يخاف أن يكون حلم سيفيق منه.. ربما يموت قهرا ، لو اكتشف حقا أنه داخل تفاصيل حلم قصير ، گ احلامه السابقةِ بها!

ولكن تهنئة صديقه معتصم ، وصوت زغاريد والدته الحنونة وأشقائه ، يؤكدان أنه يحيا واقعًا جميلًا !

آه يا أروى .. أخبرًا سأخبرگ بكل ما حلمت قوله لكي
وأعيش كل لحظة أتية معگ ، وأنعم بقربك ..
أنتِ مكافأتي .. التي أنتظرتها وصبرت عليها، وفوزت بها!


زي القمر يا نور عيني ..

أروى بسعادة :
لو كنت قمر ، فأنا طالعة لمامتي حبيبتي ..

الأم بفرحة حقيقية، وهي تحتصن رأس أروى برفق :

حاسة أني خلاص مش عايزة حاجة من الدنيا تاني
أنتي هتتخطبي لشاب يشرح القلب ، أخلاق ومستقبل مبشر، وسمعة طيبة بين الناس.. وحاسة إنه هيكون زي أبني ، وسندك في الدنيا اللي هطمن عليكي تحت كنفه..  ربنا عالم ازاي حبيت الشاب ده!

أروى بمزاح : يا سلام يا شوشو .. كل الكلام الحلو ده على سي بلال ! طب وأنا يا مامتي!

ضحكت والدتها وهمت بالرد ، فقاطعتها رغد :
عليه العوض .. أبو دبدوب هياكل عقل الحاجة من دلوقتي!!
شحب وجه أروى ، فوالدتها لا تعلم عن تواصل بلال السابق ، ولا تدري بهديته ، بل أخبرتها أن دبدوبها الصخم هو هدية رغد ذاتها..!
لا تريد إن علمت ، أن تهتز صورة بلال لديها.. !

ضيقت الأم عيناها بتساؤل : أبو دبدوب مين يا بنتي؟!

سعلت أروى ، فتنبهت رغد لما قالت ، فأسرعت ندى التي كانت تتابع الموقف بصمت :
ياطنت هي قصدها إن أي خطيب أول هدية منه بتكون دايما دبدوب .. فقالت تطلع عليه لقب من دلوقت .. حضرتك عارفة رغد!
ثم جزت أسنانها غيظًا : تموت في الاستظراف!!

تنفست أروى الصعداء، لمرور الموقف ..وضحكت الأم عائشة :
والله أنتي فقرية يا رغد .. عقبال ما ربنا يرزقگ بابو دبدوب أنتي كمان ..
أروى بغيظ : دي هيرزقها بتنين عشان لسانها ده!

رغد ببرود : هعديها عشان خاطر الحاجة بس!

ندى موجهة حديثها لأروى : على فكرة ، بلال وأهله وصلوا برة ، هتطلعى أمتى؟
دق قلبها بعنف ، وتلوت معدتها توترا مرددة:
_ أنا لسة قدامي شوية واجهز!

والدتها : انتي جاهزة يا بنتي وبقيتي زي البدر ، فاضل أيه تاني؟!
اروى : معلش يا ماما .. سيبيني بس كام دقيقة وهخرج معاكوا..
تفهمت الام خجلها وتوترها ، فقالت برفق :
خلاص ياحبيبتي ، هخرج ارحب بيهم ، وارجع اخدك..


مغري أوي فستانك !

فزعت ندى بوجود أحدهم يقف جوارها دون أن تنتبه.. وقد فرغت للتو من محادثة والدها، حيث
ابتعدت لمكان اقل ضجيجًا ، حتى تستطيع سماعه ..

_ أفندم ؟!

ألقت كلمتها تعجبًا .. فأجابها الشخص بوقاحة :

_ بقولك مغرى فستانك وعجبني ..

أعاد معتصم جملته بنظرة عابسة، فاحمر وجهها خجلا وغضبا بنفس الوقت ، فاحتدت قائلة:

_انت قليل الادب ومش محترم!

معتصم ببرود : كل ده عشان استخدمت حقي!

ندى بذهول : اي حق با بني آدم أنت!!

شملها بنظرها جريئة متفحصة وقال ساخرا :

انتي مش لابسة فستان ضيق ، موضح كل مفاتنك ومسيبة شعرك ، وملونة وشك بميت لون، عشان تعجبي اللي يشوفك ويتغزل فيكي!
يعني جاية تستعرضي نفسك .. وأنا عجبني العرض!

رفعت يدها ، ووجهتها كقذيفة إلى جانب وجه
فكان اسرع بالتقاط كفها ، ضاغطا عليه بقسوة
راشقًا نظرته بعمق عينيها :

_ يا خسارة أول مرة شوفتك لفتي نظري جدا وبعترف إنك فضلتي شاغلة تفكيري بيكي ،كنتي جميلة بحجابك واحتشامك .. بس دلوقتي نزلتي أوي من نظري بعد ما شوفتك بالتبرج ده، ومش حاسس ناحيتك غير بالقرف!

دفع يدها بعنف وغادرها ، فارتطمت يدها بجدارٍ صلب خلفها .. فأطلقت آهه مختنقة ، واغرورقت مقلتيها ، متألمة من نصل كلماته الحادة التي انغرزت دون رحمة بقلب كرامتها ، وهزت ثقتها بنفسها..
ورغم انجذابها هي الأخرى له، بلقائهما الوحيد!

إلا أنها بتلك اللحظة بغضته كل البُغض.. ولا تعتقد أنها ستبغض احدًا مثله بحياتها القادمة!!


ا_يه يا ابني .. مالك شكلك مضايق كده ليه؟

معتصم بهدوء لا يعكس ما بداخله:  مافيش يا بلال !
وسيبك مني وقولي، امتى هتلبس الدبل؟

بلال : مستنين المأذون عشان يكتب كتاب بيسان وقاسم الأول، وبعدها هتبدا مراسم الخطوبة ..
هز معتصم رأسه تفهما .. فساله بلال :
مش هتقولي وشك مقلوب ليه ؟!

معتصم : ماتركزش معايا انا وركز مع خطيبتك
ثم أشار بعيناه لنقطة خلفه : عصفورتك جت أهي!

استدار بلال بجسده حيث اشار ، فوجد خاطفة قلبه تخطو نحوه بطلة فاتنة .. طغت بحضورها وهيبة جمالها كل شيء .. ولم يعد يعي حوله ، سواها!


_أروى .. ممكن تبصيلي.. عايز أشوف عنيكي!

همس لها بلال بكلماته، وهو يجاورها بجلستهم العائلية ، وسط أحتفال محدود بخطبتهما..!

يتلهف لرؤية إنعكاس صورته داخل عينيها .. ولكنها تضن عليه بتلك الهدية .. تتجنب النظر إليه بشدة .. والأكثر من ذلك ، رفضت ان تحدثه هاتفيا ، كما لم ترد على رسائله بحرف.. !
لا يعرف ، هل هى غاضبة منه؟!
راضيه عن أرتباطهما ، ام غير راغبة !!
أيعقل ان تكون حالتها مجرد خجل ؟!

أما أروى ، برغم شخصيتها المرحة المتكلمة .. لم تتبادل معه كلمة واحدة منذ أن أتى لخطبتها، كما تتجنب النظر إليه بخجل شديد .. لا تستوعب أنها تحيا تلك الحالة .. يسيطر عليها ارتباك جم يمنعها من التواصل معه ، حتى بكتابة رسائل، وكأنها مخطوفة
وتهاب خاطفها..!
رغم انها تحمل له مشاعر قوية .. سعيدة مرتاحة لارتباطهما .. ولكن تريد الاعتياد أنه أصبح بحياتها شخصًا أخر بدور يختلف عن الجميع!!

شخص لمذاق اهتمامه وحبه نكهة لم تجربها من قبل.. ووقع كلماته ونبرة صوته التي يهمس بها الآن تأثير يربكها.  يخجلها..  ويسعدها بذات الوقت!
هي حقا تحيا حالة معقدة!

هتف بصوتٍ قَلِق:
_ طب طمنيني يا أروى، ده كسوف ، ولا رفض وعدم راحة ليا؟!
ظلت على صمتها، فأكمل بتوجس سيطر عليه:

أروى .. لو حاسة إنك مش مرتاحة أو اتسرعتي أو ……………… ..

_مرتاحة بس مخضوضة!!

هكذا عاجلته بإجابتها الخافتة!!

فتهلل وجهه، وهتف بصوت متلهف يقطر سعادة :

يااااااااه أخيرا سمعتيني صوتك!
طب كملي جميلك بقي وبصيلي ياحبيبتي ..

احمر وجهها بشدة .. لأول مرة يُسمعها تلك الكلمة ويخاطبها  ” حبيبتي ” ..يالا جمالها بأذُنيها..!

_يعني مش هتحني عليا بنظرة؟! أروى!!!

طب على فكرة أنا اللي جايب الجاتوه ده كله!!

ابتسمت لدعابته فقال ممازحا :
أهي هتبتدي تمطر اهو .. يامسهل!!

أتسعت ابتسامتها، وتحاول السيطرة حتى لا تفلت ضحكتها أمامه فيزيد خجلها أكثر

فقال بصوت حاني وخفيض :

أروى .. انا مش عايز أكتر من إنك تطمني ليا وتقربي مني .. واوعدك إني هكون اقرب شخص ليكي، وكل حاجة اتمنتيها هحققها مادام اقدر عليها، وإنك هتكوني ملكة في قلبي .. أنا دلوقتي ماليش غيرك..  أنتي كل أهلي ودنيتي وحياتي وهاعمل أي حاحة في الدنيا عشان تكوني مبسوطة لأني……………

صمت ثم قال بصوت متهدج أذابها أكثر :

_لأني بحبك فوق ماتتصوري!


تحاول التماسك ورسم السعادة علي وجهها ، لأجل والدتها التي لا تساعها الفرحة لزواجها .. وعقد قرانها.

ستبدأ تجربة جديدة .. مع شخص أخر .. ومشاعر أخرى .. لا تشبه بأي شكل مشاعرها بمعاذ!!
ويا وجع قلبها عليه .. ومنه!
ولكن مابيدها حيلة بعد الآن ، يجب أن تنساه ، هو صار ماضي ، وقاسم حاضرها
ولكن كيف النسيان، وهي تكاد تشم عطره حولها، يملأ الهواء وتستنشقه برئتيها .. قطعًا تتوهم عبقه .. كما تتخيله كثير!


“مبارك حبيبتي .. ووداعا..!
هي خطوتي الأخيرة بمحرابگ .. وسأغادر عالمگ إلى الأبد!! ”

واقفا معاذ محدثًا ذاته ، مراقبا للأنوار الساطعة حول منزل بيسان ..أتى ليشهد مراسم خسارته لها !
ولكن عزائه.. أنه فاز بمبادئه التي تربى عليها، وأعطاها حياة جديدة، حتى وإن كان ثمنها وفاة قلبه ودفن مشاعره للأبد!

…………..

_معاذ!!

تسمرت قدميه بالأرض .. لم يكن بحسبانه أن تراه .. كان ينتوي إلقاء نظرته الأخيرة ثم الرحيل بصمت من محيط منزلها .. ولكن لم يدري أن عبقه قد وشى به ..وأخبرها عن وجوده!

اقتربت حتى صارت خلفه رافعة بأصابعها المرتجفة طرف ردائها الطويل!
قائلة بنبرة لا تخلو من سخرية مريرة:

_ جيت ليه يا معاذ؟! جيت تقولي مبروگ؟!!

أجاب دون أن يلتفت إليها:
_ جاي أقولگ عيشي يا بيسان ..عيشي وانسي ماضي خلاص أنتهي بنا وراح لحاله!

لم تستطع التماسگ ، فانسابت العبرات من جانبي عيناها بغزارة ، وقالت بنبرة تنبيء عن ضياع صاحبها :

_أنا بقى عايزة أقولگ ..ذنبي في رقبتك يا معاذ .. ومش هسامحك إنك ضيعتني وخلتني اضيع نفسي واظلمها واظلم شخص تاني مالوش ذنب، وأوافق يكون في حياتي، أنت ضيعتني باستسلامك وضعفك!! مديت ايدي ليك كام مرة وخذلتني..  اديتك كام فرصة ترجع ومارجعتش!!
جاي تقولي مبروك؟؟؟ لا والله فيك الخير!

أستدار بكلتيه، ليواجهها مدافعا عن نفسه:

أنتِ لحد دلوقتي مش فهماني وبتظلميني.. أنا ولا مستسلم ولا ضعيف يا بيسان.. أنا بس مش اناني ، وإلا كنت فضلت مصلحتي على مصلحتگ، وأتغاضيت عن حقگ واستغليت تمسكك بيا .. بس أنا ما عملتش كده!

فاقتربت أكثر وعيناها ترسل مع العبرات، سيل من اللوم ونظرات الغضب:

_ هقولهالك تاني .. ياريتك كنت أناني يا معاذ!!
واتمسكت بيا مهما كان السبب، وعملت حساب لمشاعري وحبي ليك!

اللي انت شوفته ظلم ليا..!  كان منتهي العدل بالنسبالي ، لأني كنت راضية ومبسوطة!

ابتسم بمرارة :
_كل واحد بيشوف الظلم والعدل من منظوره هو!

ثم تفوه بعد أن التهمت عيناه تفاصيل وجهها كأنه ينقشه بذاكرته للمرة الأخيرة:

أنا جيت اودعگ لأني مسافر .. وبتمنالگ كل السعادة مع قاسم .. وإن ربنا يرزقكم بأولاد صالحين .. وأنا متأكد إن لحظة ما هتضمي أولهم، هيضيع كل إحساس بالظلم جواكي ، ووقتها بس هتفهمي أنا ليه بعدت أو استسلمت زي مابتقولي!!


كل شيء نحبه له عبقه داخلنا، نميزه دون أن نعي!
ونفتقده حين نضطر للابتعاد عن ارضٍ حملت بصمة أقدامنا منذ ولادتنا، حبونا ومشينا وركضنا عليها..!

سأفتقد كل شيء.. حبيبتي التي ماعادت لي!!
وأمي ورائحة طعامها المميز .. وقهوتها المسائية التي تهديني بها قبل أن أطلبها .. سأفتقد رائحة إسدال صلاتها الكاكاوي وهي تصلي خلفي حين اتواجد معها بالبيت وقت حلول صلاة !
سأشتاق رائحة غرفتي وفراشي الذي يحتضن جسدي كل ليلة! .. حتى المشفى، مكان عملي سأشتاقه!

بذلت مجهود يفوق طاقة نفسي لاودع أمي بابتسامة ومرح، وأخر ما قلت لها :

_ ” هرجع يا أمي بأفضل حال.. بس دعواتك ليه ”

_ ” قلبي داعيلك قبل لساني يا ابني ”

راح يسترجع معاذ وداعه لوالدته، أثناء جلوسه بانتظار طائرته، فصدح النداء لكل المسافرين ليتوجهوا لبوابة عبورهم الأخيرة للصعود داخل طائرة رحلتهم المسماه برقم ثلاثي ..
هي رحلته ، سيصعد مخلفًا كل حزنه ووجعه بتلك الأرض .. سيبدأ معاذ عهد جديد بأرضٍ أخرى وعالم مختلف وإناس آخرون!!

سيغمض عينيه عن صورة حبيبته الأخيرة، سيمحوها من جدران عقله ، صدقًا سيحاول النسيان .. ربما ستنزف روحه ألمًا لفراقها، ولكن سيكون ألمه الأخير .. لن يقف ليتعذب بجراحه، سيمضي بحياته هو الأخر ، ستكون وجهته الوحيدة .. عمله الذي يعشقه ، إن حُرم من أن ينجب ولدًا من صلبه .. سيكون كل طفلٍ يولد على يديه هو أبن له، سيكون ملكه وحده ولو للحظات ، هو أول من سيستقبل صراخه ويحتوي بين ذراعيه جسده الرقيق قبل أبويه ..!!
ربما ليست صدفة أن يمتهن تلك المهنة ، وربما هي تعويضا إلهيًا من خالقه بأن يحمل كل طفل بإحساس أب،ٍ وليس گ طبيب !!

تكرر نداء الركاب لضرورة الصعود وأخذ أماكنهم،
سيأخذ مكانه مثلهم.. وقد عاهد نفسه أن يتجاوز إحساس الرضا داخله من مجرد حروف منطوقة .. إلى يقين أكيد يملأ قلبه!
هو راضي بقدره.. ومتشبع بالحمد لله الذي لن يظلمه أو يغفل عنه!

ربما يجد في الرضا الكامل .. والإيمان بقضاء الله سعادته التي يرجوها… فمن يدري ؟!!!


عبر تطبيق الواتس آب!

_ أروى بتصل بيكي ليه مش بتردي؟؟؟
_ مش هرد!
_ ليه؟ مش أنا خطيبك دلوقت!  ليه ماترديش عليا

على فكرة أي اتنين مخطوبين بيتكلموا في التليفون عادي .. لحد أمتى هتفضلي عاملة حاجز؟!

_ ممكن أطلب منك طلب؟

بلال بحنان ملأ قلبه وهو يكتب لها:
أطلبي عيوني يا أروى!

_ ممكن ماتزعلش إني برفض أكلمك؟ والله غصب عني،   أنا مش واخدة عليك .. ومش عارفة أعمل أيه في خجلي الزيادة ده ..  بس برغم كده عايزاك تعرف إني والله فرحانة بيك وبخطوبتنا وعارفة إنك إنسان كويس وهتحافظ عليا .. بس محتاجة وقت بسيط وهتلاقيني طبيعية معاك!!

لمعت عيناه بحنان وفرحة طاغية وهو يلتهم كل حرفٍ تخطه أناملها..  ألا يعرف أن مجرد ذكرها لفرحتها بارتباطهما قد اثلج صدره وارتوى قلبه العاشق لها..  كيف يستاء من خجلها وهو أكثر ما يعشقه بها..! حسنًا يا أميرتي!!  لقد صبرت أعوامٍ وأعوام!!  فهل بعد الفوز بكي سيضيرني خجلك!!

كتب ردا عليها
_ عمري ما هزعل منك ابدا ولا هفهمك غلط .. أنا أكتر واحد في الدنيا يفهم عقلك ويعرف طباعك.. وأنا كفيل الغي أي حاجز بينا..! ربنا مايحرمنيش منك ابدًا ..!!

صمتت تطالع كلماته وداخلها يطير فرحًا به لتفهمه لها وعدم غضبه منها.. وداخلها تحمد الله أن حظيت برجل مثل بلال!!

قاطع شرودها رسالته:
_ طب المفروض تاني يوم خطوبتنا نخرج سوا.. عندك أستعداد نخرج بكرة ولا نخليها اليوم اللي بعده؟
_ خليها بعد بكرة هكون جاهزة!

_طب ينفع تكتبيلي كلمة حلوة قبل ما اقفل وانام؟

قرأ قلبها قبل عيناها رجائه ولهفته لإظهار مشاعرها ولن تبخل عليه..  هو يستحق الكثير!
فتحركت أناملها بتأثير القلب الذى تصدى لعقلها:

_ ربنا مايحرمني منك ويقدرني أسعدك واعوضك كل اللي اتحرمت منه في حياتك!
ثم تبعت رسالتها المكتوبة بذاك الإيموشن المتمثل بقلب ينبض .. ليكون خير رسول عن قلبها..!


_مالك يا معتصم .. بقالك فترة مش عاجبني يا بني!
_ مالي ياست الكل ما أنا فلة أهو والدنيا تمام وشغلنا ماشي حلو جدا، وانتو بخير الحمد لله، أيه تاني ممكن يضايقني!
_ ماتكدبش عليا أنا أمك ..من يوم خطوبة بلال وأنت متغير، كأن في حاجة مزعلاك..  تكونش عايز تخطب أنت كمان يا واد!
_ اخطب أيه يا بركة، أنا مش فاضي للجو ده خالص، انا كل تركيزي في شغلي وازاي نكبره أنا وبلال، الجواز ده مش في قاوموسي دلوقت.. أهم حاجة انتي واخواتي البنات تكونوا بخير..
وياريت بقي تلحقيني بالغدا أحسن ابنك هيقع من الجوع!!

تعلم أنه يكذب، ولم يفصح عن مكنون صدره، ولكن لن تحاصره أكثر، ستدعوا فقط له براحة البال والقلب، وتوفيقه بكل خطوة يخطوها!
……………………………..

“لم يخطيء .. نعم كانت قسوة كلماته مبررة!! ”

هكذا خاطب معتصم نفسه .. منذ أن شاهد تبرجها بخطبة صديقه واشتعلت نارًا بقلبه! كيف تكون بهذا الشكل، عندما رآها أول مرة كانت محجبة رقيقة مشاكسة  .. وجميلة..  يقسم أنها بحشمتها كانت أجمل بكثير من تبرجها.. وهل تتساوى قطعة الحلوى المغلفة بغطاء أنيق، بأخرى مكشوفة ومباحة لكل عين طامعة..  حمقاء!

لما يهتم؟.. لما تؤثر فيه صورة عيناها الدامعة من عقله؟ .. لما يشعر بالذنب؟..  هل كان قاسي بغير حق! نعم فمن يمثل لها كي يجلدها بسوط كلماته، لما لم يغض الطرف حينها عنها وكأنه لا يراها؟ ..لما أصر على إهانتها واحتقارها؟..  ربما كانت تكفي النصيحة ثم البعد دون إيلام.. صدقًا لا يفهم معنى تصرفه..  ويشعر أنه مدين لها باعتذار.. ولكن لن يسدد دينه أبدًا..! ربما فيما بعد يستطيع .. أما الأن ، سيتناساها .. هي لا تمثل له شيء ….. أي شيء!!!!


للصمت لغة خاصة لا يفك طلاسمها سوى عاشقان!!

وبذاك الصمت مرت دقائق بينهما جالسين بمكان ما
بعد أن حصل على موافقة والدة أروى للتنزه هو وخطيبته بعد ثلاث أيام من الخطبة!

عيناه تتأمل خاتمه بإصبعها ومازال لا يصدق أن طفلته التي منحته يومًا ربتة ناعمة على كتفه..  أصبحت له ونصيبه وامنيته الغاليةالتي تحققت!!

يريد أن يقص عليها الكثير عن نفسه وحياته منذ طفولته إلى الأن.. ولا يعرف بما يبدأ حديثه!!

_ بحبك!

أذاباها خجلًا اعترافه المباشر وهي أمامه ولا تحتمي منه بشيء يحجب عنه احمرار وجهها التي هي أكيدة أنه ألهب وجنتيها..!

ابتسم لرؤية وجهها الذي يكاد يتفجر من حمرته جعلته يتمتم برقة:

أنا عارف إنك مكسوفة مني ولسه مش واخدة عليا بس انا حبيت تكون دي أول كلمة اقولهالك يا اروى في ئول مقابلة بينا .. لأنها أكتر حاجة أنا حاسسها دلوقت!

ظلت على صمتها فقال:  طب أنتي مش هتتكلمي وتسأليني أي سؤال وتعرفي عني حاجات معينة؟؟

لم تتخلى عن صمتها، فلم يجد سوى الحيلة كي يجعلها تنظر إليه وتتحرر من هذا الخجل اللعين!

_ أروى في سر لازم اقولك عليه..  عشان ابتدي معاكي بالصراحة من أولها

اثمر خداعه أخيرا والتفتت إليه وطالعته بجوهرتيها المصوبين تجاهه منتظرة ما سيخبرها به!!

فالتقطت عيناه بلهفة عسل عينيها مبهورا بهما وكم يود لو يغوص بهما حتى يغرق!!
لكنه أنتشل نفسه سريعا من هالة سحر عيناها ليكمل حيلته متصنعًا الجدية بصوته ليري كيف ستكون رد فعلها..!

_ أنا يا أروى كنت متجوز قبل كده بس محصلش نصيب نكمل و……………

لم يستطع التواصل بعد أن “تنمرت” نظرة عيناها وشعر كأنها ستقذف نار منهما إليه!!
يا إلهي كيف تحولت قطتي الرقيقة إلى نمرة شرسة!  تطالعه بحده جعلت لديه رغبة شديدة بالضحك فمظهرها الأن يحرضه على ذلك بشدة!!

وقفت تتناول حقيبتها بغضب وعبوس لتهم بالمغادرة
فسد عليها الطريق قائلا:

_طب اهدي بس وهفهمك! ”

فحدثته لأول مرة هاتفة بغضب ودون وعي لما تقول: أوعي من وشي يا بلال!!

تآوه داخله وقلبه يرقص فرحًا لسماعه أسمه للمرة الأولى حتى ولو نطقته غضبًا..!!
وهمت ثانيًا بالمغادرة فحال بينها وبين ذلك هاتفًا:
_ والله العظيم بهزر معاكي!!
هتفت بحدة دون أن تستوعب بعد ما نطق به:
_ بقولك ابعد من وشي يا بلال وسيبني أمشي!!!

فتبسم وهو يقترب من اذنيها هاتفا:

ولو إن أسمي منك دوخني بس الناس بتتفرج علينا واتفضحنا يا قلب بلال!!!

نظرت حولها فوجدت الجميع ملتفت إليهما، فعادت بنظرها إليه متمتمة:
_ أنت السبب.. خليني امشي لأنك بجد ضايقتني!!

بلال ليسترضيها:  والله بهزر كنت عايزك تفكي من الخحل بتاعك ده .. خلاص حقك عليا بقى وارجعي مكانك خلينا نكمل كلامنا

فهتفت متسرعة:
أيه هتقولي المرة دي عندك كام عيل؟؟؟؟؟؟

صمت للحظات يستوعب ما تفوهت به ثم انفجر بنوبة ضحك على ما قالت!!

فرمقته بحنق وهي تنعته بضميرها.. مختل!!


بعد مرور شهرين !

وقفت سجدة متطلعة لانعكاس صورتها بمرآة غرفتة نومها، تكاد الفرحة تُذهب عقلها كلما تذكرت تلك الكلمات الثلاث الذي نطقها الطبيب:
مبروك .. أنتي حامل!!
صدمة مختلطة بذهول تملكتها مع اتساع مقلتيها المصوبة لوجه الطبيب!!!
هل حقا تفوه بما سمعته أذنيها؟!!!
ام هي جملة من نسج خيالها ورغبتها الدفينة كأنثى تترقب تحقيق هذا الحلم ؟! هل هو حصاد صدق دعوتها مع الله ، بأن يُمن عليها بالذرية من ذلك الرجل الذي امتلك قلبها وعقلها معا..!!
ظلت تدور بفلك خيالها ، والطبيب يخط أمامها الأدوية والمقويات ، ويطلق النصائح التي يجب عليها اتباعها بتلك الأيام الاولى للجنين بأحشائها!!

ترى .. كيف سيستقبل بهاء هذا الخبر السعيد
مؤكد سيطير فرحًا ..  ربما كان يدعو الله مثلها ، حتى رغم كذبها عليه أنها عاقر ، ولكن هي أكيدة أنه تمنى داخله أن يرزقهما الله بقطعة تأخذ من روحيهما معا..!

ضحكت بعين دامعة، ثم مدت ذراعيها كأنها تنوي الطيران وأغمضت عيناها وراحت تدور حول نفسها برفق محلقًا بخيالها تتحدث بصوت ذاتها الراضية:

لا أصدق ما أحياه .. سبحانك يا الله ، كنت أعتقد أن ليس لي نصيب من السعادة ، ولكن بهاء منحني كل شيء ، طيبته ورقته  ، وحبه الشديد  ،الذي أصبحت أدركه وأبادله مثله وأكثر .. بهاء هو حبيبي الأوحد .. ولن أبخل عليه بكل حب وحنان واهتمام، سأمنحه عائلة صغيرة .. ليعيش ما فقده بوفاة والدته التي لا يحدثني عنها ، ولكن لن أتعجل ، يومًا ما سيكون حبيبي لي كتابًا مفتوح، ولا يُخفي عني شيء!!

شعرت فجأة بيدين تخيط خصرها وتضمها إليه
أشتمت رائحته فابتسمت وفتحت عينيها لتطالع وجهه، فهتف بها:
_ حبيبة قلبي ناسية الدنيا و سرحانة في أيه ؟

ترقرقت عين سجدة وهي تطالعه، الفرحة تُبكيها دون سيطرة !

فعصف القلق بقلبه من رؤية دموعها التي لم يفهمهاوكفكف بأصابعه وجهها هاتفًا بخوف :

مالك ياحبيبتي بتبكي ليه ، فيكي حاجة ؟ حصل حاجة معرفهاش ؟؟؟ اتكلمي ياسجدة قلقتيني!!

فهزت سجدة رأسها بابتسامة صافية، وقالت :
حصل يا بهاء .. في حاجة كبيرة حصلت!!

تعجب من ابتسامتها الباكية ، واحتار بتفسيرها ، هل ما حدث خير أم شر؟! انقبض قلبه بشدة، فدائما ما يتوقع أشياء سيئة ستحدث له!!!
جعلته تلك الهواجس الدائرة داخله أن يحتد عليها صارخا :  أنطقي ياسجدة وبلاش الغاز، ماتتعبيش أعصابي!!!

تعجبت رد فعله المبالغ فيه، لما لا يدللها كعادته ويستفسر بهدوء ، لا شيء يدعو لنوبة غضبه تلك!

ابتعدت بغضب مصطنع، رامقه إياه بعتاب ثم اتجهت لفراشها مُضجعة عليه ، مولية ظهرها له..
فمسح على وجهه بكفيه ، وكأنه يزيل أثار غضبه الغير مبرر لها، ثم اقترب ممدا طول جسده بالفراش جانبها قائلا بنبرة خافته وأكثر هدوءً وحنان: أنا أسف يا حبيبتي .. أتعصبت أما شوفتك بتبكي وخوفت يكون حصل حاجة وحشة

ثم احاطها بذراعيه ودفن وجهه بجانب عنقها مرددا:
ممكن اعرف بقى حبيبتي عايزة تقولي أيه.. ؟

أدارت جسدها بين ذراعيه لتطالع وجهه وتري رد فعله عند سماع الخبر ، وتمتمت :
انا تعبت وروحت للدكتور انهاردة وقالي إني…………..

قاطعها بهلع  :
دكتور ؟!! حصلك ايه؟!!! وازاي ماتعرفنيش إنك تعبتي ،  وازاي أصلا تروحي لوحدك و……….

أحتضنته بقوة عاقدة ذراعيها حول عنقه، وهمست بأذنيه : انا حامل ياحبيبي!!

تصلبت ذراعيه حولها فور اختراق جملتها أذنيه وتوقفت انفاسه، وسكن جسده كأنه فقد الحياه!
بحدث لم يتوقع أبدًا حدوثه!  ويخشى القادم معه!


_أيه اللي أنت عملته ده يا بلال!

بلال متعجبا : في أيه يا ابني مالك!

معتصم. لتعابير وجه متجهمة:
_أخدت ورقي وروحت قدمت على شقتين من ورايا..  طب ليه، ظروفنا لسة ما تتحملش الخطوة دي..  كان كفاية أوي شقة واحدة، لأن أنت اللي خاطب ، عشان نقدر ندفع القسط بتاعها! ومايتأثرش شغلنا بنفس الوقت!

_ أنت تعرف عني أني ممكن اعمل خطوة مش دارسها كويس؟
_ بصراحة لأ!

_ تمام .. ببساطة أنا طبيعي بعد ما ارتبطت بأروى لازم أشوف شقة، واما سمعت عن شقق الشباب وإن كله يروح يقدم مع الأوراق المطلوبة، عملت كدة..  وحكاية أني قدمت على شقتين، ده لأن عمري ما هعمل حاجة وأنت مش مشاركني فيها، دلوقتي أو بعدين هتحتاج شقة، وأكيد أنت عارف ازاي الأسعار بتعلى بسرعة وممكن شهر واحد يفرق كتير في تمن شقة، وإن كان على المبلغ المطلوب مقدمة، أنا عامل حسابي بقرشين من جمعيات عملتها ورى بعض، ده غير جمعية تانية طلبتها من والدتك عشان يكمل المبلغ ونكون جاهزين..  والقسط هيبقي مش كبير وهنقدر عليه!

_ بردو كان كفاية شقة واحدة..  انا لسه بدري عشان افكر في جواز واحتاج شقة، ليه نضغط نفسنا!
بلال مبتسما:  يابني الجواز ده زي القضاء والقدر مالوش معاد..  فجأة بتلاقي نفسك قاعد مع حماك أو حماتك وبتشرب قهوة وبتتكلموا في العفش والقايمة والمهر!

ضحك معتصم وقال بعد أن هدأ قليلا:
ده أنت شايل ومعبي بقى ياعم! .. هي أروى طلعت بطيخة قرعة ولا أيه!
بلال ممسكا بمقدمة قميصه:
_ البطيخة دي هاكسرها على دماغك!  .. شكلك مش هتلحق تتهنى بشقة ولا تدخل دنيا!
حل معتصم قبضة بلال مرددا من بين ضحكاته:

أهدى يا سبع مش كده .. بهزر! .. طب نتكلم بجد والله، أيه أنطباعك بعد ما خطبت البنت اللي حبيتها؟!

بلال : حبيتها أكتر! .. لقيتها أجمل بكتير عن قرب، ماقصدش شكل قد ما اقصد روح .. طيبة نقية حنينة جدا، بس مجنونة لكن حتى جنانها جميل وحبيته.. ده غير إحساسي بجو العيلة الدافي لما بزورها..  ترحيب مامتها بيا ومعزتها الواضحة.. واحترام اختها بيسان ومدحها دايما في تفكيري..
خفة دم أروى مع والدتها واختها، جانب عمري ماكنت هشوفه فيها غير عن قرب!
معتصم مربتا على كتفه بود:
ربنا يسعدكم يا بلال ، أنت تستاهل كل خير وتستحق ناس زي دي!


أحست سجدة بسكونه بين يديها ، فحررت عنقه من انعقاد ذراعيها، ثم امسكت جانبي وجهه بين راحتيها قائلة بحنان: أنا عارفة ياحبيبي إنك متفاجئ زيي ، وإنك ماكنتش متوقع ده يحصل، بس ربنا كريم يا بهاء وجبر خاطرنا ومَن علينا بنعمة الذرية ،
هنشيل ثمرة حبنا بايدينا بعد شهور معدودة و…………… ..

بهاء مقاطعًا بعد استيعابه وبدا على وجهه الذهول: ازاي؟!!! أنتي قلتي إنك مش بتخلفي!! قلتي إن ده سبب طلاقك!!  حامل ازاي؟!!!!!

صمتت تطالعه بخوف .. هل سيفهم مبررات كذبها عليه ؟! كيف تشرح وتدافع عن نفسها ؟!!
فألهمها الله بهذا القول المهيب :

إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

فنزلت عليه كلمات ربه الجليلة بمشاعر شتى
هل ما حدث دليل غفران، وقبول توبتة، ونهاية لطريق ندمه الصادق ، وخيط نور لقلبه المظلم سنوات بسواد خطاياه؟؟؟
ام هو بداية عقابه وشقاء روحه، وتحقيقا لدعوة أم كانت تحتضر ، وأطلقت دعوتها بقهر فاستجاب لها خالقها ، وحان وقت القصاص؟!!

تدفقت موجة دموع غزيرة صامته عصفت بمقلتيه كشلال يجري على وجهه دون توقف، فتمزق نياط قلبها برؤية تلك الدموع المتدفقه من عيناه ، واحتضنته بقوة وهي تهدهده كطفلٍ صغير هاتفة:

_ اهدي يا حبيبي، ده مافيش حاجة تعصى على اللي خلقنا، عارفة انك متفاجئ ومش مصدق، بس…………

سكتت وهي تتذكر  يوم أن أخبرته بكذبة عُقمها المزعوم!! فملئت صدرها بالهواء فقد خان وقت النصارحة الكاملة، نظرت له بحب وهي تحتضن وجهه براحتيها مرة أخري :

كانت كدبة يا بهاء !
كدبت عليك أما قلت إني عقيمة ، أنا كان عندي مشاكل مش صعب تتعالج، بس خوفت ربنا مايرزقنيش بعد الجواز وتسبني وتجرحني، كنت محتاجة احس إن ممكن حد يقبلني بعلتي، ويرجعلي ثقتي بنفسي، ولما قبلتني بظروفي، وبعدها ربنا فتح قلوبنا لبعض، فرحت بيك و كنت عايزة اصارحگ إن حالتي مش مستحيلة زي ما أوهمتك، بس خوفت واقنعت نفسي إن مادام رضينا سوا بقضاؤه ، اكيد مش هيخذلنا.. وساعتها هتكون دي مكافأتنا الكبرى على صبرنا ..
جففت دموعه وقبلت جبينه بعمق واستأنفت:

واهو ربنا جازانا خير الجزاء ، وحصدنا ثمار الرضا!
افرح وصدق قدرة ربنا اللي اتحققت فينا.. !!

صمتت بعد أن سردت كل ما بقلبها له، منتظرة رد فعله بلهفة وترقب لوجهه الذي لا يعكس سوى نظرة أصابتها بالحيرة، هل هو عتاب؟! صدمه!! أم حزن شديد ؟! أم جميع ماسبق ؟!
بحثت عن فرحة تطمئنها أنه استوعب أسبابها وتغاضى عن كذبها، وسيشاركها فرحتها  ..
ولكنها بوغتت برد فعل لم تتخيله ، بعد أن عكست نظرة عيناه قسوة أرهبتها، حتى أنها غادرت فراشها على الفور وابتعدت للخلف تحسبًا لموجة هياج له كما سبق،  فتبعها وقد وصلت لطاولة زينتها واستندت عليها.. فقبضت يديه كتفيها بعنف گ كلابتين من حديد وتمتم بنبرة لم يحدثها بها من قبل  :

_ انتي خدعتيني .. كدبتي عليا…  لو أعرف ماكنتش قربت منك .. أنتي عملتيلي فخ ، وأنا مش هقع فيه..!

تجرعت ما بريقها بخوف وهلع وهي تحاول الدفاع عن نفسها وتمتمت بضعف :
أنا… م… .ماكنتش أع…………

قاطعها جذبه العنيف لها حتى صارت أنفاسه تلفح وجهها گ نيران تكاد تُصهرها، هاتفًا بفحيح أرعبها:

الجنين ده لازم يموت .. فاهمة ولا لأ !! لازم تنزليه!!!

اضيقت عيناها غير مصدقة ما قاله ، هل يطلب منها قتل جنينها الذي ترجته من ربها ورزقها به بعد دعاء واستغفار داومت كثير عليه ، هل يريد قتله حقا! .. أليست حبيبته كما أخبرها، أم كان يدعي حبها كذبًا؟!

تكالبت كل مخاوفه وهواجسه برأسه وسيطرت على عقله ، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يهز جسدها بعنفٍ مفرط مطلقا سيل كلماته الحادة التي كانت بالنسبة لها گ سيف مرره على رقبتها ببطء لتنزف روحها وتحتضر بين يديه!!

_هتنزليه… مش هيعيش لحظة جواكي…  أنا مش عايزه .. فاهمة يعني أيه؟ مش عايزه..  أنا محدش يجبرني على حاجة ، أنتي سامعة، محدش يجبرني علي حاجة!!

ظل يردد ويعيد كلماته بهستريا،  ويهز جسدها بعنف شديد، غير واعي لصراخها وألمها وهي تمسك أسفل بطنها بهلع متمته بصراخ :

سبني يا بهاء… حرام عليك أبني هيموت، سبني أبني هيروح مني ، ده مالوش ذنب!!!!

ظلت تصرخ وتصرخ …  وهو لا يسمع..!
تستغيث منه وتتٱوه بألم وحسرة، عاجزة عن حماية جنينها من بطش أبيه ، الذي بدا أمامها بشكلٍ قاطع أنه فاقدًا لوعيه بعيناه المتسعة ووجهه الذي أضحى أمامها بتقاسيمه غدرٍ يلوح دون شفقة!!  سيقتل جنينها وسيقتلها قبله!!

فقد تحول دون أن يدري لوحش قد حُل من عقاله،  مطلقًا من جوفه نيران كل معاناته وآلامه ومخاوفه وعذاباته بوجهها..!!!!!

_هنزله..!!

صرخت بكلمتها الوحيدة ، فتصلبت يده وأوقف على الفور تعديه العنيف عليها بغته ، وظل ينظر لها وهي تتهاوي بوهن أمامه أرضًا مرددة بصوت مبحوح :

_خلاص…  مش عايزاه…….. ولا عايزاك..!!!!

فلم يشعر بنفسه إلا وهو يلتقط أنينة عطر زجاجية قريبة وقذفها بكل غضب،  فاصطدمت بالجدار خلفها
فامتزجت صرخته الهادرة بصرختها المرتعبة، تاركًا أياها مغادرًا المكان بأكمله!!

ولم يعلم أنه ترك روحها تنزف قبل جسدها الذي لفظ جنينها .. وكأنه أبى هو الأخر، أن يأتي بعالم لم يُرحب فيه بنطفته الحلال!!

تدفقت الدماء أسفلها، وأيقنت أنه احتضارها هي .. وليس جنينها فقط!


ومضات تضيء ظلمات عقله الباطن ، بلعنات إمراءة أنجبته، وأخرى أحبته، تُصب على روحه گ سائل من نار ، تحرقه حرقًا..!!

” أنت بتمد إيدك على أمك با بهاء”

“أصعب حاجة يا بهاء ، لما يتحقق القصاص في حتة منگ ! قطعة من روحگ ! ”

“حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا بهاء  ”

”  قلبه بيتقطع على ابنه المريض بالتوحد ”

” قلبي وربي غضبانين عليك ليوم الدين ”

” أنا حامل ياحبيبي ”

“بكرة تتجوز وتخلف..وتتذل علي أيد ولادك يا بهاء”

” سبني يا بهاء… حرام عليك أبني هيموت ، سبني أبني هيروح مني ، ده مالوش ذنب ! ”

” عمرك ماهتشوف خير في حياتك يا ابن بطني ”

” خلاص مش عايزاه…  ولا عايزاك ”

يترنح گ سكير شارد في طريقه ، لا يدري أين مرساه!

فلم تكن ابدا مجرد كلمات تتردد داخل جدارن ذاكرته.. بل تشبه خناجر مسمومة تتراشق تباعا بحنايا صدره دون رحمة..!
روحه تأن .. وقلبه ينزف .. كما نزفت رأسه التي تفجرت دمائها بغزارة ، وهو يعاقب نفسه ويؤلمها مع كل كلمة تتردد داخله..   ظل يصدم رأسه بالجدار الصلب أمامه ويصرخ ويتألم ، حتى هوى جسده أرضا .. وغامت الرؤية ، والأنفاس تباطئت وضعُفت ، وأخر ما أدركته عيناه قبل سقوطه بالدوار..  قرص الشمس وهي تُغشي بصره ، ملقية أول خيوطها على تفاصيل وجهه الملطخة بالدماء..!

فهل ستسطع على حياة بهاء شمسٍ أُخرى؟!
أم هو الغروب والعتمة فقط ما سيرافقانه؟

 

error: