رواية ” أنت مكافأتي”

الفصل 12

العصفورة بتاعتك بعتت صاحبتها تسأل عنك امبارح!

أنتبه بلال لجملة معتصم  :
وعرفت منين إن أروى اللي بعتتها ؟

معتصم وهو يقوم بترتيب البضائع الجديدة التي جلبها بلال للتو : لقيت واحدة شكلها بنت ناس اوي ، دخلت عاملة نفسها بتتفرج وهتشتري حاجة ، وبعدين سألت عن أسمي .. أعتقد كانت عايزة تعرف أنت اللي موجود ولا لأ !!

بلال : يمكن فعلا مجرد زبونة دخلت تشتري!

معتصم بنفي وثقة : زبونة أيه يا ابني .. ده الاسورة  اللي كانت لابساها ، تشتري نص بضاعتنا ..
ثم اكمل ساخرا:  واضح إن الغزالة دي بعتوها تستكشف الوضع وتعمل فيها المحقق كونان!

بلال مبتسما : عموما توقعت حاجة زي دي!

معتصم : بس أنا توقعت إن أروي نفسها اللي هتيجي تستفسر عنك وتحاول تشوفك!

هز بلال رأسه بنفي قاطع : لا طبعا مش أروى اللي تعمل كدة !
رفع معتصم حاجبيه تعجبا: ليه يعني ؟!
المفروض إنك أثرت فضولها، وممكن تفكر تشوفك بنفسها..!

بلال بهدوء :  لا مش ممكن .. أروى عندها كبرياء، مستحيل أبدا هتيجي تسأل بنفسها، ومتأكد إن فكرة زيارة البنت بتاعة امبارح مش اقتراحها من الأساس!

عقد معتصم ذراعيه امام صدره، بعد أن أراح طول جسده على جدار خلفه ، وقال متهكما :
ما شاء الله ، أنت هتحلل شخصيتها كمان ، جبت منين الثقة دي إنه مش أقتراحها؟!

نفض بلال أتربة عالقة بكفيه أثناء ترتيبهم بضاعته،
ثم جلس أرضا، فتبعه صديقه منتظرا الجواب :

_لما بتحب حد وتتعلق بيه من طفولتك ، ويكبر إحساسك بيه، وتتلهف تعرف كل تفصيله تخصه ، مع الوقت هتقدر تتوقع تصرفاته وردود افعاله!

واصل بلال حديثة بعد برهة قصيرة، بنبرة بدت مستمتعة باستدعاء ذكريات يحب النبش بخباياها :

كل يوم الصبح كنت بشوفها وهي رايحة مدرستها مع أصحابها ، كنت بشوفها بتمشي أزاي،  وتبص حواليها بأي طريقة، أزاي بتضحك .. وأمتي بتضايق ، بتحب تاكل أيه ، كتير كنت بسمع أحاديثها هي ورغد لأني كنت ببقي ماشي قريب منهم !”
وقتها ماكنتش فاهم أوي وأنا طفل ، ليه براقبها بالشكل ده ، ومبسوط ليه وانا بشوفها،أعتبرتها زي قطعة حلوى بكافيء بيها طفل يتيم جوايا ، لحد مافهمت إحساسي ده مع الوقت..!!

التفت لصديقه مستانفا حديثه:
تفتكر بعد كل ده ، مش هقدر أتوقع تصرفاتها او أفهم طريقة تفكيرها أيه؟!!!

ابتسم معتصم : فعلا محدش هيفهمها زيك يا بلال!
ثم واصل:  بس في سؤال رفيع.. ازاي كنت بتستناها كل يوم بمعاد مدرستها..  وبتلحق تروح مدرستك في نفس الوقت؟!
بلال ساخرا:  لأ سؤال رفيع فعلا!
منحه معتصم عمزة عين مشاكسة مع ميلة رأسه وابتسامة ماكرة منتظرا إجابته..  فقال بلال:

_من حسن حظي أنها كانت بتخرج بدري جدا.. وبتفوت على صديقتها..  كنت بشوفها وامشي وراها وقت بسيط جدا..  وبعدها بركب مواصلة توصلني مدرستي بسرعة، ولأني كنت دايما بشتغل بأجازة الصيف، وماكنتش من النوع اللي بيصرف، كان دايما معايا فلوس عشان اركب بيها مواصلات يوميًا..  ومايتأثرش التزامي بموعيد المدرسة!
معتصم بمزاح:  لأ معلم من يومك ياروميو..!

بلال وهو ينتصب ثانيًا على ساقيه:
طب كفاية رغي بقى وقوم نرص باقي البضاعة..  لأني هموت واوصل لسريري وأنام!
معتصم وهو يقف خلفه:  ومين سمعك .. أنا مش حاسس برجلي من التعب..  استعنا على الشقا بالله!


كعادته كل صباح، وقت الشروق.. يقضي بهاء وقت قصير قبل ذهابه للأرض بتلك البقعة الخضراء بقرب منزل عمته بمسافة ليست بعيدة محاطة باشجار فارعه الطول تظلل بقعته الخاصة التي يفضل الجلوس .. يرتشف قدح الشاي بكسرة خبز صغيرة  لحين إفطاره مع العاملين بالارض معه، فبرغم أنه مالك الأرض التي يعمل بها ، ولكنه يعمل مثلهم ويأكل معهم ، ولا يجعل بينه وبينهم أي مسافة.. مما جعله محبوب بينهم ، وشتان بين حبهم الصادق له ، وبين نفاق رفاقه السابقين .. فلم يسأل أحدهم عنه بعد وفاة والدته ، حتى وليد الذي كان يظنه صاحبه الوفي .. أهمل السؤال عنه ، ولم يجد بهاء جواره سوى معاذ!!
وما ان تذكر الأخير ، حتى مر بمخيلته احداث موقفه الأخير مع أبنة خاله أروى ، وتدخل معاذ حينها والثأر منه لها.. !
يا ليتنا نستطيع محو كل أثر لما يؤلمنا ويُخزِينا أمام أنفسنا من جدران الذاكرة !  ولكن تبقى الذكرى لتُشقينا آبد الدهر!

انتهي من جلسته القصيرة وهم بالمغادرة لعمله، فوصل لسمعه صوت طيور هائجة وكأن هناك من يطاردها .. يبدو أنه صوت طيور الجدة فجر .. حيث انها تسكن  بمنزل قريب للعمة خديجة..  فخطى ليقترب وتتضح الرؤية لديه .فإذا به يشاهد تلك الفتاه سجدة وهي تطارد أحد الدجاجات الحمراء ..
التي تقوم بتربيتها بعشة جانبية تحتل مساحة معقولة من امام منزلهم  ..
يبدو أن الجارة تنوي صنع وليمة دسمة من تلك الدجاجة المختارة   ..!!

يتصادف بين الحين والأخر أن يرى تلك السجدة حين يمر من هنا ، فترمقه بنظرات حادة،لا يعرف لها سبباً
وكم يتعجب لتركيبة تلك الفتاه التي مازالت عالقة باذيال الطفولة بوجهها الصغير!   فلولا معالم انوثتها الظاهرة لظنها دون شك ، طفلة!
تحيره!..  صغيرة ، جميلة ، شرسة ، وحزينة! لم يشاهدها إلا بوجهٍ عابس!

راقبها بتسلية وهي تجاهد للقبض على الدجاجة المسكينة مطلقة عبارات الغضب عليها، وكأنها ستفهمها! .. ابتسم لا إراديا على عراكها مع الدجاجة!

بعد برهه وهو يراقب فشلها المضحك بإمساك دجاجتها ..عاتب نفسه قائلا :
_خليك كده سايب شغلك عشان تتفرج علي عيلة مجنونة!
واستدار مغادرا، فاستوقفه صوت سقوط شيئًا ما ، فاستدار ليجد سجدة وهي تئن وجعًا من سقطتها أرضًا اثناء لحاقها بالدجاجة!

فلم يستطيع السيطرة علي نفسه وانفجر ضاحكًا على هيئتها المذرية ووجهها المتسخ بفضلات الدجاج ..
ومحاولتها القيام وهندمة نفسها!

رمقته بغيظ بعد أن تبينت وجوده ورؤيته لما حدث..
فقالت بفظاظة : بتضحك على ايه ياسئيل أنت!

بهاء وهو يسعل من شدة ضحكه :
في يوم من الأيام هقطعلك لسانك الطويل ده!

فقالت بصراخ : تقطع لسان مين يا بتاع أنت ، ده أنا اكسرلك أيدك لو بس فكرت!

بهاء وهو يقاوم رغبته بالضحك عليها أكثر، فمازالت بهيئة مزرية ووجهٍ متسخ ، وللحقيقة مقرف جدًا ..!

_طب امشي يا ماما وكملي لعب مع الفرخة واما تخلصي ابقي استحمي عشان ريحتك كلها ببي!!

للمرة التي لا يعرف عددها هذا الصباح ، يحاول المغادرة لعمله ، ولكن تلك العنيفة اعترضت طريقه قائلة : أستنى عندك ياجدع أنت .. هي مين دي اللي ريحتها ببي يا روح ماما الحاجة!

أحتدت عيناه بغضب واقترب منها دون وعي، فقد نجحت سليطة اللسان بإخراج فظاظته التي لا تنقصه بأي حال :

احترمي نفسك وماتطوليش لسانك أكتر من كده ، أنا ماغلطش فيكي ، أنا ضحكت على منظرك لأنه ضحكني غصب عني .. وأمي ماتجيبيش سيرتها بدال ما اخليكي تندمي!!!

بفورة غضبه تلك لم يعي لقربه الشديد منها و الذي جعلها تكتم أنفاسها بعد أن تفاجأت منه بهذا القرب وهو يحاصرها بينه وبين جذع شجرة ضخمة خلفها، ودون إردة راحت عيناه تلتهم صفحة وجهها الذي يختبئ بطفولته ملامح أنثى فاتنة .. بشرتها الحنطية اللامعة بصفاء، وعيناها الواسعة التي تنبت علي جفنيها أهداب طويلة تظلل عيناها البنيه بدرجة فاتحة تألق لونها كجوهرتين مع ضوء الشمس الساطع  و…………… !

هاجمته بغتة تلك اللحظة ذكرى موقفه المشابهه مع أروى والذي مازال يجني توابعه الأليمة حتى الآن ..

فانتفض مبتعدًا عنها وهو يحاول استيعادة السيطرة علي نفسه من جديد.  رامقا آياها بغضب ، فمن هي لتشعره بهذا الضعف، وتعبث بجدران ذاكرته وتُحي ما يريد طمسه للأبد ..!

……………………
_بتشتمي مين على الصبح كده!
_ البني آدم الرخم قريب خالتي خديجة!
_ بهاء..!
_ قصدك وباء ياجدتي..
_عيب كده يا سجدة الجدع محترم وفي حاله، ده مافيش مرة يشوفني شايلة حاجة، إلا ويساعدني بكل أدب ويوصلني لحد البيت..
سجدة بتهكم:
_لا فيه الخير والله
الجده بهدوء:  طب عرفيني عملك أيه؟
_ من شوية كنت بجيب فرخة عشان ادبحها واطبخ عليها، وقعت غصب عني وأنا بحاول امسكها، قام اللافندي قعد يضحك ويتريق على منظري، وإن ريحتي بقيت وحشة من فضلات الطيور!

لم تستطيع الجدة السيطرة على قهقهة عالية وهي تتصور حفيدتها بذاك الوضع، وهتفت من قلب ضحكها : طب ماهو معذور الجدع، أكيد كان شكلك مسخرة قدامه! .. ده أنتي بتتخانقي مع الطيور المساكين أما بتجري وراهم!!

سجدة بحنق:
_ صارحيني ياجدتي!  .. الجدع ده قريبك؟؟؟
ماهو دفاعك عنه ده مش طبيعي!

الجده بهدوء:
يابنتي ده مسكين، مالوش حد في الدنيا غير عمته خديجة، أمه ماتت من سنة تقريبا، وشكله حزن عليها أوي واعتزل كل الناس بعدها وجه هنا ومن وقتها مابيكلمش حد!
ثم اقتربت من حفيدتها وملست على رأسها:
ماتحكميش على الناس من الظاهر يابنتي.. يمكن يكون غير ما انتي فاكراه..  أنا عن نفسي بشوف الحزن والهم في عينه وبيقطع قلبي..  لسه شاب، بس تحسي مش عايش زي اللي في عمره!
ربنا يصلح حاله وحالك ياسجدة… !
…………………

وخذ بضميرها وضيق تملك عمق صدرها.. أدركت لما أغضبته وأخرجته عن طوره بعد أن كان يضحك ضحكة تشاهدها للمرة الأولى على محياه!
تعترف لنفسها الآن أنها أخطأت وأصبحت تشفق عليه، حزنه على والدته، يشبه حزنها هي الأخرى، على أم لم يُقدر لها الأرتواء من حنانها قطرة واحدة..  ومع هذا تشتاقها حد الوجع. فماباله هو بشوقه وحزنه لمن فارقته وقد صار شابًا، ذاق من عطفها وحنانها الكثير!!

ربما لن تعترف سجدة لأحد أنها حمقاء ومتسرعة وسليطة اللسان، وأخطأت بحق أحدهم!
ولكن بعمق ذاتها الخفية هي تدري أنها كذلك، ولكن لن تبالي، ستظل هكذا لن تلين لأحد، الجميع لا يستحق وجهها الطيب..!


( لا حول ولا قوة إلا بالله )

بيسان وهي ترمق والدتها بقلق بعد عبارتها :

أيه يا ماما ، بتتنهدي كدة ليه وشكلك زعلان !

الحاجة عائشة : هقول أيه يا بنتي ، أحكام ربنا لازم نرضى بيها ..!
اقتربت بيسان ، محيطة كتفيها بحنان :

فهميني بس يا ماما حصل أيه عشان تقولي كده !

بدأت الحاجة عائشة  تقص علي ابنتها ما بحوزتها :

الصبح وانا نازلة اجيب طلبات للبيت ، قابلت عمك جلال جارنا علي السلم ، لقيته وشه دبلان وكأن هموم العالم كلها في قلبه!
سألته مالك يا حج  .. وكأنه ماصدق حد يقوله مالك ، بصلي وعينه دمعت وسكت !
المهم عرفت بعد كدة سبب حزنه ..
بنته زينة انتي عارفة ظروفها ، وكام مرة عملت حقن مجهري وفشل ، اكتر من 6 مرات..  لحد ما الحمد لله نجح وحملت ووصلت للشهر السادس !

بيسان وقد بدأ التأثر يحفر خطوطه بملامحها :
طب الحمد لله يا ماما ، اهو ربنا جبر خاطرها اخيراً ، فين المشكلة ؟!
الحاجة عائشة : بعد ما ابتدى الجنين يكبر في بطنها ، ظهر عندها أعراض غريبة ، وبالكشف اتضح إن في ورم لوفي كبير ظهر في منطقة الرحم، وضاغط على الجنين ومسبب لها نزيف ، موقع الورم حساس جدا، ومستحيل تدخل جراحي دلوقتي إلا بالولادة القيصرية ، اللي ممكن تكون مبكرة..  والدكتور المتابع ليها ، قال ان في احتمالية حدوث اجهاض بنسبة عالية وفقد الجنين ..
وان احتمالية حدوث حمل تاني أصلا في حالتها ، هتكون معجزة تانية!

بيسان بحزن حقيقي :
يا حبيبتي يا زينة ، مسكين ياعمو جلال ..يارب يحفظلك بنتك وابنها وتشيله على ايدك

باغتتها فكرة ما ، فقالت : ماما .. ممكن تجيبي الاشعة والتحاليل بتوع زينة ؟؟؟؟
الحاجة عائشة : هقوله لعمك جلال يابنتي ، بس ليه ؟!
بيسان بغموض :
هاتيهم بس يا ماما .. وربنا يكتب الخير !!

……………………………… .

أخد من وقتك دقايق يادكتور ؟

رفع معاذ عينه تاركا ما يطالع اثناء جلوسه بغرفته الخاصة بالمشفى..  ثم عدل عويناته من فوق أنفه قائلا : اتفضلي يا بيسان ..

تقدمت على استحياء ، فمنذ حديثهم الأخير وإخباره بموافقتها على طلب قاسم للزواج منها، وهما يتجنبا الحديث ، إلا بإطار مهني بحت!

اقتربت واضعة على سطح مكتبه ، التحاليل الخاصة بجارتها الصديقة زينة  :
كنت عايزاك تشوف الحالة دي وتقولي رأيك ..

التقط معاذ الأوراق الخاصة بتلك الحالة ، وراح يتفحصها ويمعن قراءتها باهتمام ، وما أن فرغ من مطالعتها ، حتى قال :
للأسف ، في احتمال كبير جدا لحدوث إجهاض ، الورم اللوفي كبير فعلا وضاغط على الجنين ، والتدخل الجراحي لإستئصاله أثناء الحمل هو المستحيل بعينه!

طبع الحزن بصمته على ملامح بيسان وأطرقت رأسها بصمت .. فقد كانت تضع امالاً على الله اولاً ، ثم مهارة معاذ كطبيب لمثل تلك الحالات الحرجة!

الْتَاعَ قلب معاذ لمرآى الحزن بمقلتيها، فهتف برفق :

أنتِ تعرفي الحالة دي يابيسان ؟

فقالت: دي جارتي وصاحبتي ، زعلانة عليها أوي ، دي بتحاول في الحقن من كام سنة ، وماصدقت تحمل .. هتموت من الخوف والحزن انها تفقد جنينها

معاذ بمؤاذرة : مهما قلنا گ دكاترة عن صعوبة الحالة .. قدرة ربنا ومعجزاته بتبهرنا كل يوم
ياما حالات كانت طبيا مستحيلة .. بس ربنا كانت كلمته العليا ، والحالة بتحمل وتولد بخير…  خلي عندك يقين بالله ..

بيسان بنبرة أمل متلهفة  : ونعم بالله ..يعني ممكن تتابع الحالة دي يامعاذ  !!

معاذ : انا معنديش مشكلة أبدا اتابعها لحد ماتولد
بس هي معاها دكتور فعلا ، والأفضل تكمل مع اللي تابعها من البداية ..
بيسان برجاء : بس أنا عايزاك أنت اللي تباشرها وتولدها ..!

كيف له أن يخذلها، وعيناها تخاطبه بهذا الرجاء.. ؟!

أجلي صوته حتى يخفي أي تأثر برجائها وقال بمهنية طبيب : تقدري تجيبيها العيادة عندي ، واللي هقدر عليه هعمله!

error: