رواية ” أنت مكافأتي”
الفصل السادس
الفصل السادس!
كانت تقف تعد إفطاراً لأبنها بهاء ، الماكث بالبيت منذ أكثر من ثلاث أيام ،حيث فوجئت برؤيته وتلك الكدمات الزرقاء تملأ وجهه.. وذراعه الأيمن المعلق حول عنقه برباط أبيض بعد أن تم تجبيره لمعالجة كسر عظامه ، فبدا لها أنه كان شجار عنيف وكأنه انتقام من أحدهم لفعلةٍ ما …أنفطر قلبها لرؤياه بتلك الحالة المذرية.
حاولت معرفة سبب ما حدث .. فأخبرها بجفاء واقتضاب ، أنه مجرد عراك مع شاب تعدى عليه،
ثم اكمل بتشفي واضح، انه حرر له محضرا بالقسم، وتركه محبوساً بين المجرمين عقابا على ما اقترفه !
ولم يعطيها فرصة معرفة اي تفاصيل أخرى، فسكتت كي لا تنال من فظاظته اكثر!
وتجرعت بحلقها مرارة خيبتها وألمها وحزنها على هذا الولد الذي أنجبته ،و ظنته سندها بعد الله في تلك الحياة ، وادخرته لشيبتها!
أفاقت من شرودها ، على طرق الباب .. تُرى من القادم بهذا الصباح الباكر؟
فتوجهت لتتبين الطارق ، فلم يكن سوى معاذ طليق بيسان ابنة اخيها الراحل، الذي مازال يحتل بنفسها نفس المعزة والاحترام رغما انفصاله عنها!
الحاجة شمس : يا أهلا يامعاذ ،اتفضل يابني خطوة عزيزة ..
معاذ : أنا أسف لحضرتك .. عارف الوقت بدري جدا .. بس……… .
قالت مقاطعة : عيب كده يا ابني .. ده بيتك ومطرحك وتيجي في اي وقت ، أنا حتى كنت بعمل فطار ، وخلاص هعمل حسابك معانا ..
معاذ: لا يا ست الكل ماتتعبيش نفسك أنا فطرت الحمد لله،بس هو بهاء صاحي ؟
هتفت قلق لا تعرف مصدره:
صاحي يابني ، بس خير يا معاذ ، بهاء عمل حاجه؟
طالعها بإشفاق ، كيف يخبرها بفعلته المخزية تلك
وتحرشه بابنة خاله ؟!..مثله مثل كلب غريب ، متناسيا انها شرفه وعِرضه هو!
تنحنح بعد شروده القصير:
لا أبدا ، بس هطمن عليه وهقوله كلمتين مهمين، انتي روحي ظبطي الفطار وسبينا شويه!
مضجع على فراشه بإعياء يطالع وجه بالمرآة أمامه وقد صار وجهه الوسيم مشوه من كثرة كدماته الزرقاء، وأنتفاخ أسفل عينه اليسرى، حتى انه لا يري بها جيداً،مجبرا بضم جفنيه ليتجنب أي ضوء يزعجه
لعن بسره ذلك الثور الهائج الذي هاجمه ، و لا يعرف من أين ظهر فجأة، وراح يكيل له اللكمات بقبضة كأنها من حديد ، كان غاضب ومرعب بتعديه الذي لم يفهم بهاء سببه، ولم يستطيع رد أو صد أي ضربة منه ،كان فقط يستقبل اللكمات القويه الغاضبة دون أي قدرة او ملاحقة على الدفاع عن نفسه ..
ولولا تدخل بعض المارة وانقاذه من براثن هذا الثور
ربما كان قُضى عليه..
من هو ؟! وهل وجوده هناك صدفة؟! وهل سبب تعديه ما حدث منه بحق ابنه خاله أروى؟!!
فأن كان يعرفها، فستكون قصة أخرى سيتبينها لاحقًا
ولكن بكل الأحوال لن ينكر هذا الشعور الذي يتملكه بالخجل الآن! كيف فقد السيطرة على نفسه بهذا الشكل، لم يعهد نفسه ضعيف بهذا الشأن!!
وأكثر خلافه مع وليد صديقه وما يثير تعجبه، أنه دائما ما يرفض مصاحبة الفتايات، او خوض تجارب مشينة معهم بحجة أنه يكتسب خبرة، ويقضي أوقات ممتعة ولطيفة!
كيف إذا يتجرأ على أروى وهو الذي أنتوى بالفعل التقرب منها وتغير صورته القبيحة بعيناها!
يقسم أنه لم يخطط ابداً لما حدث، فقط ذهب للحديث معها، ولكن ما أن وقفت قريبة منه حتي راح يتأملها برغبة سيطرت عليه ،ولم يشعر بنفسه إلا وهو يحاول تقبيلها عنوة..
هل إن قال انه كان شبه مغيب سيصدقونه؟!!!
قطعًا لن يصدقه أحد.. هو بنظر الجميع بهاء الفاسد!
……………….. ..
اندفع معاذ داخل غرفته كالإعصار، مغلقا الباب خلفه غير عابئ بفزع هذا الحقير من هذا الاقتحام!
فانتفض جسد بهاء بطريقة دخوله، ووجه الذي لا يبشر بخير! وأيقن معرفته الأكيدة بما حدث بينه وبين أروى، هو يعلم معزتها لديه، وأن الأخرى تضعه بمكانة الأخ الأكبر لها ، مؤكد انها قصت له كل شيء!!
تقدم معاذ نحوه، ووقف بهدوء يعاكس حمم غضبه التي تفور بداخله ، يطالعه بتمعن وكفيه مختفية بجيب بنطاله! ثم هتف بهدوء حتما يسبق عاصفة:
أيه أخبارك ياسبع؟. كلمني كده عن احساسك بنفسك دلوقتي بعد قذارتك مع بنت خالك!
رجولتك زادت بعد ما فردت عضلاتك على بنت ضعيفه؟
وكأن للكلمات خناجر تنغرز بكرامته!
ماذا يقول وكيف يشرح موقفه.. ؟! حقا لا يدري!
لكنه تجرع ما بحلقه بصعوبة، وشحب وجهه أكثر وازداد قبحًا على قبح ..وقال بتلعثم:
_ أنا ماكنتش اق……….
بتر جملته وهو يطلق آهه ألم شديد.. حيث فوجئ بمعاذ يُفلت يده المكسوره من رباطها ويضغط عليها بقسوة ، مكمما بكفه الأخر فمه حتى لا تصل استغاثته لتلك الأم المسكينة خارج الغرفة المغلقة عليهما.. فاصتبغ وجه بهاء بزرقةٍ من شدة الألم ، وهو عاجز عن الصراخ ، فتحررت دموع مقلتيه التي ازاد بياضها حُمرة! وهتف به معاذ وهو يتأمله شامتا :
_أجمد يابطل .. دي قرصة ودن بسيطة!
انت مش مسكت بنت خالك كده واستقويت عليها بعضلاتك بنفس الطريقة؟!
بس فاتك حاجة صغيرة أوي .. إن القوي في الأقوى منه .. والخسيس الندل ، في اللي يربيه ويعلمه الأدب!
ثم ضغط يده المكسورة أكثر مرددا :
وأنا اللي هربيك ياكلب لو اتجرأت وفكرت تاني تتعرض لأروى بأذى أو حتى تمشي من طريق هي بتعدي عليه!! .. ولو فاكر إن مالهاش حد تبقى غبي ..اللي قدامك ده ممكن يدفنك مكانك لو اتعرضتلها بسوء مرة تانيه..واقسم بالله لولا الست المسكينه اللي بره دي .. ماكنت هسيبك إلا وانت جثة في إيدي..
ثم تابع معاذ بفحيح مخيف وهو يطالع عيناه:
أروى خط احمر ياحيوان! أياك تتعداه مرة تاتية!
ثم دفعه بقوة .. فسقط بهاء أرضًا ينهشه الألم والضعف والذل!! ..عاجز عن الدفاع عن نفسه ولو بحرف!
واصل معاذ حديثه:
دلوقتي من غير ما والدتك تحس هتخرج معايا من سكات و بهدوم البيت ، هتنزل زي الشحاتين لأن ده مقامك ،وتجيب بطاقتك عشان تتنازل عن المحضر اللي عملته في الشاب المحترم اللي دافع عن بنت خالك!
ثم رمقه بامتعاض:
انت بجد انسان معندكش دم وبجح، سجنت واحد ارجل واجدع منك، راجل حقيقي ،مش زيك يا اشباه الرجال!
بحث عنه معتصم بكل مكان يمكن أن يتواجد به ، فلم يجده.. سيُجن من اختفاء صديقه.. ومتسائلا داخله
اين بلال؟! أكثر من يومان لم يراه ،ماذا حدث له؟!
يا الله أحفظ صديقي أينما كان!
ام معتصم التي ما أن أبصرت ولدها يعبر باب البيت ، حتي أسرعت بسؤاله :
طمني ياابني معرفتش صاحبك مختفي فين؟
معتصم بحزن : لا يا أمي ، من 3 أيام مختفي، قالي رايح مشوار وساعة وجاي، ومن وقتها ماشوفتوش..
خايف يكون حصله حاجة .. سألت في كل مستشفي قريبة لو بعد الشر عمل حادثة، وسألت في الأقسام، مالقيتهوش في أي مكان.. مش عارف فين ألاقيه، خايف يكون حصله حاجة ويكون محتاجني وانا مش عارف اساعده! ده مالوش غيري!
الأم وهي تحاول بثه الطمأنينة: بعد الشر عليه يا ابني، والله قلبي بيقولي إنه بخير..وهيظهر انهاردة!
بلال ابن حلال ، وعمر ربنا ماهيوقعه في ضيقة، متخافش يا حبيبي وقول يارب، وهو مش هيردك خايب الرجا!!
معتصم وعيناه تلتمع بسحابة دموع: يارب!
بعد اصطحاب معاذ له إجبارًا إلى القسم، للتنازل عن المحضر المقدم منه تجاه بلال بالضرب و التعدي!
تركه يغادر دون أن يعيده لمنزله كما أحضره.. فلم يجد بهاء وسيلة للرجوع إلي منزله وهو على تلك الحالة، بملابس البيت ، وليس معه اي نقود!! ألا أن يتصل بوليد صديقه ليأتي إليه حتي يصطحبه إلي منزله.. فيكفيه كل ماحدث ، يريد الاختلاء بعيداً عن الجميع ! .. وحمد الله في سره أنه التقط هاتفه أثناء إحضاره بطاقته الشخصية!
أما معاذ فمكث ينتظر بلال لحين خروجه، لشكره والثناء على صنيعه الشهم!
اُطلق سراح بلال بالفعل.. وما أن خطى خارج غرفة الضابط المسؤول ، حتى أقبل عليه معاذ سائلا إياه : أنت بلال صح ؟؟
تعرف عليه بلال فور رؤيته، شاهده كثير مع أروى ،وعلم بعد مراقبته لها وتحريه الخفي عنها، أنه زوج شقيقتها بيسان السابق ويعمل طبيب نساء وتوليد.. !
ولكنه تسأل داخله ،كيف علم بوجوده هنا?!
فأعاد معاذ سؤاله السابق ،فاجاب : أيوة .. أنا بلال.
فمد معاذ يده ليصافحه : انا دكتور معاذ عز الدين!
بلال وهو يبادله المصافحة: وأنا بلال اشرف الشهاوي!
معاذ : اتشرفت بيك يا بطل ، ومش عارف أجازيك ازاي على دفاعك عن اختي الصغيرة!
و بذكر معاذ ما حدث لحبيبته، نفرت عروق بلال غضباً وقال بتسرع غير محسوب : والله لو الناس سابوني عليه كنت قتلته عشان اتعرض لأروى وضايقها.. بس حظه أنهم خلصوه من أيدي!!
صُدم معاذ وتفاجأ من معرفة هذا الشاب لأروى! إذاً الأمر ليس مصادفة، بل دفاعه كان عنها هي بالذات ، والأمر مقصود!!
ضاقت حدقتاه ورمقه بنظرة فاحصة محاولًا كشف اغواره ومعرفة نواياه، ومن يكون ومن أين يعرفها؟!
فترجم أفكار عقله بسؤال ألقاه متعجبًا : وانت تعرف أروى منين ؟؟؟؟؟
بلال الذي انتبه لذلة لسانه، ولعن نفسه لتسرعه وكشف معرفته بها ، فلم يكن بمخططه ان يظهر بالصورة بهذا التوقيت على الاطلاق !
فقال محاولا الهروب من إجابته :
معلش انا مانمتش بقالي يومين ، ومحتاج اروح بيتي ارتاح شوية..
معاذ وهو يضع كفه على كتف بلال:
مش قبل ما نتكلم مع بعض شوية، واطمن، مش هعطلك كتير ، انا عارف انك تعبان.. اتفضل نقعد في مكان قريب ندردش سوا!
…………………
جلس معاذ مقابلاً لبلال وبينهما طاولة مستديرة يعلوها فنجانين من القهوة الساخنة،وراح معاذ يتفحص بلال بنظرة شاملة عن قرب.. فهو شاب جذاب ، متين البنية ، ويبدو علي من يراه، أنه ممارس جيد لرياضة ما ، جعلت جسده بهذا العنفوان والقوة .. وملامحه الشرقية التي لا تخلو من وسامة رجولية ظاهرة.. كان يظن أن وجوده صدفة بحتة، ولكن يبدو أن له معرفة مسبقة بأروى .. كيف؟ هذا ما يجب معرفته!
فتنحنح قائلاً :
قولي يابلال ، تعرف أروى منين؟وعايز منها أيه؟
لا يدري بلال ما يصح قوله بهذا الموقف.. هل يكشف الستار عن معرفته السابقة ..ومراقبته الخفية لها منذ كانت صغيرة ، وانه لا يحلم سوي بارتباطه الشرعي بها ، بعد نضوجها ومناسبة ظروفه المادية وتأمين حياة كريمة لساكنة قلبه!
هل سيصدقه؟! أم سينعته بالجنون وربما الكذب؟!
لم تخفى حيرته تلك عن معاذ ، الذي استطاع ترجمتها، وقراءة تردده فقال مشجعا:
شوف يا بلال، انا عايزك تتردد، كلمني بصراحة ، من غير ما تخبي شيء جواك ، أنا احترمت شخصك من قبل ما اشوفك لما عرفت تصرفك الشهم، وده إن دل على شيء ، فيدل على أصالة معدنك وحسن أخلاقك.
واحب اوضحلك أن أروى عندي هي اختي واكتر
ومادام تعرفها، يبقى لازم افهم ، ايه طبيعة المعرفة دي وامتي عرفتها .. افتح قلبك، وصدقني مش هخذلك وهفهمك صح!
هدأت نفس بلال المضطربة ، من أثر كلمات معاذ الصادقة، وأخذ قراره بالبوح والكشف عن اغوار قلبه التي لا يعلمها أحد، فهو بالنهاية عاشق.. فهل يأثم أحدا على عشقه؟!
أخذ نفساً عميقاً ، ليستعد لتلك المصارحة الفارقة في حياته ، فلو صدقه معاذ وأصبح داعماً له مستقبلاً
ستكون اول بذور الأمل داخله، وحافزاً له فيما بعد..
بلال : انا هحكيلك كل حاجة بكل صدق وامانة ،واتمنى تسمعني وتفهمني وتدعمني ..
معاذ وهو يعود للوراء ليستقيم على ظهر مقعده، عاقداً ذراعيه أمام صدره :
كلي اذان صاغية…. اتفضل، أحكي يا بلال!
قص عليه بلال كل شيء عن طفولته ونشأته ، ويوم ان رآها، وكيف ولدت مشاعره البريئة نحوها، وكيف نمت داخله كبرعم صغير، حتى كبرت وتغلغل حبها بقلبه وروحه ، وأصبحت كل أمنيته في الحياه ان يقترن بها، وانه كان يراقبها للاطمئنان عليها، وكي يراها ، فمتعته الوحيده كانت رؤيتها بكل فرصة متاحة له..
تعجب معاذ من ما قصه عليه بلال !!
هذا الشاب الجالس أمامه ، أحب صغيرته أروى منذ الطفولة؟!! يكاد يرى العشق بعينيه .. ويستشعره بكل حرف نطق به، ومن غيره يعرف العاشق ، أليس هو مثله ، وأكثر؟!
بلال بعد ان اقلقه صمت معاذ : مش مصدقني ؟؟؟
معاذ متفرسا بملامحه :
وافرض صدقتك، ده هيفرق معاك؟
بلال: هيفرق معايا جدا ..لانك اكيد هتدعمني فيما بعد لما اقدر اتقدم لاروى!
معاذ : انت عندك كام سنة ، وبتشتغل ايه ؟
بلال :٢٢ سنة ، وانا وصاحبي متشاركين بمحل صغير كمشروع نبدأ بيه عمل حر لينا ، ومتعشمين في ربنا يرزقنا منه وينجح ويكبر ،، لأن الوظايف دلوقتي مرتبها صعب حد يعيش بيه..
وانا هاعمل كل اللي اقدر عليه عشان ينجح مشروعنا واكون مبلغ كويس ، عشان يوم ما اجي اتقدم لاروى اكون قادر افتح بيت يليق بيها..
لم ينكر معاذ اعجابه الشديد، بهذا الشاب المكافح..
الحياه لم تعطيه أسرة ترعاه وتتكفل به .. كغيره من شباب كثيرين، تقدم لهم الحياة كل الظروف لينجحوا ويثبتوا انفسهم ، ورغم ذلك يفسدون وبجدارة
كحال بهاء الذي يملك كل شيء ، ومع هذا هو فاشل ولا يشرف أحدا..
ولكن بلال ،هو من تكفل بنفسه منذ طفولته، ولم يوجهه احداً لخطأ او صواب ، كان يمكن أن يصبح شخصاً سيئ، ولكنه اختار طريق الصلاح والفلاح والسعي ، يحاول ان يكون فرداً يشرف مجتمعه ثم اسرته مستقبلا، حقا يستحق كل اعجاب واحترام!
معاذ : شوف يا بلال ، انا بجد معجب بيك جداً
ويشرفني اني ادعمك مستقبلاً ، لو كان في نصيب
بس لحد ده مايحصل ، لازم توعدني، إنك ما تحاولش تظهر لأروى دلوقتي، لأن سنها لسة صغير ، وداخله على اخر سنة بالثانوية العامة ولازم تركز فيها..
ولحد ما هي تكبر شويه، تكون انت كونت نفسك ماديا..
بلال : وانا من غير ما تقول ،عمري ما حاولت اكلمها ابدا ولا هحاول، مش هكلمها غير في بيتها وانا بطلبها ..انا اكتر واحد ممكن يحافظ عليها ويخاف على مستقبلها ،، اوعدك انك مش هتندم إنك وثقت فيا يا دكتور ..
منحه معاذ نظرة راضية ، بعد ان استشعر صدقه
ورآي بقلبه العشق المسطور بعين بلال لأروى
وسيكون اكثر من سعيد إن شارك بميلاد تلك النبتة الحلال بقلبهما.. فلن تجد صغيرته أروى رجلا افضل من بلال .. والايام حتماً ستثبت ذلك ..!!
………………..
الفصل السابع
بقي كل ده يحصل معاك يا بلال وماتحاولش تكلمني
انا كنت هتجنن ومش عارف ادور عليك فين!
بلال وهو يتسطح على فراشه بارهاق شديد لقلة نومه اثناء احتجازه بالقسم طوال الأيام السابقة :
معرفتش اكلمك يامعتصم بمجرد ما دخلت القسم اخدوا تليفوني ، كنت هكلمك ازاي..
عموما خلينا نكمل كلام بعدين، انا اخدت حمام بالعافية وهموت وانام!
معتصم بإشفاق : نام يا بلال وارتاح، المهم انك رجعت واطمنت عليك.. هسيبك النهار كله واجي بالليل ومعايا لقمة تسندك اكيد ماكلتش كويس واتبهدلت هناك!
لم يجد ردا من بلال، الذي استسلم لنوم عميق، ليعوض جسده ببعض الراحة التي اشتاقها!
نظر له معتصم بضيق لما تعرض له وهو لم يدري به، ثم دثره بغطاء فراشه جيداً ، تاركا اياه ينعم بنومه، وذهب ليطلب من والدته ان تعد له وليمة يتناولها عندما يفيق!
………………… ….
تركه وليد أسفل البناية ، بعد أن رفض الذهاب معه لأي مكان، بغرض التسرية عنه! كان يريد الاختلاء بنفسه قليلا!
وما أن عبر من باب منزله ، حتى سمع والدته تهتف بنبرة قاسية لم تحادثه بها من قبل:
انت جيت يا سيد الرجالة!
حسنا يا بهاء .. تلقى إعصارا جديد من غضبها الذي يلوح في الأفق ، لا يعرف لما يشعر أن القادم لن يكون خيراً هذه المرة!
ومع ذلك، تسلح ببروده وغلظته معها، حتى يختلي بذاته بأقرب لحظة ممكنة، فيكفيه ما يشعر به!
_ بقولك أية، انا مش ناقصك، سيبيني في حالي!
قالت بسخرية :
حالك؟!! اي حال ده اللي أسيبك فيه؟!!
ما انا سايباك من زمان وعماله أقول بكرة ينصلح حالك ده ويتعدل، لكن كنت غلطانه لما افتكرتك بني آدم وبتحس.. طلعت نجس وندل!
ثم اقتربت منه بكل غصب وخيبة أمل :
اخرتها رايح تتحرش ببنت خالك يا كلب!
وصاحبت جملتها الثائرة الصارخة ،صفعة قوية، فاجأته من شدتها، فترنح للخلف قليلا!
ثم أكملت بصوت هادر:
بعد العمر ده كله ، جاي تفضحني وتخليني معرفش احط عيني في عين بنت اخويا يا واطي يا ناقص!
بدال ما تكون اخوها وسندها، تكون أنت الكلب اللي يأذيها ويحاول ينهشها؟!!
وبدأ صوتها ينهار ،ودموعها تتفجر بغزارة من جانبي عينيها! ..فمنذ سماعها حديثه هو ومعاذ،، واشتعلت النيران بقلبها، غير مصدقة ما سمعته ، هل قام ولدها بهذا الفعل المشين؟! ماذا فعلت بحياتها لتُرزق بولد مثله .. أي جُرم ارتكبته وتعاقب عليه؟!
هي تمنته ذرية صالحة، يبرُها بدُنياها ، ويترحم عليها حين يُدفن جسدُها تحت الثرى!
_ أنت ازاي طلعت كدة ؟! ده احنا كبرناك بالحلال!
ابوك الله يرحمه عاش كل عمره الناس بتحلف باخلاقه ونضافته وسيرته اللي زي المسك!
وهتفت بصوت أعلى وأقسى، وهي توجه له صفعتها الثانية:
طلعت قذر كدة لمين قولي!
لم يعد يحتمل تلك الجرعة القاتلة من والدته
يكفيه ما يشعر به هو من عذاب داخله، يعلم خطئه و لا يريد محاسبة من أحد ، يكفي جلده الخفي لنفسه ووجع ضميره النابض بالحياة بعد سكونه!
فهدر هو الأخر بصوتٍ أكثر صخبًا :
كفااااااااية…. كفااااية حساب وتأنيب أنا خلاص تعبت، عارف غلطتي أنا مش شيطان، كل واحد في الدنيا بيضعف ويغلط سيبيني في حالي حرام عليكي!
وهَم بتركها محتميا من ثورتها بغرفته ، فاعترضت طريقه بجسدها بغرض إيقافه لتُشرع أكثر في إهانته فلم تكتفي بعد من توبيخه! ولكن أكتفى هو ولم يعد بقادرٍ على التحمُل، فلم يعي لنفسه إلا وهو يدفعها بيديه ويزيحها من طريقه بعنف لم يقصده! فسقطت والدته أرضًا ، بعد أن اختل توازنها من دفعته القوية لها..!!!!!
لم تؤلمها السقطة .. كما ألمها وطعن روحها فعلته!
تبحث له داخلها عن مبرر تُخمد به غضبٍ أستعر بها گ نارًا أحرقت كل حقول الصبر التي روتها له بقلبها فلم تجد!!!!!! .. لقد نفذ رصيده كما كانت تخاف يومًا وانهارت قوتها وسقطت في هوةِ الضعف، كما سقط جسدها أمامه وهي تطالعه بقهر متسائلة بصوت ضميرها..
هل وصل به الأمر أن يتجرأ عليها ويرفع يديه ليدفعها ويسقطها تحت قدميه!!
هل هذا الأبن هو من ترجته يوماً بسجودها وقيامها من رب العالمين؟!
هل كان حصاد دعوتها لخالقها.. هذا العاق؟!
رفعت وجهها إليه ونظرت له بعين غشتها الدموع! نظرة لن ينساها بهاء! كما لن ينسى كلماتها التي ألقتها عليه.. ستُطبع حروفها بجدران عقله لتظل لعنته وشقاءه..!!
_بتمد أيدك على أمك؟!..بتستقوي عليا يا بهاء؟!
دي أخرتها يا ابني!! .. أخرة تربيتي وسهر الليالي ورعايتي وحبي ليك وصبري عليك؟!!!
صمتت تلتقط أنفاسها، لتقذف بعدها طلاسم لعنتها عليه .. كسيوف أصابت منه القلب والروح، ليصير بعدها، محرمة عليه الحياة گالبشر .. ويكون أقرب منه إلى الأموات .. مدفون بقبر ذنوبه وخطاياه! .. ولا يدري متى تقيِمُ قِيامته ويحاسب!
_حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا بهاء!
_قلبي وربي غضبانين عليك ليوم الدين!
_عمرك ما هتشوف خير في حياتك يا ابن بطني!
ثم اكملت بصوت ضعيف، متقطع،موجوع :
_بكرة تتجوز .. وتخلف .. وهتدوق الذل على أيد ولادك !
وسكتت… .لم تقل حرفًا بعدها…!!
ظل واقفًا كتمثال، رغم علو وهبوط صدره وأنفاسه المتصارعة.. وكأن ما سمعه! .. لم يقال له.. يرفض العقل تصديقه.. كما يستنكر على نفسه أنه دفعها!
هل فعل؟!!!… لا لا لم يفعل، لم يقصد!
هو ليس بهذا السوء!
لم يسقطها أرضًا بيديه! .. لم يدفعها!
أغمض عينيه بشدة، حتى يحجب عنها رؤيتها بهذا الوضع ..وسد أذنيه بيديه حتى لا يسمع صدى لعنتها تجول بعقله كلمة كلمة!
حرف حرف! .. الكلمات تحرق روحه كشيطان رجيم!
أفق يا بهاء أفق! أنت تهذي! أنت لم تأتي للبيت ولم تقابلها لم تسمعها ولم تدفعها ولم……………………
أنقطعت أنفاسه! وبُترت كلمات ضميره الكاذبة!!
فتح عيناه ببطء لعله يجد الأمر كذبة نسجها خياله!
فوجدها ملقاه أرضًا!..جسدها ساكن.. أنفاسها بطيئة!
اقترب منها وسائر جسده يرتجف، جثى على ركبتيه، ورفع رأسها على فخذه متمتما بهدوء مرتجف الكلمات:
ماما .. ماما أنا أسف .. والله ما قصدت اوقعك ..حقك عليا أنا غلطان ، انا صحيح وحش بس مش لدرجة اوقعك بإيدي، أنا كنت بس عايز اهرب من قدامك ، لأني تعبان يا أمي.. ومقصدش اعمل كده فيكي!!
طب خلاص يا ماما فوقي ومش هزعلك تاني والله!
فتحي عينك وكلميني واوعدك أبقى كويس!
خلاص والله هتغير ، انا غلطان وشيطان وندل وحيوان .. قومي طيب اشتميني واضربيني واعملي فيا اللي انتي عايزاه .. بس فتحي عيونك يا ماما!
صمت ينتظر وينتظر .. يخدع عقله، هي ستفيق
لن تتركه، تحبه وستغفر له كعادتها!!
كفكف دموعه التي تجعله لا يراها وقال:
مش انتي كنتي زعلانة أني بسيبك لوحدك ومش بناكل سوا ونسهر سوا.. ؟! .. خلاص ياستي من انهاردة هقعد معاكي مش هسيبك، وهنروح سوا نقعد في الارض نغير جو عند عمتي، مش ده طلبك مني.. قومي خلاص وانا هنفذ كل اللي تطلبيه!!
فوقي وسامحيني ومتدعيش عليا ..ده أنتي طول عمرك بتدعيلي يا أمي ، فتحي عيونك كلميني!!
صمت يطالعها… جسدها لا يتحرك ، انفاسها ضعيفة أجفانها منغلقة.. لا تستجيب لندائه.. وهزاته لجسدها التي اشتدت دون وعي وهو يهذي صارخا :
أصحي يا ماما ماتسيبنيش لوحدي؟! ده انا بهاء حبيبك؟! أنا ماليش غيرك يا ماما! فوقي عشان خاطري! .. وأوعدك اتغير، والله هتغير عشانك بس فوقي وفتحي عيونك!
ظل يهذي ويهذي.. حتى أنطلقت من حلقه صرخة هادرة بإسمها .. برزت لها عروق عنقه!
وشعر كأن قلبه انشق نصفين من شبح الفراق!
ماااااااااااامااااااااااااااا……… !!
………………………… .
يعدو معاذ بممرات المشفى گ المجنون ، باحثًا عن الجميع، يتلمس خبرًا يطمئنه على تلك السيدة المسكينة.. فما أن اتصل به بهاء وهو يصرخ بأن يلحق والدته الفاقدة للوعي.. وطار مثل الريح ليلحق بها، وطلب عربة الإسعاف لتسبقه إليها .. فربما لا يلحقها هو .. ومؤكد ستحتاج لجهاز تنفس صناعي ينقذها حتى تصل إلى المشفي ..
وهاهو واقفا أمام غرفة العمليات التي دخلتها والدة بهاء ، منتظرا گ الأخرين كيف ستسير الأمور .. وبعد وقت ليس بقصير ، ظهر الطبيب المعالج والذي راح يخبرهم تشخيص حالتها، جلطة مفاجئة بالقلب ، وارتفاع كبير بضغط الدم ، وطوال الساعة الماضية وهم يحاولون السيطرة على ارتفاعه.. كما أنعشوا القلب بجهاز صادم بالكهرباء ، ليستجيب قلبها الذي قد توقف بالفعل.. ظلو يحاولون ، حتي استجابت..
ولكن اصبح القلب ضعيفًا.. والتنفس بطئ ، فاستعانوا بجهاز التنفس الصناعي حتي تستطيع الصمود ..!
ولكن لن يدوم الصمود طويلًا..!!
الجميع يقف مفجوعًا، الخوف ينهش قلوبهم
الحاجة شمس عزيزة على الجميع.. يشعرون بالأسف لأجلها ، ويدعون لها بإخلاصٍ للنجاة من براثن تلك الأزمة..!
……………………………..
صوت منتظم يصدر من تلك الأجهزة الموصولة بجسدها .. وبهاء جاثيًا أرضا بجانبها ، يحتضن كفها بين كفيه ينظر لها بصمت .. لم يتحدث سوى بكلمات اعتذار .. وينتظر إفاقتها .. وبقنع نفسه أنها ستفيق وتعود معه إلى البيت .. لن تتركه وحده .. الجميع كاذبون .. هي ستعود ولن ترحل عنه!
…………………………… .
“انت فين يا حسن… تعالى شوف بهاء عمل فيا اية؟
أنا حاولت اقومه واصلحه، وصبرت عليه كتير ، بس خلاص تعبت أوي يا حسن ، انا خلاص هجيلك، مش هقدر اقدمله حاجة تاني… ابننا لازم هو اللي يساعد نفسه..و أنا خلاص مش زعلانه منه.. صحيح دعيت عليه .. بس كله من ورى قلبي .. أبننا مش وحش كده ، لسة جواه بذرة طيبة.. شايف ياحسن ماسك ايدي ازاي ،انا سامعاه بيعتذر ويطلب مني السماح نفسي اكلمه واقوله إني مسمحاه .. بس لساني مش راضي يتحرك .. وكل جسمي متخدر .. في حاجة منعاني عنه!
بس يشهد عليا ربنا ، اللي رزقني بيه بعد انتظار..
اني مسمحاه.. واشهد عليا انت كمان يا حسن ، اني سامحته من قلبي، مش هموت وانا غضبانه عليه، ده ابني وحته مني ، ازاي اغضب عليه!
يومًا أخر .. والجميع يترقب الفرج وتحسُن حالة العمة شمس.. الأم عائشة لا تترك من يدها المصحف ولا يكف قلبها عن الدعاء.. وكذلك بيسان التي لا تستطيع مقاومة بكائها على العمة التي تحبها
ومعاذ الذي لم يتركها لنحيبها واقفًا جانبها يتمتم بكلمات تلهمها الصبر والتحمل، ويتقطع قلبه على حال حبيبته، ووضع العمة الصحي الذي يعلم گ طبيب أنه لا يبشر بالخير!!!
أما أروى فمنزوية بعيدًا .. صامتة لا تبكي، تطالع الجميع وكأنها لا تصدق .. هل العمة شمس على مشارف الموت؟!.. لا لن يحدث ولن تصدق.. ستطيب العمة وتعود صحتها ولن يفجع الله قلوبهم عليها..!
أدارت وجهها لتطالع بهاء من خلف زجاج الغرفة المحتجزة بها عمتها.. لتجده على نفس الحال، جاثيًا قربها ، ملتقطا يدها بين راحتيه يقبلها قبلات تبدو گ اعتذار وندم ..
عظمة الموقف الذي يمس الجميع ، محى من داخلها مؤقتًا موقفه الأخير ولم تعد ترى به سوى طفل يبكي أمه بلوعة، أشفقت عليه!
هو بحالة لا يستحق عليها سوى الشفقة والعطف والمؤازرة.. ربما فيما بعد سوف تستعيد نقمتها عليه وغضبها واحتقارها له.. فلا يهم الآن سوى زوال تلك الغمة!!
أما هو فلم أحد يسمع حديثه الذي يفطر القلب بتلك اللحظة وهو يحدثها لعلها تشعر به وتُسمعه صوتها:
_ ماما كلميني، قولي إنك مسمحاني!
_عارف اني اسوأ ابن في الدنيا..
بس انتي أحن ام في العالم.، وهتسامحيني ومش هتسيبيني ، مش ههون عليكي يا أمي!
_انا هصلح نفسي علشانك وهكون احسن ما اتمنيتي اني اكون، بس قومي وارجعي البيت معايا!
تسمعه جيدًا، تحاول تحريك يدها لتُشعره بيقظتها
ولكن يدها لا تستجيب ، تحاول فتح عينيها ، ولكن كأن جبلًا راسخًا فوق جفنيها، يعيق فتح عيناها!
يا الله أشعر بعجزٍ كامل بسائر جسدي، يبدو أن لحظتي حانت! وآن آوان الرحيل! .. اللهم إني أشهدك اني راضية عن ولدي وفلذة كبدي وقطعة روحي.. كن معه يا الله، لا تتركه بعد رحيلي!
وإن أخذت أمانتك، فدع روحي تخبره يومًا ما!
أني رحلت وعنه راضية.. !
……………………………
توقف القلب… وصعدت الروح إلي خالقها..!
ونُصبت سرادق العزاء.. وصدحت كلمات الله بصوت قاريء مهيب ونبراتٍ خاشعة.. مذكرًا الجميع بيومٍ
هو آتٍ لا ريب.. فجميعنا مفارق.. ولكن على أي ختام ستُقفل صحيفتنا؟!…
رحلت الحاجة شمس.. رحلت ولم يعلم بهاء أنها سامحته ورضيت عنه!
كان يمكن أن يعلم برضاها.. ولكن لرب الكون تدابير وحكمة لن نعلمها.. ولن نفهمها إلا بعد حين..!
كثيرًا ما نظن السوء بأن خالقنا تخلى عنا أو حرمنا من أحبائنا .. وأن ذنوبنا لن تُغفر .. وتوبتنا لن تُقبل!!
ولكن كيف وخالقنا ، اسمه ،الغفور الرحيم ، ..
فمهما عظُمت الخطايا… ستظل مغفرته هي الأعظم!!
بعد مرور ستة أشهر…. !!
بيسان وهي تقبل جبين والدتها بحنان ، فمنذ رحيل العمة شمس وهي موجوعة القلب وحزينة!
_ وحدي الله يا امي .. دي سنة الحياة.. كله مفارق فيها.. بس من رحمة ربنا ان بعد كل فراق وألم… بيرزقنا الصبر علي رحيل الأحبة.
_ ونعم بالله يا بنتي
بس فراقها تعبني اوي .. شمس كانت اختي وحبيبتي حتي من قبل ما اتجوز ابوكي كنا اصحاب ..ماكنتش اعرف ان الموت قريب كدة!!
_ عارفة يا امي ازاي كنتي بتحبيها .. عشان كدة واجب عليكي تفضلي تدعيلها .. واهو عيد الاضحي قرب ، اتصدقي على روحها اعملي اللي تقدري تقدميه ليها ..
_عندك حق يا بنتي .. مين يصدق، إن عدى ٦ شهور على وفاتها ..الله يرحمها..
كان نفسي بهاء يكون معانا هنا، واراعيه بنفسي ،بس هو سافر لعمته في الشرقيه بعد وفاة امه بشهر.. !
_ كان لازم يبعد يا أمي.. بهاء كان هيموت.. الحزن كان هيقتله.. وطبيعي يعيد حساباته تاني ويتغير ويندم.. اللي فقده مش قليل .. دي أمه.. !
ثم اكملت :
بصراحة معاذ وقف معاه وما سابوش لحظة طول الشهر اللي فضله هنا ، قبل ما يسافر الشرقية، معرفش كان ممكن يحصله ايه لو كان معاذ سابه لوحده.. عمري ما تخيلت بهاء يحزن عليها كده .. كنت فاكراه قاسي القلب ، هيزعل بس مش بالطريقة دي .. ده انا افتكرته فقد النطق ، لولا سمعته بيقرأ في المصحف على روحها!
_ ما تستغربيش يا بنتي .. زي ما الضنا غالي، الأم والأب كمان غاليين على ولادهم .. مهما اخدتهم الدنيا وغرتهم وقست قلوبهم.. مرجوعهم لأهاليهم
وبهاء مش وحش .. ده ابوه كان ملاك
وكان لازم طيبته هتغلب شره في يوم..
_ بس التمن كان غالي اوي يا ماما.. ياريته فاق وعمتي عايشة.. كانت فرحت بيه وبندمه..
_ماتقوليش ياريت ،حكمته يابنتي دايما بتكون ليها سبب بنعرفه مع الايام.. يمكن لولا اللي حصل ، عمره ما كان هيفوق ..
ثم تنهدت :
الحمد لله على كل اقدارنا..
ربنا يرزقنا الرضا بقضاءه وحكمه. خير أو شر ..!
………………………
يااااه يا بلال، مين يصدق إن ربنا هيكرمنا كدة ومشروعنا الصغير اللي مابقالوش 6 شهور.. هينجح ويعوض كده كل تعبنا فيه ..مبيعات عيد الاضحي الله اكبر كانت ممتازة!
وفكرتك إنك تقدم هدايا رمزية لكل الزباين، خلت فيه اقبال كبير علينا ، ومكناش ملاحقين!
بلال : طب قول ماشاء الله ياعم .. أحنا قصدنا الحلال وسعينا يامعتصم ، وربنا عالم بصدق نيتنا ، والحمد لله رزقنا من فضله..
معتصم :الحمد لله.. اهو انا بقي بحلم يبقي عندنا محل تاني اكبر في نفس المكان ، وعربية كمان نروح ونيجي بيها
بلال: هيحصل ان شاء الله ، احنا لسه في البداية
واكيد هنوصل للافضل برضا ربنا..
أنا بقي أكتر حاجة مخلياني مبسوط يا معتصم ، أننا شغلنا معانا كام واحد من شباب حتتنا ، أحلى حاجة إن ربنا يسخرنا ونكون سبب رزق لغيرنا ، ده إحساس مايتقدرش بكنوز الدنيا يا صاحبي!
ربت معتصم علي كتفه متمتما :
طيبتك ونيتك الحلوة هي اللي وفقتك للفكرة دي .. انت عارف اني خوفت اجازف واحنا لسه بالبداية والماديات لسه مش متظبطة .. بس دلوقت بقيت متأكد، إن كل ما هنفكر في غيرنا
ربنا هيرزقنا أكتر.. الحمد لله على نعمه وعطاياه!!
…………………………
الفصل الثامن
بعد مرور عام وبضعة أشهر ..
جالسًا أسفل شجرةً كبيرة ، محتميًا بظل فروعها من حرارة شمسٍ ساطعة. منعزلًا عن الجميع، كعادته كل يوم بعد أن ينتهي من عمله بفلاحة الأرضِ مع زوج عمته، الحج راضي..
ذلك الرجل السبعيني الطيب ، حنون القلب ، الذي ما ان اتى إليهم بعد وفاة والدته ،إلا واحاطه بكل اهتمام ولم يتركه فريسة لبراثن وحدته وحزنه القاتل!
كان العم راضي يحاول دائماً التسرية عن بهاء ، بسرد خبراته الحياتية الكثيرة على مسامعه ، وأن الإنسان يجب ألا يستسلم لآلامه وأحزانه ..
وأن بكل أزمة نمر بها، تكمن العبرةَ فيها ، و اننا خُلقنا لنعبد الله ،ونجاهد انفسنا ضد كل خطأ نقع به ، ونكفر عن كل خطيئة نرتكبها..
والندم ، أولى خطوات التوبة، ومفتاح الفرج، وطوق النجاة من كل إثم يعكر صفو حياتنا..
………
تنهد بهاء بحزن ، لقد مضى أكثر من عام على وفاة والدته ، وصدى دعواتها عليه تتردد داخله تنهش روحه بوجع لا يعرف إلى متى سيتحمله، ماتت غاضبة عليه، كارهه لإنجاب مثله ويملأها الخزي والخيبة .. كلما مرت بعين ذاكرته نظرتها الأخيرة له
تذبحه الذكري ذبحا وتُلهب مقلتيه بدموعٍ يذرفها بصمتٍ وعجز عن الخلاص من براثن آلامه الفتاكة وعذاب ضميره النابض ، ويأس من حياةٍ لم يعد يريدها ، ولولا خوفه من خالقه بكفره إن أقدم على قطع أنفاسه بيديه، لفعلها حتى يستريح ..!
أما كوابيس نومه فجحيمُ آخر ، يتلظى فيه وعقله الباطن يجسد كل ذكرى للقهر والحزن تسبب بها لوالدته.. وكل نبرة عصيان سمعتها منه لنصائحها المحبة له.. وكل استهزاء أبداه بشخصها دون توقير .. وكل وقت تركها وحيدة دون أن تأنس به كما تمنت!! ثم ينتهي به الأمر بصدوح صوتها الباكي وهو يتكرر بخلايا عقله المظلمة ، وسياط دعواتها المهلكة ، تجلد روحه وضميره وتنخر فيه گ سوس يتغذى على معاناته!
فتتقلص أنفاس صدره ، يقاوم وكأن أصابع خفية تقبض على عنقه تريد قتله ، لا يعلم هل تصدر منه استغاثة أم يعجز عن إطلاقها من حلقه!
ولكنه يفيق علي رذاذ ماءٍ بارد على وجهه ، وصوت العمة خديجة، يستعيذ من الشيطان الرجيم، ويرتل آيات القرآن الكريم ، فيهدأ جسده المنتفض ، وتعود ذاكرته للواقع ، بعد رحلة عذابه كل ليلة، حين يستسلم فيها لسلطان نومه دون إرادة ..
.***************************
دكتور علي : دي دعوة الفرح يا دكتور معاذ ، اتمنى تشرفني بحضورك..
معاذ: اكيد يادكتور ، و ربنا يتمملك على خير..
……………..
ريم : بيسان هتروحي فرح دكتور علي ؟
بيسان : والله أنا ماكنتش حابة اروح يا ريم ، بس دكتور علي ذوق جدا ،وأكد عليا الحضور ، وأنا مقدرش ارفض دعوته ، عشان كدة هروح وممكن اخد أروى معايا تغير جو!
………………………..
بيسان:
يا بنتي اخلصي بقالك ساعتين بتجهزي، مش انتي العروسة على فكرة!
أشارت لها أروى بيديها موضحة قرب انتهاء ما تفعل، وهي تتمم على حجابها الأخضر المتقارب من لون رداء سهرتها الاسمر بلمسات خضراء بسيطة مع طوله المنساب على قوامها المتناسق الفارع ، والذي رغم بساطته جعلها فاتنة، مع حداثة إرتداءها الحجاب ، المصاحب لعامها الأول بكلية الاداب، حيث تخصصت بدراسة علم النفس!
أما بيسان فكانت لا تقل جمالا برداء سهرتها الخمري المطعم بنقوش ذهبية عند الكتفين والخصر ليتسع بعدها إلى اسفل بشكل رقيق ناعم ، مع حجاب ذهبي ، جعلها بطله رائعه..
وبعد قليل اتت ريم صديقتها، متجهين ثلاثتهم إلى القاعة..
………………………..
منذ لقاء بلال مع معاذ ووعده للأخير بأن يترك مراقبة أروى واللحاق بها ، وصب كل اهتمامه وتركيزه ، بمشروعه هو ومعتصم.. ولم يراها كثيرًا لانشغاله الفعلي بتثبيت اقدامه هو وصديقه وتكوين سمعة طيبة بمشروعهم الصغير.. ورغم ذلك، لم تبرح خياله لحظة! .. كل شئ يفعله تكون هي الحافز والدعم له ، ليبذل أقصى ما لديه حتى يصبح شيئا تفتخر به ، حين يلتقي مسار طريقهما يوم ..وكثيراً ما يشعر بالخوف بأن ينبض قلبها لأخر! فمنذ التحاقها بعامها الجامعي الأول ، وهواجس سوداء تسيطر على عقله، هي جميلة وجذابه وستكون هدف ومطمع للكثير مثله، لنيل رضاها والقرب منها..
فإن كانت هي ملكة على عرش قلبه، فهو لديها مجهول لا وجود له بعالمها ..!!
ولكن ملاذه الصبر ،والتدرع بدعاءه الصادق لربه في كل سجدة ، لتحقيق أمنيته الغالية والوحيدة .. أن تكون له بنهاية المطاف، وأن يخلق نبتة حبه بقلبها وألا يستوطن أرضها سواه ..!
.***************************
تجاهلته بيسان عن عمد ، صافحت الجميع إلا هو .. معاذ ، ذلك العنيد ، الذي لن تغفر له ابداً حماقة تفكيره وقسوة قراره ..تعلم أنه يراقبها بعيناه ، وهي تلاطف الجميع حتى تثير حنقه وغيرته، التي لا يعلمها سواها، خاصًا وهي تحادث ذلك الطبيب الشاب قاسم..
طبيب خلوق يعمل بقسم الأشعة ، تراه كثيرًا، ولا يخفى عليها اهتمامه الملحوظ بها ، واختلاقه الفرص لمحادثتها والقرب منها .. ولكن هل لأحد مهما كانت جاذبيته أن يأخذ بقلبها مكان هذا العنيد حبيبها ؟!
تنهدت بألم حقيقي وهي تسترق النظر خلسة صوبه
وشعرت داخلها بالحسرة على تلك الفُرقة الحمقاء التي اصابتهما ، بعد ان كانا روحا واحدة بجسدين ..
من قال ان الحياة بين زوجين متحابين يجب أن تنتهي إن لم يحصلوا على طفلاً ؟!
هناك أشياء كثيرة وعظيمة تستحق استمرار الحياه بينهما.. كثيرا ما يكون زوجين اثمر زواجهما اطفالا بفضله ، ولكن يفتقدون التألف الروحي بينهما ،والحب الصادق ، والمودة والرحمة ..
كيف تجعل هذا الرجل يفهم عشقها، وانه وحده يكفيها.. وأن العراقيل يمكن سحقها ، واعتلائها والمضي فوقها بطريق الحياة ..
ربما يحتاج درسا قاسي بقسوة قلبه حين تركها!
…………………..
ترجل معاذ بعيدا عن صخب القاعة، في ركن منزوي بشرفة كبيرة تطل على حديقة رائعة ، فأخذ يستنشق عبق الازهار القريبة من حوله..
ولم يكن بغافلٍ عن سهام نظراتها المصوبة تجاهه خلسة ، كان يفطن لمحاولة اثارة غيرته ثم ادعاء تجاهله ، رحبت بالجميع عداه..
يدري بعقابها له .. ويغلف روحه شعور العجز التام عن صد هذا العقاب او تبديل هذا الحزن الساكن بتقاسيم وجهها الجميل ..
هو اراد منحها حرية امتلاك قرار ، وفرصة حياة جديدة مع غيره .. فهي أرضًا صالحة.. وهو گ سماد فاسد لن يثمر بخصوبتها شيء.. !
ووسط زحمة افكاره تلك ، شقت ابتسامة ثغره عندما تذكر طلتها تلك الليلة.. وهي تدلف القاعة گ ملكة بثوبها الخمري ووجهها الناعم.. فما أن رآها حتى عزفت أوتار الشوق لحن صاخب بجدران قلبه،
وفكر أن يذهب إليها متحججا باستقبال أروى، ولكن قبل ان تتحرك قدماه ، وجد زميله قاسم مقبل عليهما، وعيناه تخص حبيبته بنطرة رجل لا يفهمها سوي رجلًا مثله .. نظرة راغبة!
……………….
بصرت بيسان ابتعاده عن الزحام ، متتبعه بعيناها انسحابه ، بعد أن لمحت انعقاد حاجبيه بضيق عندما حدثها قاسم ، هي تعمدت الحديث أمامه حتى يراهم.. كما رسمت تلك الابتسامة المزيفة لتشعل بقلبه نار غيرته وعذاب فقدانها ..
لكن لأن روحها تشاطره ذات الألم، نغزها قلبها لأجله ، وقررت الذهاب إليه، وافتعال سببًا لوجودها بمحيطه!
…………………..
الووووو…. بتقولي أيه يا ماما مش سامعاكي!
اخترق صوتها المحبب صمت خلوته بهذا الركن الهادئ ، فعلى ما يبدو أنها بحثت عن مكان غير صاخب لتُحدث والدتها بالهاتف!
بيسان : خلاص يا ماما أطمني مش هتأخر، شويه وجايه انا وأروى!
ألتفتت يمينها متصنعة الدهشة :
أيه ده، دكتور معاذ! ….. أيه موقفك هنا لوحدك؟
أجابها معاذ ومازال بصره مسلطاً أمامه :
عادي ، عايز شوية هدوء ..!
فجاورته بيسان بصمت ،مستندة بذراعيها على حافة السور المطل على الحديقة ،متطلعةً أمامها مثله.. دون التفوه بشيء!
فقطع معاذ هذا الصمت مرددا :في حاجة بينك وبين قاسم؟
أجابت بصوتٍ بارد : وافرض، مش ده اللي أنت عايزه مني؟.. أبدأ حياتي من جديد مع شخص تاني؟.. قاسم بقا ولا غيره ، هتفرق أيه ، ده اختيارك ،، وأنا اهو بختار يادكتور!
بملامح كساها الغضب ، التفت لها :
لحد أمتى هتفضلي تلوميني كأني غدرت بيكي واتخليت عنك، أنا ما اخترتش حاجة يا مدام أنا أُتجبرت على قراري!
بيسان بثبات : ومين جبرك ؟ مين طلب منك تضحي يا دكتور؟ ..مين قالك حياتنا مع بعض مستحيلة لان معندناش ولاد ؟ تفتكر مافيش ناس كملوا حياتهم سوا رغم انهم اتحرموا من الذرية؟
ليه انت استسلمت ؟! ليه بعت حبنا واستهونت بتمسكي بيك وكأن رغبتي مالهاش قيمة عندك؟!
معاذ : لأني مش أناني يابيسان ، ومش عايزك تتحرمي بسببي من حاجة بتتمناها كل ست!
قالت وخيط دموع يتدفق من مقلتيها:
ياريتك كنت أناني .. ياريتك أتمسكت بيا وماسبتنيش بالسهولة دي!
معاذ متألمًا لحزنها : كان هايجي يوم تكرهيني.. كان هايجي عليكي وقت مش هيكفيكي حبي وكنتي هتندمي إنك ضحيتي بأمومتك، وأنا ماكنتش هتحمل الاحساس ده منك..!
بيسان وقد بدأت تفقد السيطرة على هدوئها:
أنت غلطان، كلها افترضات منك ، وحجج فارغة..
أنت أصلا ماحبتنيش يامعاذ، لأن اللي بيحب بجد، لازم يكون اناني في حبه.. بيتمسك بحبيبه حتى لو غصب عنه، لكن أنت سبتني!
دارت عيناه على تقاسيم وجهها متأملًا إياها بحب لم يستطع اخفائه ، وبنبرة فضحت شوقه الجارف :
انتي عارفة كويس اني حبيتك ، واني لسة بحبك ولاخر لحظة في عمري هحبك يا بيسان ..!
اقتربت منه ثم بسطت كفها الأيمن أمام عيناه :
يبقي ترجعلي يامعاذ!
تأملها بدهشة فلم يتوقع منها هذا التصرف.. ثم تملكه الحزن ولم يجد ما يقوله!
فباغتته باحتواء كفه بين كفيها معا وبصوت يقطر رجاء وتوسل:
رجعني ليك يا معاذ ، أنا مش هقدر أعيش من غيرك ولا انت كمان هتقدر، يبقي ليه نتعذب ، رجعني واوعدك اني أثبت لك بكل الطرق أنك كنت غلطان ، وأني هحبك أكتر .. هحبك الحب اللي كنت هحبه لولادي، هحبك الحب اللي يكفينا سوا، ومايحسسناش بنقص ..رجعني عشان أنت مش هتكمل من غيري.. وأنا هفضل بدونك كيان هش وضعيف ..خلينا نكسر الحواجز اللي بينا ونرجع تاني نمشي نفس الطريق..!
صمتت تلتقط أنفاسها المتلاحقة ، وصدرها يعلو ويهبط بعنف من شدة أنفعالها..ومازالت تحتضن كفيه بين راحتيها ..تنتظر منه رداً يُحيها، تنتظر منه إنصافا بتصحيح قرار تراه مجحفًا بحقهما.. تنتظر قطرة أمل لترتوي روحها بعودته إليها ..
فلم تحصل منه سوى على الصمت!
وكم كان لصمته ألف معنى وإجابة أدركتها!
كما أدركت أنها أهدرت كرامتها أمامه بتوسلها إليه!
جرحها مرة أخرى.. خدش كبريائها حين رفضها بصمته .. أهان حبها .. خذل يدها الممدودة له!!
ابتعدت خطوتين للوراء تاركةً كفه يتسرب من بين كفيها، ثم كفكفت دموعها العالقة بمقلتيها ، قائلة بنبرة كستها القسوة والقوة معًا:
اوعدك يادكتور معاذ .. إني هبدأ حياتي مع غيرك،
وقريب أوي هتكون دعوة فرحي في أيدك!
قالت جملتها الأخيرة ، مغادرة محيطه.. ثم القاعة باكملها.. ولم ترى تلك الدمعة التي تمردت أخيرًا لتسقط من مقلتيه تشيع حبًا لم يكن لسواها..!
…………………
بعد منتصف الليل بنصف الساعة ، وقفت أروى امام نافذة غرفتها ، متوارية خلف زجاجها الشفاف، ورذاذ المطر المتكون بسحب السماء يتساقط بقطرات ضعيفة ، اشتدت بالتدريج، فانهمر المطر بشدة فأصبح صوت اصطدامه بالنافذة مسموعا ، محتضنة بكفيها كوب ساخن من قهوتها المفضلة الممزوجة بقليل من اللبن الطازج.. ترتشفها باستمتاع ..
واثناء ارتشافها بعض منها وقع بصرها على شخص ما يدخل حيز بنايتها، لم تتبين ملامحه لخفوت الضوء ، فبالكاد رأت هيئته المظلمة ، حاملا شئ كبير بذراعيه .. خُيل إليها أنه رفع وجهه قليلا تجاه نافذتها! وكأنه يحاول رؤيتها .. فضيقت عيناها تحاول تبين ذلك ، ولكن العتمة تغلف المكان بأكمله ..
تركت الأمر فربما خدعها البصر ، فلما سينظر لها هذا الغريب؟! ..غادرت النافذة ، محدثة نفسها أنه ربما زائر لأحد قاطني الدور الذي يقع أسفلها..!
وما هي إلا ثواني حتى سمعت صوت انبعاث رسالة من هاتفها ، فاتجهت جانب الفراش ملتقطه الهاتف لتري مرسلها ..
وما أن طالعت الرسالة حتي تسمرت عيناها على حروفها ، والتي كان فحواها :
( كل عام وأنتي بخير حبيبتي.. تقبلي تهنئة طفلًا تعثرت قدماكي به يومًا.. فربتي على كتفه ربتة مؤازرة دون أن تدري ..فصار ترقب خطاكي ملاذه الأوحد .. وأصبح الآن رجلًا .. أقصى أمانيه أن تنتمي إليه يومًا، ويطفيء جوارك شموع يوم ميلادك القادم ..فتقبلي هديتي المتواضعة بقرب بابك! )
اتسعت عيناها عن أخرها وهي تعيد قراءة الرسالة أكثر من مرة ، محاولة استيعاب ما بها، من هذا الشخص الذي يعلم عنوانها ورقم هاتفها وعيد مولدها بتلك الدقة!
ومضة اضاءت بعقلها، وهي تسترجع لحظة دخول الغريب بالبناية ، ورفع بصره إليها!
اذاً لم تكن تتخيل حين ظنته يحاول رؤيتها!
هرولت للنافذة ربما لمحته .. فخاب ظنها حين وجدت مكانه الخالي! ..تملكها الخوف، من أن يكون لصاً ..
وبينما هي ترتجف خوفا ، والقلق ينهشها على والدتها وشقيقتها، وتحاول التفكير بكيفية التصدي له إن كان حقا لصًا و اقتحم منزلهم ..
انبعث صوت رسالة آخرى ، فانتفضت فور سماعها
وفتحت الرسالة بترقب ، فاتسعت عيناها ذهولاً
فقد كان مضمون الرسالة هو ..
( التقطي هديتكِ ولا تخافي شيء.. فأنا بالأصل حاميكي! )
هرولت صوب النافذة بلهفة ، فوجدت طيفه المظلم واقفاً ،ثم رفع يده مشيرًا لها بالرحيل ، ثم اختفي تمامًا عن مرمى بصرها!
بيسان… بيسان أصحي ارجوكي أنا خايفة أوي!
تململت بيسان بنومتها ، وصوت شقيقتها يتسرب بالتدريج لمسامع عقلها الغافي كصوت حلم بنومتها
حتى انتفضت فجأة وهي تعي جملتها الاخيرة
اصحي يا بيسان في حاجة غريبة حصلت مخوفاني..
بيسان بفزع : ايه .. حصل ايه .. مين خوفك !
ثم التقطتها بين ذراعيه بتلقائية، لتبثها الطمأنينة : مالك ياحبيبتي حصل ايه بس!؟
أروى وهي تحيط خصر بيسان بكلتا ذراعيها قائلة بصوت مرتجف : في حد جه تحت العمارة وبعدين بصلي ودخلها وبعد دقيقة بعتلي رسالة تهنئة بعيد ميلادي وبيقولي افتحي الباب خدي هديتك!
انعقد حاجبي بيسان بقلق حقيقي ، ولكن حاولت اخفاءه عن أروى حتى لا تثير رعبها اكثر:
_أيش عرفك إن اللي بعت الرسايل، هو نفسه اللي دخل العمارة، يجوز بيزور حد فيها!
أروى بنفي: لأ… لأني أما بصيت عليه تاني شاورلي بأيده ومشي!
بيسان مربتة على ظهرها برفق : طب اهدي حبيبتي ومتخافيش .. وهاتي تليفونك اشوف الرسالة!
ازدادت حيرتها بعد مطالعة الرسالتين .. وخاصتاً الرسالة الاخيرة ، وطمأنة هذا الغريب لأروى وكأنه يربطه بشقيقتها مشاعر ما .. من اين يعرفها ومن يكون.. ؟!
قاطعت شرودها أروى :
هنعمل ايه يا بيسان ؟ .. تيجي نفتح نشوف الهدية ؟
انتصبت بيسان : تعالي معايا ..
……………… ..
اشعلت ضوء لمبة حلزونية بيضاء مثبتة بإطار باب الشقة الخارجي ، لتتبين الجهة المقابلة ، ومن خلال تلك الدائرة الصغيرة المسماه “العين السحرية” المخصصة لروية المدخل الخارجي ، وجدت شئ كبير مغلف بشكل انيق ، معقوص نهايته بشريط ستان أحمر ..
بيسان : في فعلا هدية برة يا أروى ..
أروى : طب هنعمل ايه يا بيسان ، نفتح ناخدها يمكن نعرف أي حاجة عن الشخص ده ، ولا نتصل بالبوليس ، ولا هنعمل ايه يا اختي انا خايفة اوي ..
المشكلة ان البواب في اجازة انهاردة.. كنا استنجدنا بيه
بيسان مربتة على كف أروى لطمئنتها : حبيبتي متخافيش أنا معاكي.. ثم استجمعت شجاعتها .. واحساس داخلي يخبرها بان الامر ليس بتلك الخطورة .. خاصتا ورسالة هذا الغريب الاخيرة تتردد بجدران عقلها، يبدو انه شخصا ما يهتم لأمر اروى ، وتلك وسيلته للإعلان عن نفسه!
امسكت قبضة الباب وضغطت عليها لينفرج الباب قليلا ، لم تتبين احد ، فتحت الباب اكثر وألتقطت الهدية ثم احكمت غلق الباب خلفها ..
تري ما طبيعة تلك الهدية .. ومن مرسلها ؟!!
……………………
الفصل التاسع
ماتاخد يوم راحة يا بهاء ، مش كله شغل كدة يا ابني، روح أسهر مع صاحبك الدكتور سيف! .. بقالك أكتر من سنة في البلد وأنت قافل على نفسك ومحدش يعرفك!
بهاء : أنا مرتاح كدة ياعمتي ماتقلقيش أنتي ، لو احتاجت أجازة ، هستأذن من عم راضي..
الحاجة خديجة بحنان :
ربنا يحفظك يا بهاء ، أتغيرت كتير أوي عن الأول، حتى جسمك ما شاء الله بقي طول بعرض، أحسن ما كنت جاي كدة عضم مدهون لحم ..!
أجاب بابتسامة باهته : أكيد ياعمتي شغل الفلاحة في الارضِ فرق معايا، انا ماكنتش بشتغل ولا بتعب في حاجة، كانت حياتي تافهة اوي ، أخري العب طاولة على القهوة!
الحاجة خديجة : الحمد لله ياحبيبي إن ربنا صلح حالك و هداك ، وعرفت ازاي تستغل وقتك وتجيب قرشك بعرق جبينك .. والأحلى أنك بطلت السجاير اللي كانت واخدة صحتك دي!
تمتم بضميره متهكمًا: ( هي كانت سجاير بس.. ؟! .. أنتي طيبة أوي يا عمتي.. !)
مالت العمة تقبل مقدمة رأسه :
كنت عارفة إن جواك حاجة حلوة هتطلع في يوم.. وانك مش وحش يا بهاء ، وإنك هتاخد طباع ابوك حسن ، اللي من صغره شال المسؤولية وعافر مع الدنيا ..
ثم اكملت بصوت اكثر تفائل :
بكرة كمان أما تتجوز وتخلف وتعي………….
قاطعتها بهاء بحدة :
وبعدين ياعمتي تاني موضوع الجواز والخلفه !
انا عمري ما هتجوز ابداً ومرتاح كدة!
الحاجة خديجة باستنكار : وده مين اللي هيسيبك علي الحال ده؟؟؟.. وماتتجوزش وتخلف ليه؟؟!!
ناقص أيد ولا رجل يا ابن حسن؟!
بهاء بصوت يغرقه الحزن والآلم :
ناقص كتير ياعمتي .. أنا انسان مشوه من جوايا ، مليان خطايا ..ذنوبي زي جبل هفضل شايله على ضهري وماشي بيه كل حياتي.. طول الوقت مستني عقاب ربنا وقصاصه فيا ..عايزاني ازاي اعيش حياتي عادي وأنا بالنفسية دي، الراحة مش مخلوقة ليا!
ترقرقت عيناها بتأثر لمعاناته.. هي غير غافلة عن وجعه .. ومن غيرها يعلم! .. وهي بكل ليلة تُلبي استغاثته من عزِ نومه حين تهاجمه الكوابيس المفزعة، ولكن ألا يعلم أن خير الخطائين التوابين؟!!
التقطت كفه وأجلسته جوارها بهدوء :
أنا مش هقولك كلام من عندي يا ابني يصبرك.
انا هرد عليك بكلام رب الكون .. الغفور الرحيم بعباده .. لما قال سبحانه وتعالي :
(( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))[الزمر:53].
وبحديث صحيح ..
لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم ) صحيح مسلم [ 4936 ].
ثم استطردت حديثها:
رحلتنا يابني في الدنيا دي كلها اختبارات وابتلاءات ومشاكل ومطبات بنوقع فيها.. بس بنرجع نقف تاني! .. عشان لازم نكمل لحد النهاية.. بدون اختيار!
العاصي لازم يتوب .. ويستغفر ويستعطف ربه يسامحه ..ويدعي اللي خلقه وهو موقن بالإجابة.. وقد ماتُحسن فيه الظن.. قد ما هتكون النتيجة تشرح قلبك وتداوي جروحك.. مابقولكش أنسى أخطائك.. لكن ماتنساش لحظة إنك بني آدم لازم تعيش! ..سيبها على ربك، مادام بتصلح من نفسك وتقومها.. تبقى بتعمل اللي عليك وزيادة يا ابني!
هبط حديثها على قلبه گ قطعة ثلج اطفأت نار فؤاده .. گ تعويذة سحرية اراحت قلبه المعذب.. فلم يشعر بنفسه الا وهو يحتضنها گ طفل يختبئ من شيئاً ما ..هاتفًا :
كلامك ريحني اوي يا عمتي ، حسيت بالأمل إن ممكن ربنا يغفرلي.. لكن اتمنى أيامي في الدنيا تكفي ندمي واستغفاري وتوبتي اللي معرفش هتتقبل مني أو لأ !
بس أنا هدعي ربنا أنّه يسامحني ، وإن تحصل معجزة واسمع صوت أمي وهي بتقولي مسمحاك يا بهاء!
ثم التقت عيناه بعيناها المغرورقة لأجله :
هو ممكن تحصل معجزة واسمعها تاني بتكلمتي وتقول انها مسمحاني؟!..أنا تعبان اوي ياعمتي، نفسي ارتاح، نفسي أعرف أنام.!! نفسي اعرف اعيش!
لم تحتمل العمة خديجة كل هذا الوجع الذي بثه إياها ،فاحتوته بذراعيها باكية ..فبكى صامتًا مثلها! . لعل الدموع تُطهره وتغسل خطاياه .. وتُقبل توبته وندمه ..!
فدينه كبير ..وذنبه عظيم.. ولا فرار من سداده كاملًا!
ما بين صمت وذهول ، تجلس أروى وبيسان
والأخيرة تمعن بقراءة الكلمات المخطوطة ، بكارت أنيق وجذاب ..والتي أصابتها بالحيرة وهي تعيد قرأتها..
( وهبتكِ قلبي منذ زمن.. ولن أرضى عن قلبك بديل )!
بينما تصوب أروى عينيها بذهول، تطالع هذا الدُب الضخم بلونيه الأبيض والأحمر .. ثم نقلت بصرها لتلك العلبة الصغيرة التي وجدتها ملتصقة بصدر الدُب ، وما أن فتحتها حتى وجدت سلسال ذهبي يتدلى منه قلب صغير ..فراحت تتأمل القلب متمتمة بعين غائمة شاردة :
تعرفي يابيسان ، أنا شوفت الدُب ده من يومين في محل هدايا .. وعجبني وقلت لرغد نفسي في هدية زي ده!
أنعقد حاجبي بيسان واضيقت حدقتاها :
معقول حد بيراقبك؟!.. عارف يوم ميلادك ورقم تليفونك وعنوانك!.. طب مين ؟.. ماهو لو مثلا معجب ما يكلمك بشكل مباشر ، أيه لازمة الغموض ده كله!
أروى بقلق : طب هنعمل أيه يا بيسان .. أنا خايفة جداً”
بيسان وهي تطوي ذلك الكارت الصغير :
_طب هاتي كدة السلسلة دي!
وراحت تُدير القلب بين يديها وكأنها تبحث عن شيئ
فلم تجد ، فغامت عيناها بشرود، وعقلها يتسأل عن صاحب الهدية وغموضه وطبيعة نيته ..واثناء شرودها وأصابعها تضغط على القلب ،صدر منه صوتا وانفصل طرفيه فأنتبهت إلي ذلك التجويف بداخل القلب..!
فتحت طرفي القلب فوجدته فارغ، دققت النظر أكثر فلمحت به نقش دقيق لحرفين واضحين أمامها .. ( A&B ) منقوشين بالإنجليزية.. وأسف الحرفين تاريخ قديم! .. قرأته فأصابتها الدهشة! ..
حيث أن التاريخ المذكور يعود بها للوراء حيث كانت شقيقتها أروى.. طفلة بالصف الرابع الابتدائي ..!
حين تختار لك أرضا لتكون لك المأوى ، يجب عليك إحاطتها بسياج عشقك الأبدي ، لمنع كل مقتحم يريدُ الأستيطان بها ، فحينما يدق ناقوس الحرب في الحب.. فاسعى لنيل حقك بأرضٍ أنت صاحبها… !!
بهذا المنطق تحرك بلال بخطى ثابتة قوية تجاه هدفه .. وهو الفوز بقلب أروى وحمايتها من أي غريب يتعدي علي حقه بقلبها .. هي مالكة فؤاده بلا منازع ، وحان وقت ظهوره بقلب عالمها..!
………………
” هقول لآبيه معاذ ..”
هذا ما تفوهت به أروى فور قرأتها للتاريخ ورؤية الحروف المنقوشة بالسلسال .. فعارضتها بيسان:
وايه علاقة معاذ بينا ، أنا هبلغ البوليس وأكيد هيراقب الرقم ويعرف صاحبه ويجيبه لحد عندنا
مافيش داعي نلجأ لحد غريب ..
أروى والخوف يُرجفها : لا يا بيسان، مش غريب وانتي عارفة هو ايه عندي، ده اخويا الكبير وأنا مش بخبي عنه حاجة ومش هطمن إلا إذا اتولى الموضوع ده .. ارجوكي سيبيني اكلمه واطلب مساعدته..
بيسان : لا هنبلغ البوليس ..!
اروى : طب افرضي بلغنا البوليس وماما عرفت ، أكيد هتخاف وسكرها هيعلى .. أنما آبيه معاذ هيحل المشكلة من غير ما حد يحس..
ثم أمسكت كفها باستعطاف : أرجوكي يا بيسان خليني اكلمه .. مش هطمن إلا لو عرفته!
رغم علم بيسان بمنطقية ما تقوله أروى ، تصنعت الغضب لحفظ ماء وجهها وذهبت ، وهي على يقين انهما بحاجة لمعاذ، فظهور شخصٍ بهذا الغموض بطريق شقيقتها يثير داخلها القلق ، لكنها تكابر وتأبى طلب المساعدة منه ..!
ممكن اعرف أيه معنى تصرفك الأحمق ده مع أروى ؟
عبارة تفوه بها معاذ بحاجبين معقودين ونبرة صوت تُقطر غضباً ، وهو يقف على بابا محل عمل بلال الذي قد حضر افتتاحه مسبقاً..
بلال بترحاب محاولاً امتصاص غضب معاذ :
طب ينفع يا دكتور اول مرة تيجي تزورني، تتخانق معايا ؟!! اتفضل نشرب حاجة ..
معاذ وهو يجز علي اسنانه غيظاً من بروده :
انا مش جاي اشرب ،انا جاي افهم انت عم…………
قاطعه بلال قائلا: طب اهدى وخلينا نتكلم في مكان مناسب بعيد عن الزباين اللي حوالينا ..
وبلحظات معدودة اجرى بلال اتصال هاتفي بمعتصم ليحل محله لحين عودته ..
وبعد دقائق أخرى ، كان جالساً هو ومعاذ بأحدى الكافيهات القريبة ..
فقال الأخير بضيق :
أيه لازمة تهورك ده يا بلال ؟.. مش اتفقنا اننا هنسيب الموضوع شوية لما اروى تخلص دراستها عشان ما تشغلهاش.. ؟!
بلال بثبات : من حقي اعلن عن وجودي يا دكتور في حياة الإنسانة اللي بحلم ارتبط بيها ..
معاذ بتهكم : وإعلان وجودك ده كان لازم يبقي فيلم الرعب اللي انت عملته مع البنت وخليتها تفكر تبلغ البوليس هي واختها من خوفهم من تصرف جنابك ؟!
قُطبَ جبين بلال الذي أزعجه معرفتة بخوفها : خافت وكانت هتبلغ البوليس ؟؟!!!
معاذ بنبرة اكثر تهكمًا عن زي قبل :
طبعا زي ما توقعت ، حضرتك فكرت وقررت بدون ماتحسبها صح .. عاملي فيها شحات الغرام ورايح تقف تحت شباكها في الضلمة وبتشاورلها وتسيب هدية ع الباب وتمشي ..!
نبرة معاذ الساخرة وتهكمه، اغضبته بشدة ، فقال بنبرة أظهرت اعتزازه الشديد لنفسه :
مهما كان احترامك وقدرك عندي .. ما اقبلش السخرية اللي في كلامك دي يا دكتور ،ولا اسمح باي تجاوز او إستهانة بتفكيري ! أنا عارف خطوتي نتيجتها أيه، ومش متهور زي مابتتهمني!
معاذ بعد ان رمقه بنظرة متفحصة :
أنت جبت رقم تليفونها منين يا بلال؟
بلال بثبات: ده استجواب يا دكتور؟
أنحنى معاذ للأمام قليلًا وقال بنبرة واثقة وقوية ولا تخلو من تحذير مستتر:
لو فاكر إنك تقدر تتخطاني وتوصل لأروى بطريقتك دي.. يبقى فوق من حلمك بدري!! .. أروى مسؤوليتي ، ومش هسمح لتهورك يربك حياتها ويلخبطها..!!!
ثم واصل حديثه :
ماتخلنيش اغير الفكرة اللي كونتها عنك يا بلال.. أنا مش ضد مشاعرك اللي بعترف بصدقها في عينك ، بس كمان ماينفعش تيجي فكرة وتنفذها بدون ماتحسب عواقبها ..
بلال بتوضيح للأمر :
أنا مش قاصد اتخطاك ابدا أو حتى أهمش دورك.. وتجاهل وجودك يا دكتور .. بس من حقي أحوط على حلمي بدراعي واحافظ عليه واحاول احققه ..
ثم اكمل بنبرة من تسيطر عليه هواجس القلق:
انا كل يوم خوفي بيزيد لما اتخيل غيري بيخترق مجالها ، ويحاول يفرض هيمنته عليها .. في الوقت اللي هي ماتعرفش عني حاجة ، انا مجرد سراب في حياتها.. ومن حقي أعلن عن وجودي بكل الطرق الممكنة!
واصل بلال بتساؤل:
أجرمت في نظرك يا دكتور إني عايز احول السراب لحقيقة ملموسة؟!
صمت معاذ محاولاً فك شفرة هذا المتيم وتحليل شخصيته، وهل يمكن أن تمثل مشاعره الجياشة تلك خطرًا على أروى؟.. فماذا لو كان شخصاً ساديًا يحاول فرض نفسه بالقوة؟!!
وما أن وصلت أفكاره لتلك الخاطرة ، حتي انعكس على صفحة وجهه العبوس .. فلن يسمح لأحد بإطلاق حصاره العاطفي عليها او إجبارها على شيئ لا تريده!
فألقي معاذ سؤالاً يحاول به استشفاف شخصيته :
لو فرضا أنت قدرت توصل لأروى.. وهي رفضت مشاعرك .. او مثلا فضلت حد تاني عليك ،هتتعامل مع النتيجة دي ازاي يا بلال؟
أطرق بلال رأسه بحزن ملأ تقاسيم وجهه، باحثاً عن اجابة لسؤال معاذ ، ومجرد الفكرة تعتصر قلبه.. هل يمكن أن تُسحق كل أماله تحت أقدام الخذلان والصد والرفض منها.. أمعقول ألا يجد بعالمها مكان يحتويه بعد عناء أنتظاره الطويل؟!!
مراقبة معاذ لحالته تلك ، جعلته حقًا يشفق عليه :
لازم تحط الاحتمال ده في تفكيرك يا بلال .. أروى في النهاية انسانة ليها حق الاختيار والرفض ، مش لعبة بتحوش تمنها عشان تشتريها !
بلال بحزن شديد : وده مش يفسرلك يا دكتور سبب محاولتي لإثبات وجودي في حياتها ؟!
لم يعقب معاذ مترقبا رده باهتمام ..
فقال بلال بكبرياء رجُل شرقي ، يأبى أن يُرفض من أُنثاه ، حتى ولو كانت حبيبته الوحيدة!
_أطمن يا دكتور ، لو حبي مالقاش صدى في قلبها ورفضتني ، هختفي من حياتها ومش هقبل ابداً أفرض مشاعري عليها.. !
لمعت عين معاذ ببريق إعجاب حقيقي لعزة نفس بلال ، وشعر بالرضا إزاء ما قاله ، واطمئن قلبه ..
وتمنى بصدق أن تكون أروى تحت كنف هذا الرجل يوما ما.. هي حقاً تستحق مثله كما يستحق هو المكافأة بنعيمها ..!!
خلاص اعتبري الموضوع ده محلول .. صاحب الرقم وعنوانه هيكون عندك ..
اخترقت تلك العبارة مسامع معاذ اثناء مروره بذلك الممر المؤدي لقسم. الأشعة ، فما أن دنا من ذلك الممر ، حتى شاهد بيسان وهي تومئ برأسها للطبيب قاسم وهي تتمتم: شكرا يا دكتور ،دي خدمة مش هنساها..
فطن معاذ بسهولة أن الحديث يخص ما حدث مع شقيقتها أروى، والشخص الذي تبحث عن عنوانه هو نفسه بلال!!
شعر بالضيق للجوءها لشخص أخر غيره .. فهل أصبحت هي وقاسم بهذا القرب دون أن يدري؟!
قال محاولا انهاء تدخل قاسم :
ما تتعبش نفسك يا دكتور ، انا حليت الموضوع ده !
فوجئ قاسم بظهور معاذ بمحيطهما !! فظبط وضع عويناته الطبية على أرنبة انفه، ناظرا بتعجب :
موضوع ايه يا دكتور معاذ ؟! هو حضرتك عرفت أنا وبيسان بنتكلم في ايه ؟
أشتعل قلب معاذ من مخاطبته لبيسان باسمها مجردًا دون تكليف ، فقال غير واعي لغيرته الفاضحة:
اولاً اسمها مدام بيسان… ثانياً مادام قلت الموضوع اتحل، يبقي اكيد عارف بتكلم عن أيه يا دكتور!!
استاء قاسم من طريقة مخاطبة معاذ له ، فمنحه نظرة باردة يكسيها بريق التحدي : لو الموضوع اتحل يا دكتور ، كانت بيسان ( وضغط عمدا وهو ينطق اسمها )! هتعرف وبالتالي كانت مش هتطلب مساعدتي!
ثم وجهه بصره لبيسان : صح كلامي يا بيسان ؟
كانت تقف تراقب هذا التراشق بينهما ، وهي بقرارة نفسها منتشية من غيرة معاذ الواضحة ..
فقالت لاستفزازه:
عندك حق يا دكتور قاسم ، أنا معنديش علم بتدخل أي حد في الموضوع اللي كلمتك فيه ..
رمقه قاسم بنظرة ظافرة وهم بقول شيئا ما، لولا أن قاطعته إحدى الممرضات التي اخبرته باستدعائه من قِبَل مدير المشفى ، فغادرهم علي الفور..
………………
اقترب معاذ من بيسان وهو يرمقها بنظرة نارية :
يعني أنتي مش عارفه إن عندي علم بالموضوع ده من اروى ، واني وعدتها بحله؟!!!
بيسان ببرود: وهعرف منين… عدى ئسبوع وأنت ما فكرتش تقولي عملت ايه ..!!
ثم استأنفت قائلة : وبعدين أنا رافضة تدخلك من الأساس، اروى هي اللي صممت تعر………
بترت جملتها بذهول ، ومعاذ يقترب منها ويحاصرها فجأة بينه وبين الجدار خلفها حتى أنها تراجعت واصطدمت بالحائط!
وقال والشياطين تتراقص بوجهه:
خمس دقايق بالظبط وتكوني عندي في مكتبي.. !
بيسان وهي تبتلع ريقها، وتخفي خوفها منه ببراعة :
اسفة يا دكتور عندي شغل كتير و……… .
بترت عبارتها ثانيا واتسعت عيناها رهبة وخوف مع اقترابه أكثر حتى صار لا يفصلهما سوا القليل!
وكرر جملته بغضبٍ قد اختبرته معه كثيرا !! فبرغم هدوء معاذ المعتاد أمام الجميع ، إلا أنها أدرى الناس بخطورته حين يتملكه يغضب!
فاتسعت حدقتيها رهبة منه ، وأومأت برأسها دون أن تنطق بحرف، فتركها وذهب قبل أن يفقد أعصابه أكثر…
فإن اجتمعت الغيرة القاتلة مع الغضب بعاشق
فمؤكد لن تكون النتيجة آمنة للطرف الآخر .. !
الفصل العاشر
شياطين الغضب تتراقص أمام عيناه ، وهو يتذكر ما حدث منذ قليل ،طلبها المساعدة من قاسم ، ثم مخاطبة الأخير لها دون ألقاب يكاد يذهب عقله!
رغم توقعه طوال الوقت بارتباطهما منذ رؤيتهما يتحدثان بزفاف زميلهم الطبيب . إلا أن اختبار هذا الإحساس بشكل حقيقي .. موجع جدًا على نفسه، كيف يتحمل وهو بالنهاية بشر وليس خارق!
تباً لقلب مازال ينبض لها .. ولن تعزف دقاته عشقاً لسواها .. البعيدة گ السماء حين يتحكم العقل بأسبابه.. والقريبة گ انفاس صدره حين يتحرك القلب شوقًا لها ..
سمع طرقها على الباب وانتظر دلوفها ..
وبعد ثواني كانت تقف أمامه عاقدة ذراعيها امام صدرها، ترمقه بغضب وحاجبين رغم انعقادهم ، مرسومين برقة جعلتها حقًا جميلة بعيناه ..!
لم تنطق تحية دخولها، منتظرة حديثه ومن ثم المغادرة .. ولكن إن كانت هي مجرد غاضبة ، فهو بركان للغضب!
دنا قليلا من موضع وقوفها قائلًا : أنتي عارفة كويس إن حل الموضوع ده بقي مسئوليتي!
بيسان ببرود : ايوة تمام ، وانت بقا حليته؟ طب اهتميت تعرفني اتحل ازاي؟ ومين الشخص ده وعايز ايه من أروى ويعرفها منين؟!
جنابك ماكلفتش نفسك تعرفنا اي تفاصيل عن موضوع مهم زي ده ..فطبيعي اقلق واطلب مساعدة حد تاني ، حتي لو كان …… ..
معاذ مقاطعا: من أمتى حد غيري بيدخل في شئون أروى؟ .. انفصالنا سوا عمره ما هيخليني غريب عنها وانتي عارفة هي عندي ايه!
كلما ذكر انفصالهما أمامها بتلك البساطة ، يُفطر قلبها وجعاً وتُنبش جراحها بقبضة كلماته القاسية!
فارادت ان ترد له وجعاً بأخر اشد قسوة :
مش يمكن آن الآوان لغيرك يكون صاحب السلطة المرة دي يا دكتور !!
نهشها الندم بعد ما عكست نظرة عينه كسرة قلب رجل مازالت تذوب به عشقاً ..فأطرق رأسه قليلا ثم عاد بنظره إليها قائلا بنبرة قطعت نياط قلبها :
يعني خلاص .. بقي في بينك وبين قاسم طريق مشترك!
اغرورقت عيناها وانسابت العبرات وهتفت بنبرة صوت باكية: مش أنت اللي رسمتلي الطريق ده بايدك يا معاذ! .. زعلان ليه بقا.. ؟!.. قاسم منتظر ردي ..!
ثم دنت منه اكثر مصوبة حدقتيها بقلب عينيه :
وأنا مش ناوية ارفض طلبه… !!
…………… ..
الحاجة خديجة: أنت بتفهم في الكهربة يا بهاء؟
بهاء وهو يرتشف بعضاً من كوب شاي ساخن :
أيوة يا عمتي بعرف أصلح أجهزة أو اظبط وصلات كهربة، تقدري تقولي هواية .. في حاجة عايزة أظبطهالك ؟
هزت رأسها بنفي : لا ياحبيب عمتك ، مش عندي ، دي جارتي وصاحبتي الحاجة فجر ، كنت بكلمها من شوية،و الكهربة في شقتها عملت قافلة والنور قطع عليهم .. والدنيا بقيت ليل ومش هتلاقي حد يرجع الكهربة تاني لو مش يضايقك يا ابني روح ساعدها.. اصلها غالية عليه اوي..
هتف بدعابة : بس كدة ؟! .. انا هرجعلها النور ، واخدلها الغسيل فومين كمان عشان عيونك !
ضحكت لمزحته مرددة:
يسلم عيونك وشبابك يا حبيبي ، خلاص تعالي نروح سوا ، دي قريبة مننا يدوب خطوتين ..
……………
تهللت أسارير الحاجة فجر فور إعادة التيار الكهربائي لمنزلها ، بعد فحص بهاء للعطل الذي أصاب السلوك
ثم أعاد توصيل أطرافها بشكلٍ آمن ، حتى لا يحدث نفس العطل مستقبلاً ..!
الحاجة فجر بامتنان : يحميك لشبابك يا ابني وتسلم ايدك وعنيك ..!
بهاء بتهذيب : شكرا يا ست الكل ، دي حاجة بسيطة وماتستاهلش ..!
العمة خديجة بفخر : بهاء ابن اخويا اي حاجة بيعملها بيديها حقها ، لو شوفتي شغله في الارض يا حاجة فجر ، تقولي مولود وسط الفلاحين!
ثناء العمة خديجة عليه ،أشعره بالخجل فقال :
بلاش مبالغة يا عمتي، أنا اقل من العادي!
( خلاص يا جدتي ، ساعة زمن ومحروس جاي يصلح الكهربة )..
عبارة نطقتها سجدة حفيدة الجدة، والتي اقتحمت مجلسهم دون الأنتباه لوجود بهاء!
فضحكت الجدة فجر قائلة :
ومحروس هايجي يعمل اية يا حبيبة جدتك!
سجدة بحماس، ومازالت لم تنتبه بعد لعودة الكهرباء :
عشان يصلح عطل الكهربة ويرجع النو………… ..
وأخيراً تنبهت عيناها لسطوع النور حولها فرفعت وجهها للأعلى لترى مصابيح الإضاءة المشتعلة ، ثم بصرت مروحة السقف وهي تدور بشدة والهواء يحرك خصلات شعرها الأمامية والتي لسوء حظها ، خلعت عنها حجابها فور دلوفها المنزل ظنناً منها بخلو البيت من غريب!
فاخفضت بصرها قليلا ، لتباغت بشاب ما يقف يمينها عاقدا ذراعيه أمام صدره متأملا بها ..وبجواره العمة خديجة جارتهم!
فامتقع وجهها خجلا من هذا الموقف ، وعاد بصرها لجدتها وبعيناها تتسائل عن ما يحدث!
فاجابت الجدة وهي ترفع حجاب حفيدتها المنساب على كتفها واعادته على رأسها قائلة :
بهاء ابن اخو الحاجة خديجة الله يحميه ، هو اللي صلح الكهربة يا سجدة !!
تنحنح بهاء قائلا : طيب يا حاجة فجر تأمريني باي خدمة قبل ما امشي ؟
الجدة فجر بنبرة قوية و قاطعة :
يمين بالله ما تمشي غير وانت متعشي معانا ،، وواكلين سوا عيش وملح !!
……………………
لم يكن يرغب بالمكوث اكثر ، او تناول الطعام مع غرباء .. كان ينوي الرفض بشدة، واتجه بالفعل للمغادرة هروبا من هذا الإلحاح ..ولكن ارغمته العمة خديجة ان لا يرفض دعوة الجدة فجر حتى لا تتأذي مشاعرها من رفضه .. هي بالنهاية تريد مقابلة صنيعه الطيب معها ، بالكرم وحسن الضيافة ..!!
…………… .
كان لازم تمسكي في الجدع ده يتعشى معانا يا جدتي ، طول القاعدة مكشر ويدوب أكل لقمة صغيرة
كأن الأكل مش عاجب جنابه ..
الجدة بتأنيب : الجدع المكشر ده ، قدم مساعدة لينا بدون مقابل، وهو كان يدوب جاي من شغله في الارض ، واكيد كان محتاج يريح جتته.. بس اول ما عمته قالتله على عطل الكهربة ، جه ومتأخرش ..
يبقي اقل حاحة اعملها ، اعزم عليه بلقمة تبقي عيش وملح يا بنت الاصول ..!
مطت شفتيها بعدم رضا : خلاص يا جدتي أسفين وحقك علينا .. تصبحي على خير ، يدوب انام عشان شغلي الصبح !
زفرت الجدة بأسي على غلاظة تلك الحفيدة ، والتي ورثتها عن أبيها سامحه الله ..
ولكن للإنصاف هي ليست سيئة ، بل قوية وعزيزة النفس ، تكِد وتعرق لتعول نفسها ، رغم أنها يمكن أن تتكفل هي بكل ما يخصها من معاش زوجها الراحل.. ولكنها أبت إلا ان تاكل من كَدها هي ..
تنهدت حسرة علي تلك الصغيرة ابنة ال 19 عام.. و التي اصبحت كنمرة شرسة وفظة مع الجميع، ولا تتوقع الخير من أحد، ولكن لن تلومها.
فما عاشته تلك صغيرة السن كثير على من في عمرها!
…………………… ..
معتصم : مش فاهمك يا بلال ..أنت قررت تبعد عن اروى زي ما طلب دكتور معاذ؟ ، ولا هتحاول تكلمها فعلا ؟! ، طب أيه فايدة الخطوة اللي مشيتها من اساسه !!
أجابه بلال بنبرة يملأها الغموض :
لأن الخطوة الجاية هتكون من حد تاني يامعتصم .. انا عارف بعمل ايه ، وحاسب خطوتي هتوديني لفين .. وهدفي عارف ازاي اوصله كويس!
……………… .
رغد بتساؤل :لسه معرفتيش مين بعت الهدية ؟
أروى بنبرة تتملكها الحيرة : للأسف لا .. آبيه معاذ قالي ما اقلقش وانه هيحل الموضوع ، ومارضيش يفهمني حاجة خالص ..
رغد باعتراض : ايوة بس من حقك تعرفي مين بعت الهدية .. افرضي حد عايز يأذيكي يابنتي !!
أروى بنظرة عين شاردة : لا يارغد ، الحد ده مش عايز يأذيني.. ده عايز يقولي انا موجود حواليكي ، وعبر عن وجوده بالهدية دي ..
رغد: وايه مطمنك كدة انه مش شخص مؤذي ؟!
يا بنتي أنتي من خوفك فكرتي تبلغي البوليس !
قالت اروى وهي تجلس علي درج الجامعة المؤدي لقاعة المحاضرات وجاورتها رغد :
أنا فعلا خوفت في البداية.. بس بعد كدة أما هديت ورجعت أقرأ رسايله تاني حسيت إحساس غريب اول مرة اختبره جوايا .. كلامه في الكارت .. ورسالتة الأخيرة على تليفوني وهو بيطمني ان محدش هيأذيني وهو موجود !!
الرسالة دي بتحرك قلبي بشكل غريب!!
كل اما افتح السلسلة واشوف حروفها ، ألاقي قلبي بيدق اوي.. كأن في إشارة خفية وصلت لنبض قلبي.. وهو ترجمها!
رغد وقد زادها الامر حيرة ، فتسائلت :
طب والتاريخ اللي في السلسلة ، قدرتي تفسري يقصد بيه أيه ؟!!!
زفرت اروى بشكل ينم عن فشلها بتفسير تلك النقطة
وقالت : اهو التاريخ ده بالذات اللي قلقني ورعبني.. انا كنت صغيرة اوي في الوقت ده ، كنت في رابعة ابتدائي .. معقول الشخص ده عارفني من زمان ؟!!… بصراحة مش قادرة افهم اي حاجة ..
رغد وهي تفرقع اصبعها بحماس كإشارة لفكرة ما :
لقيت الطريقة الصح اللي هنقدر بيها نكشف ابو دبدوب الغامض بسلامته !!
اروي بنظرة ضيقة : طريقة أيه؟!
رغد بحماس : احنا اللي هندور عليه ونوصله!
رفعت اروى حاجبيها بدهشة : ندور على مين؟؟!!
رغد بثقة : على المتيم ابو دبدوب طبعاً ..
ثم استطردت قائلة بجدية : الواد ده قاصد يبعتلك رقمه عشان تدوري عليه يا أروى!
اروى بتمعن لتحليل صديقتها للامر : تفتكري ده قصده فعلا ومش مجرد تخمين مننا؟!
رغد بإماءة واثقة : مبقاش عندي شك في كدة .. كلامك ووصفك لإحساسك هو اللي وضحلي معنى تصرفه الغريب!
أروى : طب وازاي هنوصله ؟!
رغد : عن طريق ندى صاحبتنا ..
اروي : مش فاهمة ازاي ؟!
رغد : ندى خالها يبقي رتبة في الشرطة ، ومعرفش رتبة ايه بصراحة ، المهم انه في الشرطة ..
واكيد يقدر يجيبلنا كل بيانات ابو دبدوب ، ويعرفنا حتي أمه اتوحمت فيه على أيه !!
اروى : انتي شكلك بتستظرفي ووجعتي دماغي .. قومي يلا المحاضرة قربت ..
رغد وهي تقف تنفض عنها تراب الدرج :
هاتي انتي رقم اخينا ده ..وسيبيني اتعامل أنا !
شعور غريب هذا الذي تملك بلال تلك الليلة ، ولحن سيدة الشرق ( أغدًا ألقاك ).. ينساب عبر أذنيه بمذاق اخر !
وكأن الاجواء حوله غلفت كلمات أنشودته المفضلة بسحر خاص على نفسه الظمآنة للقاء قريب!
قطعًا لن يراها غدًا گ معنى حرفي للكلمة ، لكنه قريبا سيحدث ، هكذا يرى بعين قلبه قربها يلوح بالأفق!
أخذ نفسًا عميقًا وهو ينظر من علياءه ،مُتكئ بإحدى ذراعيه على حافة السور لسطح بنايته القاطن بها ..وأصابع يده الأخرى تقبض على فنجان قهوة ساخن ..منسجمة كل حواسه مع تلك الكلمات..منشيًا بإحساسه أنه تقدم تجاهها خطوة، ولم يعد ذلك العاشق المنزوي بركن خفي، مكتفي بمراقبة حبيبته من بعيد ، دون أن يظهر حتى خياله أمامها ..!
حتمًا ستبحث عنه!
هو نثر في طريقها، بذور الغموض! ..غذى داخلها الفضول لمعرفته وكشف هويته !
هو سيكون لها لغزًا صعب… يستفزها لفك طلاسمه ..!
كما هي اختبار استعد له سنوات ..ولا ينوي فيه الرسوب ..!
……………………
لم يبقى له منها سوى ذكرى محبوسة بقلب برواز كبير، معلقًا على حائط غرفته، صورة الزفاف!
يتأمل معاذ ضحكتها التي كان يعشقها عندما تظهر بوجنتيها تلك النغزة الغائرة.. كم كانت تفتنه ومازالت! أصابعه تتصفح ألبوم صورهما الذي يحتفظ به.. وعيناه تلتهم ملامحها شوقًا .. هنا كانوا بعد الزواج بأيام قليلة بتنزهون ويتمازحون ويثرثرون سويا..
وهنا كانت تمسك كوزا من الذرة المشوية وتأكله بنهم .. هي تعشق الذرة.. وهو كان يراقبها وهي تأكلها باستمتاع، و يضحك عليها عندما يتلطخ جانبي فمها ببقايا ذرة محروقة كالأطفال، وكم كان يستغل الفرصة ليلاطفها متحججا بإزالة تلك البقايا بطريقته التي كانت تخجلها.. !
أما بتلك الصورة كانت ترتشف مشروبها المفضل ( الشاي باللبن).. في إحدى صباحات عطلتهما بمنزل الزوجية ..حيث فاجأها بالتقاط تلك الصورة بغته مرتدية ملابس بيتية بسيطة، تذكر كيف ركضت خلفه معترضة على أخذه صور لها وهي غير مرتبة.. ضحك لمجرد الذكرى، وهو يشاهد بعين خياله منظرها المضحك وشعرها القصير المنكوش، وللعجيب كان يعشقه هكذا،أبسط الأشياء كانت تجعلها جذابة بعينة!
ظل يتصفح ويتنقل بين الذكريات مع كل صورة، ولا يعرف كيف ستمضي به الحياة حين ينقطع كل أمل بها بعد أن تتزوج قاسم.. رغم أن البعد قراره هو، إلا أن مجرد إحساسه أنها مازالت كما تركها، لم يطأ جنتها سواه أو يضع بصمته عليها غيره.. كان هذا يهدهد روحه، حتى وإن تظاهر بالقوة، وأنه لا يهتم.. لكن الحقيقة هو يهتم .. يغار .. يتألم .. يريد عودتها!
يريدها بجنون.. ولكن ليس كل ما نريده نستطيع الحصول عليه!
بلال أشرف الشهاوي !!
رددت أروى الأسم ، وهي تمرر حروفه بتمعن على ذاكرة عقلها، ربما صادفت شخصاً بهذا الأسم يوما..
فقالت محدثة صديقتها رغد :
أنا معرفش حد بالأسم ده خالص .. ولا سمعته من حد حواليا!
رغد وهو تومئ برأسها علامة للتفكير :
يعني طلع حد ماتعرفيهوش !
أروى بتساؤل : هو ندى جابت أسمه وبس ؟
قالت رغد وهي تمد يدها بورقة مطوية :
لا جابت كل بياناته . ودي ورقه فيها معلومات كاملة عن ابو دبدوب!
فالتقطت أروى الورقة باهتمام، ثم أمعنت في قراءتها
الأسم : بلال أشرف الشهاوي ، 26 عام .. حاصل على بكالوريوس تجارة .. يتيم الأبوين .. تشارك هو وصديق له بتأجير محل كمشروع لبيع الهدايا والإكسسوارات وأدوات منزلية و .………… ..
راحت تلتهم بعيناها المعلومات المسطورة عن ذلك الغريب. وتغذي فضولها لمعرفته!
ولكن ماعلمته زاد عقلها حيرة وتخبُط .. من أين يعرفها؟..هي لم تراه او سمعت بأسمه يومًا ؟!
قاطعت رغد عمق تفكيرها :
أيه يابنتي روحتي فين .. ووصلتي لأيه ؟!
أروى بعبوس غاضب : ولا أي حاجة .. واحد معرفوش ..ولا فاهمة عايز مني أيه ..ويعرفني منين أصلا!
رغد : طب أهدي بس أحنا خلاص عرفناه ، يعني مبقاش مجهول .. ولو تحبي ممكن نروح لعنده و…………… .
أروى محتدة : نعم ياختي ؟!!..نروح لمين يامجنونة انتي .. شكل مخك لسع!!
رمقتها رغد بغيظ قائلة :
ماهو لو صبرتي أما أخلص كلامي ، كنتي فهمتي قصدي يا ام لسان طويل !
أروى بتهكم وهي تضع يدها بخصرها :
وايه هو قصدك يا كرومبو ؟
رغد بامتعاض : بصرف النظر عن التريقة ، خليني انا الصاحبة المؤدبة الجدعة.. واسمعي فكرتي وطرطقي ودانك يا اذكي اخواتك !
هل ستوافق أروى على اقتراح صديقتها رغد؟!
سننتظر بالسطور القادمة ما سوف يحدث!!
الفصل 11
واقفًا يطالعه على مسافة ليست بعيدة.. متعجبًا لحاله
لا يحدث أحدًا بخلاف العاملين معه بالأرض.. لا يقبل الأختلاط لأبعد من ذلك.. ودائم الجلوس بتلك البقعة القريبة من بيته، كثيرًا ماحاول جذبه ليرافقه بأماكن كثيرة ويقربه من أصداقائه حتى تتسع دائرة معارفة ولا يظل حبيس عزلته تلك.. ولكن لا يبدي بهاء أي ترحيب بذلك، ومن الجيد أنه أستطاع هو التقرب إليه
بعد لقائهم الأول منذ بضعة أشهر، عندما مرضت ” بقرة” عمته خديجة، وأستدعته گطبيب بيطري لعلاج “بقرتها ” .. ومن ثم حدث تعارفه هو وبهاء !!
لم يخفى عليه حزنه الشديد لشاب بعمره!!
كما لم يخذل هو طلب العمة خديجة السري فيما بعد، بالتقرب له ومصاحبته لأنه وحيد ومستسلم لظروف نفسية قاسية حدثت معه.. تفهمت أنا ذلك وأشفقت عليه وأحببته أيضًا..!!
لم يعد اهتمامي به تنفيذًا لرغبة العمة، بل نابع من قلبي وشعور صادق بمساعدته حتى يتأقلم مع أحزانه ويتخطاها رويدًا بمرور الأيام!!!
أكاد أسمع تذمر البعض المتسائل عن من أكون!!
لا تؤاخذوني، تكلمت كثيرًا دون أنتباه أني شخص جديد يُطل على سطوركم ولا تعرفونه بعد!!
أنا سيف طبيب بيطري .. عمري 26 عام
أعمل بمزرعة أمتلك بها النصف مع صديق أخر يعمل مهندس زراعي.. تعيش معي أمي بعد وفاة أبي العزيز منذ عام فقط” رحمك الله يا أبي” .. وأخي الكبير بدر الذي تزوج ومستقر حاليا بالقاهرة مع زوجته وطفليه، حيث يعمل هناك مدير للمحاسبة بإحدى الشركات المعروفة!
جميعنا بحالٍ ميسور وهذا من فضل الله علينا..!
والآن بعد أن تعارفنا أعزائي.. دعوني أذهب لذاك البائس، فلن أكون سيف إن لم أبعثر هدؤه، وأبدله بصخب زفاف صديقي .. نعم سأرغمه على حضور زفاف أحدهم!!!!
_ياسيف أبعد عني ، فرح أيه اللي عايزني أحضره معاك، أنا مش معزوم ،ولا اعرف حد فيه!
بهاء متفوهًا عبارته بنفاذ صبر ،بعد إلحاح صديقه سيف لمصاحبته حضور زفاف أحد أصدقائه ..
سيف : يعني هو كل اللي بيحضر فرح بيكون من أصحابه ومعارفه، فك شوية يابهاء، أنت ليه حابس نفسك ،بين شغلك بأرضك وقعدتك لوحدك ومش راضي اعرفك حتى على اصحابي..
بهاء : خليني في حالي يا سيف، أنا مرتاح كده مش عايز اختلاط بحد..!!
زفر بضيق : مش ممكن عزلتك اللي فارضها علي نفسك دي يا بهاء .. ده لو حكم بالسجن، كان زمان مدتك خلصت!
بهاء بابتسامة تحمل بطياتها المرارة : لا وانت الصادق .. دين ولازم أدفعه.. ذنب محتاج أكفر عنه!!
سيف : ده على أساس إن أنا أو غيري ملايكة ؟!!
لولا ارتكاب الذنوب.. ما كان في معنى للتوبة..
ومهما كانت الخطايا ، ربك بيغفرها..
بهاء وهو يتأمل انسحاب الشمس من الافق :
انت ماتعرفش ايه تاعبني..أنا حاسس بحبل ملفوف على رقبتي بيخنقني.. الوحيدة اللي تقدر تطلق صراحي وتحرر روحي ، خلاص مابقيتش موجودة ياسيف!
قال مشفقا عليه :
بس ربنا موجود وتحريرك في قبضته وبرحمته!
ثم واصل: تعرف يابهاء إن الألم ده نعمة!!!
أستدار له بهاء بكلتيه منصتا باهتمام، ، فاستطرد سيف حديثه:
معظم الأمراض الخبيثة والخطيرة، مابتعلنش عن نفسها بالألم، لحد ما تتملك وتستوطن خلاياك، وفجأة تلاقي نفسك على شفا الموت بدون أي استعداد لمواجهته..
لكن لما بتتألم، بتكتشف أنك تعبان ومحتاج علاج!
ومن الألم بيتولد الأمل إنك تسعى وتنقذ نفسك وروحك من الهلاك!
عشان كده يا بهاء أنت ربنا بيحبك لأنك مافضلتش غافل وعاصي.. ألمك وندمك معناه إن ربنا بيقولك في عطب صابك لازم تنتبه عشان تقدر تحدد فين وازاي علاج روحك المعذبة .. ومافيش حاجة تطيب أوجاع أرواحنا زي التوبة والأستغفار .. دي رسالة لازم تفهمها كويس.. أفتح قلبك للدنيا، وخليك على يقين إن ربنا كتبلك الخير!!
صمت سيف يطالع وجهه الذي انعكس تأثير كلمات عليه بشرود وتيه .. فانتشله من صمته الشارد بنبرة صوت مرحة هاتفًا:
ودلوقتي بقا استعد عشان نحضر الفرح سوا ونغير جو.. وإلا اقسم بالله هشيلك غصب عنك لحد هناك!!
الجدة فجر : متتأخريش في الفرح يا سجدة!
سجدة وهي تضع أخر دبوس بحاجبها الأخضر المنسدل على عباءتها السمراء :
حاضر يا جدتي .. مش هتاخر ، لولا انها عزيزة عندي ماكنتش هروح أصلا ..!
الجدة بحنان : لا يانور عين جدتك .. روحي وغيري جو وانبسطي.. المهم متتأخريش في الليل لوحدك!
………… ..
وسط أنوار المصابيح الملونة بضوءها الساطع ، وأجواء مشبعة بالبهجة والفرح، واقفًا بهاء يطالع وجوه الجميع، فهذه أول مرة يحضر فيها مناسبة گ تلك منذ فترة طويلة ، وإحقاقا للحق ، أمتن داخله لصديقه سيف الذي أجبره على المجيء لهذا العُرس المبهج.. فحقا ما قالو ..إن لنفسك عليك حق ، وهو يحتاج تلك الاجواء بشدة لينسى همومه الثقيله الجاثمة على صدره، ولا يضر اقتناص غفوة من الزمن ليعيش لحظات تتلون بالسعادة حتى وإن كانت مؤقتة!
بدأ انبعاث أصوات عاليه وصاخبة لأغاني شعبية لا تخلو منها افراح العامة ..راحت عيناه ترصد تفاعل الجميع، الراقص منهم والمصفق بحراره ، فعلى هذا الجانب يصنع بعض الرجال دائرة حول العريس يرقصون معه بحماس وخفة ، فابتسم لمهارة أحدهم برقصته ، وبأخر فاجأ الجميع بحمل العريس على كتفيه والدوران والرقص به بأنحاء القاعة!
وعلى مسافة ليست بقليلة أتجه ببصره، فشاهد بعض الفتيات الملتفين حول العروس المتألقة بثوب عُرسها الأبيض ، وكثيرا منهن يشاركها الرقصات بتلوي ومهارة لا تتقنها إلا بنات حواء ..
وأثناء تفحصه الغير المقصود بالجميع ، وقعت عيناه على فتاة ترتدي حجاب أخضر وعباءة سمراء
فضاقت حدقتاه محاولا تذكر هذا الوجه الذي مر على ذاكرته سابقا ، ولكن متى وأين شاهدها؟!
اعتصر ذهنه حتي تذكرها، هي تلك الفتاه التى شاهدها في بيت الجدة فجر..
وكأن سهم نظرته أخترق محيطها حيث تقف!
فحركت سجدة مقلتيها بتلقائية ناحية اليمن قليلا
فاصطدمت بعين أحدهم متفحصا بها..
تأملته للوهلة الأولى لتتذكره هي الأخرى.. فاحمر وجهها وهي تتذكر متى رآته ، وكيف استاءت من وجوده وتناول العشاء معهم ، رغم أنه قدم مساعدة يستحق عليها كل الشكر !
تغاضت عن الأمر برمته بعد أن منحته نظرة نافرة ثم أبتعدت بعينيها عنه ، وأدارت جسدها حتى صار ظهرها يقابله ، مستأنفة تصفيقها وتمايلها الطفيف تماشيا مع تلك النغمات الصاخبة وهي تحمس صديقتها العروس بحركة يديها على الرقص والتمايل!
أبتسم بهاء على تمايلها الذي لا يناسب فتاه بغلظتها
ثم عاد يتابع حركات الجميع منتظرا صديقه سيف بهذا الركن البعيد نوعا ما ..
وبعد قليل انبعثت موسيقة رقصة صعيدية يعشقها بهاء .. راح يتأمل الراقصين عليها .. وإذا به يجد من يجذبه بغته حتى صار بمنتصف دائرة اصدقاء العريس .. وسيف يقذف له عصاه ألتقطها بهاء بمهارة ، لتبدأ الموسيقي بالعزف مرة اخرى ..
وسيف يلوح بعصاته ، ليتحدى بهاء على مشاركته تلك الرقصة الصعيدية، وظل يتلوى وهو يستعرض أمامه حركات متقنة مبهرة بعصاته أمام الجميع ..
فما كان من بهاء إلا قبول التحدي، ومشاركة الصديق رقصته وإظهار براعته هو الأخر!
بكام دي لو سمحت؟
ألتفت معتصم لصاحبة الصوت .. فوجد أمامه فتاة فاتنة بحق، لم تأتي هنا لابتياع شيء من قبل
ويبدو عليها أنها ميسورة الحال ..
فتسأل داخله ، عن سبب وجود فتاه گ تلك بمحلهم المتواضع ، ولا يعتقد أن بضاعتهم الرخيصة تناسب مثلها..!!
أعادت الفتاة أستفسارها عن سعر تلك الشمعة الجذابة متعددة الألوان، حيث يضئ كل لون بها بإضاءة مختلفة مبهرة..
فتنحنح معتصم ليزيل عنه أي اثر لإبهاره بها :
دي ٧٥ ج إن شاء الله يا انسة ..
الفتاه بمكر : مش غالية البتاعة دي يا…………
ثم تصنعت تساؤل بريء: هو حضرتك أسمك أيه؟!
فطن معتصم لمكرها، فرد ببرود مصوبًا بصره عليها، عاقدا ذراعيه امام صدره : وانتي عايزة تعرفي أسمي ليه، يخصك في حاجة.. ؟!
أمتقع وجهها إحراجاً من إجابته ، فمن هو ليعاملها بتلك الفظاظة !
قالت بغيظ تملكها: عادي يعني ، بحب أعرف أسم اللي بكلمه مش أكتر ، أنا مش بكلم وزير يعني عشان ماتقولش أسمك يا……… ياحضرة المهم !
خطى معتصم نحوها بهدوء وثقة ، ثم اقترب قليلا من جانب أذنيها هاتفا بخفوت :
أسمي معتصم…أهم من الوزير عند نفسي!
قربه ونبرة صوته الخافته، وعبقه الذي ملأ محيطها ، أربكها وبعثرها، فابتعدت بمسافة، رامقة أياه بضيق، محاولة إخفاء توترها:
طب يا سيادة الوزير .. أنا عايزة الأحمر والأخضر من الشمعة دي.
أجاب بتسلية : قصدك البتاعه الغالية دي؟!
رمتقه بامتعاض! .. فأكمل بلؤم :
معلش دي أخر واحدة .. بس تقدري تيجي تاني ، وتاخدي التانية .. والوزير بنفسه هيستناكي!
رفعت حاجبيها بذهوله، من يظن نفسه هذا المغرور!
وهتفت ساخرة : لا يا وزير ريح جنابك ، أنا هجيبها من مكان تاني ، ومش هاجي هنا أصلا! .
أستدارت للمغادرة، فأسرع معتصم بقوله :
مش هتلاقيها غير هنا !
التفت له رافعة إحدى حاجبيها بتحدي : وإذا جبت زيها ؟!
معتصم بأبتسامة ثقة :
تعالي وريهاني عشان أتاكد، ولو ماجيتيش .. هعرف انك خسرتي التحدي اللي شايفه في عنيكي ..!
_يعني ماشوفتيش ابو دبدوب هناك؟
أجابت ندى تساؤل رغد وهي تجلس جوارها ، حيث اتفقا على لقاء ثلاثتهم بتلك الكافيتريا القريبة :
لأ… كان في واحد تاني اسمه معتصم ، شكله شريكه!
قالت اروى التي بدا عليها الاعتراض على زيارة صديقتها من الأساس، فلم تكن على علم بتلك الخطوة ، فقط انبأتها رغد بالتصرف ولكن لم تخبرها كيف :
انا مش فاهمة أصلا ليه يارغد تبعتي ندى هناك ، وافرضي شافته .. هتقوله ايه.. ؟!
صاحبتي بتقولك انت تعرفها منين وعايز منها ايه؟
ثم اسطردت بصوت ساخر :
ناقص تاخدولي منه معاد عشا على ضوء الشموع!
رغد : يابنتي لازم نعرف مين ده ، ويعرفك ازاي وأمتي؟! .. طب بذمتك مش نفسك تعرفي هو مين؟
اذا كنت أنا ذات نفسي هموت واعرف!
اروى كذبًا : لأ طبعا ولا في دماغي !!
رغد بنظرة خبيثة : طب عيني في عينك كدة !!
امال مين اللي فضلت تقولي كلامه وصل قلبي وإشارة خفية وموجات صوتية وإشاعات مقطعية و………… .
باغتتها أروى بضربة أعلى رأسها :
احترمي نفسك بقا، وماتحشريش مناخيرك في كل حاجة ..ثم استطرت حديثها بكبرياء :
أنا ما اجريش ورى حد .. حتي لو اعترفت بذكاؤه في طريقة لفت نظري ..بس ده مش معناه اني اتخلى عن كبريائي وادور عليه يا رغد ..!
قالت ندي بصوت رقيق هائم وغير واعية لحالتها :
بس تعرفي يا أروى ، لو كان بلال ده شبه صاحبه معتصم، يبقى يابختك بيه ، ويستاهل تدوري عليه!
همت أروي بقول شيء، فقاطعتها رغد مشمرة عن أكمام ذراعيها وكأنها ستخوض حرباً :
لا لا لا ..سيبيلي أنا الطالعة دي يا معلمة!
ثم التفت رغد لندى مقلدة صوتها الهائم بشكل مضحك :
وشكله أيه بقا الدلعدي معتصم ده يا حونينة ..!
ندي بصوت غليظ مغاير تمام لصوتها الرقيق، بعد أن فضحتها عيناها وكشفت تأثرها بهذا المعتصم :
جري أيه ياكرمبو !! انتي هتسيبي المسكينة دي ، وتمسكيني انا ؟!
ثم امسكت انفها بقسوة قائلة : مسيري اعملك استئصال لمناخيرك الكبيرة دي يا حشرية انتي..!
تمتمت رغد بغضب وهي تفرك انفها بألم: ابو غبائك يا شيخة .. بني آدمه فاشلة أصلا ..!
أروى ضاحكةً على احمرار انف رغد : تستاهلي ، عشان تخليكي في حالك بعد كدة ..
رمقتهما رغد بامتعاض ، ثم اقتربت من أروى وقالت بجدية أوجست أروى منها:
بقولك أيه ، انتي هتلبسي السلسلة بتاعة ابو دبدوب؟!
اروى بشكل قاطع : لأ طبعاً ..
رغد بود ورقة لا تليق بها : طب ما تسليفهاني ألبسها في عيد جواز امي وابويا ? أهو أضحك عليهم واقولهم حد عبرني بهديه ?
اروى بمكر : وماله يا روحي .. وهي هتخس يعني
بكرة اجيبهالك تلبسيها براحتك ..!
ثم طلبت اوردر غداء باظ الثمن ، وبعد فراغ ثلاثتهم من التهام الطعام أستاذنت أروى بمصاحبة ندى تاركين رغد بمفردها لحين عودتهما ..
وبعد قليل ، أتى النادل ( عامل المطعم) .. واضعا مغلف به ورقة صغيرة، قائلا بتهذيب لرغد : عفوا حضرتك ، أصحابك طلبوا شيك الحساب هنا ..!
ضيقت رغد حدقتاها :
أصحابك مين ؟! وشيك حساب بتاع أيه؟!
النادل : حضرتك في بنتين طلبوا حساب الأوردر بتاع حضراتكم، وقالوا إن الحساب عندك، ومشيوا ..
رغد بصوت عالي، متناسية من حولها :
نننننعممم! .. مشيوا ..!
ثم انتبهت لعلو صوتها ، والنظرات المشمئزة في أعين الجميع حولها ..! فتمتمت بخفوت لذاتها :
وديني لاربيكي يا أروى انتي والبت المسهوكة التانية!
تظاهرت باللامبالة ،قائلة بكبرياء وادعاء كاذب :
أيوة صح افتكرت .. أنا اللي عازماهم، أصلهم غلابة أوي ،مايقدروش يتغدوا هنا من غيري ..
أحم… ثواني حضرتك اشوف قيمة الشيك كام..!
ما أن وقعت عيناها على الرقم المطلوب سداده، حتى انتابها الحنق منهما قائلة بصوت غير مسموع : اه يامفجوعة منك ليها، وأنا عمالة أقول مالهم بياكلوا بطفاسة كدة ليه ..! يارب أسترني وألاقي فلوس في الشنطة تكفي ..!
واستدارت بابتسامة بلهاء منحتها للشاب عامل المطعم : لحظة حضرتك ..!
اومأ الشاب برأسه صامتا، فظلت تبحث عن حقيبتها ، ثم تذكرت بغتة ، طلب ندى الغريب بإستعارة ، بعض ادوات التجميل منها،فأعطتها رغد الحقيبة كاملة ، مطمئنة لعودتهما معا ،ثم تذكرت بعض رسائل الواتس التي صدح صوتها بنفس التوقيت بهاتفيهما، فعلمت ببساطة أنه كان حديث متبادل بينهما لخططهم الماكرة ..!
فقالت بدون وعي : اه يابنت اللذينا أنتي والتانية، يمين بالله ما هرحمكم!
النادل : في اي مشكلة حضرتك؟!!
رغد بصوتٍ مختنق : هو المطبخ فين؟
الشاب باندهاش : مطبخ ؟! تقصدي حضرتك التويليت ؟!
هزت رغد رأسها بنفي : لا التويليت ده أما اخلص شغل المطبخ إن شاء الله!!
ثم هتفت بصوت اقرب للبكاء :
إحياة عيالك ما توديني القسم ..! ?
لا يصدق إلى الآن أنه رقص وضحك ومضى سهرة مبهجة بين رفاق سيف الذين شاركوهم الرقصة أيضًا بحماس.. تذكر كيف تفاعل الجميع والتف حولهم ، وتحول هو محور حديثهم فيما بعد ، واكتشف انه الملقب بينهم ” بالغريب ” حيث لا يعرفه أحد غير سيف وكم اندمج معهم واستطاع تناسي كل أوجاعه ولو بضعة ساعات ، وكم احتاج لهذا الإسقاط المؤقت بشدة من ذاكرته.. وكأنه لا يؤلمه شيء، يضحك ويرقص ويعيش شبابه، بعد أن أصاب روحه الشيب!
ساكنًا بأعماق بئر عميق مظلم وكأنه منفى.. ربما هي مجازفة ولكن لها متعتها، بأن تتسلق تعاريج جدار هذا البئر بقدميك وترفع رأسك منه لتتنفس بعض الهواء ، حتى وإن انحدرت قدماك داخله مرة أخري .. فيكفيك أنك خوضت تلك التجربة ولو برهه خاطفه من الزمن، ثم تعود كما كنت لمنفاك..!!!
أطفأت مصباح غرفتها ، تأهبًا للنوم ، بعد أن اطمأنت على جدتها فجر فور عودتها من زفاف صديقتها
أضجعت سجدة على جانبها الأيمن ، مشبكة أصابع كفها أسفل خدها ، واغمضت عيناها لتستدعي النوم
فمر بخيالها صورة هذا الغريب ، الذي رقص ببراعة على تلك الانغام الصعيدية المشهورة ، لا تنكر اعجابها الخفي به ، حين. رأته يرقص مع الرفاق، وكم ازداد وسامة حين ضحك محياه ، ولكن لسبب تجهله كانت تكسو ضحكاته تلك، مسحة حزن جليه لها ، لا تعرف لما تعمقت هكذا بترجمة افعاله وضحكاته، حتى أنها دون أن تنتبه كانت تتأملته ، فظبطها الغريب بنظرتها له فجأة ، فأكلها الخجل ، وتجاهلته على الفور ورحلت سريعا !
تُرى!.. هل تلوح في الأفق قصة جديدة؟
هل ستتلاقى الخُطى بنفس الطريق، وتتغير أقدار كلًا منهما بالتحام روحي يقلب الموازين ويحطم الحصون والأسوار .. دعونا معا نترقب القادم.. !