رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب
( 51 )
_ هزيمة ! _
نزلت “سمر” مع “عثمان” بعد أن قامت بغسل وجهها و أرتدت حچابها ثانيةً ..
كانت تعرج و هي تمشي ، فأجبرها علي الإستناد إليه غير عابئ برفضها ، تابع مع خطواتها بتمهل و صبر بينما كانت هي في عالم أخر
كانت تنظر حولها بإنبهار شديد ، هي تعلم جيدا أنه ثري ثراء فاحش تعلم أنه يملك كل شيء و قد رأت بعينها بعض مما يملك
و لكن هذا القصر الفخم كان بعيدا عن خيالها تماما .. المساحة شاسعة ، الأضواء متناسقة مبهرة للأبصار ، الديكور منه الأثري و العصري و بمختلف الأشكال ، و اللوحات المنتشرة علي الجدران كلها يعود تاريخها للعصور الوسطي
شعرت “سمر” بإنها وقعت بكتاب يروي إحدي الأساطير الخرافية
أخيرا وصلت بصحبة “عثمان” لغرفة الصالون الكبيرة و التي لا تقل فخامة عن بقية القصر
تعلقت بها العيون عند دخولها و تباينت ردود الأفعال ..
نظرات توتر فقط من عيون ثلاثة أشخاص صوبت نحوها … “رفعت” و “صالح” و “مراد” ..
كان “فادي” وحده الذي جلس محاصرا بأفراد الحراسة مختلفا عنهم
كان يرمقها بإزدراء شديد ، لقد خلا من العنف و الوحشية الآن ، لكنها شعرت بعدم قدرتها علي تحمل نظراته
ليته يفعل أي شئ أخر ، ليته يقتلها ، و لكن هذه النظرة صعبة جدا .. لا يجب أن تأتي منه هو ..
كانت “زينب” تقف بجانبه تضع يدها علي كتفه و تربت عليه بلطف ، بينما مضي “عثمان” بـ”سمر” وسطهم و أجلسها في كرسي قريب منه
كان المأذون حاضرا و المصور الذي طلبه أيضا ، لكن “رفعت” سأله مرة أخري :
-هنكتب الأول يا عثمان و لا إيه ؟!
عثمان بصوت هادئ :
-لأ يا عمي هناخد الصور الأول .. ثم نظر إلي الشاب الممسك بالكاميرا و قال :
-تعالي يابني . شوف هتصورنا إزاي بس خد بالك الإصابة إللي في دراعي دي مش لازم تظهر في الصور و المدام كمان مش هتقدر تقوم من مكانها.
المصور بإبتسامة :
-تحت أمرك يافندم . طيب معلش حضرتك هتيجي كده من الناحية التانية و هتميل شوية بس … أيوه . شمال سنا . راسك فوق . إبتسامة صغيرة . بــــس كده تمام أوي.
و صوب العدسة نحوهما و كاد يلتقط الصورة الأولي ، لكنه توقف فجأة و قال بإرتباك :
-من فضلك يا مدام ممكن تبتسمي شوية بس ؟
إزداد إضطراب “سمر” عندما أحست بالنظرات تتأملها أكثر ، ليحثها “عثمان” و هو يهمس في أذنها بنعومة :
-سمر . إبتسمي يا حبيبتي . يلا عشان ننجز !
تحاشت “سمر” النظر في عيونهم جميعا ، ركزت فقط علي عين الكاميرا .. بذلت جهد كبير حتي نجحت في رسم إبتسامة خفيفة علي ثغرها ، و رغم أن وجهها خاليا من مساحيق الزينة إلا إن جمالها الطبيعي طاغي في كل وقت و آن
إنها مجبورة علي كل هذا ، لولا أنها تخشي الفضيحة و تخشي علي مستقبل أخيها و أختها ما كانت لتقبل أبدا أن تقوم بأي من هذا ..
إلتقط المصور ثلاثة صور لهما علي نفس هذا الوضع ، عرضهم علي “عثمان” ليختار واحدة منهم لتكون مرفقة بعنوان الخبر ، فإختار “عثمان” الأولي .. كانت إبتسامة “سمر” واضحة أكثر فيها
-يلا بقي يا عثمان عشان نكتب الكتاب .. قالها “رفعت” بنفاذ صبر
-مولانا إتأخر و إحنا جايبنه في ساعة زي دي !!
إبتسم “عثمان” و مشي ناحية المأذون
كانت “سمر” تسمع كل شئ ، و لكنها لم تجرؤ علي المشاهدة ، إذ كان صوت أخيها الجاف و المقتضب بالنسبة لها كالطعنات بالضبط ..
-تعالي يا عروسة عشان تمضي ! .. قالها المأذون بإبتسامة ، ليتطوع “عثمان” و يأخذ لها الدفتر و القلم حتي تمضي و هي في مكانها
أخذت منه القلم بدون أن تلمس يده ، مضت بإسمها ثم غمست إصبعها في الحبر و بصمت علي الورق
إنتهي عقد القران أخيرا و إستأذن المأذون و ذهب
بينما قام “فادي” من مكانه فجأة ليتأهب له الجميع بنظرات متوجسة ..
فادي بصوت حاد :
-المسرحية خلصت خلاص ؟ عايز أختي الصغيرة . هاتوهالي.
ترتجف “سمر” بخوف عندما قال أخيها ذلك
شعر “عثمان” بها فأحاط كتفها بذراعه و رد بهدوء شديد :
-قولتلك يا فادي . عايز تمشي إمشي . لكن سمر و ملك هيفضلوا هنا.
توهجت نظرات “فادي” ليقول بغضب :
-إنت فاكر إنك ممكن تمنعني أخد أختي ؟ ده أنا أوديك في ستين داهية.
عثمان بثقة :
-ملك هتفضل هنا مع أختها . هنا أفضل كتير بالنسبة لها . بص حواليك . هنا كل حاجة متوفرة . هنا مش هينقصها حاجة.
فادي بحدة :
-و إنت فاكرني مش هقدر أوفر لأختي إحتياجاتها ؟ حتي لو . مستحيل أسيبها عند واحد و×× زيك.
تمالك “عثمان” نفسه و غض النظر عن الإهانة و قال بصرامة :
-ملك مش هتمشي معاك يا فادي . بس ده مش معناه إنك مالكش حق فيها . كل ماتحب تشوفها إتفضل في أي وقت.
إحتدم “فادي” غضبا و قال بتهديد :
-مش هسكت . مش هاسيبك !
و إستدار دافعا من أمامه بقوة أفراد الحراسة و ذهب ، لتتبعه “زينب” فورا بدون تفكير ..
لمس “عثمان” خد “سمر” :
-كل حاجة بقت كويسة دلوقتي ! .. كان صوته هامسا
-إحنا بقينا مع بعض . أنا مش هاسيبك أبدا.
كان داخل “سمر” مضطربا بالرعب و الآسي ، و لم تصدق قوله بأن كل شئ بات بخير .. تري ماذا سيفعل “فادي” ؟؟؟؟؟
قاطع شرودها إنحناء “عثمان” عليها ..
سمر بإستغراب :
-إنت بتعمل إيه ؟!
حملها “عثمان” في هذه اللحظة دون عناء رغم إصابة كتفه ، لتصرخ بإحتجاج :
-إيه ده نزلني !
عثمان بلطف ممزوج بالحزم :
-إهدي . هطلعك فوق عشان ترتاحي.
سمر بغضب :
-نزلني أنا هعرف أمشي .. و حاولت التخلص منه بلا فائدة ، بالطبع لن تقوي عليه
تمتمت بغيظ ممزوج بالخجل الشديد :
-إللي قاعدين دول يقولوا إيه ؟؟؟
ضحك “عثمان” بمرح و قال بصوت مرتفع ليسمعه الجميع :
-يقولوا راجل و مراته و بعدين طز في أي حد.
و أخذها و صعد للأعلي وسط دهشة و ذهول عمه و إبن عمه و صديقه المقرب …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في منزل المعلم “رجب” الجزار …
يجلس “خميس” في غرفته وحيدا مكتئبا
يتذكر مرارا موقف هزيمته ، الهزيمة الوحيدة بحياته كلها ، و التي كانت بمثابة الضربة القاضية ..
Flash back
أمسك “عثمان” بـ”سمر” الملقاة أرضا و فاقدة وعيها ، ثم ضمها إلي صدره بحركة إستحواذية كإعلان عن ملكيته لها
نظر للضابط و قال بصوته العميق :
-الست دي مراتي يا حضرة الظابط . حصل بينا سوء تفاهم و أنا جيت عشان رجعها البيت.
الضابط بتهذيب :
-مفهوم يا عثمان بيه . بس الإصابة إللي في كتف سيادتك دي مين السبب فيها ؟ حد من الموجودين ؟؟
إستعد “خميس” في هذه اللحظة و تحرق شوقا لنطق “عثمان” بالكلمات ، فهذا شئ يشرفه و لو سنحت له الفرصة لكان قتله و ذبحه مثلما يفعل بالأضحيات ..
-محدش سبب فيها يا حضرة الظابط .. قالها “عثمان” بصوت خال من أي تعبير
-دي مجرد حادثة غير مقصودة !
تنفست “نعيمة” الصعداء عندما نفي “عثمان” التهمة عن إبنها ، بينما كاد “خميس” أن يصرخ و يثبتها علي نفسه ليلكزه أبيه في كتفه و يرمقه بنظرة تحذيرية ..
الضابط بإلحاح :
-إنت متأكد يافندم ؟ يعني مافيش خطر علي حضرتك هنا ؟ البلاغ إللي جالنا من الأهالي هنا قال إن حضرتك في خطر !
عثمان بإبتسامة باهتة :
-مافيش خطر يا حضرة الظابط . إطمن أنا في وسط أهلي.
و أشار بالأخص إلي عمه و “صالح” و “مراد” و دزينة الحراسة التي تكاد تسد الشقة الصغيرة من هول أحجامها ..
الضابط بإبتسامة :
-طيب ياباشا . إللي تشوفه . إحنا هنمشي دلوقتي بس لو حصل أي حاجة بلغنا هنرجع فورا.
عثمان بثقة :
-مافيش حاجة هتحصل.
و بعد ذهاب أفراد الشرطة يأمر “عثمان” طاقم الحراسة بأخذ “فادي” إلي السيارة ، رغم أن الأخير قاومهم لكنه لم يصمد أمامهم طويلا ..
تدخل “رفعت” عن هذا الحد :
-ممكن إيه إللي بتعمله ده ؟؟؟ .. كانت الحدة تغلف صوته
عثمان ببرود :
-هفهمك بعدين يا عمي .. ثم نظر إلي “مراد” و تابع :
-مراد من فضلك خد ملك و إسبقنا علي تحت .. و أشار إلي الطفلة الصغيرة التي حملتها “شهيرة” بين ذراعيها
زينب صائحة بغضب :
-إنت بتعمل إيه يابني إنت ؟ واخد العيال علي فين ؟ محدش فيهم هيخرج من هنا و فادي لو مارجعش إنت حر !
لم يعيرها “عثمان” إهتماما و حث صديقه بهدوء :
-يلا يا مراد .. ثم قال بنبرة ذات مغزي و يصوب نظراته إلي “زينب” :
-يلا قبل ما الموضوع يوسع أكتر من كده . البوليس لسا قريب.
رمقته “زينب” بغضب شديد … إنه يهددها
مد “مراد” ذراعيه ليأخذ “ملك” فناولته “شهيرة” إياها بتردد و هي تنظر إلي “زينب” العاجزة عن التفوه في هذا الوقت ..
تابع “عثمان” كلامه :
-و إنت يا صالح خد صفية و علي تحت إنت كمان.
كان “خميس” يشاهد كل هذا و هو يتلوي بين الأيادي الممسكة به ، يزمجر تارة و يغمغم بكلمات غير مفهومة تارة أخري ، كم أراد أن يتحرر من هذه القيود و ينقض عليه خاصة عندما وجده يحملها و يتجه بها إلي الخارج
كان عاجزا بدوره .. والده و الرجال المواليين له ، جميعهم تجمعوا ليكبحوه حتي لا يرتكب جرما ، فهو طائش و خطير مثالا يحتذي به حقا في التهور و الأفعال الدموية …
Back
بعد قليل تدخل والدته إليه هي تزيل عن وجهها دموع الحزن … تقترب منه و تمسح علي شعره بحنان قائلة :
-إيه يا خميس ؟ مش هتيجي تتعشا معانا يابني ؟!
خميس بعصبية :
-مش عايز أطفح . سيبيني في حـآاالي.
نعيمة بحزن شديد :
-يابني ماتعملش كده في نفسك إللي خلقها ماخلقش غيرها و لا إيه ؟؟؟
هب من مكانه صارخا بإنفعال :
-يووووووه إنتي مش هتسكتي أبدا . عايزة إيه يعني ؟ عايزاني أسيبلك البيت و أهج عشان ترتاحي ؟؟؟
نعيمة بذعر :
-لأ لأ . لأ يا خميس ده إنت حبيبي يابني أنا مقدرش أعيش منغيرك ياضنايا . إنت إللي طلعت بيك من الدنيا يابني .. و إختنق صوتها في العبارة الأخيرة لتجهش بالبكاء
جاء صوت “رجب” الصارم و هو يقف عند عتبة الباب :
-تعالي يا نعيمة . تعالي و سيبه دلوقتي . هو هيهدا لوحده.
تنهدت “نعيمة” بآسي و إنصاعت لزوجها
تركت “خميس” وحده ، ليعيد إستعراض نفس الأحداث من جديد ، و يتألم في صميم نفسه و رجولته في كل مرة …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
عند “سمر” …
بعد أن تركها أخيرا و ذهب ليطمئن علي أمه ، أخذت تتجول ببصرها في جناحه الفخم الذي تشيع فيه الكلاسيكية إلي حد كبير
حيث السجاد التركي المحاك من الحرير ، و الأثاث الإنجليزي المذهب ، و النوافذ الطويلة ذات الإطلالة البانورامية الآسرة ..
قاطع شرودها دخول فتاة في مقتبل عمرها
كانت جميلة إلي حد ما ، لكن “سمر” توترت عندما رأتها و في نفس الوقت إبتسمت و غمرتها الراحة لأن “ملك” كانت معها ..
-مساء الخير ! .. قالتها “هالة” بصوتها الرقيق
سمر بشئ من الإرتباك :
-مساء النور !
وضعت “هالة” الصغيرة “ملك” بحضن شقيقتها و قالت بإبتسامة :
-أنا هالة . بنت عم عثمان.
سمر بضيق :
-أهلا !
هالة بحذر :
-أنا آسفة لو كنت جيت و ضايقتك . الداده كانت هتجبلك الصغنونة بس بصراحة أنا إللي ماقدرتش أقاوم فضولي و جيت عشان أشوفك كويس.
رمقتها “سمر” بغرابة ، فضحكت “هالة” و قالت بمرارة خفية :
-أصل لما عثمان جابك من شوية كنتي فاقدة الوعي و ماعرفتش أشوفك كويس . هو كان خايف عليكي أوي و رغم الجرح إللي في دراعه مخلاش حد يلمسك و أصر يشيلك و يطلعك بنفسه لحد هنا.
نظرت لها “سمر” بصمت ، لتكمل “هالة” و تقر و هي تشعر بألم يجيش بداخلها :
-عثمان عنده حق يحبك . إنتي حلوة أوي فعلا رغم إني ماعرفش إنتوا إرتبطوا إزاي و كمان ماعرفش إيه حكايتكوا و إيه إللي حصل إنهاردة بس هو بجد بيحبك . أنا شوفت ده في عينه .. أول مرة أشوف عثمان كده !
آتي صوت “عثمان” في هذه اللحظة :
-أول مرة تشوفيني كده إزاي يا هالة … ؟؟؟
يتبــــــع …