رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب

( 41 )

_ أصابع الندم ! _

في البداية … كان الأمر أشبه بالحلم

عندما غدت الرؤية معتمة لدي “سمر” و السمع بالكاد كان واضحا ، حيث أتاها صوته كما لو أنه علي بعد مسافة سحيقة

كان يدوي غاضبا ، مروعا ، مفزعا … و من بين سيل الكلمات السريعة اللاذعة التي خرجت كالقنابل من فمه ، لم تلتقط أذنها سوي كلمة واحدة متكررة منذ البادئ .. “خاينة” ..

ياللعجب ! .. لماذا ينعتها بالخائنة ؟ .. ماذا فعلت ؟ في الحقيقة لم تكترث “سمر” كثيرا بالإجابة ، و لم تتوق لمعرفتها

فقد كانت سعيدة … البرد الذي أصابها و خدر جسدها بالكامل ، و الدوار المسكر ، و العجز المسيطر عليها تماما .. كل هذه الأمور أنبأتها بأن الأمر علي وشك الإنتهاء

كل هذا العذاب سينتهي قريبا ، الآلم الذي شعرت به منذ فترة طويلة ، الذل ، القهر ، المهانة .. كل شئ صار مرهونا بالعد العكسي لعدد أنفاسها الأخيرة

كانت مسالمة علي نحو غريب ، لم يكن لديها أي ميل للحياة … أرادت أن تتخلص منها سريعا ، و بالفعل كان لها ما طلبت

غلبتها الغفوة الثقيلة في هذه اللحظة ، إنسحب الهواء كله من رئتيها هاربا ، شدها الظلام أكثر فأكثر … نحو القاع اللانهائي ، و قبل أن ينطفئ بصيص حياتها للأبد شعرت بالإمتنان لأن أخويها سيعيشان في راحة و هدوء من بعدها ، قضي الأمر ..

لم تعد تشكل النقطة السوداء في حياة كلاهما … “ملك” ستكون بخير ، “فادي” سيعتني بها جيدا و غدا سيكون له مستقبل زاهرا و سيحظي بزوجة تسعده و تكون أما لـ”ملك” عوضا عنها

أخر فكرة راودتها كانت … تري هل سيكون لها حظا من رحمة الله ؟ هل سيغفر الله لها ؟ هل ستنال عفوه ؟؟؟

إستسلمت و نفسها تزخر بالرعب و الفزع …

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° °°°°

رغم برودة الجو … كان جسد “عثمان” يتصبب عرقا ساخنا بعد هذا المجهود البدني و العصبي الهائل الذي بذله خلال الدقائق القليلة المنصرمة التي بدت و كأنها عقود بالنسبة لها و له

ما زال يضربها بوحشية ، ما زال يتحدث ، مازال كيانه ينضح حنقا و هو يهدر بأعلي صوته بلا وعي :

-خاينة يا سمر . خونتيني زيها . كنت واثق فيكي . أفكاري كلها كانت بدأت تتغير من ناحيتك . كنت فاكرك مختلفة فعلا . كنت فاكرك غيرهم كلهم . لكن طلعتي ممثلة . ممثلة هايلة . خدعتيني . بعتيني . إنتي ماتستهليش أي حاجة . إنتي —— و —— زييها بالظبط.

يتوقف “عثمان” أخيرا عندما شعر بالإنهاك ، يتنفس بصوت مرتفع ، ينظر إليها بإحتقار و لم تخالجه ذرة شفقة عليها

بل ألقي بالحزام الذي يقطر منه دمائها علي الأرض ، ثم إلتفت و مضي إلي الهاتف الرابض فوق طاولة بجانب الفراش

أمسك بدليل الأرقام ، و عثر علي رقم الإسعاف بسهولة … ضرب الأرقام و إنتظر الرد ..

-ألو .. كانت أنفاسه منتظمة الآن و تحدث علي نحو جدي هادئ ..

-من فضلك محتاج عربية إسعاف علي العنوان ده “————” أنا عثمان البحيري . إللي حصل مايخصكيش . إبعتيلي عربية و خلاص . دلوقتي حالا !

و أغلق الخط و هو يتنهد بثقل … تناهي إلي سمعه صوت جرس هاتفهه ، كان مكتوما ، فعقد حاجبيه و هو يتتبع مصدره

وصل عند “سمر” ثانيةً … الصوت ينبعث من أسفلها حيث وقع منه بالتأكيد أثناء جلسة الضرب العنيفة التي أقامها لها

لكزها بقدمه و أزاحها جانبا ، ثم تناول الهاتف و رد بدون أن يعرف هوية المتصل ..

-ألو !

المتصل بنبرة حماسية :

-عثمان بيه . معاك عبد المنعم صقر.

عثمان بفتور :

-أهلا . خير يا أستاذ صقر ؟ في مستندات تانية حابب توريهالي ؟!

-لأ يافندم ده أنا بتصل عشان أقولك خبر مهم جدا.

عثمان و هو يفرك وجهه بكفه :

-خبر إيه ؟

-أنا عرفت مين الست إللي جابت الصور بتاعت سيادتك . مش هتصدق هي مين حضرتك !

عثمان بإبتسامة ساخرة :

-مين يا أستاذ صقر ؟

-چــــيــــــــــــــــچـي الحدآاد !

عثمان بصدمة :

-بتقول إيه ؟؟؟؟؟؟؟؟

عبد المنعم بنبرة مهزوزة بعض الشئ :

-هي مفاجأة فعلا . أنا نفسي ماتخيلتش تفضل وراك بعد كل إللي حصل بينكوا . أنا قلت أبلغ حضرتك بالخبر ده قلت أكيد يهمك و من حقك تعرف عشان تاخد إحتياطاتك بعد كده.

عثمان بنفس الصدمة ممزوجة بالغضب :

-إيه إللي إنت بتقوله ده ؟ إنت كل شوية هتطلعلي بحدوته ؟ جبت الكلام ده منين ؟ يبقي إنت إللي عامل كل ده و كدبت عليا . أقسم بالله ما هاسيبك !

عبد المنعم بجدية :

-يا عثمان بيه إهدا من فضلك . أنا هفهمك قبل ما تجيلي حضرتك إمبارح بعت واحد من إللي شغالين عندي ورا الست إللي جات و جابتلي الصور … و حكي له ما حدث

سقط الهاتف من يده … جحظت عيناه و تباعدت شفتاه بصدمة مضاعفة عندما وقع بصره عليها

-مش إنتي !!! .. همس “عثمان” و صاح مكملا و هو يهرع إليها :

-مش إنتي يا سمر ؟؟؟ .. ركع بجوارها و أمسك بكتفيها

-يعني مش إنتي إللي روحتي ؟ إنتي ماخونتنيش ؟ إنتي ماعملتيش حاجة فعلا زي ما قولتيلي ؟ أنا ظلمتك ؟ أنا .. عملت فيكي كده .. و شملها بنظرة مصعوقة ، ثم صرخ بذعر :

-لأااااااااااااااا . أنا عملت فيكي إيه ؟ عملت إيه ؟ أنا ماكنش قصدي أنا كنت فاكرك بعتيني . كنت فاكرك زيها . أنا آسف . آسف يا سمر . إصحي عشان خاطري . طيب فتحي عنيكي بس . أنا بحبك و الله عملت كل ده عشان بحبك . ماكنتش متوقع إني ممكن إتصدم فيكي . سمر . إنتي الوحيدة إللي ملكتي قلبي و الله العظيم . أنا حبيتك و عارفة و الله إمبارح لما كلمتك و قولتلك نتقابل كنت عايز أشوفك عشان أقولك إننا هنتجوز رسمي . كنت عملهالك مفاجأة .. سمر . قومي الله يخليكي ماتعمليش فيا كده !

و لكن لا حياة لمن تنادي … هزها بعنف و هو يصيح :

-ســــــمـــــــر ! لأااا ردي عليا ماتعمليش زيه . مش هقدر أستحمل ده تاني . أرجوكي لأ . لأ .. أرجوكي . قومي . لأ .. كان عذابا مروع باديا في صوته

-سمر . سمر . أرجوكي . ردي عليا . لأ . لأ . سمر . لأ . لأاااااااااا . ســـــــــــــمـــــــــــــــــــــــــر !

و فجأة دوي بوق سيارة الإسعاف مقتربا شيئا فشئ من المنزل الممتلئ عويلا و صراخا ، بالطبع لم يكن السائق بحاجة للنظر في العنوان

لقد أرشدته هذه الأصوات بمنتهي السهولة …

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

في قصر آل”بحيري” … تدور “صفية” بغرفتها علي غير هدي

بعد ما سمعته من فم عمها بغرفة أمها ،لم تشعر بنفسها إلا و هي تركض إلي هنا … كانت دموعها تهطل بغزارة الآن

لو كان هذا الكلام صحيحا حقا فإنها كـــــــارثة …

-صافي هانم !

إنتبهت “صفية” علي صوت الخادمة ، إلتفتت لها

-عايزه إيه ؟ .. سألتها “صفية” بحدة

الخادمة بتوتر :

-فريال هانم عايزة حضرتك !

-طيب روحيلها إنتي دلوقتي و أنا جاية وراكي.

أطاعتها الخادمة و ذهبت ، بينما إزدادت حيرتها و هي تتنهد بحرارة ..

-يا ربي ! أعمل إيه ؟ أنا مش عارفة أي حاجة .. يا رب !!

إضطرت إلي الذهاب في الأخير … ولجت عند أمها ، لتجدها جالسة في إنتظارها بفارغ الصبر

تحاشت “صفية” النظر إليها و مشت ناحيتها بآلية .. جلست علي طرف السرير قبالتها ، لتمد “فريال” يدها و ترفع ذقنها لتجبرها علي النظر لها ..

رمقتها “صفية” بتساؤل ممزوج بالإرتباك … ثم قالت بحذر :

-إيه إللي أنا سمعته ده يا مامي ؟ إللي أنا سمعته ده صحيح ؟؟؟

بسرعة أمسكت “فريال” بالدفتر و القلم و بدأت تكتب ..

أعطت الورقة لإبنتها لتقرأ … ” إنتي سمعتي إيه بالظبط ؟ ”

إبتلعت “صفية” ريقها بصعوبة و أجابت :

-بابي مات في حادثة . مش فاهمة . أنكل رفعت .. قال كلام فظيع .. فعلا هو … هو إللي قـ آا . هو إللي عمل كده في بابي عـ عشانك ؟؟؟

تكتب “فريال” من جديد ، ثم تقرأ “صفية” .. ” مافيش حاجة بيني و بين عمك يا صافي . إوعي تفهمي غلط ”

صفية بوهن :

-أنا عارفة يا مامي . أنا مش ممكن أتخيل حاجة زي دي طبعا .. بس إللي هجينني . هو فعلا عمل كده و لا لأ ؟؟!!

تنهدت “فريال” بآسي و عادت تكتب .. إستغرقت بعض الوقت في هذه الورقة ، و لكنها سلمتها لإبنتها بالنهاية ..

قرأت “صفية” .. ” أنا ماعرفش . بجد ماعرفش . أنا بس محروقة أووي يابنتي . قلبي مولع مش قادرة أطفي النار إللي جوايا علي أبوكي . عمك إعترفلي من فترة إنه بيحبني من زمان . ماكانش طبيعي لما قالي كده . أنا ماحبتش أكبر الموضوع و لو كنت قلت حاجة ليحيى الموضوع كان هيوصل للدم مش مجرد خناقة من خناقتهم العادية إللي بتحصل دايما .. أنا مش متأكدة من حاجة يا صافي . بس أنا يائسة . يائسة و حاسة إني هنفجر . عايزة أعمل أي حاجة . عايزة أرتاح . أنا عايزة أموت يا صفية . عايزة يحيى . أنا مش قادرة أصدق إني مش هاشوفه تاني . أنا هتجنن و الله هتجنن ”

تترك “صفية” الورقة و تقترب من أمها التي بدأت تجهش بالبكاء ، ضمتها إليها متمتمة :

-خلاص يا مامي . بليز إهدي .. عشان خاطري . بعد الشر عليكي يا حبيبتي . إوعي تقولي كده تاني . ده إنتي إللي باقيتلنا أنا و عثمان . مانقدرش نعيش منغيرك . فكري فينا يا مامي و صبري نفسك . إوعي تيأسي أو تستسلمي . إحنا معاكي . يعني كإن بابي معاكي . مش إحنا بردو حتة منه ؟!

إرتجفت “فريال” و هي تنشج بحرقة في حضن إبنتها ، لتربت “صفية” علي ظهرها محاولة تهدئتها ..

صفية بلطف :

-بس يا مامي . إهدي يا حبيبتي.

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

في ڤيلا “رشاد الحداد” … تجلس “چيچي” مع والدها في الشرفة المطلة علي الحديقة

يتناولا معا طعام الفطور ، و لكن “چيچي” مشغولة بشئ أخر ..

منذ أكثر من نصف ساعة و هي ممسكة بجميع الجرائد و المجلات ، تتصفح أخبار اليوم و خاصة أخبار صفحة المجتمع

علي أمل أن تري الفضيحة التي دبرتها لزوجها السابق … و لكن لا شئ ، لا شئ البتة !

يلاحظ والدها ما يحدث معها ، فينتابه الفضول ..

رشاد بصوته العميق :

-چيچي ! مالك في إيه ؟؟

چيچي و هي تنظر له في توتر :

-هه ! بتقول حاجة يا بابي ؟!

رشاد بنظرة ثاقبة :

-بقول مالك ؟ من الصبح و إنتي ماسكة الجرايد و مش بتفطري ! عايزة تشوفي إيه في الأخبار ؟؟؟

چيچي بإرتباك :

-آا أبدا . مش . مش عايزة أشوف حاجة.

-چيچي ! ..قالها “رشاد” بتشكك

-قوليلي هببتي إيه ؟ طالما مرتبكة و حالك مشقلب كده يبقي عملتي مصيبة.

چيچي بضيق :

-لا مصيبة و لا حاجة . إنت ليه دايما بتحسسني إني طفلة صغيرة ؟ علي فكرة أنا كبرت و بقيت بفهم و إطمن مش هورطك تاني في مشاكل أنا إتعلمت من الدرس كويس.

رشاد بجدية :

-طيب قوليلي عملتي إيه ؟

تنهدت “چيچي” يإستسلام و حكت له ما حدث ..

-نهارك إسووود ! .. صاح “رشاد” بغضب و هو يقلب بعنف طاولة الطعام التي تفصلهما عن بعض ، و تابع :

-إنتي إتجننتي ؟ إزاي تعملي كده يا بنت الـ—– يا غبية يا متخلفة ؟ إنتي إيه مابتحرميش ؟ عايزة تعملي فيا إيه تاني ؟ بتورطينا لتاني مرة مع عثمان البحيري ؟ و قبل فرحك بشهر ؟ و كمان قبل الإنتخابات إللي آجلتها مخصوص لحد ما فضيحتك تداري ؟ إنتي عارفة إنه ممكن يدمرنا في ثانية بالـcd إللي معاه ؟ لو كبرت في دماغه و عملها مش هيبقالنا عيش في البلد دي . مستقبلنا هينتهي يا بنت الـ—- !

چيچي و هي تلتصق بمقعدها بخوف :

-يا بابي إهدا . أنا عملت حسابي كويس كنت متنكرة و محدش شافني . هو مش هيعرف حاجة.

هب “رشاد” من جلسه هادرا بإنفعال :

-إنتي فاكراه غبي ؟ إذا كان عرف يصورك و إنتي جوا أوضة نوم الزفت بتاعك و في حضنه مش هيعرف إن إنتي إللي ورا الفضيحة إللي هتحصله ؟!

چيچي بثقة :

-مش هيعرف صدقني.

رشاد بغضب :

-إخرسي خالص . و رحمة أمك لو جاتلي مشكلة تانية حتي و لو كانت صغيرة من تحت راسك هقتلك يا چيچي . هدبحك بإيديا.

إزدردت “چيچي” ريقها بخوف و حملقت فيه صامتة ..

رشاد بخشونة :

-إسمه إيه الجرنال إللي روحتيه ؟ إنطقي خليني أتصرف قبل ما المعبد يتهد فوق دماغي و دماغك !

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

في المستشفي التخصصي … يقف “عثمان” أمام غرفة الفحص ، يعض أصابع الندم

كان خوفه حقيقي ، حقيقي جدا إلي حد جعل شفتاه ترتجفان و ساقاه تهددان بإنهياره ما إذا خرج الطبيب و أخبره بشئ لن يتحمل سماعه ..

-هتبقي كويسة ! .. تمتم “عثمان” لنفسه و هو يحارب رغبة جامحة في البكاء

-سمر هتبقي كويسة . لازم تبقي كويسة.

في هذه اللحظة خرج الطبيب راسما علي وجهه ملامح الغضب ..

إقترب “عثمان” منه و سأله بتلهف :

-دكتور . أرجوك طمني . سمر عاملة إيه ؟!

الطبيب بصوت أجش :

-إنت تقربلها إيه بالظبط ؟

عثمان بصبر نافذ :

-أنا جوزها من فضلك قولي بقي هي كويسة ؟؟؟

الطبيب بحدة :

-المدام إتعرضت لأبشع أنواع الإعتداءات بالضرب . إيديها الإتنين مكسورين و في شرخ في الرجل الشمال . ده غير الجروح و الكدمات إللي مغطية جسمها كله.

إبتلع “عثمان” غصة مريرة في حلقه ، و قال بصعوبة :

-هتخف . صح ؟

الطبيب بنفس الحدة :

-هتتعالج و هتخف إن شاء الله بس هنحتاج لشوية عمليات.

عثمان بإسراع :

-إعمل اللازم يا دكتور أنا مستعد أدفع ملايين بس سمر تقوم و تبقي كويسة تاني.

الطبيب بنظرة إتهام :

-حضرتك تعرف مين إللي عمل فيها كده ؟

و هنا أطرق “عثمان” رأسه بخزي ، ليكمل الطبيب بصوت يزخر بالحنق الشديد :

-المدام حامل !!!!

يتبـــــع …

error: