رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب

( 21 )

_ جنون ! _

في السادسة مساءً … تعود “سمر” إلي بيتها أخيرا

تفتح باب شقتها و تدخل ، لتري “فادي” يجوب الصالة ذهابا و إيابا

بدا أنه كان ينتظرها منذ وقت طويل ، و كعادته كان ثائر و قلق إلي أقصي حد ..

-كنتي فين يا سمر ؟ .. صاح “فادي” بتساؤل حين لمحها و هي تدخل من باب الشقة

بينما أغلقت “سمر” الباب و هي تتحاشي النظر إلي عيناه ، تخشي أن يعرف ما حدث لو طل في وجهها فقط

و لكن لا مفر ، يجب أن تواجهه ..

إستعادت رباطة جأشها و إلتفتت إليه ، ثم أجابت بإبتسامة بسيطة :

-إيه يا حبيبي مالك ؟ عصبي كده ليه بس ؟!

فادي بعصبية ممزوجة بالدهشة :

-بتسأليني عصبي كده ليه ؟ يعني أنا سايبك تعبانة و في السرير أجي ألاقيكي مش موجودة و بتصل بيكي مابترديش . عايزاني أبقي عامل إزاي !!!

سمر بلطف :

-طيب إهدا . ماحصلش حاجة و أنا كويسة قدامك أهو . كل الحكاية بس إني حسيت بخنقة فقلت أنزل إتمشي علي البحر شوية.

فادي بخشونة :

-و ماكنتيش بتردي علي موبايلك ليه ؟ إتصلت بيكي ميت مرة.

سمر ببراءة و هي تخرج هاتفهها من الحقيبة :

-ماسمعتوش و الله ! ما انت عارف الدوشة علي الكورنيش بتبقي عاملة إزاي.

و تظاهرت بتفحص الهاتف ، ثم قالت بأسف :

-آااه صحيح ! ده إنت إتصلت كتير أوي .. معلش يا حبيبي حقك عليا . بعد كده قبل ما أخرج أو أروح في أي حتة هبقي أتصل أقولك علطول.

أشاح “فادي” عنها و نظر في الجهة الأخري معبرا عن ضيقه ..

لتسرع هي و تقوم بالتمويه عن النقاش قائلة :

-بالمناسبة بقي و قبل ما أنسي .. أنا بكره هاروح أبات مع ملك في العيادة.

عاود “فادي” النظر إليها في الحال و قال بخوف :

-ليه ؟ هي مالها ؟ حصلها حاجة ؟؟؟

-لأ يا حبيبي إطمن هي كويسة . بس وحشتني أوي . مش متعودة تبعد عن حضني المدة دي كلها !

إبتسم “فادي” بحنان ، ثم إقترب من أخته و ربت علي كتفها برفق قائلا :

-إن شاء الله هتخف و هترجعلنا . أنا كمان وحشتني أوووي . لولا الإمتحانات بس كان زماني أنا إللي معاها كل يوم و لا كنت سيبتها أبدا.

سمر بإبتسامة حزينة :

-خلاص . هانت فاضل إسبوع . ربنا يعديه علي خير .. ثم قالت بإسلوبها الدبلوماسي :

-خلاص بقي أديك عرفت أهو أنا هبقي فين بكره . و ماتقلقش يا سيدي قبل ما أمشي هكون محضرالك غداك و عشاك و بإذن الله تاني يوم الصبح هتلاقيني رجعت.

فادي بإستغراب :

-طيب و شغلك ؟ هتبطلي تروحي و لا إيه ؟!

-لأ طبعا يا فادي هاروح . أنا كلمت عثمان بيه و إتفقنا هرجع كمان يومين كده.

أومأ “فادي” بتفهم ، ثم قال بإبتسامة :

-ماشي يا سمر . إبقي بوسيلي لوكا جامد بقي و إبقي إتصلي بيا كمان عشان تطمنيني عليكي و عليها.

سمر بإبتسامة مماثلة :

-حاضر يا حبيبي . و إنت كمان إبقي إتصل بيا لو إتزنقت في أي حاجة هنا . لو عوزت تعمل حاجة معينة يعني .. إبقي كلمني.

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

في سيارة “عثمان” … يفتتح “مراد” حديثا معه أثناء القيادة

مراد بإبتسامة تهكمية :

-يعني عدوا اليومين بتوع الرهان يا خويا و محدش عارفلك حاجة ! ماقولتليش يعني عملت إيه ؟!

إلتوي ثغر “عثمان” بإبتسامة خبيثة و هو يجيبه و في نفس الوقت يركز علي الطريق أمامه :

-و الله شكلها زي ما قلت يا صاحبي.

مراد و قد تلاشت إبتسامته :

-مش فاهم قصدك إيه ؟ فشلت معاها يعني ؟!

عثمان بغموض :

-يعني .. تقريبا !

-يعني إيه تقريبا ؟ .. تساءل “مراد” بشئ من الإنفعال ، و تابع :

-قولي إيه إللي حصل.

عثمان بفتور :

-ماحصلش حاجة يا مراد . ماوصلناش لحاجة مع بعض لسا.

مراد بفضول :

-يعني كلمتها و لا لأ ؟!

تأفف “عثمان” بضيق و قال :

-يا أخي زهقتني . لو كان حصل حاجة كنت قولتلك إخرس بقي.

تنهد مراد بسرور حقيقي ، ثم قال :

-ماعندكش فكرة أنا فرحان فيك إزاي يا صاحبي . أول مرة تخسر رهان.

تجاهل”عثمان” عبارته تماما و إكتفي فقط برسم إبتسامة شيطانية غير مرئية علي فمه ..

-حقيقي فرحان فيك .. قالها “مراد” بمرح و هو يبتسم بشدة ، ليرد “عثمان” بسخرية :

-إفرح ياخويا .. مرة من نفسك !

و مرت بضعة دقائق أخري … حتي وصلا إلي المشفي

صعدا سويا إلي جناح “صالح” ليطرق “عثمان” الباب و يلج أولا ..

كانت الممرضة بالداخل تعطي لـ”صالح” جرعة دوائه ، بينما هو يتمنع و يظهر لها إسلوبا عدائيا ، لكنها تعاملت معه بحزم حتي نجحت في مهمتها ..

-بــــــس . شفت حضرتك خلصنا بسرعة إزاي ؟ لازم تتعبني كل مرة و خلاص يعني ؟! .. قالت الممرضة بعتاب ، ليأتي “عثمان” من خلفها و هو يقول :

-إيه يا صلَّوحي ! لازم تتعب الـNurse معاك كل مرة ؟ مايصحش كده يا أخي عيب .. ثم أكمل مخاطبا الفتاة :

-إحنا آسفين أوي يا أنسة . بس هو صالح كده متعود علي الدلع من و هو صغير . إستحمليه معلش و سايسيه بالراحة هتلاقيه بقي علي أد إيدك زي البيبي بالظبط.

كانت لهجته مرحة ساخرة ، فحدجته الممرضة بإبتسامة صفراء قائلة :

-إممم لأ ماتقلقش يافندم . إحنا هنا موجودين عشان ندلع النزلا طبعا مش عشان نعالجهم .. ثم تجهمت فجأة و أردفت بصرامة :

-عن أذنكوا ورايا عيانين.

إشتدت عضلات فك “مراد” و هو يداري إبتسامة و يقاوم ضحكة كبيرة في نفس الوقت ، إلي أن خرجت الفتاة ..

إنفجر ضاحكا و هو يقول :

-يخرب عقلك يا عثمان . سحلت البت بكلمتين . آاااخ وحشتني أيام الشقاوة دي !

ضحك “عثمان” بخفة ، ثم إلتفت إلي “صالح” و قال :

-إيه يابن عمي ! أخبارك إيه ؟؟

-إيه إللي جابك يا عثمان ؟ .. قالها “صالح” بجفاء و هو ينظر أمامه مباشرةً متجنبا النظر نحو ضيفيه

تظاهر ” عثمان” بعدم ملاحظة إسلوبه ، و قال بدهشة :

-إيه المقابلة البطالة دي ؟ المستشفي دي بهتت عليك و لا إيه ؟ ده بدل ما تقولي إتفضل ليك وشحة يابن عمي !

صمت “صالح” و لم يرد ..

فسحب “عثمان” كرسي و جلس بجواره ، ثم قال :

-إيه يابني .. مالك ؟

صمت أخر ، ليزفر “عثمان” بضجر قائلا :

-مش عايز تتعالج ليه يا صالح ؟ .. رد عليا ؟ مش عايز تتعالج ليه ؟ إيه إللي إنت عايز تثبته بالظبط … ثم صرخ فيه :

-رددد عليــــــــــــــا !

-عايزني أقولك إيه ؟ .. صاح “صالح” بعصبية ، و تابع :

-عايزني أقولك إنك إنت السبب في إللي حصلي ؟ عايزني أقولك إني مش هعرف أقف علي رجليا تاني بسببك ؟ عايزني أقولك إن حياتي شبه إنتهت و حياتك إنت مكملة عادي ؟ .. ده إنت يا أخي ما سألتش فيا من يوم دخلت الهبابة دي . حتي زيارتك إللي فاتت . عملتها تقضية واجب و مشيت و من ساعتها ماشوفتكش . كأنك بتقولي إنت مش مهم أنا أهم منك . و صحيح عندك حق . ما حظك إنك إبن يحيى البحيري الوريث الكبير للعيلة و إللي بيتحكم في كل حاجة حتي في أخوه و ولاده . سافر يا رفعت . يسافر رفعت . خد هالة معاك و سيب صالح يا رفعت . ياخد هالة معاه و يسيب صالح . صالح ماينفعش لصفية دول ولاد عم و بس و بعد فيييين و فين يتكرم يحيى باشا و يوافق علي الخطوبة . بس أنا بقي إللي مابقتش عايز . أنا إللي فسخت الخطوبة قبل ما يعملها هو و لما هخرج من هنا مش هستني أبويا يشوف صرفة مع أخوه . أنا إللي هقفلكوا كلكوا . بس مش علي رجلي يابن عمي.

كان “عثمان” يستمع إليه بصدمة كبيرة … حتي إنتهي ..

هب من مكانه فجأة و هو يقول بصرامة شديدة :

-أنا مقدر الحالة إللي إنت فيها . و رغم إنك زودتها شوية بس هعذرك .. إنت يعتبر مش في وعيك . عشان كده أنا هسيبك دلوقتي . و بعدين هبقي أجي أشوفك .. يكون عقلك إتردلك ساعتها.

ثم إستدار و غادر بخطوات ثابتة دون أن يضيف حرفا أخر

ليتبعه “مراد” الذي صـُدم بدوره من أقوال “صالح” و بدون أن يفه بكلمة هو أيضا …

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

في قصر آل “بحيري” … يقوم “رفعت” بجولة روتينية مارا بالطوابق و ما بينها

ليري زوجة أخيه تجلس بالشرفة الواسعة فوق الأرجوحة الساكنة ، بدت و كأنها شاردة في صفحة الليل الحالكة المرصعة بالنجوم المتلآلئة ..

إبتسم “رفعت” و مشي ناحيتها بحذر ، ثم جاء من خلفها و بدأ يدفع بالأرجوحة بصورة مفاجئة

شهقت “فريال” بذعر في بادئ الأمر ، لكنها نظرت ورائها و إكتشفت من الفاعل ..

-رفعت ! .. هتفت “فريال” و هي تبتسم برقتها المعهودة ، ليرد الأخير :

-مساء الخير يا فريال.

-مساء النور يا رفعت . إيه إنت خارج و لا إيه ؟!

رفعت و هو يعاين جمالها بإعجاب ظاهر :

-لا أبدا مش خارج . أنا كنت بتمشي في البيت بس . عادي .. ثم سألها :

-يحيى ماكلمكيش ؟

-كلمني من شوية.

-وصل بالسلامة يعني ؟!

-أه الحمدلله . و وصل للأوتيل كمان.

-كويس !

و أخذ يرمقها بنظرات مطولة غامضة ..

توترت “فريال” حين لاحظت هذا ، فقامت و هي تقول بإرتباك :

-طيب آا أنا هـ هطلع علي الأوضة . عن أذنك.

و تعثرت رغما عنها و هي تخطو بمحاذته ..

ليسرع هو و يسندها بذراعيه صائحا :

-حسبي يا فريال.

-آه . أنا آسفة ! .. قالتها “فريال” بحرج شديد و هي تحاول أن تتوازن بلا جدوي

بينما ضحك “رفعت” و قد كان يمسكها بإحكام ..

-طيب إصبري هسندك . إنتي كده إللي بتوقعي نفسك و هتوقعيني معاكي.

فريال بتوتر :

-آسفة يا رفعت.

و بعد لحظة كانت تقف معتدلة تماما ، بينما لا يزال يطوقها “رفعت” بذراعيه و يرفض إطلاق سراحها ..

حاولت “فريال” التصرف بشكل متحضر ، فإبتسمت بتكلف و هي تقول :

-رفعت ! فـ في حاجة ؟ .. يعني لو تمسح تعديني بس .. و لا إيه !!

غامت عيناه من شدة تحديقه فيها بتركيز قوي ، لكنه تكلم أخيرا ..

رفعت و هو يشدد قبضته حولها :

-فريال .. أنا بحبــــــــــــــــــك !

توسعت عيناها و جحظتا من الصدمة ..

لتتصرف بعنف بعد هذا فورا و تدفعه عنها بمنتهي القوة و هي تصيح :

-إنت بتقول إيـــــــه ؟ إنت مجنووووووون !!!

رفعت و هو يرمقها بغضب شديد :

-لأ أنا مش مجنون . أنا أخيرا بقولك الحقيقة . أنا بحبك يا فريال . بحبك و من زمان أوي من قبل ما تقابلي أخويا و تتجوزيه . هو . هو إللي خدك مني زي ما طول عمره بياخد مني كل حاجة . إنتي المفروض تكوني مراتي أنا . إنتي من حقي أنا . أنا يا فريال لازم تعرفي ده كويس.

غطت فمها المفتوح بكفها ، و لم تنتظر لتسمع المزيد ..

ركضت من أمامه فورا و هربت إلي غرفتها

أقفلت الباب بالمفتاح و هي تشعر بقلبها يكاد يقفز من بين ضلوعها من شدة خفقانه ، ثم تداعت فوق أقرب آريكة و هي تلهث بقوة

و كم تمنت لو كان ذلك مجرد حلم .. و لكن لا ، كان حقيقي و كلماته ما زالت تدوي بأذنيها بصخب و إلحاح شديد

بحق الله ، أي شيطان دفعه لقول هذا ؟؟؟

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

صباح يوم جديد … إستيقظت “سمر” من نوم متقطع مليئ بالكوابيس و الأحلام المزعجة

أولا إنتهت من إعداد طعام اليوم كله لـ”فادي” ثم تناولت هي وجبة خفيفة ، و ليتها أكلت جيدا ..

شهيتها مفقودة تجاه كل شئ ، لا تفكر سوي في موعدها معه بعد قليل

ذهبت “سمر” لتغتسل ، ثم عادت إلي غرفتها و إرتدت ملابسها ..

لم تهتم بإختيار ثوب معين ، و لكنها حرصت ألا يكون مميز أو ملفت

لا تريده أن يغتر بنفسه و يعتقد أنها مسرورة بما حدث البارحة أو بما سيحدث اليوم ، يجب أن يدرك أنها مرغمة علي فعل هذا و أن الخيار لو كان متاحا لها لما رضخت لإرادته أبدا ..

إنتهت “سمر” من تجهيز نفسها ، و أخر شئ

فتحت حقيبتها و تأكدت من وجود ورقة الزواج الخاصة بها و التي مضت عليها بنفسها .. بكامل إرادتها و بدون أي ضغط منه تماما كما قال

إبتسمت بسخرية مريرة و هي تطوي الورقة بكفها ، لكنها عادت و دستها بمكانها مرة أخري

ثم أخذت نفسا عميقا و إستعدت للرحيل !!!!!

error: