رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب

( 18 )

_ شيطان ! _

كانت تعد له حقيبة السفر و قلبها يتعذب … لا تريده أن يذهب و يتركها ، خاصةً أنه سيغيب لمدة شهر

كيف ستتحمل كل هذه المدة بدونه ؟ .. بالطبع لن تتحمل !

و لكن علي حد قوله هذه الرحلة مهمة جدا بالنسبة لأعماله و يجب أن يذهب ، للآسف ليس أمامه خيارا أخر …

-فريال ! إنتي لسا بتعيطي بردو ؟ .. قالها “يحيى” عابسا بضيق ، لترد “فريال” التي إنتهت من إعداد الحقيبة و شرعت في إقفالها :

-لأ يا يحيى .. مش بعيط !

نطقت بصوت متحشرج ، ثم أسرعت بمسح دموعها قبل أن يراها ، و أردفت :

-خلاص شنطتك بقت جاهزة.

تنهد “يحيى” بسأم ، ثم ترك أغراضه من يده و مشي ناحيتها ..

أمسك بكتفيها و حملق فيها بحب و هو يقول :

-حبيبتي . أنا مش سايبك بمزاجي . إنتي عارفة كويس إني مابقدرش أستغني عنك و باخدك معايا في كل في سفرية .. بس المرة دي مش هقدر أخدك معايا . البلد إللي أنا رايحها برد أوي عليكي و أنا عارف إنك مش هتقدري تتحملي البرودة إللي هناك و لو خدتك هتتعبي أوي !

فريال و هي تنظر إلي عيناه بحزن :

-خلاص يا حبيبي . روح إنت و أنا هستناك .. بس خلي بالك من نفسك.

يحيى بإبتسامة عشق :

-حاضر . و أوعدك هحاول أخلص شغلي هناك قبل شهر عشان أرجعلك بسرعة.

-يا ريت تعمل كده.

نظر لها “يحيى” بهيام ملتهب ، ثم ضمها بقوة و هو يتمتم و قد غمر شعرها الحريري وجهه :

-فريال هانم .. يا بنت سليمان باشا المهدي . يا حبيبتي و مراتي و أم ولادي .. بحـــــــــــــــبك . و هتوحشيني أوووي.

إبتسمت “فريال” بشدة ، حتي تحولت بسمتها إلي ضحكة جميلة و هي ترد عليه :

-و أنا كمان بعشقك . يا دونچوان جليم و إسكندرية كلها.

ضحك “يحيى” هو الأخر ، ثم عاود النظر إليها و قال :

-إنتي لسا فاكرة ؟ ياااه ده كان زمان يا حبيبتي.

فريال برقة و هي تضبط له ربط عنقه :

-و لحد دلوقتي يا حبيبي و الله . كل الستات بيحسدوني عليك لحد إنهاردة . و كلهم بيتمنوا يشوفوك بس.

يحيى و هو يقرص ذقنها بلطف :

-بس أنا بقي مش شايف وسطهم حد غيرك . إنتي لوحدك إللي عايشة في قلبي.

فريال بإبتسامة :

-عارفة يا حبيبي . و واثقة من كده جدا … ثم قالت و هي تبتعد عنه قليلا :

-يلا بقي . يلا عشان ماتتأخرش علي طيارتك.

يحيى بنصف عين :

-ممم شكلك زهقتي مني و عايزة تزحلقيني.

فريال بضحك :

-أنا ! الله يسامحك . طب تصدق أنا غلطانة . خلاص خليك و بلاش سفر يا يحيى.

-لا لا لا إنتي صدقتي و لا إيه ؟ كده يتخرب بيتنا يا حبيبتي.

-ما إنت بتفهمني غلط . مش لسا هتروح القاهرة عشان تاخد الطيارة من هناك ؟ كل ده مش هياخد وقت ؟!

-هياخد طبعا يا حبيبتي .. ثم أكمل و هو يمسك بيدها :

-طيب يلا . يلا عشان تودعيني تحت.

فريال و هي تسحب يدها من يده بقوة :

-لأ . مابحبش الوداع .. أنا خلاص سلمت عليك !

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

في منزل “سمر” … زاد شعورها بالإعياء خاصةً عقب ذهابه

فلازمت فراشها مستسلمة لأفكارها و هواجسها ، و لكنه هو .. كان أكبر هاجس يطاردها ..

إنتفضت حين رن هاتفهها فجأة

لكنها أسرعت بالإجابة عندما لمحت إسم الطبيب المشرف علي علاج “ملك” ..

-ألو !

ردت بصوت مهزوز من القلق ، ليأتي صوت الطرف الأخر :

-ألو أنسة سمر معايا ؟!

-أيوه يا دكتور أنا معاك ! خير في حاجة ؟ ملك حصلها حاجة ؟؟؟

-لأ إطمني حضرتك هي بخير مافيهاش حاجة.

سمر و هي تزفر بإرتياح :

-الحمدلله ! طيب خير ؟ حضرتك عاوز مني حاجة ؟!

-في الحقيقة أه يا أنسة . كنت بتصل عشان أستفسر عن حاجة مهمة.

-إتفضل يا دكتور !

-مصاريف العلاج يا أنسة سمر . بقالها يومين محدش جه دفعهم . لعل المانع خير !

سمر بصدمة كبيرة :

-المصاريف بقالها يومين .. محدش دفعهم ؟!

-أيوه يا أنسة . أنا لما فات أول يوم و محدش جه قلت جايز حصلت ظروف . بس إمبارح لا حد جه و لا حد إتصل فإضطريت أكلم حضرتك دلوقتي.

سمر بمرارة شديدة :

-أيوه يا دكتور !

-حضرتك عارفة إن المبلغ مش قليل . و لو الفلوس ماجتش إنهاردة هيبقي تالت يوم و كده أنا آسف هضطر أخرج أختك من الحضـَّانة و لازم حضرتك تيجي تاخديها بعد شوية إلا إذا جيتي و جبتي الفلوس معاكي و دفعتي الـتلاتيام مع بعض.

تقلص وجهها بألم شديد ، لتهطل من عيناها الدموع ..

لقد فعلها .. لقد تعمد فعل ذلك ليثبت لها أنها بحاجة له

توقف عن دفع رسوم العلاج … يا له من شيطان ..

ماذا ستفعل الآن ؟ .. و هي لا تملك فلسا !

أيعقل ؟ … أيعقل أن تتحقق مشيئته و .. و تذهب له ؟!

و قبل الميعاد أيضا !!!!!

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• ••

في قصر آل”بحيري” … تحديدا بالأسفل داخل الكراچ

تدخل “هالة” هي و السائق المسن و يمشيا في إتجاه صف السيارات الخاصة بالعائلة ..

-إنت عارف شركة عثمان بيه صح يا عم جابر ؟!

جابر ببشاشة تليق بسنه :

-عارفها يا ست هالة و هوديكي علي عيني.

هالة بإبتسامتها رقيقة :

-تسلم عنيك يا عم جابر .. طب يلا بقي شوف هتوديني بعربية مين !

-هوديكي بعربية يحيى باشا القديمة . أنا لما حد هنا بيعوزني أوصله في حتة بطلع بيه بعربية يحيى باشا القديمة . دي أوامره.

أومأت “هالة” بعفوية و هي تقول :

-أووك يا عم جابر . يلا بينا بقي.

-صباح الخير ! .. قالها “مراد” الذي آتي فجأة من خلف “هالة” ، لتلفت له و ترد بإبتسامة :

-صباح النور . إزيك يا مراد !

-الحمدلله تمام يا هالة . إيه إنتي رايحة لعثمان و لا إيه ؟

هالة و هي ترفع خصلة نزلت علي عينها :

-أه فعلا . رايحاله !

أحس أنها شعرت ببعض التوتر ، فقال بتهذيب :

-أنا آسف بس أنا كنت هنا و سمعتك غصب عني و إنتي بتقولي رايحاله.

هالة بإبتسامة مرتبكة :

-و لا يهمك هو مش سر يعني.

-طيب عموما أنا رايحله بردو . ممكن أخدك معايا لو تحبي !

هالة و قد تلاشت إبتسامتها الخفيفة :

-مش عايزة أتعبك.

-مافيش تعب يا هالة بقولك رايحله.

لم تجد حجة تفلت بها منه ..

فإلتفتت للسائق و تمتمت بخفوت :

-خلاص يا عم جابر . مراد هايوديني !

جابر بإبتسامة :

-ماشي يا ست هالة . و أنا هاجي وراكوا عشان أبقي أرجع حضرتك.

و هنا تدخل “مراد” قائلا بصرامة هادئة :

-مافيش داعي يا عم جابر خليك مستريح . أنا هبقي أرجع هالة هانم بنفسي !

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

ترددت كثيرا و هي تفكر هذا … و لكنه أخر أمل بالنسبة لها ما إذا أرادت الحفاظ علي شرفها ، ما إذا أرادت العيش بكرامة

أخذت “سمر” نفسا عميق و زفرته علي مهل ، ثم حسمت أمرها و توجهت بخطوات واسعة مضطربة نحو محل الجزارة المقابل لبيتها

تخطت عتبة المحل ، لتتفاجأ برؤية السيدة “نعيمة” زوجة المعلم “رجب” و والدة “خميس ..

-صباح الخير يا طنط ! .. حيتها “سمر” بشئ من الإرتباك ، بينما رفعت “نعيمة” بصرها عن بعض الدفاتر الحسابية و ردت و هي تنظر لـ”سمر” من أعلي إلي أسفل :

-أهلا ! إصباح النور يا سمر . خير عايزه حاجة ؟

سمر بوجه شاحب :

-كنت . كنت عايزة خميس في موضوع كده . هو مش موجود ؟!

تنهدت “نعيمة” و هي ترمقها بغيظ ، ثم سألتها :

-و إنتي عايزة خميس في إيه ؟ قصدي يعني إيه الموضوع ده إللي عايزاه فيه ؟؟

سمر بإبتسامة مُحرجة :

-و لا حاجة . مش حاجة مهمة يعني . خلاص أنا هبقي أجيله وقت تاني.

و كادت تخرج ، لتستوقفها “نعيمة” بحدة :

-إستني يا سمر !

تجمدت “سمر” بمكانها ، بينما قامت “نعيمة” من خلف المكتب البالي و مشت صوبها ..

وقفت أمامها مباشرةً ، ثم بدأت بالكلام :

-إسمعيني كويس يا سمر . إنتي زي بنتي و يعلم ربنا إني بعزك إنتي و إخواتك . بكلمك جد مش بهزر.

سمر بإبتسامة لطيفة :

-شكرا يا طنط نعيمة . تسلمي يا رب . و إحنا كمان بنحبك أوي و الله.

-بس لحد خميس إبني و مافيش بعده . و محدش هيجي عندي أغلي منه.

سمر و قد توترت من نبرتها التي تحولت فجأة :

-ربنا يخليهولك !

-أمين . بس عشان إنتي زي بنتي زي ما قولتلك فهنصحك .. ثم أكملت و هي تنظر لها بحدة شديدة :

-إبعدي عن خميس . أحسنلك . مش هتنفعوا مع بعض . أديكي شوفتي بعينك خناقته مع أخوكي و أنا يا حبيبتي مش مستغنية عن إبني.

أومأت “سمر” و هي تقول بصعوبة بسبب الدموع المتحجرة بعيناها ترفض الخضوع :

-فهمت . ماتقلقيش يا طنط .. أنا مش عايزة أي حاجة من خميس . إنتي فهمتيني غلط.

نعيمة و هي تبتسم بسخرية :

-يا ريت أكون فهمت غلط.

إزدردت “سمر” ريقها الجاف أصلا و تمتمت :

-عن أذنك !

ثم مشت بسرعة من أمامها قبل حتي أن تسمع الرد ..

لتذهب بعد ذلك قرب الشاطئ حيث لا يوجد غيرها ، لتستسلم للإنهيار و البكاء هناك دون أن يراها أحد ..

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••

في مؤسسة ( البحيري للتسويق و التجارة) التابعة لـ”عثمان البحيري” … تدخل “هالة” برفقة “مراد” و يصعدا معا لمكتب “عثمان”

تقف السكيرتيرة لدي ظهورهما ، و تلقي التحية برقة و بلباقة :

-صباح الخير يافندم . أي خدمة أقدر أقدمهالكوا !

مراد و هو يقطب بإستغراب :

-الله ! مش ده مكتب سمر بردو ؟!

السكرتيرة بإبتسامة :

-أيوه حضرتك بالظبط ده مكتب سمر.

-أومال هي فين طيب ؟

-سمر في إجازة مرضية بقالها يومين يافندم . لما ترجع إن شاء الله هتستلم مكانها تاني و أنا هبقي أرجع لمكاني.

أومأ “مراد” بتفهم ، ثم قال :

-طيب . من فضلك بقي بلغي عثمان بيه إننا عاوزين نقابله.

-طيب معلش بس ممكن تقولي إسم حضرتك ؟!

مراد بفتور :

-مراد . مراد أبو المجد و هالة البحيري.

أومأت السكرتيرة رأسها ، ثم رفعت سماعة الهاتف و إنتظرت لثوان ..

-ألو مستر عثمان ! .. في واحد قدامي هنا طالب يقابل حضرتك و معاه أنسة .. مراد أبو المجد و هالة البحيري .. حاضر . حاضر يافندم !

و أقفلت الخط ، ثم عاودت النظر إليهما قائلة :

-إتفضلوا مستر عثمان منتظركوا جوا.

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° °°°°°°°

كان “عثمان” يجلس منهمكا في عمله ، و كان يرتدي نظارته الطبية التي يتخذها فقط حين يشعر بالتعب أو الصداع ..

عندما دخل “مراد” و معه “هالة” … قام ليستقبلهما ..

-أهلا أهلا . و أنا أقول الشركة نورت ليه ؟

مراد بغبطة ساخرة :

-يا لهوي يا صاحبي أول مرة تستقبلني بحرارة كده !

عثمان بنظرة جانبية :

-مش ليك ياخويا . الإستقبال الخصوصي ده لبنت عمي الجميلة .. و إقترب من “هالة” و صافحها و قبلها من وجنتيها ، ثم تساءل :

-يا تري بقي إيه سبب زيارتك ليا و لأول مرة في شركتي يا بنت عمي ؟

هالة و هي ترمقه بحب شديد :

-أولا وحشتني فقلت أجي أشوفك !

ضحك “عثمان” بخفة ، ثم طوق خصرها بذراعه و قال و هو يأخذها بإتجاه الصالون الأنيق بالمنتصف :

-يا حبيبتي و إنتي كمان وحشتيني و الله . طيب و ثانيا ؟

هالة و هي تجلس معه فوق الآريكة :

-ثانيا بقي في موضوع مهم كنت عايزة أتكلم معاك فيه.

عثمان رافعا حاجبيه بدهشة :

-موضوع مهم عايزة تكلميني فيه و جايبة معاكي مراد ! ده إللي هو إزاي ده ؟!

مراد و قد تلاشت إبتسامته :

-يا أخي حسن أخلاقك بقي . طب إنصفني قدام بنت عمك حتي !

عثمان بسأم :

-بس ياض.

-يا عثمان خليك معايا .. قالتها “هالة” و هي تدير وجهه بيدها ، ليرد “عثمان” بتركيز :

-معاكي أهو يا حبيبتي . خير ! إيه هو الموضوع ؟؟

هالة و قد جذبتها نظارته التي زادته وسامة :

-حلوة أوي النضارة دي عليك !

عثمان بإبتسامة و هو ينزع النظارة عن عينيه :

-شكرا يا حبيبتي . دي بلبسها في حالات معينة ماتقلقيش يعني نظري سليم لسا ماضعفش.

و ضحكا قليلا ..

لتتكلم “هالة” أخيرا :

-صالح يا عثمان.

عثمان بإستغراب :

-ماله صالح يا هالة !

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° °°°°

في الخارج … تجلس السكرتيرة علي مكتب “سمر” تعمل بجهد متواصل ، و لكنها تشعر بالملل

فقد إشتاقت لممارسة وظيفتها الأساسية و تلك الوظيفة سخيفة جدا من وجهة نظرها ، خاصةً و أن المدير متقلب المزاج بصورة مقيتة ..

-صباح الخير !

إنتبهت السكرتيرة للصوت ، فرفعت وجهها ..

لتبتسم بقوة و هي تصيح متفاجئة :

-سمر !

error: