رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب
( 5 )
_ الوجه الأخر للثعبان ! _
إلتفتت “سمر” وراءها بوجه عاصف لتري الشخص الذي نادي بإسمها
لتتسمر بمكانها فجأة و تتبدل ملامحها الثائرة إلي أخري ذاهلة ..
-أسـ أستاذ عـ عثمان ! .. قالتها بشيء من الإضطراب و قد أربكها ظهوره المفاجئ أمامها ، ثم أردفت بإستغراب :
-حضرتك إيه إللي جابك هنا ؟
عثمان و هو يجيبها بإسلوبه اللبق الذي نادرا ما يستخدمه في تعاملاته مع الآخرين :
-إبن عمي عامل حادثة و كل العيلة هنا .. إنتي بقي إيه إللي جابك هنا ؟؟!
إنتبهت “سمر” إثر سؤاله للسبب الرئيسي الذي جاءت من أجله إلي هنا ، فشددت ذراعيها الملتفين حول شقيقتها و أجابته :
-أختي حرارتها عليت فجأة ماعرفش ليه ! فخدتها و جريت بيها علي هنا .. ثم أطرقت رأسها في تخاذل ، و أكملت :
-بس بيقولولي مالهاش مكان !
عثمان عاقدا حاجبيه في إستنكار :
-مين إللي قالولك ؟؟؟
-الأنسة دي .. و أشارت له برأسها نحو موظفة الإستقبال
ليتجاوزها “عثمان” و يتوجه إلي الموظفة بصوته الغليظ :
-لو سمحتي يا أنسة ، معانا طفلة هنا حرارتها عالية ، محتاجين دكتور ، يا ريت تطلبيلنا حد دلوقتي حالا.
الموظفة بهدوء مستفز :
-أسفة يافندم ، الأماكن هنا كلها مشغولة و الدكاترة كمان مشغولين.
عثمان و هو يتبجح برعونة مستهجنة :
-يعني إيه حضرتك ؟ بقولك البنت حرارتها عالية و إنتي ملزومة تدخلينا و تستدعيلنا دكتور يشوفها كمان.
الموظفة ببرود :
-و الله أنا ليا في إللي في شايفاه قدامي ، مافيش أماكن فاضية و مافيش دكاترة متوفرين حاليا ، أديك حضرتك شايف قسم الطوارئ و المستشفي كلها زاحمة إزاي !
إرتعشت شفتيه المزمومتين من الغضب ، ليستدير في اللحظة التالية نحو “سمر” قائلا بإقتضاب آمر :
-إتفضلي معايا يا أنسة سمر ، هنروح مستشفي تانية .. ثم عاد ينظر إلي الموظفة ثانيةً ، و قال بحدة شديدة :
-إحنا ماشيين يا أنسة ، بس أوعدك الموقف ده مش هيعدي علي خير أبدا ، و بالذات عليكي إنتي.
و غادر “عثمان” المشفي كلها بخطواته المتغطرسة مصطحبا في إثره “سمر” و أختها الصغيرة ..
بينما أتت موظفة الإستقبال الثانية ، و سألت زميلتها :
-في إيه يا بنتي ؟ كنتي بتتخانقي مع مين ؟؟
الموظفة الأولي بعدم إهتمام :
-ماكنتش بتخانق و لا حاجة .. أهو ناس زي إللي بنشوفهم كل يوم سايبين العيادات و مستخسرين ڤزيتة الدكتور و جايينلنا إحنا هنا يقرفونا عشان مستشفي زفت حكومية.
الموظقة الثانية و هي تشهق بصدمة :
-ناس زي إللي بنشوفهم كل يوم إيه يا مجنونة ؟ إللي إنتي وقفتي تقاوحي فيه ده عثمان البحيري إبن يحيى بيه البحيري الشاب إللي عمل الحادثة و جالنا إمبارح يبقي واحد من عيلتهم.
الموظفة الأولي بإستخفاف :
-مين الناس دول يعني ؟ صحاب المستشفي مثلا ؟!
الموظفة الثانية بإستنكار :
-ماتعرفيش عيلة البحيري ؟ و بتتريقي كمان ؟ دول يشتروكي و يشتروا المستشفي باللي فيها ، محدش في إسكندرية مايعرفهمش و إللي برا إسكندرية كمان ، ناس كبار و إيديهم طايلة و أقدم عيلة هنا.
هزت الأخيرة كتفاها بلا إكتراث قائلة :
-كبار و إيديهم طايلة علي نفسهم .. و علي كل حال الدنيا مش سايبة.
-إدعي ربنا بس مايحطكيش في دماغه و ينسي إللي حصل ، عثمان البحيري ده مش سهل أبدا ، أكتر واحد شراني في عيلته و محدش بيهمه لسا مطلق مراته بنت رشاد الحداد نايب الأنفوشي يوم فرحهم و ماهمتوش الفضايح.
-شراني علي نفسه بردو ، و يلا بقي علي شغلك و سيبيني أشوف شغلي أنا كمان .. قالت الفتاة في لامبالاة ، إلا أنها لم تنكر القلق الذي أخذ يتسرب بأعماقها ..
-ربنا يستر .. تمتمت لنفسها ، ثم عادت إلي العمل مجددا ..
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في مطار القاهرة … تصل الرحلة القادمة من مطار “باريس” و تهبط الطائرة تدريجيا علي الأراضي المصرية الموّقرة ..
تنفتح البوابة ، لينزل منها “رفعت البحيري” و معه إبنته “هالة” التي لم تكف عن البكاء منذ علمت بخبر الحادث الذي وقع لأخيها
يقطعا تذكرتان إلي الأسكندرية ، و فورا يكونا علي متن رحلة أخري ، ليصلا في زمن قياسي جدا ..
بعد نصف ساعة فقط ، كانا خارج ساحة مطار الأسكندرية ، ركبا سيارة فخمة شيعت مخصوصا بسائقها لأجل إستقبالهما بأمر من “يحيى البحيري”
وصل بهما السائق أمام بوابة المشفي في غضون خمسة عشر دقيقة ، صعدا إلي الطابق الثالث حيث “صالح” هناك بغرفة العمليات ..
كان “يحيى” واقفا بمنتصف الردهة جامد الوجه ، متوتر الجسد عندما هرول نحوه “رفعت” هاتفا بلهجة مختلجة :
-إبني ماله يا يحيى ؟ صالح جراله إيه ؟؟؟
إعتدل “يحيى” في وقفته و إستعد لمواجهة شقيقه ..
-إبني فين يا يحيى .. تساءل “رفعت” بحدة ، ليرد الأخير بهدوء حذر :
-إهدا يا رفعت .. ماتقلقش صالح بخير.
رفعت بإنفعال :
-بخير ! بخير إزاي و هو بقاله 12 ساعة في العمليات ؟ إنت شايفني عبيط قدامك ؟!!
يحيى و هو يجيبه بسرعة :
– لأ لأ خلاص هيخرج دلوقتي الدكتور لسا مطمنـ آا ..
-إسمع يا يحيى .. صاح “رفعت” مقاطعا ، ثم تابع بعنف شديد :
-إبني لو حصله حاجة مش هسامحك ، إبني لو ماخرجش من هنا علي رجليه لا إنت أخويا و لا أعرفك.
عبس “يحيى” في حزن ، و قال :
-ماتخافش يا رفعت .. إبنك هيخرج من هنا بالسلامة إن شاء الله !
و هنا ، فـُتح باب غرفة العمليات ، ليخرج الطبيب أولا ، ثم “صالح” خلفه ملقي فوق التورللي ، ملفوفا بالشاش و الجبس في معظم أجزاء جسده ..
ركضت نساء العائلة صوبه في الحال ، بينما توجه كلا من “رفعت” و “يحيى” نحو الطبيب ..
-طمني يا دكتور أرجوك .. قالها “رفعت” برجاء ، و أردف :
-إبني عامل إيه ؟ بقي كويس صح ؟؟؟
الطبيب بأرق و هو يخلع الكمامة المعقمة عن وجهه :
-إطمن يافندم .. إبن حضرتك بخير ، أنا خرجت من شوية و طمنت يحيى بيه .. هو بلغ حضرتك باللي قولتهوله ؟!
نظر “رفعت” بريبة إلي شقيقه الذي تلعثم قليلا هو يقول بإرتباك :
-آا ي دكتور أنا بـ برجح إن حضرتك تشرحله بنفسك أحسن !
تنفس الطبيب بعمق ، ثم قال بلهجته العذبة المنمقة :
-طيب .. شوف يافندم ، هي معجزة إننا قدرنا ننقذه ، إبن حضرتك إنكتبله عمر جديد بفضل الله ، طبعا مافيش شك إن الحادثة كانت قاسية جدا .. عشان كده للأسف حصلتله شوية مضاعفات !
تجمدت ملامح “رفعت” و جف حلقه فجأة ، فإزدرد ريقه بصعوبة ، ثم سأله بصعوبة بصوت مبحوح :
-مضاعفات ؟ .. مش فاهم يا دكتور !!
عض الطبيب علي شفته ، و إستغرق منه الأمر لحظات قبل أن يجد طريقة ملائمة ليخبره بما حل بإبنه ..
الطبيب بتمهل و لطف :
-شوف حضرتك .. بصراحة إبنك إتعرض لشرخ بسيط في عموده الفقري ، الشرخ ده هسيببله إعاقة لفترة معينة !
بـُهت “رفعت” و قد ألجمت الصدمة لسانه .. لكنه نطق بثقل :
-يعني إيه يا دكتور ؟ .. تقصد إنه .. إتشل ؟؟؟
-مش بالظبط كده .. قال الطبيب بحيرة ، ثم تنهد و أكمل :
-هو فعلا مش هيعرف يمشي في الأول بس في علاج طبيعي هنتابعه لما يقوم بالسلامة.
-و العلاج ده هيجيب نتيجة ؟؟
-أه طبعا هيجيب .. بس !
يحيى بوهن :
-بس إيه ؟
أجاب الطبيب و هو يتهرب من النظر في عينيه :
-جايز الفترة تطول .. كله بأمر ربنا ! .. ثم إستأذن بسرعة ليذهب :
-عن إذنكوا هروح أشوف المريض.
ظل “رفعت” واقفا بمكانه كما هو ، تماما كالصنم ، حتي توجه “يحيى” إليه بالقول :
-رفعت .. إطمن ، و الله هيبقي كويس.
أدار “رفعت” رأسه و أخذ يرمقه بنظرات حاقدة ، ليجفل “يحيى” بتوتر و يزم شفتيه في ضيق ، لكنه عاد يقول و هو يحتضنه بأخوّة :
-إن شاء الله هيبقي كويس.
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في إحدي العيادات الخاصة ، و المتخصصة لعلاج الأطفال ..
فرغ الطبيب المسن من الكشف علي “ملك” ثم نزع سماعته الطبية و هو يداعب ذقنها بلطف قائلا :
-سلامتك يا جميلة ، إنتي زي الفل ، إضحكي بقي و ماتكشريش تاني خالص.
إستجابت الصغيرة لمداعبته التحببية ، و راحت تكرر بصوتها الطفولي الرنان ، لتبتسم “سمر” و هي تعدل لها ملابسها ، بينما يقف “عثمان” وسطهم يراقب ما يحدث بإبتسامته الفاترة الدائمة ..
جلس الطبيب الوقور خلف مكتبه ، لتحمل”سمر” أختها ، و تعود ثانيةً لتجلس أمامه ، و تسمعه و هو يقول بجدية :
-شوفي حضرتك .. مبدئيا الأعراض إللي عند أختك عادية جدا بالنسبة للأطفال إللي في سنها ، التقلصات المعوية حاجة شائعة جدا في الفترة دي بالنسبة لها ، لكن السخونة و الكحة إللي بتشتكي منهم دول حاجات محتاجين نعمل عليهم تحاليل ، و علي حسب بقي لو قالت التحاليل هتخف بالعلاج يبقي خير و بركة ، إنما لو حاجة تانية لا قدر الله هنشوف ساعتها ممكن نعالجها إزاي !
سمر بصدمة :
-قصدك إيه يا دكتور ؟ هي ممكن يكون عندها إيه ؟!
-أنا مش عايزك تتخضي .. بصي هي بوادر إلتهاب رئوي بس هنحاول نعالجها قبل ما الموضوع يتطور أكتر .. ثم شرع في كتابة روشتة و هو يتابع :
-أنا هكتبلها علي أدوية مهمة و هكتبلك إنتي مواعيد كل دوا ، و هاخد منها عينة دم دلوقتي و إن شاء الله أشوفها الأسبوع الجاي زي إنهاردة.
إنتهت جلسة الكشف بعد أن أخذ الطبيب عينة من دم “ملك” لتخرج “سمر” من البناية الراقية برفقة “عثمان” و هي تحمل شقيقتها غير قادرة علي محو علامات الوجوم المرتسمة علي وجهها ..
أعادها صوت “عثمان” إلي أرض الواقع حين سألها بلطف :
-أنسة سمر ! .. إنتي كويسة ؟!
إنتبهت إليه قائلة :
-هه ! أه .. شـ شكرا أوي يا عثمان بيه ، بجد أنا مش عارفة أشكرك إزاي علي كل إللي عملته معايا أنا بقيت مديونالك بكتير أوي.
عثمان بعتاب مصطنع :
-عيب كده يا أنسة سمر ، أنا ماعملتش أي حاجة ، و بعدين دي حاجات بسيطة جدا.
سمر بإبتسامة رقيقة :
-حاجات بسيطة إيه بس ؟ دي الڤزيتا لوحدها بتاعة الدكتور ده أكتر من المبلغ إللي أخدته من حضرتك قبل كده ، أنا بإذن الله هردلك كل ده قريب بس عمري ما هقدر أردلك لطفك و كرمك معايا.
عثمان و هو يعبس بضيق :
-بجد هزعل منك يا أنسة سمر ، أختك زي أختي بالظبط أنا قمت بواجب طبيعي .. ثم قال بخبث :
-و لو إن الدكتور فوق إفتكرها بنتي .. أنا ماحبتش أصلحله الغلط لإني بجد حبيت ملوكة أوووي و من هنا و رايح خلاص هعتبرها فعلا زي بنتي.
و مد يده و ربت علي خد الصغيرة بلطف ، لتحمـّر “سمر” خجلا و هي تقول :
-حضرتك كل شوية بتكسفني بكرم أخلاقك أكتر .. مش عارفة أقولك إيه !!
عثمان بإبتسامته الجذابة :
-ماتقوليش حاجة .. أنا إتبسطت لما شوفت ملك إنهاردة ، و إن شاء الله في معاد الإستشارة الجاية هاجي معاكوا تاني.
سمر ضاحكة بخفة :
-لأ إستشارة جاية إيه ! مافيش الكلام ده ، كفاية أوي كده علي حضرتك ، أنا هبقي أخدها أوديها لدكتور تاني تكون الفزيتا بتاعته أقل شوية.
-كلام إيه ده يا أنسة سمر ! ماينفعش تسيبي دكتور خلاص شخـَّص حالة أختك و تروحي لواحد غيره لسا هيشخص من أول و جديد ، ماينفعش.
-بس آا ..
-مافيش بس .. قاطعها بصرامة ، و أكمل :
-الأسبوع الجاي زي إنهاردة هجيبكوا بنفسي لحد هنا و هحضر الإستشارة كمان.
إبتسمت “سمر” و قالت بإستسلام :
-خلاص .. إللي تشوفه حضرتك !
رد لها الإبتسامة و هو يقول :
-أيوه كده .. و يا ريت ماتنسيش معاد شغلك من بكره ، و بعتذرلك تاني بالنيابة عن شيري ، إحنا كنا ملخومين في إبن عمي زي ماقلتلك و كل حاجة عندنا واقفة من إمبارح.
-لا أبدا مافيش حاجة ربنا يقومه بالسلامة.
-أمين .. طيب ، يلا بقي عشان أوصلكوا.
سمر بحرج :
-يا خبر .. كمان !
عثمان بإصرار :
-أيوه .. إنتي ساكنة فين ؟؟؟
-عند محطة الرمل كده !
أومأ مرارا و هو يقول مبتسما :
-تمام ، إتفضلي بقي .. و أشار لها لتتقدمه نحو سيارته المصفوفة أمامهم
ففعلت ذلك علي إستحياء …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
-ما أنا مشغل معايا شوية أغبية ! .. قالها “رشاد الحداد” بصياح غاضب دوي عاليا بأرجاء حجرة مكتبه ، ليرد عليه أحد رجاله بحذر شديد :
-طب و إحنا ذنبنا إيه بس يا رشاد باشا ؟ مافيش حاجة بتخفي عن الصحافة ، و بعدين كل المعلومات إللي إتنشرت دي خدوها من المستشفي.
رشاد بإنفعال :
-ما إنتوا لو رجالة عدلين ماكنتوش سمحتوا لشوية كلاب تعلي صوتها علينا .. ثم إلتفت إلي المدعو “عباس” الذي كلفه بمهمة إغتيال “عثمان” بدلا من “صالح” :
-و إنت يا عباس بيه .. فين نتايج خطتك إللي ماتخرش المايه ؟ بجد خيبت أملي فيك !
عباس عاقدا حاجبيه في إنزعاج :
-أنا ماليش ذنب يا باشا ، أنا عملت المطلوب و لو ماكتش إبن عمه هو إللي طلع بالعربية كنت هتسمع خبره زي أمرت.
رشاد بتهكم :
-طيب و ليه ماسمعتش خبر إبن عمه لحد دلوقتي يا مستر عباس ؟ ده كمان في ناس كلموني و قالوا إنه خرج من العمليات و بقي زي الفل.
بـُهت “عباس” و ما عاد للكلام جدوي أمام تصريحات “رشاد” الأكيدة ..
-إخفوا من قدامي .. هتف “رشاد” بحدة ، و تابع :
-مش عايز أشوف واحد فيكوا لحد ما الموضوع ده ينتهي ، أنا أسف إني إعتمدت عليكوا.
أطرقوا رؤوسهم جميعا و هم ينسحبون الواحد تلو الأخر من مكتبه ، بينما إستدار هو بعنف ، و ضرب الطاولة بقبضته المضمومة و هو يتمتم من بين أسنانه :
-فلت من إيدي المرة دي يابن يحيى .. بس و الله ما هسيبك !
يتبـــع …