رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب
_ منومة مغناطيسيا ! _
لحسن حظها أنها كانت تضع الحچاب علي رأسها تحسبا لجميع الإحتمالات … لكنها وجدت نفسها تصفع الباب بعنف في وجهه ثم تستند إليه بظهرها و هي تلهث بشدة
-إيه إللي جابه هنا الحيوان ده ؟ .. تمتمت “سمر” لنفسها و جسدها ينتفض بقوة ، و أكملت بحيرة :
-عايز إيه ؟ .. طيب أفتحله و لا لأ ؟!
أخذت نفسا عميق و زفرته ببطء ، ثم تشجعت و إستعدت لمواجهته و هي تقول ببأس و قوة :
-ماتخافيش يا سمر . إنتي في بيتك و وسط جيرانك مش هيقدر يعمل حاجة . شوفيه جاي ليه و خليكي شجاعة إوعي تباني ضعيفة قدامه !
ثم إلتفتت … و مدت يدها إلي مقبض الباب لتفتحه ثانيةً ..
كان “عثمان” لا يزال واقفا بمكانه ، لم يتحرك قيد أنملة ، حتي إبتسامته اللعوبة لم تفارق ثغره الدقيق
حدجها بنظرات مبهمة و هو يقول بنعومة :
-إيه يا سمر ! ينفع كده تقفلي الباب وشي ؟ ده أنا ضيفك بردو !
سمر بحدة :
-أفندم يا عثمان بيه ؟ خير إيه سبب زيارة حضرتك إللي علي غفلة دي ؟!
عثمان و هو يبتسم بجاذبية :
-طيب مش تقوليلي إتفضل الأول ؟ و لا إنتوا هنا متعودين تكلموا ضيوفكوا علي الباب ؟!
تنهدت “سمر” بنفاذ صبر ، و لكنها لم تجد حلا أخر
تنحت جانبا مفسحة له الطريق ، ليتقدم هو بخطواته المختالة المغرورة ..
إجتاز المدخل القصير و هو يعاين الشقة بنظراته الفاترة
كانت بسيطة جدا و مرتبة و نظيفة ، إنما من وجهة نظره هو كانت حقيرة جدا و أشبه بجحر الفئران
لكن بخلاف كل هذه الأمور أي بيت عادي مثل هذا يساوي لا شئ بالمقارنة بقصر آل “بحيري” الذي نشأ و ترعرع فيه حتي بلغ الثلاثين من عمره ..
-بيتك حلو أوي يا سمر .. قالها “عثمان” بمجاملة زائفة ، لترد “سمر” التي وقفت بجانب باب الشقة المفتوح :
-شكرا . ده من ذوقك.
إلتفت “عثمان” نحوها و هو يقول بدهشة :
-إنتي واقفة كده ليه ؟ ما تقفلي الباب ده و تعالي عشان نتكلم !
سمر بصلابة :
-أنا كده كويسة . و حضرتك تقدر تقول كل إللي إنت عايزه عادي . أنا سمعاك.
رمقها “عثمان” و هو يرمقها بنصف إبتسامة ، ثم تقدم صوبها و أمسك بمسند الباب قائلا بهدوء :
-سمر .. متخافيش أنا مش هاكلك . أنا جاي أتكلم معاكي و بس.
سمر و هي تنظر إليه بجرأة واهية :
-أنا مش خايفة !
عثمان بإبتسامة :
-طيب إثبتي .. تعالي نقعد لو سمحتي . أنا مش هطول عليكي . هقولك إللي عندي و همشي علطول .. ثم قال و هو يحاول سحب الباب من يدها :
-بعد أذنك !
نظرت له بتردد للحظات … ثم تنهدت و أنزلت يدها
ليغلق الباب بروية ، ثم يدير وجهه إليها متسائلا :
-هنقعد فين ؟
-إتفضل .. قالتها بخفوت و هي تشير إلي الصالة الصغيرة ذات الأثاث الرث
جلسا قبالة بعضهما و لكنهما كانا متباعدين
إذ كانت تفصل بينهما طاولة متوسطة تحدها آريكة وقع علي جانبيها مقعدها و مقعده ..
-إتفضل . أنا سمعاك ! .. تمتمت “سمر” بإقتضاب متجنبة النظر إليه حتي لا يُـتلف غشاء الثقة الليـّن الذي صنعته لتحتمي من نظراته الثاقبة
-أولا أنا آسف إني جيت منغير ميعاد .. قالها “عثمان” بلباقة لا تليق به أبدا ، و تابع :
-بس لما أخوكي كلمني و قالي إنك تعبانة صممت أجي أطمن عليكي بنفسي.
سمر بسخرية :
-كتر خير حضرتك !
تذرع “عثمان” بالصبر جراء معاملتها الجافة ، ليقول بخبث مهذب :
-و لو إني مش عارف إنتي تعبتي فجأة ليه ؟ حوارنا الأخير ماكنش جامد أوي عشان تتعبي بعده علطول كده !
و هنا نظرت إليه “سمر” و قالت بغضب :
-عثمان بيه . يا ريت من فضلك تقول إللي جيت عشانه و تتفضل تمشي بسرعة . أنا مش هقدر أستقبلك كتير و أخويا مش موجود.
إبتسم “عثمان” و هو يومئ بتفهم ..
-طيب يا سمر .. ندخل في الموضوع علطول .. و حملق فيها بتركيز ، ثم قال :
-أنا جيت لحد عندك المرة دي عشان أجدد عرضي.
و قاطعها بسرعة و حزم حين حاولت الرد :
-مش عايزك تردي منغير ما تفكري . فكري كويس قبل ما تقولي أه أو لأ .. ثم أكمل بجدية :
-قرارك مش متعلق بيكي لوحدك . إخواتك شركا معاكي .. يعني لو وافقتي هتحلي مشاكلك و مشاكلهم . مش هتلاقي نفسك محتاجة لحاجة . أنا هتكفل بيكي و بيهم.
هزت “سمر” رأسها و هي تنظر إليه غير مصدقة ، ثم قالت بإنفعال و قد خرجت عن شعورها :
-إنت مجنون صح ؟ أي شرع أو أي قانون بيقول كده ؟ قانونك إنت ؟ إزاي متخيل إني ممكن أقبل بحاجة زي دي ؟ إللي يسمعك بتقول كده يفتكر إن نواياك شريفة و إنك مش عايزني في الحرام . جايز إنت متعود علي الحاجات دي و الشرف مش بيفرق معاك بس أحب أعرفك إن شرفي غالي أوي عليا و أنا مش ممكن أفرط فيه عشان واحد إنتهازي و إستغلالي زيك !
-أنا إنتهازي و إستغلالي ؟! .. قالها “عثمان” بتساؤل رافعا أحد حاجبيه بغضب ، لترد “سمر” بتأكيد :
-طبعا . أومال تسمي تصرفاتك بإيه ؟ إنت شفت وضعي الصعب و أد إيه أنا كنت محتاجة للفلوس عشان أختي مش عشاني . عشان أعالجها و ماسبهاش تموت . بس إنت إستغليت النقط دي كويس و قلت تضغط عليا في الوقت المناسب .. ثم أكملت بإشمئزاز مرير :
-كنت فكراك إنسان كويس و كنت بشكر فيك و بدعيلك . حسستني إن الدنيا لسا بخير .. لكن طلعت عكس ما توقعت . ورتني أبشع صورة ليك و هي صورتك الحقيقية . خلتني أصدق كلام الناس . إن مافيش حد بيساعد حد دلوقتي لوجه الله !
حدجها “عثمان” ببرود و لم يؤثر كلامها فيه قيد شعرة
بل تنهد بسأم ، ثم قال :
-بصي يا سمر . سيبك كل الكلام إللي قولتيه دلوقتي ده و ركزي معايا أحسنلك . أنا مابتآثرش بالكلام ده.
سمر بعصبية :
-و أنا ماطلبتش منك تتآثر.
-طيب إهدي شوية و إسمعيني . خليني أحطهالك علي شكل صفقة . طبعا مافيش شك إنها صفقة كبيرة و إنتي عارفة كده كويس .. و عارفة كمان إنك أكتر طرف هيستفاد منها . بصرف النظر عن إني ممكن أرتبط بمليون واحدة زيك . بس أنا عايزك إنتي حتي لو إنتي مش حاسة بأي إنجذاب ناحيتي . شوفي الوضع زي ما أنا شايفه .. علي طريقة البزنس مثلا .. إنتي محتاجة فلوس أيا كان السبب بقي . و المبلغ إللي إنتي محتاجاه مش قليل . و أنا محتاج العلاقة دي في حياتي . أنا لسا خارج من علاقة فاشلة و عايز حد يساعدني أتخطا خيبة الأمل دي . مالاقتش غيرك قدامي .. إنتي أنسب واحدة يا سمر.
-أنسب واحدة منغير جواز ؟ .. تساءلت بتهكم ، و أردفت بغضب :
-إنت بتحاول تقنعني بإيه ؟ المسألة واضحة جدا .. إنت عايزني عشيقة . عايز تتمتع في الحرام و هي فترة و هترميني في الزبالة زيي زي أي واحدة رخيصة من إللي بيقفوا في الشوارع أخر الليل . أنصحك تروح تدور علي واحدة من دول . علي الأقل دول فنانين في مجالاتهم و هيعرفوا يتعاملوا معاك كويس و ينسوك خيبة أملك . أنا مش هنفع للمهمة دي يا عثمان بيه !
أغمض عيناه بشدة معبرا عن ضيقه ، لكنه عاود النظر إليها مجددا و قال بصبر :
-أنا عايزك إنتي يا سمر . إنتي مش حد غيرك .. و صدقيني لو وافقتي حياتك هتتغير و للأحسن . أي حاجة كنتي بتحلمي بيها أنا هحققهالك . و أختك . مصاريف علاجها و كل إحتياجاتها عليا . حتي لو في يوم سيبنا بعض زي ما بتقولي أنا هضمنلكوا مستقبل كويس و مش هتضطري تشتغلي تاني أبدا . هتعيشي مرتاحة طول عمرك .. أنا بوعدك !
جلست “سمر” صامتة و هي تنصت بإنتباه مرعب و مركز إلي كلماته ، و لم تلاحظه و يقف من مكانه فجأة ..
إذ كانت كالمنومة مغناطيسيا ، ليس بفعل صوته ، بل بفعل الرؤى التي أثارتها كلماته التي وصفت حياتها كما ستكون عليه لو قبلت عرضه ، و علي غير هدي راح شيطانها يعيد لها حديثه المغر بإلحاح شديد ..
-قولتي إيه يا سمر ؟ .. تساءل “عثمان” بعذوبة ، لتعود “سمر” إلي أرض الواقع في هذه اللحظة و تتطلع إليه بوجوم
بينما شدها “عثمان” لتقف علي قدميها و هو يتابع :
-عمرك ما هتندمي . صدقيني !
لم تقاوم … كان فعل صوته عليها كالسحر ، و إنشغل ذهنها بهذا المستقبل الرائع المريح
ليطغي اليأس عليها و تفكر .. لو تكلمت فستقول نعم أقبل عرضك ، و لكن ثمة شئ داخلها يرفض هذا الضعف و يمنعها بقوة
وضع “عثمان” ذراعه حولها بلطف و جذبها نحوه ، بينما لم تحاول أن تقاوم حتي الآن و تركزت عيناها شبه المنومتين علي عينيه ..
عندما طوقها بذراعيه كان كما لو أنه يحميها و يوفر لها ملجأ و ينتشلها من حافة فقر قاتل و يرسلها إلي عالم الأشياء المرغوبة المحببة
و علي مدي دقيقة ، وقف الثري الخبيث و العذراء الضعيفة وجها لوجه و تلاقت عيونهما و تلامس جسديهما ..
ليحكم “عثمان” قبضته عليها و يشدها نحوه بقوة أكبر
فأفسد التعويذة و الرؤي التي أبقتها عاجزة عن مقاوته ، رؤى الفقر المدقع و الفرار منه تلاشت فجأة و صدمها ما كان يحدث لها ..
فأخذت تتلوي لتتحرر منه ، لكنه كالمرة السابقة لم يحاول إجبارها
أفلتها بسهولة ، لتسقط علي مقعدها شاحبة و مرتجفة
نظرت إليه بعينين مزجتا بين الخوف و المقت ، بينما وقف ينظر إليها و علي شفتيه إبتسامة نصر هادئة ..
-مستحيل .. تمتمت “سمر” بأنفاس مخطوفة
-مش هابعيلك نفسي أبدا . حتي لو المقابل كنوز الدنيا كلها !
تجاهل “عثمان” أقوالها و قال و هو ينظر بساعة يده :
-أنا إتأخرت أوي علي الشغل . الساعة بقت 9 و إنتي عارفة إني ببقي هناك من 8 أو قبل 8 كمان .. و أضاف بإثارة :
-هستناكي بكره . ماتتأخريش.
صرخت بوجهه :
-مش هاجي.
أومأ و هو يقول بثقة شديدة :
-هتيجي يا سمر . بكره هتجيلي برجليكي و إنتي موافقة علي إتفاقنا و بدون أي ضغط مني .. ثم أكمل بإبتسامة خبيثة :
-أصل أنا مش بحب الغصب خاالص . بالعكس . ده أنا حنين أوي .. و رقيق أووي !
نظرت له بعدائية و حقد شديدين ، بينما رماها بإبتسامة أخيرة ، ثم إلتفت و غادر أخيرا
لكنه ترك عبير عطره الرجولي الخشن يعبق الجو من حولها ، ظل ينفذ بقوة داخل أنفها و رئتيها حتي كاد يخنقها
فقفزت من موضعها و ركضت نحو الشباك ، فتحته لتستنشق الهواء النظيف ، و لتراه يستقل سيارته ، ثم ينطلق بها شيئا فشئ حتي أختفي عن ناظريها تماما …