رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب
( 16 )
_ زائر ! _
كانت علي شفا النعاس .. بعد مجهود شاق بذلته لتصفي ذهنها من كل فكرة و هاجس أسود يهددها
ليأتي “فادي” فجأة و يفسد كل شئ ..
-سمر ! .. قالها “فادي” بهتاف متوسط و هو يلج إلي الغرفة دون إستئذان
-إنتي نمتي يا حبيبتي ؟! .. تساءل ببراءة ، لتبتسم “سمر” بخفة و هي تقول :
-لأ يا حبيبي . لسا . إيه كنت عايز حاجة ؟
فادي و هو يمشي ناحيتها :
-لأ يا حبيبتي سلامتك مش عايز حاجة . أنا بس كنت جاي أرجعلك الموبايل . خلاص عملت المكالمة .. ثم أعطاها الهاتف مكملا بإبتسامة :
-شكرا.
-العفو يا فادي .. ثم أردفت علي سبيل المزاح :
-كنت بتكلم مين بقي ؟ الحج عبد الموجود ؟!
و ضحكت بمرح ، ليرد “فادي” بجدية :
-لأ كنت بكلم مديرك . عثمان بيه !
إرتعدت “سمر” بقوة و قد أبيـّض وجهها من الصدمة
-إيه !! .. تمتمت بفم مفتوح ، ثم صاحت فيه بغضب :
-ليــــه ؟ ليه كلمته ؟؟؟
أجفل “فادي” و هو يجيب بشئ من التوتر :
-كلمته عشان أخدلك إجازة يومين من الشغل . لاقيتك ماتصلتيش بيه إنتي فإتصلت أنا عشان مايفهمش غيابك غلط !
زمت “سمر” شفتيها و هي تقطب في ضيق شديد
ليرمقها “فادي” بنظرات حملت طابع التشكيك ، ثم يقول :
-في إيه سمر ؟ مالك إتعصبتي كده ليه لما عرفتي إني كلمته ؟!
همهمت “سمر” بإنزعاج و قالت :
-لأ ماتعصبتش و لا حاجة . بس ماكنش في داعي يعني تكلمه في وقت زي ده و تزعجه .. أنا كنت هكلمه بكره الصبح.
فادي بنبرة موضوعية :
-بصراحة الراجل كان ذوق أوي و ماقالش حاجة . بالعكس قال سلامتها و تبقي تيجي علي مهلها مافيش مشكلة.
أومأت “سمر” قائلة بإقتضاب :
-طيب كتر خيره.
فادي بتعجب :
-إيه طيب كتر خيره دي ؟!
-عايزني أقول إيه يعني ؟ .. تساءلت بعصبية واضحة
ثم أخدت نفس عميق و أطلقته علي زفرات متتالية ، و قالت بإيجاز :
-بكره الصبح هبقي أتصل أشكره بنفسي.
عبس “فادي” و هو يرمقها بنظرات حائرة ، ليسألها بإلحاح :
-سمر .. مالك ؟ في حاجة حصلت ؟؟؟
سمر بتآفف :
-قولتلك مافيش حاجة يا فادي . أنا تعبانة بس و مش مستحملة الكلام الكتير ده . عايزة أنام.
فادي بلطف :
-طيب طيب . خلاص أنا خارج أهو .. تصبحي علي خير يا حبيبتي.
سمر بهدوء مرهق :
-و إنت من أهله !
تنهد “فادي” و هو يهز رأسه بعدم إرتياح ، لكنه تركها و خرج بالنهاية ..
ليطير النعاس من عينيها فورا و تظل واعية تفكر في بالموقف المخزي الذي وضعها فيه أخيها بدون قصد
ماذا سيقول الآن ؟ هل سيعتبر ذلك تصريحا بالموافقة منها ؟ هل سيفهم مما حدث أنها أعطته الضوء الأخضر و أعلنت إستسلامها لعرضه ؟
-لأ .. غمغمت “سمر” بغضب ، و أردفت :
-يفهم إللي يفهمه . الحيوان ده . أنا مش هاوريله وشي تاني . يروح في ستين داهية . فادي كان عنده حق !
و هنا دخلت “سمر” في صراع مع نفسها ..
نفسها :
-طب و مشاكلك ؟ ده هو الوحيد إللي في إيده الحل لكل المشاكل إللي إنتي فيها !
سمر بغضب :
-يغور في داهية هو و حلوله . أنا مش ممكن أركعله أبدا . ده مش بني آدم.
نفسها :
-إنتي مش كنتي بتشكري فيه ؟ و كمان كنتي بتدافعي عنه !!
سمر :
-أه ده كان قبل ما يظهر علي حقيقته . و بعدين أنا إللي كنت غبية . صدقت أنه كان بيعمل معايا كل ده لوجه الله .. بس فادي كان صح . لما كان بيقولي مش مرتاحله و هو أصلا عمره ما شافه !
نفسها :
-كل ده مايغيرش إنك محتجاله يا سمر.
سمر بعصبية :
-لأ مش محتجاله . ده أخر إنسان في الدنيا ممكن أحتاجله.
نفسها :
-متأكده ؟
سمر بثقة :
-طبعا.
نفسها :
-طيب بالنسبة لملك ! .. هتقدري توفرلها مصاريف المستشفي و العلاج يا سمر ؟ معاكي المبلغ الضخم ده عشان تقدري تعالجي أختك بيه ؟!
سمر و قد صعقت من هذه الفكرة :
-هو ممكن يبطل يدفع المصاريف ؟؟؟
نفسها :
-أكيـــد . إنتي لسا قايلاها بلسانك . هو ماكنش بيعمل معاكي كل ده لوجه الله .. المقابل الحقيقي لكل إللي عمله ده هو إنتي يا سمر.
سمر بوهن ممزوج بالقهر :
-بس أنا مش ممكن أوافق علي كده . مش ممكن أوافق علي إللي هو عايزه ده . أبيعله نفسي ؟ لأ . مستحيييل.
نفسها :
-يبقي حياة أختك هتكون التمن !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
عند “عثمان” … يخرج عابس الوجه من الشرفة الملحقة بغرفة “مراد”
ينهي سريعا بعض الأشياء بهاتفهه ، ثم يرجعه إلي جيبه مجددا ..
ليستقبله صديقه فورا بتساؤل و فضول :
-إيه يا عم ! إيه إللي حصل ؟ كانت عايزة منك إيه ؟؟؟
تنفس “عثمان” بعمق ، ثم أجابه بفتور :
-و لا حاجة . ماكانتش عايزة حاجة.
مراد بإستهجان :
-نعم ياخويا ؟ ماكانتش عايزة حاجة إزاي ؟ أومال إتصلت بيك ليه ؟!
عثمان ببرود :
-مالكش فيه يا مراد.
-بقي كده ؟
-أه . إنت ليك نتيجة الرهان إللي بينا لو حصل هبقي كسبت لو ماحصلش مفتاح العربية كده كده جاهز.
-ماااشي يا عثمان . و علي رأي المثل . خلينا ورا الكداب.
عثمان بإبتسامة متهكمة :
-طيب يلا ياخويا . يلا عشان ننزل نتعشي تحت.
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في منزل المعلم “رجب” الجزار … يجلس “خميس” بالصالون المذهب الرخيص قبالة والده
مضت ساعة حتي الآن و هو يحاول إقناعه بما يريد ..
خميس بلطف :
-يابا عشان خاطري !
المعلم رجب بصوته الغليظ :
-أنا قلت لأ يعني لأ.
خميس مواصلا إلحاحه :
-يابا صدقني المرة دي مش هيرفضوا . طاوعني المرة دي بس.
وضع المعلم “رجب” مبسم النارجلية بفمه و راح يسحب من خلاله نفسا عميق زفره بشكل عموديفي وجه إبنه و هو يقول بسخرية :
-و إنت إيه إللي مخليك متوكد أوي كده ؟ بقي بعد ما ست الحسن رفضتك من أول مرة هتيجي توافق عليك في التانية ؟ إنت أهبل ياض ؟؟!!
-أنا مش حكيتلك إللي حصل إنهاردة ؟
-و هو يعني عشان جنابك عملتلي فيها فريد شوقي وحش الشاشة و جريت علي الصنيورة و شيلتها لحد البيت ده كده بقي إعلان خطوبة مثلا !
خميس و قد إنتابه الغضب :
-أنا ماقولتش كده يابا . بس هي و إخواتها كل يوم الحال بيسوء بيهم أكتر و إللي حصلها إنهاردة علامة بتبين إنهم خلاص جابوا أخرهم . و المثل بيقول أضرب الحديد و هو سخن و إحنا لو روحنا نتكلم معاهم هايوافقوا و الله هايوافقوا.
-بس أنا بقي مش موافقة ! .. قالت هذه الجملة سيدة في منتصف العمر ، آتت حين سمعت نقاش زوجها و إبنها الذي طال بغير لزمة من وجهة نظرها
-و مش موافقة ليه ياما إنتي كمان ؟ .. تساءل “خميس” بضيق شديد ، لترد الأم بلهجة سوقية للغاية :
-دي واحدة طمعانة فيك و في فلوس أبوك يا حبيبي و أنا لو إنطبقت السما علي الأرض مش هوافق تخش عيلتنا.
خميس بإنفعال :
-هي مين دي إللي طمعانة فيا و في فلوس أبويا ؟ إنتي شايفاها رامية نفسها عليا ؟؟؟
الأم و هي تقسم بحرارة :
-و المرسي أبو العباس ماهتجوزها يا خميس و حياة أبوك إللي قاعد ده يانا يا الجوازة دي.
المعلم رجب و هو يزيد من غلظة صوته :
-خلاص بقي يا ولية . إنتي بتتحشري ليه أصلا و أنا بتكلم مع الواد ؟ مالكيش دعوة إنتي بالمواضيع دي.
-ماليش دعوة إزاي ؟ هو مش إبني أنا كمان ؟!
المعلم رجب بحدة :
-لما أكون أنا بتكلم إنتي تخرسي خالص.
الأم و هي تضرب فمها بكفها :
-حاضر ياخويا . أهو . إنخرست خالص أهو.
حدجها زوجها بملل شديد ، ثم أشاح عنها و عاد لحديثه مع إبنه ..
المعلم رجب بإيجاز :
-شوف يابني أنا مش موافق علي البت دي . النسب مش لادد عليا خالص الصراحة . سيبك منها و أنا أوعدك هجوزك أحلي بت في إسكندرية كلها.
خميس بغضب :
-أنا مش عايز أحلي بت في إسكندرية كلها . أنا عايز سمر يابا .. أنا بحبها !
المعلم رجب بإنفعال :
-بتحبها إيه و زفت إيه يا عبيط أنت ؟ ياض إفهم بقي و خلي عندك كرامة . البت مش عايزاك و أخوها لسا كان ماسك في خناقك إمبارح . إيه كل ده مش حاطه في إعتبارك ؟ ماعندكش دم خالص ؟!
رمقه “خميس” بنظرات محتقنة إثر هذا ..
لكنه تمالك نفسه و سأله بهدو للمرة الأخيرة :
-يعني مش هتروح تخطبهالي يابا ؟
-لأ .. قالها المعلم “رجب” بقرار قطعي يختتم النقاش إلي هنا أخيرا
ليقوم “خميس” من مكانه بعنف ، ثم يلتفت و يغادر المنزل كله و هو في فورة غضبه و عصبيته …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في قصر آل “بحيري” … بداخل حجرة الطعام
يدخل كلا من “عثمان” و “مراد”
و بعد تبادل التحيات القصيرة ، يسحب “مراد” كرسي لنفسه و يجلس بجانب “هالة”
بينما يتجه “عثمان” نحو أمه الجذابة و المتبرجة بالكامل ..
يتناول يدها الناعمة برفق ، ثم ينحني ليقبلها برقي شديد
إبتسمت “فريال” بحب و هي تمسح علي شعره بحنان ، ليرفع وجهه إليها في اللحظة التالية و يقول بجاملة مهذبة ليدخل علي قلبها السرور :
-مساء الجمال يا فريال هانم . أنا كنت نازل و أنا حاسس إني ميت من الجوع . شفتك بس حسيت إني واكل و شارب و شبعان علي الأخر . مابقتش محتاج حاجة من الدنيا خلاص.
قهقهت “فريال” برقة ، ثم قالت و هي تداعب لحيته البنية :
-آه منك و من بكشك إللي مش بيخلص ده . بس بموت فيك بردو أعمل إيه !
و قربت وجهه منها لتقبله من وجنته ..
-و أنا قرطاس لب قاعد وسطكوا !! .. قالها “يحيى” بغيظ ، لتلتفت “فريال” نحوه و تمسك بيده قائلة :
-ده إنت حبيبي الأول و الأخير . بس ده مايمنعش إن عثمان حاجة تانية بالنسبة لي.
يحيى بتهكم ممزوج بالغيظ :
-ربنا يخليهولك.
فريال بضحك :
-أمين ياااا رب.
لوي “عثمان” فمه بإبتسامة جانبية ، ثم تساءل عندما لمح الكرسي الذي تجلس عليه “صفية” فارغ :
-هي فين صافي يا ماما ؟ بقالي كام يوم ماشوفتهاش !
تنهدت “فريال” و قالت بحزن :
-صافي فوق في أوضتها . مش راضية تنزل تتعشي معانا.
-ليه ؟!
فريال و هي ترمقه بنظرة ذات مغزي :
-مش عارفة . لو قادر أطلع هاتها إنت كلنا هنا غلبنا معاها.
أومأ “عثمان” برأسه ، ثم إتجه إلي غرفة شقيقته ..
بينما شغل “يحيى” الأجواء بفتح حديث جديد مع “مراد” :
-و إنت عامل إيه يا مراد ؟
مراد بإبتسامة :
-الحمدلله يا أنكل كويس.
-و أبوك أخباره إيه ؟ مش ناوي ينزل هو كمان ؟!
-لا هو ماما مبسوطين أوي هناك . أنا إللي زهقت و قررت أرجع و هما ماعترضوش .. سابوني براحتي !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في غرفة “صفية” … يدق “عثمان” الباب ، ثم يدخل ليجدها جالسة فوق سريرها تشاهد التلفاز بشرود
-ممكن أدخل ! .. قالها “عثمان” بلهجة إنسيابية ، لترد “صفية” بتكلف :
-إنت دخلت خلاص.
ضحك “عثمان” بخفة و تقدم صوبها و هو يقول :
-أنا قلت أجي أبص عليكي . بقالي يومين ماشوفتكيش.
صفية بسخرية :
-علي أساس إن حد بيشوفك إنت ؟ ما إنت مختفي علطول.
جلس “عثمان” بجوارها ، ثم سألها بجدية :
-مالك يا صافي ؟ شكلك عامل كده ليه ؟!
-شكلي ماله مش فاهمة ؟!
-يعني .. خاسة . قاعدة في أوضتك دايما . مش بتنزلي تاكلي معانا تحت !
صفية و هي تبتسم بكآبة :
-أنا كويسة يا عثمان ماتقلقش عليا . بس حبيت أقعد مع نفسي شوية.
-قصدك حبيتي تحبسي نفسك ! .. بتعملي كده ليه ؟ في مشكلة ؟ إحكيلي يا صافي لو عندك مشكلة مهما كانت حجمها هحلهالك.
تنهدت “صفية” و قالت :
-صدقني يا عثمان . مافيش حاجة . أنا و صالح زعلانين مع بعض شوية .. بس أكيد هنتصالح بسرعة.
عثمان بإهتمام :
-طيب ممكن أعرف زعلانين من بعض ليه ؟!
صفية بإختصار :
-هو مضايق من حالته و بقي عصبي . بس أنا مقدره إللي هو فيه عشان كده سايباه براحته لحد ما يتكلم من نفسه.
همهم “عثمان” بتفهم ، ثم قال و هو يقف علي قدماه :
-طيب ياستي . سيبك من كل ده دلوقتي و يلا معايا علي تحت عشان تتعشي معانا.
صفية بضيق :
-لأ يا عثمآاان . بجد مش في المود خالص.
-هو إيه إللي مش في المود ! أنا بقولك تعالي أفسحك ؟ يلا يا بت مابحبش الرغي الكتير.
و شدها من يدها لتقف بسهولة ..
-يا عثمآااان ! .. تمتمت بضيق أشد ، ليقول بصرامة و هو يجرها خلفه :
-يلآاااا . أنا راجل شقيان و جعان يا حبيبتي و مش فاضي خالص لدلع البنات ده !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
صباح يوم جديد … تستيقظ “سمر” من النوم باكرا ، ثم تقوم و تذهب لغرفة “فادي”
لديه إمتحان اليوم و لا تريد أن يتأخر فليس هناك من يوقظه غيرها ..
و لكنه لم تجده
يبدو أنه إستيقظ من نفسه لأول مرة و ذهب لجامعته
تنهدت “سمر” تنهيدة مطولة ، ثم إلتفتت حتي تعود إلي غرفتها
لكنها ما لبثت أن سمعت صوت جرس الباب يرن بتواصل ..
-أكيد فادي نسي حاجة .. تمتمت لنفسها ، ثم ذهبت لتفتح الباب
و كانت رؤية ذاك الزائر الآن أبعد ما تكون عن خيالها
نظرت إليه بصدمة و قد شلتها المفاجأة عن الكلام و الحركة ، بينما شملها بنظرات متفحصة و هو يبتسم بخبث شديد و عيناه تلتمعان بوميضه الشيطاني !!!