رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب
( 14 )
_ أعزب فاسق ! _
تصرفت “سمر” بآلية شديدة داخل مكتب مديرها .. عندما توجهت نحو هذا البنش المتوسط الذي إحتل ركن قاصي من الغرفة الواسعة
كانت متعبة و منهكة بصورة مميته ، بالكاد كانت تري أمامها ..
لكنها إستطاعت تجميع آدوات صنع القهوة ، كما عثرت بسهولة علي فنجان كبير أضافت له بعض القهوة و القليل من السكر
ثم شغلت وعاء التسخين المصنوع من معدن الكروم حيث إستطاعت أن تري صورة وجهها الشاحب بوضوح و تلك الهالات الزرقاء المحيطة بزوايا عيناها
لا تدري ماذا أصابها بالضبط !
لا يمكن أن تكون همومها ، فهي معتادة علي نوبات الضيق و الحزن منذ فترة طويلة ، ليس هناك ثمة مشكلة في هذا إطلاقا ..
لعله حديث “فادي” الذي لا تتذكر منه شئ الآن !
أو لعله عراك ليلة أمس الذي أنشبه إبن الجزار !
أو .. لعلها “ملك” الطفلة المسكينة التي يهددها الموت بسبب إفتقار أسرتها للمال !!
لم تشاء “سمر” الإسترسال في التفكير أكثر لئلا تزداد حالتها سوءاً ، فهزت رأسها بخفة و هي تركز نظرها المرهق علي شريط مقياس الحرارة المرفق بوعاء التسخين ..
و بعد دقيقة واحدة ، أطلقت الآلة رنين قصير معلنة إنتهاء الغليان
لتصب “سمر” السائل الساخن في الفنجان ، ثم تضعه فوق طبق نحاسي مسطح و تحمله تذهب لتقدمه إلي “عثمان” ..
-إتفضل يافندم ! .. قالتها “سمر” بخفوت و هي تنحني قليلا لتضع الفنجان فوق المكتب
بينما شكرها “عثمان” بإبتسامة و هو يتظاهر بتصفح هاتفهه :
-شكرا يا سمر . و آسف لو تعبتك.
سمر مبتسمة بصعوبة :
-العفو يافندم . مافيش تعب أبدا . دي حاجة بسيطة .. ثم سألته بتهذيب :
-تؤمرني بحاجة تانية ؟
عثمان بجدية :
-أه . كنت عايزك في موضوع . أقعدي يا سمر لو سمحتي .. ثم ترك هاتفهه جانبا ، و أكمل و هو يقوم من مكانه :
-تعالي نقعد هناك أحسن عشان نعرف نتكلم كويس.
و أشار لها إلي مقعدين مقابلين في الوسط
تبعته “سمر” بفم مطبق و كأنها بلا إرادة . بلا روح ..
جلس “عثمان” واضعا ساقا فوق ساق ، لتجلس هي الأخري راسمة تعبيرات هادئة جدا علي وجهها
-خير يافندم ؟ .. قالت “سمر” بتساؤل :
-إيه الموضوع إللي حضرتك عاوزني فيه ؟!
نظر لها “عثمان” محاولا تقدير التبدلات التي مرت بها منذ أخر لقاء لهما البارحة و حتي هذه اللحظة ..
-شكلك مش مظبوط خالص يا سمر ! .. تمتم “عثمان” و هو يحدجها بتركيز
بينما قطبت “سمر” قائلة :
-مش مظبوط إزاي حضرتك ؟!
-يعني . وشك مرهق خالص . و زي ما تكوني واقعة في مشاكل كبيرة . ماكنتيش كده لما سيبتك إمبارح ! .. لم تجب “سمر” فأضاف :
-أعتقد إن في مشكلة تانية بتواجهك ؟
سمر بإبتسامة خفيفة :
-لأ أبدا حضرتك . مافيش و لا مشكلة بتواجهني حاليا الحمدلله . بس آا ..
و أوشكت أن تحكي له عن أحداث الليلة الماضية ؛
كيف تعارك شقيقها مع أحد الشبان الأشرار بمنطقتهم ، و كيف حاولت التدخل لتحول بينهما ، و كيف نجي “فادي” من الوضع بشكل لم تتخيله ، و كيف كانت ستموت هي من الرعب !
و لكنها توقفت
لأنها أدركت أنه قد يفهمها خطأ ، يكفي ما فعله من أجلها حتي الآن ، لا يجب أن تزيد عليه و تبالغ في شكواها ..
-أنا بس قلقانة علي ملك .. هكذا أكملت عبارتها السابقة ببساطة و هي تبتسم له بلطافة زائدة
عثمان بإبتسامة مماثلة :
-إنتي بتبالغي أوي في قلقك عليها . قولتلك أختك هتبقي كويسة خالص .. صدقيني.
سمر و هي تدعي من قلبها :
-يا رب . يا رب يافندم .. إنت أصلك ماتعرفش ملك دي بالنسبة لي إيه . دي بنتي مش بس أختي . أنا إللي إهتميت بيها من يوم ما ماتوا بابا و ماما.
-والدك و الدتك إتوفوا مع بعض ؟!
سمر بحزن :
-أيوه . ماتوا في حادثة عربية . لسا ماكملوش سنة.
عثمان بتعاطف زائف :
-الله يرحمهم.
سمر بإبتسامة حزينة :
-أمين .. ثم نظرت إليه قائلة بإستحياء :
-حضرتك صاحب فضل كبير أوي عليا أنا و أخواتي . بجد نفسي في يوم أقدر أردلك جزء من جمايلك علينا.
عثمان بضيق :
-يا سمر قولتلك قبل كده مابحبش الكلام ده !
-خلاص خلاص . أوعدك مش هضايق حضرتك تاني.
-و بلاش حضرتك دي كمان.
سمر و قد توردت وجنتاها :
-ماينفعش حضرتك.
عثمان بحدة :
-تاني حضرتك ؟
-أومال هقول إيه بس ؟ .. تساءلت بحيرة ، ليجيبها ببساطة :
-قوليلي عثمان عادي جدا.
سمر بخجل شديد و هي تخفض رأسها بسرعة :
-يا خبر ! لأ .. أعذرني مقدرش.
تنهد “عثمان” و هو يهز رأسه بيأس منها ، ثم قال بهدوء :
-إنتي تعرفي إني كنت متجوز قبل كده ؟
و هنا تطلعت “سمر” إليه ..
-حضرتك كنت متجوز ؟ .. تمتمت “سمر” و أكملت بإستغراب :
-غريبة !
-هي إيه دي إللي غريبة ؟!
سمر بتلعثم :
-لأ مش قصدي حاجة . أصل حضرتك قلت كنت متجوز ! معناها إنك طلقت.
-أيوه !
سمر بإبتسامة مرتبكة :
-أنا بس إستغربت مين دي إللي ممكن تتجوزك و تبقي حابة تنفصل بعد كده . حضرتك إنسان كويس جدا يعني.
عثمان و هو يلوي ثغره بإبتسامة ساخرة :
-بس هي بقي ماكانتش كويسة أبدا.
عقدت “سمر” حاجبيها إثر هذا و لم تعلق ، ليكمل هو بنبرة لامبالية :
-طلقتها ليلة الفرح.
سمر بذهول و قد عجزت عن الصمت :
-يا نهار أبيض !
إبتسم “عثمان” و هو يسألها :
-إيه مالك ؟ مستغربة أوي كده ليه ؟ إنتي ماقرتيش الخبر في الجرايد و لا إيه ؟ الموضوع مافتش عليه كتير !
-لأ حضرتك . أنا مش فاضية للحاجات دي .. ثم سارعت لتصلح الجملة :
-أقصد يعني مشاكلي أحيانا كتير بتشغلني عن كل إللي بيدور حواليا !
أومأ “عثمان” بتفهم و قال :
-أنا أصلا ماكنتش بحبها .. الجوازة كانت مجرد جوازة مصلحة عشان نربط عليتها بعيلتي .. ثم أردف و هو يرمقها بنظرات ذات مغزي :
-إنتي عمرك حبيتي يا سمر ؟
أجفلت “سمر” من سؤاله ، و ردت بعد برهة :
-حب ! لأ يافندم . بصراحة عمري ما جربت الحكاية دي.
-ليه ؟ ماتقنعنيش إن محدش عرض عليكي و لا مرة !
سمر بإبتسامة خجلة :
-مش بالظبط و الله .. بس أنا بحب أبقي في حالي . و كمان ماحبش أتخدع أبدا . كفاية مشاكلي عليا . بمعني أدق يعني أنا مش ناقصة و سايبة الحب ده علي جنب . زائد إن الحب أساسا أنواع.
-يعني إيه ؟!
-يعني في حب مش طاهر . مش قايم علي الإحترام و لا المبادئ .. وضحت أكثر و هي تشعر بقليل من الخجل :
-حب زي ده مايبقاش حب و لا يبقي حاجة شريفة أصلا . و أنا مش ممكن أفرط في شرفي أو أسـّوأ سمعتي !
عثمان بلهجة متنمرة :
-طيب . ممكن يبقي إيه ردك لو واحد زيي مثلا عرض عليكي الحب يا سمر ؟!
سمر و هي تضحك علي نكتته الساخرة :
-يا خبر ! واحد زي حضرتك ؟ إنت مافيش واحدة تفكر في عروضك أصلا . عروضك كلها مقبولة مقدما .. و تابعت ضحكها الهادئ
ليبتسم “عثمان” ثم يعلن بصراحة :
-طيب يا سمر .. أنا بعرض عليكي الحب دلوقتي !
صمت مفاجئ .. ثم إنفرجت شفتا “سمر” عن دهشة و قد عاد الشحوب إلي وجهها ثانيةً ..
بإرتداد سريع و لا شعوري تقريبا تحركت بعيدا عنه بقدر ما سمح لها به مسند الكرسي
لكنه لم يأت بأي حركة نحوها ، و قال بإتزان تام :
-أنا دلوقتي راجل عازب . و من حقي أرتبط بأي واحدة تعجبني .. و أنا إختارتك إنتي يا سمر.
سمر بتوتر واضح :
-حـ حضرتك أ كيد بتـ ـهزر !
عثمان و قد إتسمت ملامحه و نبرة صوته بالجدية الشديدة :
-لأ خالص . أنا مابهزرش و عارف أنا بقول إيه كويس أوي .. إنتي بقالك مدة شغلاني و إكتشفت أخيرا إني عايزك .. ثم أكمل بشرط :
-بس لعلمك أنا مش بتاع جواز . هي كانت مرة و خلاص .. شطبت.
في هذه اللحظة هبت “سمر” من مكانها و فورا بحثت عن الباب
تريد أن تخرج ، بل تريد أن تهرب خاصة بعد سماع هذا ..
ليقف بوجهها ذاك الأعزب الفاسق راسما علي شفتيه إبتسامة شيطانية ..
-عديني حضرتك لو سمحت ! .. قالتها بلهجة مرتجفة و هي علي وشك أن تبكي
بينما هز رأسه بالرفض و هو يقول بعتاب :
-و بعدين معاكي . إحنا مش قولنا نبقي كويسين مع بعض و بلاش كلمة حضرتك دي ؟ .. ثم تابع بهدوء نموذجي :
-إسمعيني كويس . كل واحد فينا عايز حاجة من التاني . أنا عن نفسي هديكي كل إللي أنتي عايزاه .. بس لازم بردو أخد منك كل إللي أنا عايزه.
و شدها إليه دون سابق إنذرا ، لتكتم شهقتها المرتعبة قبل أن تتجاوز حنجرتها ، و يتابع هو بهمس قرب أذنها :
-أنا حبيتك علي فكرة . و عارف إنك إنتي كمان ممكن تكوني بتحبيني مختلفناش .. قولتيلي مش ممكن تفرطي في شرفك . تمام .. أنا مش هآذيكي . أوعدك إنك كل مرة هتخرجي من هنا صاغ سليم . ماتخافيش بقي .. طاوعيني و مش هتندمي !
إنهمرت الدموع من عينيها بالفعل و هي تحاول الفكاك منه ، لكنه لف ذراعيه حولها بإحكام ، ثم قال :
-ماتبقيش عنيدة . فكري في مصلحتك . أنا هنفعك أكتر ما هضرك بصرف النظر عن إن إللي أنا عايزه مافهوش ضرر أصلا . بالعكس . أنا هاخد بالي منك و بضمنلك إنك هتكوني مبسوطة معايا.
إستمرت “سمر” في التملص منه و هي تصرخ :
-إوووعي . سيبنيييي . أنا مش عايزة منك حاجة !
و هنا أفلتها “عثمان” و يقول ضاحكا :
-بتهزري يا سمر . إنتي محتاجالي . و مافيش قدامك حل تاني .. إقبلي عرضي دلوقتي أحسن بدل ما تيجي تطلبيه مني بعدين.
عند ذلك لم تشعر “سمر” إلا و هي ترفع كفها عاليا ، لكن “عثمان” تناوله من الهواء بحركة سريعة قبل أن تبلغ المسافة و تصفعه ..
لوي ذراعها خلف ظهرها بقوة ، ثم شدها إليه بعنف بحيث أصبح جسدها ملتصقا بجسده فأحست عندئذ بعضلاته النافره تحت ثيابه ..
بينما قال بصوت أجش :
-هدي أعصابك بقي و حاولي تفهمي .. مافيش قدامك إلا الحل ده . أنا الوحيد إللي في إيدي أخلصك من كل مشاكلك . بس طبعا بالمقابل إللي قولتلك عليه !
كادت تنفجر بوجهه ثانيةً ، لكنه سارع مكملا بصرامة لاذعة :
-أومال إنتي فاكرة أنا جبتك تشتغلي عندي هنا ليه ؟ إنتي و لا تعرفي أي حاجة عن الشغل إللي إنتي فيه . أنا جبتك هنا بس عشان تفضلي تحت عنيا .. عشان وقت ما أعوزك ألاقيكي !
سرت موجة من القرف و الخوف في أوصالها و تقلصت أحشاءها بألم
بدأت تصارع بهياج ، لكنه لم يقم بأي جهد ليحتجزها ثانية أخري ..
و بلحظة تلوت و حررت نفسها ، لتفر هاربة منه للحال
ركضت و هي لا تري أمامها بسبب كمية الدموع التي ملأت عيناها ، واصلت الركض بأقصي سرعة لديها حتي إبتعدت عن أرضه تماما
حينها فقط ، سمحت لساقيها بالتداعي و سقطت باكية تحت ظلال شجرة ضخمة …