رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب
رواية عزلاء أمام سطوة ماله للكاتبة مريم غريب
الشخصيات :
بطلا الرواية ( عثمان البحيري / سمر حفظي )
” يحيى البحيري ” والد “عثمان”
” فريال المهدي ” والدة “عثمان”
” صفية البحيري ( صافي ) ” شقيقة “عثمان”
” رفعت البحيري ” شقيق ” يحيى ”
” صالح البحيري ” إبن ” رفعت ”
” هالة البحيري ” إبنة ” رفعت ”
” فادي حفظي ” شقيق “سمر”
” ملك حفظي ” شقيقة “سمر”
( 1 ) :
_ زفاف أسود ! _
جليم / الأسكندرية , في الواحد و الثلاثون من تشرين الأول ..
إكتظت الساحة الضخمة المصممة ببراعة و حرفية علي الطراز الإيطالي ، بالمصوريين و الصحفيين من جهة ، و المدعوين من جهة أخري
جميعهم جاءووا لحضور حفل الزفاف الأضخم علي الإطلاق هذا الموسم ، لنجل عين أعيان مدينة الأسكندرية ، و أحد أكبر الشخصيات التجارية و الإستثمارية بالبلد كلها “يحيى البحيري” ..
في زفاف أكثر من أسطوري ، يتزوج الإبن و الوريث الأكبر لعائلة “البحيري” داخل قصرهم الفخم الذي يتألف من 322 غرفة ، و ثمانية وجهات خارجية بحدائقها الشاسعة ، من “چيچي الحداد” إبنة السياسي المعروف “رشاد الحداد” ..
و بعد إتمام إحتفالات الزواج الأولية التي إستمرت لثلاثة أيام ، أقيمت الليلة مآدبة عشاء ضخمة ، ضمت أكثر من 700 شخص ، و قد وصلت تكلفة الزفاف بالمجمل إلي أكثر من عشرة ملايين جنيهاً
جري الزفاف وسط حراسة أمنية مشددة سهرت علي حماية المدعوين من رجال أعمال و شخصيات دبلوماسية و سياسية ، كما شارك في إحياء السهرة العديد من الفنانين و المطربين المشهورين ..
علي الجانب الأخر .. إستطاعت السيدة “فريال المهدي” التملص من حشود الضيوف ، و ذهبت لتحث إبنها في عجلة لبدء عقد القران
إستجاب لها بفتور ، و قاد عروسه إلي منتصف الساحة حيث يجلس المآذون في إنتظار قدومهما ، و حالما جلس الجميع ، أرخي المآذون محرما أبيض علي يدي والد العروس و خطيبها المتعاقدتين علي القران ، و علي مرآي و مسمع الحضور ، مضي العقد عبر مكبرات الصوت المنتشرة بكل مكان ..
طقس تقليدي معتاد ، شمل تعهدات واهية راح يرددها العريس وراء المآذون ، و إبتسامات العروس المصطنعة التي راحت توزعها هنا و هناك ، و بعض الأفواه المزمومة من حولهم ، لا تعرف كيف تصنفها ، حقد أم غيرة أم لامبالاه !!!
-بارك الله لكما ، و عليكما ، و چمع بينكما في خير.
عند نطق المآذون بها ، صدحت صفارات و صيحات صاخبة ، و قام القعود من مجالسهم مهنئين في خضم التصفيق الحار ، و إتجه الرجال نحو العريس بالمصافحة و الأحضان
لتأتي أمه الرائعة من بعدهم ، و بكفيها الناعمين تكوب وجهه المشعر بلحيته الكستنائية الكثيفة ، تأملها هو بإعجاب خالص ، فكعادتها لا زالت تفاجئ الجميع بجمالها الذي لا يذبل أبدا ، و بطلتها التي تخطف الأنفاس
و خاصة الليلة ، بإرتدائها فستانا طويلا بلون النيود من مجموعة ريزورت شانيل بدا منسجما مع لون بشرتها الناصعة المشربة بالحمرة ، و أكملت إطلالتها الساحرة مع حذاء بكعب عالٍ باللون الأسود من العلامة التجارية الإيطالية Le Silla ، و بعض المجوهرات القليلة البسيطة التي وضعتها ..
-مبروك يا حبيبي.
قالتها “فريال” برقة و همس في آذنه و هي تعانقه بسعادة ، لينحني هو و يقبل يدها أمام عيون الكاميرات المصوبة نحوهما ، فبدورها تمسح علي خصلات شعره الطويلة بحنان
حضر والده في اللحظة التالية ، و أمسكه من رسغه بحزم و هو يخطو به بعيدا قليلا ، ثم يقول له بصوت خافت لا يسمعه إلا هو :
-خالي بالك .. مش عايزين مشاكل ، إتصرف بعقل ، سامعني ؟
هكذا حذره بصرامة و هو يرمقه بنظرات حادة كزيادة تأكيد ، لاحظت “فريال” ما يدور بين الأب و الإبن ، فأحست بجو من التوتر بدأ يخيم فجأة
إقتربت منهما ، و تساءلت بقلق :
-يحيى ! في حاجة و لا إيه ؟؟
إلتفت “يحيى” إلي زوجته ، و قال بلهجة هادئة و كأن شيئا لم يكن :
-مافيش حاجة يا حبيبتي اطمني .. بالعكس كل حاجة كويسة و الليلة مشيت زي ما احنا عايزين بالظبط .. ثم أدار وجهه إلي إينه ، و أكمل بنفس الهدوء و الثقة :
-انا بس كنت ببارك لعثمان و بستعجله ، كفاية كده بقي السهرة طولت ، و رشاد الحداد بيقول شاليه العرسان جاهز و كله تمام .. لازم يمشوا دلوقتي !
إستطاع “يحيى” بكلمات بسيطة أن يخدع زوجته التي إبتسمت الآن و هي تسند رأسها علي صدره ، و لكن لم يستطع خداع إبنه ، ليس بعد أن علم بكل شيء !!
أخيرا إنتهت ليلة العرس التي وصفت بأنها أشبه بحفل ألف ليلة و ليلة ، و غادر العريس مع عروسه في سيارة ڤيراري مكشوفة إلي إحدي الشاليهات الفارهة بضواحي المدينة الراقية ..
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
كانت أضواء الشموع الحمراء العطرة ، تتراقص ظلالها علي جدار غرفة النوم الرومانسية و المفروشة كلها بالأبيض و الوردي
عندما دخل “عثمان البحيري” حاملا زوجته بين ذراعيه المفتولتين ، و برقة و ضعها فوق الفراش الناعم العريض
تصنعت “چيچي” الخجل أمامه و هي تسدل أهدابها المطلية بالمسكارا الداكنة ، و ترفع خصلات شعرها المتهدلة عن عينها
و لكنها سرعان ما تخطت حاجز الحياء المصطنع هذا ، و رفعت بصرها إليه في بطء ، لتجده يطالعها بنظرات فاترة من خلال عينيه الناعستين دائما بصورة جذابة
-في إيه يا عثمان ؟ .. تساءلت “چيچي” بإستغراب :
-بتبصلي كده ليه ؟
إبتسم “عثمان” بخفة ، ثم قال و هو يدنو منها :
-مافيش حاجة يا حبيبتي .. أنا بس بتآمل جمالك ، إنتي أصلك جميلة أوي يا چيچي ، خصوصا إنهاردة .. كنتي زي القمر.
أدارت وجهها عنه واضعة كفها علي فمها و هي تقهقه برقة ، ثم عادت تنظر إليه من جديد ، و قالت :
-إنت كمان كنت حلو أوي .. كنت Prince يا حبيبي ، أصلا فرحنا يعتبر فرح الموسم ، و هيفضل حديث الناس كلها لسنين قدام.
وافقها بضحكة قصيرة ، و قال بغموض :
-من ناحية هيبقي حديث الناس كلها لسنين قدام فأطمني .. أنا واثق من ده يا حبيبتي.
و بدا و كأنه يقاوم ضحكة أخري ، فأحست “چيچي” بثمة شيء غير طبيعي يحدث معه ، فسألته بقلق :
-مالك يا عثمان ؟ أنت كويس .. و واصلت بشك :
-لا تكون واخد حاجة كده و لا كده !
أجابها ضاحكا بقوة :
-يا حبيبتي ماتقلقيش أنا تمام ، كل الحكاية إني مبسوط شوية.
و صعد بنظره إلي شعرها المصبوغ حديثا
-تعرفي أن الشعر الأصفر لايق عليكي أوي .. قالها و هو يداعب شعرها بأنامله
ثم إقترب منها أكثر إلي حد الإلتصاق ، و طبع قبلة مطولة تحت رقبتها ، أطلقت “چيچي” إثرها تنهيدة حارة متقطعة ، و تمتمت :
-طيب .. مش نغير هدومنا الأول ؟
و لكنه لم يتراجع قيد أنملة ، بل واصل عمله مقربا وجهه إلي وجهها ، فإلتقت شفتاه بشفتاها ، و ببطء أدار نفسه حتي أصبح يعتليها ، أمسك وجهها بين يديه و رفعه لأعلي كي يصبح سهلا لفمه لعق رقبتها
كان صوت تنفسها عاليا إلي حد الأحراج ، لكنها لم تخجل لم تهتم ، فقط كانت مستمتعة بمداعبته اللطيفة لها ، و كان قلبها يدق بشدة و يدوي دقه بصخب في آذنيها
إلا أن هذا الصخب لم يمنعها من سماع ضحكات “عثمان” اللئيمة الخافتة ، فتحت عينيها علي وسعهما و قد دهشت لسماعه يضحك في وضع كهذا !
بينما نهض عنعا بالتزامن مع تصاعد موجات ضحكاته الغريبة
-إيه رأيك نشوف فيلم مع بعض ؟ .. سألها بلهجة مرحة ، لترفع نفسها ، و تسند ظهرها إلي الوسادة مرددة بغرابة :
-نشوف فيلم ؟ دلوقتي ؟
أومأ ببراءة :
-آه .. و لا مش عايزة ؟
-لـل لأ .. خلاص ، زي ما أنت عايز ، نشوف فيلم.
إلتوي ثغره بإبتسامة خبيثة شاهدتها عليه قبل أن ينهض من أمامها ، فإزداد شعورها بالريبة و التوجس ، لكنها حاولت أن تسترخي مقنعة نفسها بأن هذه هي طبيعته أصلا
ماكر ، خبيث ، داهية ، مراوغ ، لا أحد يتوقع تصرافاته ..
عاد إليها سريعا و هو يحمل بين يديه حاسوبه المحمول ، جلس بجوارها ، و راح يلامس محرك السهم حتي وصل إلي ملف معين و فتحه ..
بدأت الشاشة المتوسطة بعرض فيلما تسجيليا ، في البداية شعرت “چيچي” بالفتور و الملل ، إلي أن رأت نفسها في أول ظهور كبطلة لهذا الفيلم ، و ما لبثت أن شاهدت حبيبها السابق يشاركها البطولة في عدة لقطات حميمية راحت تمر أمام عينيها اللقطة تلو الأخري ..
ضربتها الصدمة في مقتل و هي تزيح بصرها المتجمد عن الشاشة لتنظر إليه .. سألته بلسان ثقيل :
-أنت .. أنت إزاي ، إزاي صورت الحاجات دي ؟
ظهرت أسنانه الناصعة من خلف شفته حين إبتسم بشيطانية قائلا :
-أنا في كل مكان يا بيبي ، في أي حتة تخصني من قريب أو من بعيد ليا عين.
ثم فاجأها و قبض علي شعرها بعنف و هو يقول بغضب شديد :
-و يا جبروتك يا شيخة ، رايحة تقابلي حبيب القلب قبل فرحك بإسبوع ! كنتي فاكرة أنك تقدري تستغفليني ؟ فاكراني مغفل و لا بريالة يا بت ؟ ده أنا عثمان البحيري ، محدش يقدر يلعب عليا من ورا ضهري ، محدش يقدر يأكلني الأوانطة سامعة ؟
صرخت إشتداد قبضته علي شعرها ، فرجته ببكاء :
-خلاص يا عثمان سيبني ، سيبني هنتفاهم علي اللي أنت عايزه ، لو عايز تطلقني طلقتي.
قهقه عاليا ، ثم قال بسخرية :
-نعم يا روحي ؟ أطلقك ! ما أنا فعلا هطلقك .. بس مش بالسهولة دي ، ده أنا دافع فيكي كتير أوي ، يرضيكي أخسر ؟
ردت و هي تحاول التنصل منه :
-أنا مش عايزة منك حاجة ، هتنزلك عن كل حاجة ، هبريك يا عثمان بس Please سيبني !
و تآوهت بوهن ، ليزم شفتيه في آسف مصطنع ، و يقول :
-يا بيبي إنتي كده كده هتبريني غصب عنك ، مش هي دي المشكلة خالص بالنسبة لي.
صرخت بنفاذ صبر :
” أومال عايز إيه ؟
-هقولك يا قلبي.
قالها و قام من جانبها في هدوء شديد ، بينما تنفست الصعداء عندما أطلق سراحها و حرر خصلات شعرها من عقال قبضته الفولاذية ، دلكت فروة رأسها بأصابعها
ليحضر هو و يجاورها ثانيةً ، ثم يقول بإسلوبه البارد المشهور به :
-خدي يا بيبي .. إمضي علي الورق ده.
نظرت “چيچي” إلي مجموعة الأوراق بين يديه ، و سألته بصوت متحشرج :
-ايه الورق ده ؟
-ده يا حبيبتي تنازل عن حصتك في الشركة اللي اسهها لينا ابويا و ابوكي كهدية بمناسبة جوازنا ، و معاهم كمان ورق تنازل عن كل حقوقك في الجوازة دي رغم إني صرفت علي الفرح الملوكي بتاعنا ده ملايين .. بس مش مشكلة ، ربنا يعوض عليا ، خيرها في غيرها.
-إيه اللي بتقوله ده ؟ .. هتفت بإستنكار ، و أكملت :
-مستحيل أعمل إللي بتقول عليه ده ، إنت إتجننت ؟ أنا هتنازلك عن حقوقي بس ، لكن حصتي في الشركة مش No Way طبعا ، مش هسمحلك تقرب منها.
عثمان بضحك ساخر :
-مش بمزاجك يا قطة ، غصب عنك هتتفذي كل إللي أنا عايزه.
ردت بتهكم :
-طب لو مانفذتش كل إللي أنت عايزه يعني .. هتعمل إيه ؟
أجابها ببساطة :
-ولا حاجة .. هاخد بس الفيلم الجميل ده و هنشره في كل حتة ، و بدل ما تفضل موهبتك الفذة دي مدفونة كده ، هطلعها أنا للناس ينبهروا بيها ، و أوعدك .. بكره الصبح ، هتكوني أشهر من سكارليت چوهانسون.
و عاد للضحك من جديد ، لترمقه بنظرات محتقنة و تقول :
-إنت فاكر إنك بكده بتلوي دراعي ؟ بابي مش هيسيبك يا عثمان.
إبتسم و أفحمها بشتيمة قذرة جحظت لها عيناها من الصدمة ، ثم عاد لسلوكه الأرعن ، و قال بحدة و هو يلقي بالأوراق في وجهها :
-يلا ياختي إمضي ، مابحبش أعيد كلامي مرتين.
نظرت إليه بحقد شديد ، و إنصاعت لأمره مرغمة
أخذت الأوراق من يده ، و ناولها قلم بدوره ..
و بعد دقيقة واحدة ، كانت قد إنتهت ، فإسترد أوراقه منها ، و بادلها نظرة البغض المنبعثة من عينيها بإبتسامة مستفزة ..
ثم إنتصب بقامته الفارعة أمامها ، و قال بنعومة :
-دلوقتي بس يا بيبي اقدر أقولك إنتي طالق ، طالق ، طالـــق !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
منذ فترة طويلة لم تعد “سمر” بحاجة لساعة التنبيه التي إعتادت أن تقوم بمهمة إيقاظها في كل صباح ، إذ إن صراخ “ملك” شقيقتها الصغيرة ذات العشرة أشهر كان بمثابة تنبيه ذا تآثير أقوي ..
و ها هي تنتفض من غفوتها العميقة عندما بدأت الصغيرة بالبكاء ، قامت من سريرها و هي تفرك عينيها بقبضتها ، و هرولت إلي شقيقتها و هي تتخبط في كل قطعة أثاث تقابلها
إنحنت صوب سريرها الصغير لتسكتها بسرعة لئلا يعلو صراخها أكثر و تزعج الجيران ، كانت تعاني منذ شهران و حتي الآن آلام و تقلصات في معدتها لا تستطيع التعبير عنعا إلا بالصراخ و خاصة في الليل
حملت “سمر” الطفلة ، و راحت تهدهدها و تؤرجحها و تغني لها بعذوبة ، و تدريجيا هدأت “ملك” و عادت إلي النوم بين ذراعيّ أختها الكبيرة
وضعتها “سمر” في فراشها ثانيةً ، و بحرص شديد بسطت فوق جسمها الصغير غطائها الناعم
مسحت علي شعرها البندقي الأملس بحنو ، ثم إستدارت خارجا متجهة إلي دورة المياه ..
أدت روتينها اليومي ، غسلت وجهها و نظفت أسنانها ، ثم صنعت فنجانا من الشاي و عادت به إلي غرفتها
جلست علي الكرسي أمام الطاولة ، و راحت تقوم بحسابات
المصاريف المتوجبة عليها لهذا الإسبوع و خرجت بنتيجة صعبة جدا
إذ أن عليها تخفيف مصاريفها إلي أدني درجة لتتمكن من دفع أجرة الشقة التي تآويها هي و شقيقها الشاب و شقيقتها الصغيرة ..
و لكن ماذا عن الطعام و الشراب ؟ ألن يآكلوا لأجل توفير المال ؟
إن “ملك” بمفردها يوميا تحتاج إلي ميزانية خاصة ، النقود كلها تكاد تكفي اللبن المجفف و الحفاضات و الآدوية الخاصة بها .. من أين ستسد باقي الحاجيات ؟
أحست “سمر” بقنوط و يأس شديد ، و فجأة تذكرت والديها .. فقط لو كانا هنا معها الآن ، لما كانت غارقة حتي أذنيها بمستنقع الهموم هذا
و لكن شاء القدر أن يموتا معا في حادث سيارة قبل ثمانية أسابيع و هما في طريقهما لعيادة طبيب الأطفال المشرف علي علاج “ملك” التي ولدت بداء الصفراء ، و لحسن حظ الصغيرة ، كانت هي الناجية الوحيدة من بين جميع ركاب الحافلة ، إذ لم يصيبها خدش واحد !
لم تسنح لـ “سمر” أو لشقيقها فرصة الحداد و الحزن علي والديهما ، فقد كانت “ملك” بحاجة للإهتمام في كل لحظة ..
أفاقت “سمر” من شرودها علي صوت أنين “ملك” الذي ينذر بنوبة صراخ حادة ، فأسرعت “سمر” إليها ، و أخذتها بين ذراعيها مرة أخري و ظلت تمشي و تجوب بها أرجاء الشقة كلها حتي نامت مجددا ..
سمعت طرقا علي باب الشقة ، فذهبت لتفتح
أمام العتبة ، وقف صاحب البناية محتقن الوجه ..
فتلعثمت “سمر” و قالت في حيرة و إرتباك :
-عم صابر ! أهلا آاا ..
قاطعها الأخير بغلظة :
-لا أهلا و لا سهلا يا ست سمر ، أنا جاي أقولك بالود و المعروف كده قدامك يومين مافيش غيرهم تلمي عزالك و تاخدي إخواتك و تدورولكوا علي سكن تاني.
سمر بجزع :
-ليه بس كده يا عم صابر ؟ إحنا مش مقصرين معاك انت بالذات و بندفعلك الإيجار أول بأول !
-يا ستي الله الغني عن الكام ملطوش اللي بيطلعولي منكوا ، و إن كان علي آجرة الشهر ده أنا مسامح فيها الله الغني بس تمشوا من هنا.
تقلص وجه “سمر” و هي تتسائل بإنكسار :
-طب بس نمشي نروح فين ؟ ده بيتنا طول عمرنا ، ماطلعناش منه أبدا و مانعرفش مطرح تاني نروحله.
-و الله مش مشكلتي يا أنسة ، دبروا حالكوا ، أنا السكان إبتدوا يطفشوا من البيت بسببكوا ، ديك النهار البشمهندس علاء اللي جمبكوا جه رمالي مفتاح الشقة و مشي ، الراجل ماكنش عارف ينام من صوت الأمورة اللي علي ايدك دي ، كل يوم بتصحيه من احلاها نومة.
سمر بقلة حيلة :
-طب بس هعملها ايه يا عم صابر ؟ ما أنت عارف إنها عيانة من يوم ما إتولدت و مش بإيدي إللي هي فيه.
أجابها “صابر” بإسلوبه الفظ :
-يا ستي ربنا يشفيها و يعافيها بس بعيد عن هنا ، شوفي أنا عملت بأصلي و جيت نبهتك بالإخلا ، في ساكن جديد هيجي يشوف الشقة بعد بكره ، يا ريت تكونوا سيبتوا المطرح قبل ما أجيبه عشان في يوميها لو الراجل جه و إنتوا لسا هنا هلم صبياني و هرميلكوا عفشكوا في الشارع.
-إنت إزاي بتكلمها كده يا راجل إنت ؟؟؟
هتف بها “فادي” لدي وصوله أمام باب الشقة ، و أردف بغضب :
-و بعدين أنا مش نبهت عليك قبل كده ماتهوبش ناحية الشقة و أنا مش موجود ؟ إيه إللي جابك ؟ أول الشهر لسا بكره و كنت هاجيلك أنا و أديلك الإيجار زي كل مرة.
صاح “صابر” للحال :
-لا يا سيدي مش عايز منكوا حاجة و الله ما عايز ، أنا عايزكوا تحلوا عني بس و تشوفلكوا مطرح تاني بعيد عني أنا و السكان.
نطق “فادي” بعدائية مفرطة و هو يحاول ضبط نفسه قدر الإمكان حتي لا يضربه :
-و إنت مابتعرفش تتكلم بآدب يا راجل يا مهزأ إنت ؟
-الله يسامحك يا أستاذ فادي ، و أنا عشان راجل محترم مش هرد عليك .. ثم أعلن بصوت قاطع :
-بس من بكره بقي هعلق ورقة علي باب البيت من تحت و هعرض الشقة للإيجار ، و أول زبون هيجي هسلمه المفتاح.
أحمرّ وجه “فادي” بصورة خطرة ، و كاد يهجم عليه ، إلا أن “سمر” سارعت بإيقافه و هي تقول ممسكة بساعِده :
-خلاص يا فادي خلاص .. و حولت نظرها إلي “صابر” مكملة بجمود :
-ماشي يا عم صابر ، إعمل إللي أنت عايزه ، إحنا هنلم حاجاتنا و هنسيبلك الشقة بكره.
إبتسم “صابر” ببرود ، و أدار ظهره و ولي تاركا الأشقاء الثلاثة دون صوت ..
نظرت “سمر” في إمعان و حنان إلي وجه شقيقتها البرئ ، فأغرورقت عيناها بالدموع ، ليلمحها شقيقها و يصيح بعصبية :
-إنتي بتعيطي ليه دلوقتي ؟ ماتعيطيش ، تحبي أنزل أفرجلك عليه الشارع كله دلوقتي ؟
سمر و هي تمسح دموعها بظهر يدها بسرعة :
-لأ طبعا إنت إتجننت ؟ خلاص ، يلا إدخل جوا.
و شدته معها إلي الداخل ، ثم سألته لتذهب به عن النقاش حول المشادة الفائتة :
-قولي عملت إيه في الجامعة ؟
أجابها عابسا :
-و لا حاجة .. قالولي مش هينفع تستلم الكتب إلا بعد دفع المصاريف.
سمر بملامح حزينة و هي تربت علي كتف شقيقها :
-معلش .. ليها حل إن شاء الله ماتقلقش.
فادي بعصبية :
-ليها حل إزاي يعني ؟ هنضرب الأرض تطلع فلوس ؟ إحنا بالشكل ده هنتشرد يا سمر و ملك هتموت مننا ، مافيش قدامنا حلول ، مافيش إلا هو حل واحد بس و إنتي ماعرفتيش تتصرفي.
سمر بوهن :
-يعني كنت عايزني أعمل إيه ؟ أنا فضلت وراهم طول الشهور إللي فاتت و ماطلعتش بأي نتيجة ، مش هيرضوا يصرفولنا المكافأة يا فادي.
-ليه يعني ؟ هو مش بابا كان زيه زي أي موظف في الشركة الهباب دي ؟ طب خليهم يعملوها كده و الله لأرفع عليهم قضية و أوديهم في ستين داهية.
إبتسمت بمرارة ، و قالت :
-إحنا هنروح فين جمب الناس الكبار دول يا فادي ؟ مش هنعرف نعمل معاهم حاجة.
-لأ بقي أنا هعرف ، و أديني نازل رايحلهم دلوقتي أهو و يا أنا يا هما.
و إبتعد خطوتين ، لتلحق به “سمر” صائحة :
-إستني يا فادي .. إستني !
و قبضت علي كفه ، و غمغمت بخفوت :
-خلاص أنا هروح تاني.
أدار عينيه قائلا بضيق :
-هتروحي فين بس ؟ إنتي بترجعي زي ما بتروحي ، مابتعرفيش تتصرفي.
جادلته بتصميم :
-هروح .. هروح و مش هرجع إلا بنتيجة !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في قصر آل ” بحيري ” ..
يضرب “يحيى البحيري” الطاولة بيده الغليظة و هو يصيح بغضب شديد :
-الكلب مابيردش عليا ، طب بس لما أشوفك يا عثمان .. الحيوااااان !
و لفظ كلمته الأخيرة و هو يصرخ بضراوة في هاتفهه ، فتبادل أفراد الأسرة نظرات متوترة ، بينما تحركت “فريال” صوب زوجها و هي تقرل بلطف علها تهدئه :
-إهدا يا يحيى ، مش كده يا حبيبي كفاية صحتك ، إهدا عشان خاطري.
يحيى بصياح أشد :
-ماتقوليش إهدا دي ، أهدا إزاااي ؟ أهدا إزاي بعد ما ورطنا الباشا إبنك مع رشاد الحداد ؟ ده راجل لو حب هيقعدنا كلنا في البيت ده إذا عاد لينا بيت بعد عملته السودا.
-إنت بتبالغ أوي علي فكرة .. قالت “فريال” بضيق ، ثم أكملت مدافعة عن إبنها :
-و بعدين إنت كنت عايزه يعمل إيه ؟ بعد إللي إنت حكيتهولي ليلة إمبارح بنفسك أنا مش شايفة إنه غلطان ، بالعكس دي أقل حاجة عملها.
يحيى بإنفعال :
-إنتي عايزه تجننيني إنتي كمان ؟ هتعومي علي عومه ؟
و هنا تدخل “رفعت” بهدوء :
-عثمان غلط يا فريال ، ماكنش لازم يتصرف بإندفاع كده .. دلوقتي الجرايد و المجلات مالهمش سيرة غيرنا ، و رشاد الحداد فعلا مش هيسكت ، الفضيحة مسته أكتر بكتير مننا و إنتي عارفة أنه سياسي معروف و عضو مجلس شعب .. مركزه حساس.
-قولها !
هتف “يحيى” بعنف من شدة حنقه ، لتنضم إليهم “صفية” في اللحظة التالية ، حيث ولجت إلي الصالون الضخم حاملة بين ذراعيها جريدة و هذا الأسد الشبل الذي ترعاه ريثما يشفي من مرضه :
-صباح الخير يا جماعة !
لم يرد أحد تحيتها إلا عمها و إبنه “صالح” فقط ، فتساءلت بهدوء و هي تلوح بالجريدة :
-هو صحيح إللي مكتوب في الجرايد ده ؟
تطوع “صالح” بالإجابة عليها عندما لاحظ إشتداد التوتر بالأجواء أكثر عقب سؤالها :
-أيوه يا صافي ، صحيح.
شهقت بصدمة :
-طب ليه ؟ إيه إللي حصل ؟
يحيى و قد عاود الصراخ بعصبية مجددا :
-أنا مش عايز أسمع رغي كتير ، إخرسوا كلكوا الساعة دي.
أدارت “صفية” عينيها في لامبالاه ، و قالت :
-طيب .. عن إذنكوا.
و إنسحبت مغادرة .. فإنتظر “صالح” لدقيقة قبل أن يتنحنح و يقول :
-طيب أنا هروح أدور علي عثمان ، هشوف يمكن راح علي مكتبه.
و إنصرف مسرعا ليلحق بـ”صفية” ..
بينما تكلم “رفعت” مخاطبا شقيقه بلهجة خفيضة :
-معلش يا يحيى ، أنا مضطر أطلع علي باريس الليلة ، مقدرش أسيب هالة لوحدها هناك أكتر من كده و آاا ..
قاطعه “يحيى” بعدم إهتمام :
-سافر يا رفعت .. سافر.
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
داخل كراچ القصر الذي حوى مجموعة سيارات خرافية ..
همت “صفية” بركوب سياراتها ، و لكن أوقفها صوت “صالح” و هو يركض نحوها :
-صافي .. صافي إستني !
تأففت بضيق و وقفت بمكانها إنما لم تلتفت نحوه ، فإضطر هو أن يدور حول السيارة ليصبح في مواجهتها :
-إيه يا صافي ، علي فين من بدري كده ؟ .. سألها بإهتمام ، بينما نظرت للجهة الأخري و هي تجيبه بجفاف :
-رايحة أودي عنتر للتطعيم.
نظر “صالح” إلي ذاك الشبل الذي توسد صدر “صفية” بوداعة تتناقض مع طبيعته ، و قال بجزع :
-أنا بجد مش عارف إيه سر حبك للحيوانات المفترسة ، أوكيه عارف إنك دكتورة و بتهتمي بالحيوانات كلها ، بس لسا مش قادر أفهم إشمعنا الأسود تحديدا إللي بتحبيهم أوي كده ! بتحبيهم أوي كده ليه يا صافي ؟
أجابته بإسلوب صارم :
-بحبهم عشان بيحموني من إللي زيك.
-إيه ده إيه ده إيه ده ! .. إنتي بتكلميني كده ليه ؟ إنتي زعلانة مني ؟
ردت بحدة :
-حل عني يا صالح و أوعي من سكتي.
تغيرت ملامح وجهه المنفرجة و هو يقول بجدية :
-لأ ده إنتي زعلانة مني بجد بقي .. في إيه يا صافي ؟؟
قالت ماطة الأحرف بتهكم :
-مش عارف في إيه ! روح إسأل البنات إللي كنت بترقص معاهم إمبارح و هما يقولولك ، أو روح لفريدة بنت طنط زيزي أحسن دي كانت لازقالك طول الفرح و ماسبتكش إلا علي الأخر.
إبتسم “صالح” بفهم ، و قال و هو يغمز لها :
-إنتي بتغيري يا حبيبتي ، ماتغيريش يا قلبي ده إنتي ستهم كلهم.
-أنا أغير ! لأ يا حبيبي سبتلك إنت الغيرة.
قهقه بخفة ، و قال :
-يا صافي يا حبيبتي اطمني ، و لا واحدة منهم تقدر تملي عيني ، بدليل إني سيبتهم كلهم و إختارتك إنتي ، الكل عارف إنك خطيبتي.
-و إنت عملت حساب لخطيبتك ؟ ده إنت مسحت بكرامتي الأرض.
هز رأسه نفيا ، و هم بملامسة وجهها بكفه ، لتصيح بغلظة :
-شيل إيدك ياض.
جحظت عيناه من الصدمة ، و قال :
-ياض ! إيه ياض دي ؟ إتعلمتيها فين يا بنت البحيري ؟
-إوعي من قدامي يا صالح أحسنلك !
هتفت بصرامة ، فإستند بمرفقه إلي سيارتها و قال متسليا :
-و لو ماوعتش يعني هتعملي إيه ؟
-هتوعي من قدامي و لا أسيب عليك عنتر ؟
و رفعت الشبل ذا الفراء الذهبي أمام عينيه ، لينتفض مرتدا إلي الخلف من فوره و هو يقول بسرعة :
-لا لا لا خلاص .. خلاص ياستي مع السلامة إنتي و عنتر.
نظرت إليه بتكبر ، و وضعت الشبل في المقعد الخلفي من السيارة ، ثم إستقلت بدورها أمام المقود ، و إنطلقت بها مخلفة غبارا طار كله في وجه “صالح” …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••• •••••••••
في صبيحة ليلة عرسه ..
يدخل “عثمان البحيري” شركة عائلته ، و تبدأ همسات الموظفين عليه و بخاصة الموظفات ..
فواحدة تقول :
-شايفين جاي رايق إزاي ؟ و لا كأنه طلق عروسته إمبارح !
فردت عليها الأخري :
-يا تري طلقها ليه ؟ و في ليلة الدخلة كمان !
وبختها الثالثة :
-و دي محتاجة فقاقة يا ذكية ؟ أكيد فيها حاجة ، أومال هيكون عمل كده ليه ؟
تمتمت رابعة :
-خلاص بقي يا بنات الله أعلم الحقيقة فين ، ربنا يستر علينا كلنا.
إلتقط “عثمان” حوارهن كله أثناء مروره من جانبهن ، ليزداد شعوره بالسرور ، فها هي خطته قد أثمرت و أصبحت القصة كالعلكة في أفواه الجميع و هذا ما أراده ، أن يفضح زوجته السابقة هي و والدها ليعاقبها علي خيانتها و يرد كرامته أيضا ..
دخل “عثمان” إلي مكتبه ، و طلب سكيرتيرته الخاصة ، و أمرها بتجميع حاجياته كلها ، و بفرز الملفات المهمة بالنسبة له ، ثم كلفها بعد ذلك بإرسال كل هذا إلي مقر شركته الجديدة مع أفراد الأمن و الحراسة ..
إنصرفت السكيرتيرة بعد تلقي الآوامر ، بينما رن هاتف “عثمان” ليتأفف بضجر ، إذ إنه يعلم جيدا من المتصل
و رغم هذا ضفط زر الإجابة ، و رد :
-ألو !
أتاه صوت والده الحانق :
-إنت فين يا باشا ؟ و مابتردش عليا ليه ؟ دي عاملة تعملها يا غبي ؟!
عثمان ببرود:
-إهدا بس يا بابا ، مافيش حاجة حصلت ، و بالعكس أنا نفذت كل إللي إتفقنا عليه.
“يحيى” بإستنكار :
-تبعت البت لأبوها في إنصاص الليالي بفستان الفرح ، و تكون مصلت الصحافة عليها يستنوها عند بيت أبوها و تقولي عملت إللي إتفقنا عليه ؟ إنت فضحتنااا.
تخيل “عثمان” الصورة التي رسمها والده بمخيلته ، لينفجر ضاحكا ، و يقول بغبطة:
-بس إيه رأيك ؟ بذمتك مش ضربة قاضية ؟ رشاد الحداد هيلبس طرحة تداريه في مجلس الشعب من هنا و رايح.
و تابع ضحكه ، ليصيح والده بغيظ :
-إنت يا غبي مش مقدر حجم الكارثة إللي وقعتنا فيها ، إنت ودتنا في داهية.
أهمل “عثمان” حديث والده ، و عبس فجأة حين وصل إلي سمعه أصوات عراك في الخارج
أنهي مكالمته سريعا ، ثم مشي بغضب صوب الباب ، و جذب المقبض بقوة صائحا :
-إيه الدوشة إللي هنا دي ؟؟؟