رواية مدثر للكاتب محمد حافظ

الجزء الخامس

ارتفعت نسبة الأدرينالين عند سماعي صوت ياسر، و رد شريف، تتصاعد دقات قلبي مع سماع صوت حذائه و هو يقترب، لكني لا أقوى على الالتفات و النظر إليه، وضع يده على كتفي وقد ساعدني في تحريك جسدي قليلا بهذا الحركة، وعندما رأى وجهي خلع نظارته السوداء من على وجهه، بنظرات قوية سارعت أكثر من أنفاسي، و بدئت أتعرق رغم البرد الشديد، رسم ابتسامة يشوبها اللون الأصفر ليقول في هدوء مصطنع رافعا احد حاجبيه “احنا متقبلناش قبل كده يا كريم شكلك مش غريب عليا”، فكرت في الرد المناسب قبل الكلام ولَم أجد سوي كلمة “معرفش”، يمد يده مصافحا وقد بدئت ملامحه تتحسن قليلا وأخذ ينظر إلى ملابسي في ذهول و إن كانت أقل جمالا ثم قال “أنا المقدم ياسر طه”، كان صوته كالجرس أمد يدي أنا الأخر لمصافحته وقد شعرت بقوته العضلية حين قبض على يدي بكفه لأقول “اتشرفت بيك لسه بنجيب في سيرتك”، لم يعلق ترك يدي ونظر لشريف و ألقى عليه التحية ثم اتجه إلى المكتب و أخرج سلاحه من خلف ظهره، واضعه بجوار صينية الطعام، ثم سحب رغيف من الخبز وهو ينظر إلينا قائلا “يلا مش هتفطروا” نجلس أمامه أنا وشريف الذي لم يرد التحية عليه، لقد كان يأكل بشراهة ونحن معه على مائدة الطعام، ثم تأخذني ذاكرتي ليوم جلوسي على مائدة الشيخ حسن، فقد كنت أكل بنفس الطريقة البشعة، استجمعت قواي وأنا انظر إلى ياسر لأقول “هو حضرتك عرفت اسمي منين”، نظر إلي كأنه يقول انتظر قليلا ففمي مليء بالطعام وسأرد عليك فيما بعد، أكملت طعامي في صمت وأظهرت بعض اللامبالاة وكأني لا اهتم بالإجابة، لم يمر الكثير فقد اخرج منديلا ورقيا من جيبه ومسح بيه يديه ثم قال “شوفتك وانا داخل الحاره واقف مع فريده اختي لما سبتك سألتها مين اللي كنتي واقفه معاه ده قالتلي اسمك وعملت فيك ايه امبارح”، ثم نظر لشريف ليكمل “فين الشاي يا بني”، ليقفز شريف في اتجاه المقهى قائلا “حححاضر”، فاستوقفه ياسر من جديد وكان قد وصل إلى باب المحل ليقول وهو رافع يده “لو لقيت عنتر وأشرف في القهوه اسحبهم على هنا ومتقلهمش اني موجود”، يتحرك شريف مسرعا وهو يهز رأسه في خوف، اندهشت لأفعاله الغريبة، فقد جلس وهم بالطعام وطلب الشاي، هل يعتقد انه في مكتبه الخاص وشريف احد العساكر المسئولين عن خدمته كنت أفكر قبل أن يقطع علي تفكيري وهو يشغل سيجاره قائلا بعد آن أخرجها من فمه “انا بعتذر بالنيابه عنها بس حقها واحده لقيت رساله الساعه اتنين بالليل واحد عاوز بطانيه.. عَل عموم حصل خير”، مد يده إلى علبة السجائر من جديد ليكمل “..أنا نسيت اعزم عليك”، اسحب واحده واشكره ليعطيني ولاعته الفضية، أشعلتها وهو ينظر إلى عيني فشكرته ثم عدت لمكاني من جديد.
يدخل شريف قائلا “الششاي ججاي ححالا واششرف وععنتر ججايين وورايه”، يريح ياسر ظهره على المقعد الحديدي بعد آن أخذ آخر نفس من سيجارته ليرميها باستهتار تحت قدميه دون النظر إليها ثم نظر إلى شريف غاضبا ورفع يده في الهواء ليهوي بها علي المكتب قائلا “وانت مش ناوي تتعدل يا روح امك وتبطل موضوع التهكير ده”، تلعثم شريف وهو يضع يده ماسحا على وجهه ويتهته كعادته قائلا “أأنا ممععملتش ححاجه ييا يياسسر”، ليرفع ياسر نفسه قليلا من على المقعد واضعا يده على المكتب ثم قال في صرامة “ياسر بيه يا حيوان انت نسيت نفسك ولا ايه اتعدل يا شريف بدل ما أسحبك عندي والمره دي مش هرحمك المره اللي فاتت عملت حساب لأبويه والشيخ حسن”، تدمع عين شريف في رعب وهو يبلع كلام ياسر الجارح ويقول في نبره مختنقة “ححاضر..”، يسحب ياسر سيجارة جديدة ثم يدخل عنتر وأشرف وما كان مني سوي مراقبه تصرفاته العنيفة، وما إن رآهم ضحك ياسر للمرة الأولى و هو يقول “اهلاا وسهلا”، وينهض في اتجاه عنتر وأشرف، يقف أمامهم واضعا يده في جيبه وهما ينظران إليه بطرف عين، ثم يخرج إحدى يديه ويضعها على شاربه وهو يحملق فيهم ثم يقول “عامل دوشه ليه ياض انت وهو في الحاره”، ينظر عنتر وأشرف كلاهما إلى الآخر ثم يهوي ياسر بيديه ماسكا كل منهم من رقبته ليخبطهم ببعض وكأنه يضرب بيضتين يعدهما للقلي، ثم يكمل “طلع يا روح امك انت وهو الحشيش اللي معاكم”، ثم يأتي صوت من الخارج ذو للهجة صعيديه، شخص يرتدي عباءة سوداء تحتها جلباب من الصوف بلون السماوي يحمل عصا بيده وكأنه عاشور الناجي احد أبطال روايات نجيب محفوظ، يرتدي عمامة بيضاء أنيقة، ثم تكلم بكل ثقة “سيبهم يا ياسر يلا يا عنتر انت وأشرف واتلموا شويه”، وكأنه اصدر فرمان بالعفو عنهم، الغريب أن ياسر لم يقًول كلمة واحدة سوى “أوامرك يا كبير”، يدخل الرجل بهيبته ليكمل كلامه وقد سحب له شريف كرسي ليجلس قائلا “اتفضل يا كبير”، ثم اتجهت النظرات إليّ، لم افهم المقصود منها وقتها، ولكن ظل ياسر واقفا وشريف أيضا كأنهم ينتظرون وقوفي أنا الأخر احتراما وتقديرا للكبير، لا اعلم لماذا اتخذت القرار بعدم النهوض، مما جعله ينظر إلي في حزم ليقول وهو ماسكا عصاه بكلتا يديها “انت مين يا بني لو ابوك دخل عليك مش المفروض توجف احتراما ليه”، انظر إليه ولَم أتأثر بما سمعته لأقول “الاحترام مش بالوقوف يا كبير الاحترام بالأفعال انت اللي في ايدك تخليني احترمك واقدرك وانا معرفكش فسامحني مش مطلوب مني احترم حد معرفوش لمجرد ان سمعت كلمتين من اللي حواليا لازم انا اعرفك علشان احكم عليك وأحترمك”، “عفارم عليك يا بني كلامك زين مع ان سنك صغير اسمك ايه” قالها وكان وجهه مهللا من الفرح أجبته وقد شعرت بالراحة بعد رده على كلامي “اسمي كريم يا كبير” ثم أكملت مداعبا “وانت اسمك ايه يا كبير..”، يضحك وهو يقول “انا اسمي عبد الحميد”، لأقول له “تشرفنا يا عم عبد الحميد”، يدخل كنكه حاملا في يده صينيه من الشاي ليقول له ياسر “اتأخرت كده ليه”، فرد كنكه “سمعت ساعدتك يا باشا بتزعق رجعت تاني”، ليأشر ياسر باتجاه عبد الحميد ويقول “شوف الكبير يشرب ايه”، “هاتلي قهوه مظبوط والشيشة بتاعتي” قالها الكبير ثم عاود النظر إلي قائلا “وانت جاي يا كريم زياره لمين هنا”، ليخرج شريف عن صمته ويقول “دده ققريب الششيخخ ححسن يا ككبير”، “ونعم الناس الشيخ حسن اخ ليا وانا بعتبره اخويا وضيوفه ضيوفي واشلهم علي راسي”، أدركت في هذه اللحظة أني في أمان وان هذا الرجل قد أرسله الله لي في الوقت المناسب انه مصدر قوة واضح، هناك شيء قوي، يجعل الجميع يهابه و أنا لا أعرفه، يدخل كنكه من جديد حاملا القهوة والشيشة يضعهم امام عبد الحميد وينصرف ويدخل شريف لمباشرة عمله” الف مره اجولك يا ياسر بلاش تفتري علي الصغير ومتظهرش جوتك علي اهل الحاره اللي اتربيت فيها عندك الكبار والحرميه روح اقبض علي سرق خمسين مليون دولار وهرب”، ليقول ياسر “مين ده يا كبير اللي سرق الفلوس دي”، ينظر له الكبير ليقول “رئيس مباحث ومش عارف مين” يهز ياسر رأسه بالنفي ليكمل الكبير قائلا “الواد ده اللي اسمه مدثر الحسيني”

يتأفف ياسر ويقول “الله يقحمه مطرح ما هو قاعد ده احنا بقالنا يومين بنلف حوالين نفسنا بسببه ده مطلوب في عشر قواضي شيكات ونصب وقروض ده اخواته وقرايبه رافعين قواضي عليه”، ثم ينظر إلي ضاحكا ليكمل “عارف يا كريم انه شبهك”، اسكت قليلا لأرد عليه وانا أرتعد “ااه اه سمعت يخلق من الشبه اربعين”، “أأنا كممان اوول مما شوفتته افتككرته ممددثر ربنا يبعدنا عن الحرام” قالها الكبير وتعجب لما قال ياسر “هستناك يا كريم تجعد معايا في الوكاله بتاعتي ابقي دله عليها يا شريف” قالها الكبير قبل ان ينصرف ليرد شريف “ححاضر ييا ككبير” أقف هذه المرة لأصافحه ويخرج ياسر معه قائلا “نكمل كلمنا في وقت تاني يا كريم سلام يا شريف”، “سسلام ييا يياسسر بيه سسلام ييا ككبير”، أخذت نفسا عميقا وكذالك شريف “يظهر مش مكتوبلي ارتاح يا شريف الموضوع بيكبر ثم انا عاوز اشوف الكلام اللي قاله الكبير ده عرفه وشافه فين”، يخرج شريف جاهز لأب توب من درج المكتب ويقوم بتشغيله لأري ‘الفيس بوك’ لا حديث له عن احد سواي اتابع في اهتمام التعليقات وكانت كالآتي *حرامي ابن كلب سرق فلوسنا وهرب* تعليق أخر *انا طلبت قرض عشر ألاف جنيه افتح مشروع رفضه وادوله خمسين مليون دولار حسبي الله نعم الوكيل البلد دي ماشيه بضهرها تلاقيه مسنود علي حد تقيل*، اضحك وأنا انظر لشريف “اكتر بلد في العالم في الإشاعات واكتر شعب يصدق”، ثم أقوم من مكاني وأقول لشريف “أنا ماشي اشوفك بالليل”، “ررايحح ففين ييا ككريم” قالها شريف وأنا أغادر لأقول “هروح اشوف الشيخ حسن عاوز اتكلم معاه سلاام”، “ممعع السسلامه هففوت ععليك ببالليل”،كنت أسير وأنا اشعر بملاحقة العالم، شعرت باضطراب أخرجت هاتفي اعبس به لأجد رسالة على الواتس وصلت منذ ساعة كانت مريم تقول “مسالتنيش يعني انا عرفتك ازااي يا مدثر”، لتزيد الضغط علي لم أرد، صعدت إلى منزل الشيخ حسن وطرقت الباب ولكن هذه المرة فتح شخص آخر يسألني “مين حضرتك”، ابتسم قائلا “انا كريم وعاوز الشيخ حسن يا تري هو موجود”، “اه موجود اتفضل” قالها و قد فتح الباب على أخره لأجد أم وليد جالسه وفِي يدها طبق من الرز تقوم بتنقيته كعادات أمهاتنا، تترك الطبق وتقوم ضاحكه فاتحه ذراعيها لتضمني مما آثار دهشة وليد قائلا “ازيك يا بني”، ثم تهمس في أذني هو اسمك الجديد إيه أنا نسيت لأذكرها هامسا ‘كرييم’ تخرجني من حضنها بعدما أخذت جرعه كافيه من الحنان لتقول “اتفضل” ثم تنظر الى وليد لتقول “ده كريم بلديات ابوك بس انت متعرفوش”، ليقول وقد زادت دهشته “اهلًا وسهلا”، ثم ترفع صوتها في نداء “..يا شيخ حسن كريم جه” وعندما قالتها جاءت حبيبه تجري ووجهها مليء بالورود الحمراء كان الكلام يخرج من عينيها لكن وقتها تذكرت شريف حين قال “بلاش حبيبه”، لأسلم عليها في برود واضح ثم يظهر أخيرا الشيخ حسن بوجهه البشوش قائلا كعادته “ازيك يا بني” لاقول له متعجلا “الحمدلله كنت عاوزك في كلمتين علي انفراد يا شيخ حسن”، ليقول والجميع ينظر لي “اه تعالى ندخل اوضه الضيوف”، ليفتح الباب وافتح معه قلبي لأحكي له من وقت ما تركته إلى ألان وبعد آن انتهيت اخذ يفكر ثم قال “يظهر اني غلط اني وديتك عند الحج طه ونسيت ياسر خالص بس اقدر اقولك مفيش خوف من شريف ولا مريم انا خايف من ياسر” ثم انظر له وأقول “طب وَعَبَد الحميد” يبتسم ويقول “عبد الحميد ده اللي مطمني علشان ياسر بيعمله الف حساب” اندهش لأني أريد آن اعرف السبب، فسألته عن خوف ياسر من عبد الحميد ليقول “ده مش خوف ده احترام وشغل بينهم كبير بعدين أحكيلك علي كل حاجه احنا دلوقتي نتغدي مع بعض وننزل عاوزك تحلق شعرك ده وتربي دقنك شويه يمكن منظرك يتغير ومتبقاش لافت الانتباه”،
أهز راسي بالإيجاب ونخرج لنجد الجميع بانتظارنا على مائدة الطعام فقد جلسنا أكثر من ساعتين أتناول معهم الطعام ليعرفني الشيخ حسن بابنه وليد وهو خريج حقوق ويعمل محاميا لدى احد المحامين المغمورين اتضح عليه الذكاء، يكبر مريم بعامين أو يزيد قليلا، شعره قصير وكذالك لحيته التي أعطته بعض الوسامة، خجول جدا وقليل الكلام لا اعلم كيف يترافع، هناك شيء بداخله ولكنه طيب جدا وظهر هذا بعينيه وابتسامته الفطرية هذا رائي ولكن ألان لم أعد أعطي الثقة لأحد راقبت نظرات حبيبه لي ونظرة عينيها التي كنت أتهرب منها دائما، أنهيت آكلي سريعا واستأذنت بالانصراف ليلاحقني الشيخ حسن قائلا “استني هوديك الحلاق” يقاطعه وليد قائلا “خليك مرتاح يا بابا انا هنزل معاه” ليوافق الشيخ حسن قائلا “طب خالي بالك منه” يستأذن وليد لارتداء ملابسه واجلس في انتظاره كانت حبيبه تحاول فتح حديث معي ولكنها لم تستطيع وانتبهت لحديث أم وليد قائلا للشيخ حسن “الست فتحيه جارتنا تعبانه اوي ومحتاجه تعمل عمليه كبيره في القلب راحت المستشفي حكومي قالولها لازم تستني دورك يأما تعمليها علي حسابك وهي طبعا ظروفها انت عارف بيها يا شيخ حسن” ليقول لها الشيخ “والعملية تتكلف كام ممكن نلم من الحاره ونساعد” لتقول حبيبه و هي تحمل الإطباق الفارغة “تلم ايه بس يا بابا العمليه دي تتكلف فوق المائتين الف جنيه وتزيد كمان” ينتهي وليد ونذهب ولكن كانت تلاحقني نظرات حبيبه عند نزولنا أخرجت هاتفي لأنظر عليه ولَم انتبه لوليد الذي لمح الهاتف في يدي فضحك دون آن يتكلم ولكني فهمت لماذا يضحك ثم قال في اندهاش “واحد زيك ماسك فون ايفون اخر موديل ولابس عَل الموضه ايه اللي يجيبه حاره زي دي” لم انظر اليه ولكني أكملت تصفحي عبر الهاتف لأقول “ظروف”، “ااه ظروف طيب” قالها وكنت اشعر وقتها انه يريد آن يقول شيء أخر أقف وأقول له وقد سمعت إشعار جديد عبر الواتس لم اهتم به لأنظر لوليد وأقول “هات من الاخر قصدك ايه”، بخجل ينظر في الأرض ويقول “انا اسف مش قصدي حاجه بس منظرك انسان مبسوط ومن عيله كبيره علي العموم انا بعتذر”، اضحك من جديد واضع يدي على كتفه وأسير بجواره ثم اتذكر الرساله لأفتحها كانت كالعاده من مريم وكان نصها كالآتي “علي فكره يا مدثر انا نسيت اقولك اني بشتغل جراحه في مستشفي مروه وهايدي اخواتك علشان كده عرفتك اول ما شوفتك”

*تابعونا*
بقلم محمد محسن حافظ

error: