رواية مدثر للكاتب محمد حافظ

الجزء الثاني
……………………...
هو انا لازم اعورك يااض فين تمن الحاجه اللي أخدتها وأما انت مش قد تمن الشرب بتشرب ليه يا اشرف”، ” والله يا معلم اخر مره سبني بس اشتغل ساعتين وانا هديك حقك يا معلم عنتر”، ” يعني يا اشرف اخلي السلاح ده يزغرط علي وشك انا محدش يأكل عليا حقي”.
” لا حول ولا قوه الا بالله” قالها الشيخ حسن قبل أن ينهض من مكانه ويفتح الشباك القديم ليكمل “في ايه يابني انت وهو عاملين دوشه ليه”، وفِي هذه الأثناء دخلت حبيبه حاملة صينية و بها الشاي وسكرية، تضع كل شيء على المنضدة القريبة قائلة ” كام معلقه سكر يا كريم “، انظر حولي فقد نسيت أنني تحولت من مدثر لكريم ثم أتدارك سريعا وأقول “معلقين”، انظر إليها وهي تضع السكر في الشاي بطرف عيني وقد أنساني جمالها جميع المصائب التي حلت بي، أتأمل وجهها طبيعي الخالي من أي إضافات، ليست كسائر النبات في عمرها، لم أرى شعرها فقط أتخيله من خلف الحجاب المحيط بوجه دائري كالقمر، عيناها بلون أسود تتسع للعالم، كما الليل الحالك بعد ضوء النهار فهي أشد ساعات الليل ظلمة، انفها صغير جدا، لا أعرف كيف يكون الهواء وهو يُتَنشَّقُ عَبرَه، وشفتيها بلون الكرز…، ثم أفيق لأجدها تحمل الكوب وتعطيني إياه في يدي قائلة ” اتفضل”، أخطف نظرة لعينيها وأمد يدي بلمسة لأصبعها وأقول بابتسامة ” تسلم ايدك”، فجأة سمعت صوتا يقترب من داخل المنزل قائلة “اهلًا وسهلا يا بني”، كانت السيدة رافعة يدها لرأسها تربط غطاء الرأس المزين بالورود الملونة، وقد ظهر عليها أنها استقضت للتو من النوم، كانت سمينة بعض الشيء، وجه بشوش في أوائل الخمسينات، ثم أنزلت يدها باتجاهي كتحية لأمد يدي إليها لتقول “خطوه عزيزه يا بني”، حقيقة لا أعرف ماذا أقول عندما أسمع ‘خطوة عزيزة’ لم أجد سوى كلمة ‘شكرًا’، جلست بجواري لتكمل “انا ام وليد”، ابتسم في خجل فأنا لم انتهي من عزيزة لأجد أم وليد كانت لحبيبه سرعة بديهة فرمت بعينيها إلى الشباك لتقول “أقفل الشباك يا ابو وليد الدنيا برد عليك”، ابتسمت شاكرا لحبيبه فقد أخرجتني من المأزق بذكاء، ثم انظر إلى أم وليد بإظلام “اتشرفت بحضرتك”.
يغلق الشيخ الشباك قائلا “استغفر الله العظيم” ثم ينظر إلى حبيبه ويقول “ايه يا بنتي فين العشا انا وكريم على لحم بطننا من الصبح”، تبتسم وتقول “بس كده يا مولانا، من عيوني حالا يكون جاهز”، ” استني اقوم أسعدك” قالتها ام وليد، ولكن سرعان ما قاطعها الشيخ “لا استني انا عاوزك”، واضعا يده على يدها تنصرف حبيبه لتعد الطعام يسكت الشيخ وهو ينظر لي والى زوجته وكأنه يفكر قبل أن يتكلم، اتخذ قراره ونهض من مكانه وصار خطوتين وقال “قوموا تعالوا ندخل اوضه الضيوف” تركت كوب الشاي من يدي ولكنه قال “هاتوا معاك”، كانت علامات الدهشة تكسو وجه زوجته، فتح الباب ولحظة دخولي تقابلني صورة لأمي و زوجته في عناق، ليسقط الكوب من يدي اثر المفاجأة. دارت تبادرت العديد من الأسئلة في ذهني، سمعت الشيخ حسن يقول “خدت الشر وراحت انا عارف يا بني وحاسس بيك”، ثم نظر إلى زوجته التي بدا عليها الانزعاج من سقوط الكوب فقد كانت السجادة المفروشة في غاية النظافة، نظرت إلي في اشمئزاز ولكني لم أبالي. وضع الشيخ حسن يده على كتف زوجته مبتسما وقد لاحظت اقترابي من الصورة جدا قائلا “عارفه ده مين يا ام وليد” تندهش و وجهها ما زال يحمل بعض علامات الكره جراء ما حصل، وتقول “سمعتك بتقول ان اسمه كريم يا شيخ حسن” يضحك و يرد “انا هقولك ومش هقولك اوعديني محدش يعرف علشان معاشرك من تلاتين سنه”، بدا عليها القلق ثم قالت في فضول “مين يا شيخ حسن” تركها ووضع يده على كتفي هذه المرة “ده يا ستي ‘مدثر’ ابن الست امينه الله يرحمها”
انتابها الذهول وهي تنظر حولها لتستوعب ما قاله للتو زوجها وسرعان ما امتلأت عيناها بالدموع، تقترب مني مبتسمة ثم تضمني بين ذراعيها لتقول “معقول… معقول انت مدثر ابن الغاليه” كنت في عالم أخر.
كانت مفاجئة وقتها نظرت لها وقد خرجت من حضنها الدافئ لأقول “هو انتي تعرفي امي” ببكاء تجيبني “أمك دي كانت اكتر من اختي عملت معايا كتير طول عمرها وقفه جنبي من ايّام ما كنّا جيران في حلميه الزيتون خيرها مغرقني ولما سبنا البيت اللي كنّا مأجرينه هناك عدت علينا ايّام صعبه وكنت محتاجه اعمل عمليه ومكنش معانا وقتها جنيه هي قامت باللازم وفضلت تبعتلي مصروف كل شهر لحد ما ربنا افتكرها والفلوس دي عمرها ما انقطعت حتي بعد لما ماتت”

ألان فهمت لما ساعدني الشيخ حسن، كانت أمي دائما تسعى إلى الخير دون أن يعلم أحد، وقد ورثت منها ذالك أيضا فقد كانت وصيتها قبل أن تموت، أن لا يقطع أي من أعمال الخير التي كانت تقوم بها، و بوعد مني لها أعطتني ورقة بأسماء وعناوين أشخاص فقراء سلمتها لمدير الحسابات وقتها وأمرته بتولي الأمر.
سمعنا وقتها جرس المنزل ليقول الشيخ حسن “نكمل كلام بعدين..”، وذهب ليفتح الباب، أما أم وليد فلم تتركني وظلت تنظر إلي في حب وتأمل، “اتفضل يا حج طه” الشيخ حسن وهو يفتح الباب يتبع كلامه “انت فين يا راجل سالت عليك”، يدخل الحج طه وقد خرجت من حجرة الضيوف ليقول بنظرة في اتجاهي “اول ما الواد كنكه قالي جيت جري هو انت عندك ضيوف؟” ينظر إلي الشيخ حسن ويقول مشيرا بيده نحوي “ده كريم معزته من معزة وليد ابني وياسر ابنك لسه جاي من البلد وكنت عاوز اخدله الاوضه اللي فوق السطوح”، يمد يده ليصافحني وقد بدا علي التوتر من نظراته الفضولية، ثم قال “اهلًا يا كريم يا بني فرصه سعيده” أبادله التحية “اهلًا بيك يا حج طه”، ترفع أم وليد صوتها متجهتا نحو حبيبة “كل ده ولسه مخلصتيش يا حبيبه يلا بسرعه واعملي حساب الحج طه هيتعشي معانا”، “خلاص يا ماما دقايق والاكل يبقي جاهز”.
“ايه اللي انت بتقوله ده يا شيخ حسن الاوضه وصاحب الاوضه كمان غالي والطلب رخيص…،”.
” يجعله عامر يا ست ام وليد” قالها الحج طه وقد أخدنا بالجلوس لتناول العشاء، يقول له الشيخ حسن “ده العشم يا حج طه”، كنت أشعر بالجوع فلم أتناول في يومين سوى طعام الفتاة الصغيرة ‘الرحمه والنور’، ومازالت الرحمة قائمه، جلسنا جميعا بعد أن أتت حبيبه وقد أعدت الطعام، تجلس أم وليد بجواري وقد بدأ عليها الاهتمام الواضح بي فأخذت تملأ الأطباق أمامي وتقول “انا عاوزاك تامل كويس انت جاي من سفر واكيد ميت من الجوع..”، لم اخجل وقتها وقلت دون كذب “معاكي حق انا فعلا جعاان”، أكلت كما لم أكل من قبل حتى امتلأت معدتي عن أخرها، باغتني الحج طه بسؤال لم أتوقعه “هو انت بلدك يا كريم نفس بلد الشيخ حسن ولا من حته جنبها..” وقتها شعرت انه يشك في أمري وأخذت أتلجلج في الكلام، ولكن الشيخ حسن أخرجني من هذا المأزق وأجاب قائلا في ثقة “كريم من الشرقية ويبقي قريبي من بعيد”، “اي حاجه من ريحتك يا شيخ حسن تبقي بركه طبعا” قالها الحج طه وقد بدأت نظراته تعترف بشك نحوي، ثم قام الحج طه من على المائدة قائلا “سفره دايما يلا بينا يا كريم الوقت أتأخر” انهض فاستعداد للذهاب معه وقد بدئت دقات قلبي تتسارع بعد أن هدئت بأُنسَةِ الشيخ وعائلته ينهض الشيخ حسن أيضا و يقول بكلام موجه للشيخ طه “مش هوصيك علي كريم يا حج” ليرد هدا الأخير”متخفش ده في عينيه” وعند الباب لفَّ جسدي صوت حبيبة “مع السلامه يا كريم”، كاد القلق أن يقتلع قلبي وأنا اتركهم “مع السلامه يا حبيبه”. مد الشيخ حسن يده في جيبي، لم أعلم ما الذي وضعه فيه.
كانت الغرفة بشعة تخرج رائحة العفن من جدرانها، سرير قديم متهالك عليه ‘مرتبة’ مضغوطة يشبه سرير المستشفيات في شكله العام، ودولاب بدون أبواب، منضده وكرسيين من الخشب، قنينة غاز ماركة ‘اطلس’ مازال لونها ابيضا، يشعل الضوء المتمثل في مصباح من النيون ويقول “معلش لو اعرف انك جاي كنت خليتك حد من البنات يطلع ينضفها”، لقد توترت من هذه الغرفة القديمة وانقبض قلبي ولكني نظرت إليه و قلت “لا مفيش داعي كفايه تعبك”، يضحك ويقول “على رايك احسن من مفيش خد بقي رقمي خليه معاك لو احتجت حاجه كلمني” اخرج هاتفي واقول له “بس للاسف الفون بتاعي فاصل شحن، على العموم قول الرقم وانا هحفظه” ينظر لي في تعجب ويقول “تحفظه ازااي” اضحك واقول له “انا متعود علي حفظ الارقام” يقول الرقم وانا انظر اليه بتركيز لاقول له “خلاص حفظته تزداد دهشته ثم يقول “طب همشي انا هسيبك ترتاح” وعندما وصل الي الباب القيت عليه السلام شاكرا ليقول من جديد “قولي كده رقم الفون بتاعي بدون تفكير” قولت الرقم وانا اضحك بسرعة متناهية” نظر إلي ورفع يده وذهب، بمشية دائرية في وسط الغرفة، أعيد كل ما فات وما حدث لأرى نهايتي هنا وقد جلست على حرف السرير دون أن افعل أي شيء، مرت ساعة تقريبا سمعت طرقات على الباب ظننت انه الحج طه ولكني فوجئت ‘بشريف’، نظرت إليه في دهشة إلى أن تكلم، وقد وقع قلبي خوفا حين قال “ممككن اتككلم معاك ياااا مددثرر”
تابعونا
بقلم محمد محسن حافظ

error: