رواية مدثر للكاتب محمد حافظ

#مدثر#الجزء التاسع عشر
————————
الخطةقد عرف ياسر بقدوم عمي وأولاده وعمر أخي إلى الحارة، حاول أن يحذرني حيث قال ” دول عملينلك كمين خد بالك”، ولكني ضحكت ثم نظرت إليه قائلا “لازم يجيوا ويلقوني في الحاره اولا علشان لو كنت مش مشيت هيشكوا فيك يا ياسر والمفروض انك معاهم ثانيا عاوز اعرفهم اني واقف علي رجلي وان دماغي شغاله وأقدر أواجه اي حاجه لوحدي، هما فاكرين الكبير بيحميني، انا عاوز أوصلهم رساله ان ربنا عارف اني مظلوم وهيوقف معايا، صحيح انا اطيب مما تتخيل يا ياسر واللي زيي صعب يتغير، بس عندي نسبه ذكاء مش بطاله”، ليقول ياسر “طب هتعمل ايه عاوز اعرف”، لأقول له “متقلقش هتعرف كل حاجه في وقتها”.
فكرت جيدا في خطة تجعل الجميع ينبهر مما سأفعله، اتصلت بياسمين المنفذ الحقيقي للعملية و أطلعتها على ما يدور في رأسي قائلا “اسمعي يا ياسمين عمي واولاده وعمر اخويا جايين الحاره عاوز اول ما يدخله تمشي وراهم عربيه بوكس زرقاء وفيها ظابط وأمين شرطه وأربع عساكر دول لازم تحضريهم ومش عاوز حد يشك انهم مش حقيقين علشان دول انا هركب معاهم وفعلا هيوصلوني عند مديريه الامن ويمشوا طبعي خالص لحد لما نوصل هتكوني مجهزه مجموعه تانيه قدام المديريه ودوّل مش عاوزهم يقلوا عن عشره يبتدوا بالواء والباقين رتب مختلفه بس عاوز فيهم يكون في نفس سني ويشبهلي شويه ودي مش صعبه عليكي دول هيستلموني من البوكس وهدخل معاهم المديريه بس قبل ما اطلع هدخل الحمام ويدخل معايا الظابط اللي المفروض انه شبهي وهنبدل هدومنا وهو هيكمل معاهم وانا هنزل لابس ظابط عاوز العساكر اللي في البوكس والظابط يكونو قريبين من البوابه واول ما اخرج يمشوا قدامي علشان وشي مش يبان والظابط اللي في البوكس يختفي واول ما تشوفيني ماشي خالي الرجاله الي فوق يسلموا الولد اللي فوق وينزلوا ويسبوه وعرفيه ان اول ما يدخل عليهم علشان يستجوبوا يقول انهم قبضوا عليه قدام المديريه من غير ما يعرف السبب ويوريهم البطاقه بتاعته وانه كان معدي بالصدفه لقي مجموعه ظباط أخدوه وطلعوه وهو مش فاهم حاجه بس خالي بالك لازم يكون قلبه جامد وميخفش لو ضغطه عليه مفيش دليل واحد ضده”.
ونجحت الخطة بمنتهي البساطة، وقتها قمت اتصلت بالكبير وأعلمته أني أريد أن اترك القاهرة لبعض الوقت، ولكني أريد أن أتزوج فريده فأنا احتاجها بجواري والباقي انتم تعرفونه جيدا، وقبل كل ذلك استأذنت ياسر في زواجي من فريده في الصعيد وقال انه لن يجد رجلا أحسن مني للزوج من أخته.
ما بيني وبين ياسر لا يعرفه احد، وكذالك ياسر لا يعلم ما بيني وبين الآخرين، لم أضع أوراقي كلها في سلة واحدة، لا أخشي المتهور لأنه أعمى لا يفكر، ما يقلقني كثيرا هو عمر أخي فهو اذكي مما يتخيلون فأنا من قمت بتربيته لا تستطيع أن تحدد هدفه قد يأخذك في مكان ويذهب هو في مكان آخر، أنا لا أخشي سوي صاحب العقل الذكي فعمر لن يقف مكتوف الأيدي لذلك قررت الابتعاد قليلا، فأنا ذاهب ألان إلى الصعيد بلد بكر سوف أكون بأمان من وجهة نظري ولكن اعلم أن اختفاء الكبير لأيام دون سبب وكذلك هشام ووليد وشريف سيثير بعض الشكوك، لا أحب أن انظر تحت قدماي ولا أحب المفاجآت رغم أنني أعشق رؤية البعض و هم مذهولين من مفاجأتي التي أحظرها لهم
*************************
عربيه الكبير

“مدثر سرحت في ايه بكلمك وانت مش سامع حاجه خالص”
قالتها فريده مما جعلني انتبه وهي تمسك ذراعي لأقول “لا ابدا معاكي بس سرحت في اللي حصل”
تضع رأسها على كتفي وتقول “الحمدلله يا حبيبي”
اضحك وأنا امسك رأسها وأقول “على فكره احنا رايحين الصعيد لا ينفع لا كيوت ولا حبيبي خالي بالك”
يظهر الكبير ليبتسم ويقول “ربنا يخليكوا لبعض”
أما بكر فقد ذهب في عالم آخر وقد تناسق شخيره مع صوت محرك السيارة.
********************
منزل فؤاد

تغيرت الملامح تماما وعلت الدهشة والغيظ وجوه جميع الحاضرين، إلا عمر الذي ضَل يضحك وهو يصفق على يده حتى بطريقة غير عادية مما جعل الجميع ينظر له في ذهول و بعد أن انتهى تحول وجهه الأبيض إلى اللون الأحمر ليقول:
“ازاي كانت غايبه عني دي”
ليقول فؤاد في دهشة “ايه دي اللي كانت غايبه عليك يا عمر”
ينظر له عمر وهو يهز رأسه وكأنه يرجع بشريط من الذكريات البعيدة، ثم اعتدل في مجلسه وقال “واحنا صغيرين وبنلعب في الشارع واحد ضربني جريت على مدثر وانا بعيط ولما شافني اتخض وقالي مالك يا عمر كنت خايف اوي قولتله كنت بلعب في الشارع والكوره دخلت محل الميكانيكي استاذنته ادخل اجبها ولما دخلت دخل ورايه ضربني وقالي علشان تحرم تلعب هنا وقطع الكوره، وقتها ضحك وقالي وده اللي مخليك تعيط متزعلش انا هجبلك حقك منه عشر مرات، بعديها بكام يوم نده علي وهو في البلكونه وقالي تعالى بسرعه يا عمر روجت اجري عليه لقيت الميكانيكي بيركب العربيه بتاعته واول ما دور الموتور العربيه ولعت ونزل يجري واقعد يلطم على وشه والعربيه بتتحرق قدامه ساعتها كان عندي اتناشر سنه ومدثر ستاشر سألته هو فيه ايه اخدني لجوه وقالي جبتلك حقك، مفهمتش ساعتها بس هو كان فرحان، بعديها بكام سنه سألته انت عملت ايه قالي ابدا شويه سكر حططهم في تنك البنزين، رديت عليه وليه عملت كده رد عليه وهو باصص في عينيه وقال ده واحد بياخد حقه بدراعه واحنا أرقي من كده أتعود تاخد حقق بدماغك بس دايما حط في دماغك ان اللي قدامك اذكي منك واوعي تفتكر انك اذكي واحد في الدنيا علشان وقتها تبقي غبي لو فكرت في كده”.
انهي عمر كلامه والجميع ينظر له في اندهاش كبير، لتقول مروه “قصدك يا عمر ان مدثر عارف تحركاتنا كلنا طب ازااي”، يبتسم عمر وهو يربع ذراعيه ويقول “مش بس كده احنا فاكرين اننا بنتعامل مع شخص عادي ونسينا مين هو مدثر ده عارف رمزي كان بيعمل ايه امبارح بالليل ومع مين وصوره، الا صحيح يا رمزي انت كنت فين”، يرتبك رمزي ويفكر في كذبة ليقول “انا كنت سهران مع رأفت عند واحد صاحبنا وبنشرب حجرين”، تضحك هايدي وهي تقترب منه “وفرفشه دي تبقي مين اللي بتولعلكم الفحم ده لو صافيه عرفت هتبقي مصيبه”، ينهض رمزي مذعور ويقول “وهو يبتسم مين بس اللي هيقولها ثم فرفشه دي حاجه كده مش واحده ماشي معاها”، “طب ابقي خالي بالك بقي يا رمزي علشان المره الجايه ميوقعكش في مصيبه اكبر من دي” قالها عمر وهو يستعد للانصراف ليقول عز ابن عمه “طب هنعمل ايه في مدثر”.
يضحك عمر ويقول:
“لازم ابقي اغبى منه علشان افهم ومغلطش تاني لكن اوعدكم المره اللي جايه مش هيفلت من ايدي “.
*************************
محافظه سوهاج (كوم غريب)

وصلنا إلى بلدة صغيرة هي معقل عائلة ‘الرواي’
كان الجو هادئا و دافئا جدا، بتمعن في وجه الكبير الذي دار حول نفسه وامتلأت عيناه بالدموع وهو يستنشق الهواء حوله وابتسم وكأنه غير مصدق، حاولنا الاقتراب منه ولكنه لم ينظر الى احد ولكنه قال “ادخلوا انتو وانا هروح مشوار وراجع على طول”، لم نفهم ولكن ابتسم بكر وقال “سيبوه يا ولاد واطمنوا انا عارف هيروح فين..”، دخلنا منزلا عاليا تحيطه الزهور والأشجار من كل جانب ولكن قبل دخولنا وجهنا نظرنا الى الكبير الذي بدأ في الابتعاد عنا متفحصا المحيط حوله لا نعلم أين هو ذاهب، استقبلنا عدة أشخاص مرتدين الجلابيب وحاملين البنادق خلف ظهورهم كما يظهر في بعض أفلام السينما. نداء من بكر على زوجته التي أتت مسرعة لتضم هشام ابنها في قوة مما جعلني أتذكر أمي أمينه على الفور وهي تحتضني بهذا الحنان عند عودتي من ايطاليا كم اشتاق لها، ثم ينظر بكر الى طارق ويقول لزوجته “تعرفي مين ده يا ام هشام” وقفت مبتسمة لتقول “كيف اعرفه دي اول مره اشوفه فيها”، يبتسم طارق ويقول “انا طارق عبد الحميد الراوي”، كانت إجابته بمثابة صدمة لها بكل المقاييس ظهرت علي وجهها علامات الفرحة والحزن والدهشة في آن واحد فتحت فمها وذراعيها دون ان تتكلم، مرت ثواني قبل ان تقترب وتضعه بين ذراعيها وهي تقول “حبيبي يا طارق يا ولدي بركه اني شفتك قبل ما اموت ثم تصرخ وتقول يا ايمان يا سعاد تعالوا بسرعه”، لم نكن نعلم من ايمان ومن سعاد الى ان جاءتا،
الأولى كانت في سن فريده تقريبا جميلة بجلبابها المزين بألوان الشجر فوق رأسها طرحه سوداء، اما الثانيه فكان عمرها يفوق الستين بقليل ظهر علي وجها الحزن والكآبة فلم أراها تضحك مثل ايمان او ام هشام، وحين وقفوا أمامنا اقترب بكر من سعاد وأمسك بذراع طارق ليقترب وهو يقول “دي تبقي عمتك سعاد يا طارق اختي واخت ابوك”، ابتسم طارق وهو يقول “ازيك يا عمتي”، اما سعاد فرفعت يدها ببطء شديد وهي ترتعش ناظرة في وجه طارق الى ان دمعت عينها وضعت يدها على وجه طارق وهي تقول “والدي ابن الغالي انا مش مصدقه عينيا”، ليقبل طارق يدها وهو يقول “وانا مبسوط اني شفتك يا عمتي”، تضع رأسه فوق صدرها وتبتسم أخيرا ثم انتبهت فجأة لتقول “اخوي فين.. فين عبد الحميد”، ليقول هشام “والله يا عمتي اول ما وصلنا مش عارف راح فين”، يضحك بكر ويقول:
“انت متعرفش لكن انا عارف وسعاد كمان عارفه هو فين”
لتقول سعاد “انا ريحاله” لتجري الى الباب في حركة متسارعة، فيأمر بكر احد الحراس بالذهاب خلفها.
**************************
الكبير

وقف وهو يسند نفسه على العصا عيناه تذرف الدموع وهو يقول بصوت واضح :
“يااااااااه علي السنين اللي بتبعدنا عن اغلي الناس، والله غصب عني فراجكم اتواحشتكم بعدتني الدنيا عنيكم ونسيت نفسي ونسيتكم اااااه، لو يرجع بيا الزمن ما كنت بعدت واصل حتى لو اخواتي ظلموني كان كفايه افضل هنا حتى لو اشتغل بالأجرة انا حاسس زي ما يكون روحي ردت فيه دلوقتي ولو مت هموت مرتاح ساعة الشر مرة والشيطان بيرسم حواديت وحكايات واحنا بنطاوعه وبتمشي معاه اربعين سنه مروا من عمري كنت فاقد الامل اني ارجع ما هو مكنش ينفع ولو كنت عملتها كان واحد فينا هيموت يا انا يا بكر سامحوني مكنتش اد الامانه كان لازم استحمل واقول اخواتي حتي لو ظلموني ياريت تسمحوني..”
“هيسمحوك يا اخوي احنا اللي ظلمناك وربنا شاهد على كلامي اتواحشتك يا عبد الحميد”
قالتها سعاد وكان عبد الحميد ينظر لها في دهشة وهو يرفع سبابته بوجهها والحزن يعلو ملامحه ويقول:
“انت انت” لترد عليه “ايوه انا سعاد اختك”.
تختل قدم الكبير لتسنده سعاد ثم يرتمي في حضنها لتقول “سامحني يا خوي سامحني يا عبد الحميد”
***************************
منزل بكر من جديد

“ايه يا ايمان سلمي علي ابن عمك”
تمد يدها في خجل وتصافح طارق، قالها بكر وأكمل ناظرا إلى أم هشام “يلا خدي فريده معاكي عند الحريم وحضرولنا الوكل زمان الضيوف ميتين من الجوع”، ليقول شريف “اااه وووالله ججاعننين ججداا” لتبتسم ام هشام وفِي يدها فريده وتقول “دقايق الوكل يبقي جاهز”.
ثم تقترب ايمان من فريده وتسألها:
“مين اللي واقف جنب ابويا ده”
تقول فريده وهي تنظر لها:
” اسالي عن اي حد بس بلاش ده”.
“طبعا عرفتم بتسأل علي مين”
*بقلم*
محمد محسن حافظ

error: