خارج أسوار القلب
الفصل الخامس عشر
**************
من أكثر الأيام إرهاقا كان هذا اليوم، توالت فيه الأحداث والصدمات خاصة بعدما علمت أن (هشام) حاول مقابلتها في الشركة لكنه قابل مديرها وعنفه بل وضربه أيضا، كان الموضوع حديث الشركة كلها مما أشعرها بالخجل، ترى ما الذي حدث وأجبره على ضربه وطرده بهذا الشكل؟ وما الذي يهمه من أمرها لكي يتصرف هكذا؟ عادت لمنزلها لتستقبلها صغيرتها بلهفة فانحنت تحملها وتقبل وجنتيها بشغف هاتفة :
– ملوكة حبيبة ماما وحشتيني.
ضحكت الصغيرة في سعادة ثم بادلت والدتها القبلة وتعلقت برقبتها وهي تتجه للمطبخ، دلفت إليه لتجد والدتها تطهو الطعام وشقيقتها جالسة تطالع بعض الأوراق في اهتمام وتحتسي كوبا كبيرا من النسكافيه، رفعت رأسها إليها وعلت شفتيها ابتسامة باهتة بها الكثير من الانكسار، كم تشعر بالأسى من أجل شقيقتها، تلك التي تراها أما ثانية وملاكا حارسا لها تصبح بهذا الضعف، هي امرأة كغيرها تحتاج للحب والوفاء، لكنها افتقدت كلاهما، بادلت شقيقتها الابتسام وهي تقترب منها وتنحني لتقبل رأسها قائلة :
– إزيك يالولو ؟ عاملة ايه النهاردة ؟ نزلتي المحكمة ولا ايه ؟
أجابتها شقيقتها بنفس الابتسامة في خفوت :
– أيوة نزلت، كان عندي شوية حاجات ضروري اخلصها وكان لازم أنزل.
ربتت على كتفها في حنان ثم أجلست طفلتها على الكرسي المقابل لخالتها واتجهت لوالدتها متسائلة :
– ها يا ست الكل، هناكل ايه من ايديكِ الحلوة النهاردة ؟
ابتسمت الأم وهي تجيب :
– عاملالك صينية الفراخ اللي بتحبيها إنت وأختك، غيري يلا وتعالي ساعديني الكلام الحلو مابيغسلش المواعين.
ضحكت (جمانة) واتسعت ابتسامة (لمياء) قليلا، ثم قالت (جمانة) وهي متجهة لغرفتها :
– بس كده، اؤمريني ياقمر إنتي.
دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها وهي تتنهد في حزن ثم قالت من أعماق قلبها :
– يارب اسعد لميا وارزقها بالزوج الصالح والذرية الصالحة، إنت عارف هي طيبة وحنينة قد ايه، اجبر قلبها يارب وفرحها.
ثم أبدلت ملابسها وغسلت وجهها وتوضأت وعادت لغرفتها لتصلي العصر بعدها اتجهت عائدة للمطبخ، وجدت والدتها جالسة في مقابلة شقيقتها تحمل الصغيرة على قدميها، حاولت كسر الصمت المخيم على المكان فقالت بمرح :
– عرفتوا آخر خبر ؟
رفعت (لمياء) رأسها وتطلعت إليها متسائلة وترجمت الأم السؤال لصوت مسموع :
– خير ياجوجو ؟
هزت كتفيها وهي ترد في مرح :
– دكتور آدم مديري اللي كان أستاذي في الجامعة، طلع لي بحل جهنمي لمشكلة ملك .
شعرت الأم بالأمل واستمرت (لمياء) في النظر إليها باهتمام، كان حديث (جمانة) يدل على أنها تسخر من الفكرة ولا تقبلها حين أجابت :
– بيقولي اتجوزي.
عقدت (لمياء) حاجبيها في دهشة ثم صمتت في تفكير عندما هتفت الأم :
– اتجوزي ؟؟ هو ده الحل ؟ إزاي يعني ؟ جوازك في الوقت الحالي نقطة ضعف هيمسكوا فيها عشان ياخدوا البنت.
أومأت (جمانة) برأسها موافقة وردت :
– أيوة ما أنا قلت له كده.
قالت الأم باستغراب :
– حل مش منطقي أبدا.
هنا علا صوت (لمياء) وهي تقول بهدوء :
– ليه مش منطقي يا ماما ؟ بالعكس الفكرة عجبتني جدا، جواز جمانة حاليا هيعتبر خط دفاع وهجوم في نفس الوقت، لو باعت الأرض لجوزها حتى لو بعقد صوري كده مشكلة الأرض اتنقلت لعهدته وهو يتصرف فيها، وبالتالي الحاجة اللي عاملة أزمة من الأول مش هتبقى متعلقة بجمانة إنما بشخص تاني يقدر يتصرف معاهم ويجيب حقها، ودي نقطة هجوم وفي نفس الوقت يحميها منهم ودي نقطة دفاع ده غير إنه حتى في حالة جوازها الحضانة مش من حقهم.
تطلعت إليها شقيقتها في دهشة وصمتت الأم مفكرة، استغربت (جمانة) للغاية فما قالته (لمياء) كان هو ما طرحه (آدم) بالضبط لكنها نسقته بشكل أكثر منطقية وجعلته أكثر قابلية لإقناعها، قد تتزوج زواجا صوريا من شخص ما حتى لو دفعت له مالا ليقوم بالمهمة، لا يشترط ان يكون الزواج تاما وترتبط بشخص لا تحبه او تريده خاصة مع حالة قفل قلبها الذي علاه الصدأ حتى التحم ببعضه البعض ولم يعد من الممكن فتحه، قالت بعد صمت :
– ده نفس كلام دكتور آدم، بس إنت رتبتيه صح.
هزت (لمياء) كتفيها وقالت :
– الفكرة فعلا معقولة جدا.
ردت الأم :
– مش عارفة يابنات مش مطمنة.
ضحكت (جمانة) وهتفت :
– ياماما ماتقلقيش، يعني حتى لو قلت هانفذ الفكرة خلاص الشخص الهايل السوبر اللي هيحميني منهم واقف ع الباب.
قالت (لمياء) بهدوء :
– لازم يكون بيحبك عشان يدافع عنك.
تطلعت إليها في دهشة، ها هو عائق آخر أمام تنفيذ الخطة، من الذي يحبها ؟ ولو وجد فهل سيقبل زواجا صوريا، كما يقولون مجرد حبر على ورق يجبر بعده على الوقوف في وجه المدفع ؟ قاطع أفكارها صوت والدتها وهي تقول :
– ايه رأيكم في دكتور حسام؟
رفعت عينيها فيما يشبه الصدمة لوالدتها في حين هزت (لمياء) كتفيها في صمت، استطردت الأم :
– إنسان هايل وأخلاقه عالية وشهم، ومعجب بيكي.
اتسعت عيناها وهي تهتف :
– معجب بيا ؟
أومأت الأم برأسها في صمت فسألتها :
– وإنت عرفتي ازاي يا ماما ؟
ابتسمت لسذاجة ابنتها وردت :
– واضح عليه ياجمانة، إنت بس اللي قافلة قلبك وعقلك وعنيكِ ومش عاوزة تشوفي حاجة.
شعرت بالغضب لكلام والدتها فقالت في عصبية :
– وحتى لو معجب بيا ياماما مش هاقوله تعالى اتجوزني ودافع عني قدام أهل جوزي اللي مات وحط نفسك في وش المدفع عشان تتعرض للخطر بدالي.
ردت الأم بصبر :
– اللي بيحب حد مش محتاج إنه يطلب منه يحميه عشان هو هيحميه فعلا من نفسه.
هزت (جمانة) رأسها في عنف وقالت رافضة :
– مستحيل، أنا مش فاهمة بتفكروا إزاي ؟ أتجوز بعد حسام ؟ وعشان ايه فلوس وأرض ؟ ماتغور ؟
قالت (لمياء) بشئ من الحزم :
– إنت بتهرجي يا جمانة ! هي مسألة فلوس وبس ؟ دي أرض بنتك وعشان إنت وصية عليها فإنت مسئولة قدام ربنا عن مالها وبتساعديهم ياكلوا مال اليتيم ودي تعتبر شراكة في الذنب.
صمتت (جمانة) وشعرت بالقلق من كلام أختها، لم تفكر في هذا الجانب من قبل، لكنها ردت بعدها بعناد :
– ربنا عالم بالحال يا لميا وعارف إني مضطرة عشان احافظ على بنتي نفسها.
ردت (لمياء) بحزم أكبر :
– بس كان قدامك حل ورفضتيه وضيعتي حقها وخلاص، ده غير إن مفيش أي محكمة هتديكي الإذن إنك تبيعي الأرض بسعر بخس ..
شعرت بالغيظ من منطق أختها، هاهي تقنعها وببساطة مرة اخرى، تذكرت وعدها لوالدة زوجها، كيف تخلفه ؟ لمَ يتحدثون عن زواجها وكأنه أمر طبيعي مسلم به، كأن زواجها يمكن أن يحدث في الغد وأن الرجل متاح فورا للزواج ؟ من هو هذا الرجل ؟ كيف ستتقبل أمرا كهذا ؟ رجل آخر في قلبها، لا .. في حياتها مع صغيرتها، هل هذا ممكن؟ بعد صمت دام طويلا قالت في شرود :
– طيب ووعدي؟
عقدت الأم حاجبيها في غيظ وقد فهمت ماتقصده ابنتها في حين تساءلت (لمياء) في دهشة :
– وعد ايه ؟
نظرت إليها بحزن، كانت تعلم أن الأمر سيغضب شقيقتها للغاية لكن ما باليد حيلة لذلك أجابتها بتردد :
– وعدي لماما راضية إني مستحيل أتجوز بعد حسام الله يرحمه.
اتسعت عينا شقيقتها في صدمة، لم تجد ما تقوله وارتج عليها لثوان صرخت بعدها :
– نعم ؟ انت اتجننتي يا جمانة ؟ إزاي تدي وعد زي ده ؟ ده حتى مش عشانك لا عشانها ؟ انت فاكرة وعدك ليها صح ؟ تفتكري لو خلفتي وعدك هي إيه هيكون شعورها ؟ هتحس بخيانة ؟ بقهر ؟ بموت ابنها وضياعه منها للمرة التانية لما تضيعي منها إنت كمان ؟
صمتت لحظة لتلتقط انفاسها ثم عادت تقول بصوت أهدأ :
– جمانة مش من حقك توعدي إنك توقفي حياتك على شخص، حتى لو إنت عاوزة ده، ممكن تاخديه قرار براحتك بس في أي وقت ممكن يتلغي لأي سبب، إنما الوعد .. خلف الوعد ده حاجة مش بسيطة، لازم تروحي لطنط راضية وتتكلمي معاها وتشرحي لها المشكلة عشان تحلك من وعدك ده.
ردت (جمانة) بعصبية :
– ازاي يعني يا لميا عاوزاني أروح اقولها معلش مش هاقدر احافظ على وعدي وبادور على عريس.
زفرت (لمياء) في حنق وقالت :
– انت بتستهبلي يعني، هو في حد يقول كده ؟ هتشرحي لها الموقف وتفهميها إنك خايفة وانك اتعرض عليكي حل كذا وكذا وانت مش عارفة تعملي ايه، وبعدين شوفي رأيها، وحاولي تختاري كلامك صح عشان ماتفهمكيش غلط، واوعي تديها وعد بحاجة مجنونة تانية، سيبي الأيام تمشي زي ماهي.
عقدت (جمانة) حاجبيها في تفكير ووالدتها تتطلع إليها في صمت في حين عادت شقيقتها تدفن رأسها في اوراقها، ثم زفرت في ضيق وقالت :
– هاشوف، أنا مش عارفة هاواجهها إزاي؟ بس ده مش معناه إني موافقة على فكرة الجواز أصلا، ده غير إن فعلا مفيش حد يصلح أروح أطلب ايده.
هزت شقيقتها رأسها في غيظ ولم ترق لها الدعابة في حين ردت الأم :
– سيبيها على الله ياجمانة، المهم تكلمي راضية في الموضوع يمكن ع الاقل تكلم ولاد جوزها يبعدوا عننا ولو إني عارفة إنهم مالهمش علاقة ببعض للدرجة.
أومأت برأسها في صمت وجلست تفكر فيما ستقوله لها عندما تزورها و إلى أي مدى سيؤلمها الأمر أو يوجع قلبها ! .
********
في ذلك اليوم قررت (جمانة) الذهاب لوالدة زوجها الراحل، لن تصطحب صغيرتها معها فهي تريد الكلام بحرية ولا تريد لابنتها ان تشاهد جدتها حزينة باكية والسبب أمها، صلت المغرب وارتدت ملابسها على عجالة، تركت الصغيرة مع خالتها التي نظرت لها نظرة طويلة بادلتها إياها وكأن حديثا مطولا دار بين أعينهما خفضت بعده (جمانة) عينيها في صمت وهي تطبع قبلة على رأس ابنتها وتغادر المكان، قادت سيارتها في شرود شديد حتى كادت تصطدم بأخرى في إحدى الإشارات لكنها توقفت في آخر لحظة وهي تتنهد بعمق وارتباك، التقطت هاتفها تتطلع للساعة بدون سبب ثم عادت تقودها مرة أخرى حتى وصلت لوجهتها، بعد الترحاب والسؤال عن الأحوال والصغيرة التي حزنت جدتها أنها لم تأت قصت (جمانة) الأمر كله من بدايته على السيدة، حكت لها كم تتألم وكم تخاف، قالت لها عن التهديدات التي هددها بها أخا زوجها وأنه سيأخذ صغيرتها منها مهما حدث ومهما فعل لتصبح الأرض كلها ملكهم للأبد، بكت بشدة عندما تذكرت وشعرت بالخوف يغزو قلبها مهشما ضلوعها طاعنا إياه، واستها السيدة كثيرا وشعرت بالحيرة هي الأخرى، فلم تكن تملك من الأمر شيئا، ماذا لو أساؤوا لسمعة والدتها ليأخذوها منها، ألم يفعلوا هذا معها بعدما تزوجت والدهم، والدهم الحنون الطيب الذي لم يصدق الأمر ونزح بها للقاهرة لتستقر هناك هي وصغيرها (حسام)، (حسام) الذي شعر أخويه دوما بالغيرة منه والحقد عليه خاصة بعد تخرجه من كلية الصيدلة وتملكه لصيدلية خاصة كهدية من والده، (حسام) الذي كان قرة عين أبيه والمدلل عنده، الذي كان دوما يلبي له طلباته ويفخر به في كل مكان، (حسام) الذي لم يختلف مع والده في أمر سوى زواجه من (جمانة) التي أحبها ورفضها والده آمرا ولده بالزواج من ابنة شقيقه حتى وافق على فراش المرض كي لا يكسر قلب صغيره، الصغير الذي لم يعترف به أخويه ولولا بقية من صلة دم وقانون لما سمحوا له بأن يرث والده، طفلها هي الذي ضاع منها وفطر قلبها عليه والآن يأتي اخويه ليأخذوا منهما ما تبقى منه، أي قسوة تلك ؟ أفاقت من ذكرياتها على مرأى دموع (جمانة) التي أغرقت وجهها، الفتاة القوية التي أحبت ابنها وعشقها هو حتى النخاع، ترى كم تؤلمه دموعها الآن ؟ ما الحل يارب ؟، ربتت على كتفها في رفق واقتربت منها تضمها لصدرها فاستكانت (جمانة) بين ذراعيها، همست الحماة بحنان :
– ماتخافيش ياجمانة، ربنا معانا أكيد، أنا عارفة هما ممكن يعملوا ايه، لكن إن شاء الله مش هيقدروا، خلي عندك أمل في ربنا كبير.
ابتسمت (جمانة) وهي تشعر بحنان السيدة وشعرت بالأسى هل تخبرها بالحل المطروح عليها ؟ هل سيؤلمها كثيرا ؟ ماذا تفعل ؟ لما لا تبيع الأرض وتنهي الأمر ؟ ولكن لمن ومن سيحميها منهم إن فعلت ؟ قالت بعد صمت طال :
– ماما، لميا قالت لي قانونا مايقدروش ياخدوها مني وإن الأحق بكده هو أمي بعدها إنتي لو هيلجأوا للقانون.
ابتسمت السيدة في حزن وهي ترد :
– قانون ايه يابنتي؟ دول يهمهم الأرض وأملاكهم وبس حتى لو عملوا ايه .
أكملت (جمانة) وكأنها لم تسمع ماقالته :
– اتعرض علي حل للمشكلة يا ماما بس أنا مش عاوزاه، حاجة ماكنتش اتصور إني أبقى مضطرة أعملها في يوم من الأيام عشان أحافظ على بنتي وأرضها.
أبعدتها السيدة عن صدرها وتطلعت إليها بقلق وهي تتساءل :
– حل ايه يا حبيبتي ؟
أخذت (جمانة) نفسا عميقا وأجابت :
– الجواز.
قالتها وصمتت لترى وقع الكلمة على حماتها، أما السيدة فقد اتسعت عيناها في نوع من الذعر وارتدت مبتعدة عنها بشيء من العنف وهي تنظر إليها في صدمة عارمة، أهذا هو ما توصلت إليها يا زوجة الغالي ؟ تُمَلٌكين رجلا آخر من نفسك التي كانت ملكا لصغيري ؟ هل فتح قلبك لغيره ولم تستطيعي الصبر؟ قلقت (جمانة) للغاية من رد فعلها، نعم ستفهمها بطريقة خاطئة وتحزن وربما تكرهها وتأخذ هي صغيرتها منها، ظلتا صامتتين تتطلع كل منهما للأخرى ، اجتعمت العيون على الخوف والقلق والحزن، أخيرا نطقت السيدة :
– جواز يا جمانة ؟ وهان عليك تقوليها لي كده ؟ هان عليك حسام ؟
بكت (جمانة) مرة أخرى وردت ودموعها تغرق حروفها :
– لا طبعا يا ماما، أنا كده تبقى هانت علي نفسي، نفسي اللي هي لحسام وبس، قلبي اللي ماحبش حد غيره ولا اتعلق إلا بيه، أنا قلت لك إنه حل مطروح ماقلتش إني هانفذه، أنا لا عاوزاه ولا حتى اعرف حد ممكن ينفع يتحمل مسئولية زي دي.
لم تفهم السيدة ما قالت فتطلعت إليها بتساؤل لم يخلو من التأنيب جعلها تكمل :
– الحل كان اتجوز واحد ابيع له الارض لو حتى بعقد صوري مع ضمان حقي أنا وبنتي، وهو يتفاهم معاهم بخصوص بيعها ليهم أو الشراكة وفي نفس الوقت يحميني منهم لو حاولوا يعملوا أي حاجة ممكن تأذيني.
رنت كلمات شقيقتها في أذنيها ” واوعي تديها وعد بحاجة مجنونة تانية، سيبي الأيام تمشي زي ماهي” ، وعلى الرغم منها لم تستطع تنفيذ كلامها فاستطردت :
– مش لازم الجواز يكون حقيقي يا ماما، ممكن يكون الموضوع برده صوري، ع الأقل لحد ماالمشكلة تتحل والأمور تهدى.
نظرت إليها السيدة في صمت، تساءلت بداخلها : أهذا ممكن ؟ ومن الذي يقبل بأمر كهذا وما النفع الذي سيعود عليه منه ؟ شعرت (جمانة) بها فقالت :
– ممكن ادفع لأي حد مبلغ مناسب عشان يقوم بالمهمة دي.
قالت المرأة بسرعة :
– ماينفعش أي حد يا جمانة، إزاي هتأمني أي حد على أملاكك إنت وبنتك ؟
فجأة قفز لذهنها نفس الجملة عندما نطق بها مديرها (أدهم) يقصد بها دكتور (حسام) عندما علم بعمله في صيدلية زوجها، هل يمكن أن يوافق (حسام) على أمر كهذا ؟ أمها تؤكد إعجابه بها، فهل يمكن أن يكون هذا دافعا لوقوفه بجانبها، هل سيرضى بالمال فقط كمقابل أم يطالب بها هي ؟ لم تكن ترغب في التفكير في الأمر فردت :
– أكيد هيكون في ضمانات يا ماما، أنا لسه ماوافقتش ع الفكرة أصلا وبأدور على حل تاني لحد ما الصداع بقى ملازمني 24 ساعة، وحتى لو الفكرة دي استقريت عليها مش عارفة مين ممكن يصلح وإزاي هاعرض عليه حاجة زي دي !
لم تدر السيدة بما تجيبها، فقد كان قلبها يبكي في صمت، تحجرت الدموع في مقلتيها وماتت الكلمات على شفتيها ولم تستطع تحريك لسانها ولو بحرف، لا تستطيع مواساتها ومحو خوفها وهي تشاركها إياه، ولا يمكنها موافقتها على فكرتها وأيضا لا تستطيع ترك الأمر للظروف لتضيع منهما الصغيرة بأي شكل ولا تمتلك حلاً آخر لتطرحه عليها، اكتنفتها الحيرة وغرقت في الحزن أكثر، شعرت بقلبها يشيخ فجأة وبموت ابنها يتكرر أمام عينيها وهي أضعف من أن تقوم بشيء ما، صمتت معلنة بصمتها موافقتها واستسلامها للظروف التي أجبرت على المرور بها واستقبلت (جمانة) رسالتها الصامتة في حزن اكتفت بعده بأن تبقى بين ذراعيها لأطول فترة تستشعر فيها رائحة حبيبها الراحل تحيط بها.
********
عادت (جمانة) لمنزلها مرهقة جسديا ونفسيا، كانت تشعر أن روحها محبوسة داخل قفص خالي من الأكسجين، وشعرت بفقدانها القدرة على التنفس، وجدت والدتها وشقيقتها في انتظارها، جلست أمامهما بصمت وهما تتطلعان إليها بقلق وتساؤل أجابت عنه بخفوت :
– حسيت إني بأنقلها خبر موت حسام للمرة التانية، قلبي وجعني عليها أوي وعلى الرغم من كده لقيتها أحن مني على نفسي.
ابتسمت أمها في حزن وحنان في حين قالت (لمياء) بنوع من القسوة :
– قلت لك ياجمانة، بطلي الطيش ده بقى واعقلي وفكري في كل كلمة قبل ماتنطقيها.
نظرت لشقيقتها في دهشة، منذ متى تعاملها هكذا ؟، لكنها لم تعلق وتقبلت منها ما قالت، هي على حق وهي أيضا تتألم، فلمَ لا تقبل ؟، قالت في هدوء :
– عموما ربنا يسهل، لو الموضوع موافقين عليه مبدأيا انا مش عارفة أعرضه إزاي على دكتور حسام ؟
قالت الأم :
– يعني خلاص وافقتي على حسام؟
ردت بحيرة :
– وهو في غيره ؟ ده غير إنه فعلا أمين ووقف جنبنا كتير.
ابتسمت الأم في نوع من السعادة وكادت تفرح فعلا بحدوث تلك المشكلة التي اضطرت ابنتها للموافقة على الزواج مرة ثانية، لكنها قالت :
– وحتى لو في غيره الدكتور حسام إنسان ممتاز وهيخلي باله منك ومن ملك ده غير إنه بيحبها وعمره ما هيفكر إنها تبعد عنك حتى لو جبتوا ولاد غيرها، وانت مش محتاجة تعرضيه عليه، هو في أول فرصة هيطلب منك الجواز لو حس إنك ممكن توافقي.
تطلعت إليها (جمانة) في صمت، آه يا أمي كم تحلمين ؟ هل تظنينه زواجا حقيقيا ستحملين منه أحفاداً آخرين ؟ أما (لمياء) فنظرت لها في عمق وفهمت ما تفكر فيه وكم أزعجها هذا، لم تعلق فقط قامت من مقعدها قائلة :
– هأنام أنا بقى، تصبحوا على خير.
ثم اتجهت لغرفة والدتها التي تشاركها إياها تتابعها عيني الأم والأخت في حزن.
********
في اليوم التالي اتجهت (جمانة) لعملها، كانت شاردة طوال الوقت، وبدت نظرة حزينة مرتسمة في عينيها، في منتصف اليوم طلب منها (آدم) أن تأتي لمكتبه لمراجعة ملف هام لمناقصة جديدة، اتجهت إليه في خطوات سريعة ثم طرقت الباب ودخلت تاركة إياه مفتوحا خلفها كالمعتاد، رفع رأسه إليها وقال بابتسامة هادئة :
– تعالي يا جمانة، اقعدي عاوزين نخلص الملف ده ونشتغل عليه بجد عشان لو رسيت علينا المناقصة دي هتنقل الشركة نقلة تانية خالص.
كانت ابتسامتها باهتة شاردة وهي ترد :
– مع حضرتك يادكتور.
نظر إليها ليلمح الشرود يرسم ملامح وجهها فسألها:
– مالك ؟؟ في مشكلة حصلت تاني مع أهل حسام ؟
هزت رأسها نفيا وهي تجيب :
– لا لسه ماعملوش حاجة لحد دلوقتي، والصمت ده هو اللي هيجنني ومخوفني.
قال في هدوء :
– معاكِ حق طبعا، الانتظار صعب، فكرتِ في الحل اللي قلت لك عليه ؟
شردت مرة أخرى وأجابت بخفوت :
– أيوة.
سألها :
– ها وايه رأيك فيه ؟
ابتلعت ريقها في صعوبة وردت :
– مش عارفة يادكتور، لميا أختي عجبتها الفكرة جدا بس أنا قلقانة ساعات أقول مفيش قدامي غيرها وساعات أفكر إزاي ممكن أعمل حاجة زي دي وأتجوز بعد حسام الله يرحمه.
قال لها بابتسامة أبوية :
– جمانة، إنت لسه صغيرة، غيرك كتير وأكبر منك كمان لسه مااتجوزوش أصلا، ليه ماتديش لنفسك ولقلبك فرصة يعيش الحياة من تاني بدل ما انت قافلة عليه كده وبتعذبيه في ذكريات الماضي اللي عمره ما هيرجع تاني ؟
لم ترد، ها هو قلبها يصفعها ويتمسك بتلابيب تلك الذكرى رافضا العبور للغد مع آخر، إنه هو وليس هي، عقلها في جهة وقلبها سلك الجهة المعاكسة تماما، يا إلهي ماذا تفعل ؟
شعر هو بما يعتمل بداخلها فهو نفسه يتملكه ذات الشعور كلما فكر في أنثى أخرى تحل محل زوجته وأم طفله، لم يرغب في المزيد من الذكريات المؤلمة فاستطرد في حزم :
– خلينا في المناقصة دلوقتي وربنا يحلها من عنده، بس عاوزك تركزي معايا المناقصة دي اهم من اللي قبلها وعاوز عقلك كله عشان نوصل لأفضل عرض تخليها بتاعتنا زي اللي قبلها.
نفضت الذكريات عن رأسها وابتسمت معلنة أن العمل هو الحل بالفعل، اندمجت معه في الملف حتى أنهيا جزءً كبيراً منه، كانت كعادتها مبدعة في أفكارها للنقاط التي تناولتها وعدلتها ليصبح العرض أفضل، شعر هو بإرهاقها يرتسم على وجهها فأغلق الملف أمامه وقال :
– كفاية كده النهاردة، بكرة نكمل شغل ع الملف عشان نبقى مركزين أكتر.
وافقته بإيماءة صامتة ثم وقفت قائلة :
– تمام يادكتور هاروح مكتبي بقى عشان عندي شوية حسابات محتاجة أراجعها.
أشار لها بأن تذهب وعاد هو لمراجعة الأوراق أمامه مرة ثانية، اتجهت بخطوات متثاقلة عائدة لمكتبها ثم جلست خلفه مغمضة عينيها لدقيقتين أو يزيد، كان الإرهاق يتمكن من كل جزء فيها، من جسدها متملكا حتى من أناملها ومن قلبها وعقلها وحتى من كل عصب فيها وكل شريان، شعرت بحركة خافتة أمامها ففتحت عينيها في تساؤل لم يلبث أن تحول لشهقة وهي تراه يقف أمامها في صمت متطلعا لوجهها بحنان ارتسم على كل تفصيلة من ملامح وجهه، شعرت بالتوتر فاعتدلت بسرعة متسائلة :
– خير حضرتك ؟!!
ظل ينظر إليها بنفس النظرة لثوان أخرى مما جعلها تخفض عينيها خجلا لكنه قال بنبرة خشنة بدا فيها وكأنه يكبح جماح مشاعره بصعوبة :
– “تتجوزيني” ؟!