خارج أسوار القلب

الفصل الثامن والعشرون

****************

عندما أفاق والد (دينا) من إغماءته المفاجئة كان الصمت هو مسلكه، شعور بالذهول يكتنفه ولسانه عاجز عن النطق، زوجته تبكيه وتبكي ابنتها وحيرتها بينهما انقسمت، أخذته وعادت به للمنزل وهو يترك لها قيادته كطفل صغير، بعد وصولهما أدخلته فراشه وغطته وقبل أن تخرج من الغرفة كان سؤاله المفاجئ ليصدمها :
– هي بنتي مدام يا ناريمان ؟
التفتت إليه في ذهول، ماذا تقول أو تفعل ؟ هو مريض ضعيف وابنتها ضاعت منها وهي انكسرت، تألمت، خافت، فصمتت، عاد يسأل بضعف :
– ارحمي ضعفي يا ناريمان، يعني إيه الدكتور يقول مدام ؟
رفعت عينيها إليه في صمت ففهم، كل شيء مرسوم على وجهها، قصة حياة كاملة تُحكَى هناك، نعم هو خطؤه منذ البدء، أهملها، دللها، ترك زمامها، ووالدتها كأن لم توجد، ضاعت صغيرته الوحيدة، ضاعت عدة مرات، ضاعت حتى أُسدِل الستار وكُتِبت كلمة النهاية بدمائها، غمغم :
– سيبيني أنام من فضلك .
عادت تلتفت بانكسار وتغادر الغرفة في هدوء شديد، في الصباح التالي كانت الأحزان قد زادت حزنا آخر، مات الأب كمدا على ابنته التي ضاعت منه، وزاد حمل ثقيل آخر على كاهل الأم حتى انكسر .
********
حددت (جمانة) موعد زيارتها لجدة طفلتها، أعلمت زوجها فأصر على إيصالها ثم العودة لها لاحقا، أقلقها الأمر بعض الشيء فهي لا تريد مخاطبته أمام الجدة، لا تدري حتى الآن كيف ستخبرها بأن الزواج لم يعد مؤقتا، لم يعد صوريا، بل سيدوم حتى تنتهي أنفاسها، يا إلهي، أي موقف وضعت فيه نفسها ! كيف زل لسانها بذلك الوعد، والآن زل قلبها غارقا في حب زوجها، تخشى ردة فعلها، لكنها مجبرة على إخبارها، فهي ستعلم على أية حال، ومنها سيكون وقعه أفضل و أخف وطأة، أوصلها أسفل منزل الجدة، ثم التفت إليها مبتسما، ابتسامته مخنوقة كأنه يضغط على نفسه بشدة، همس لها :
– لما تخلصي الزيارة كلميني، أنا مش هاروح بعيد، هالف بالعربية قريب من هنا .
ثم ربت على كفها بعدها أغلق أصابعه عليه كأنه يخشى فقدانها، ابتسمت له هي الأخرى مطمئنة وهي تربت على كفه التي تحتضن يدها ثم سحبتها بعيدا عنها، ترجلت من السيارة وحملت صغيرتها، مع هدية مناسبة ثم توكلت على الله وصعدت إليها، تردد، قلق، خوف، شعور بنوع من الخزي والخذلان، هي خذلتها، وعدتها، أخلفت وعدها، ثم وعد آخر، وها هي تأتي لتخبرها أنها لن تفي به أيضا، فتحت الباب لتفاجأ السيدة بزوجة الابن الغائبة، تسللت ابتسامة كسيرة لشفتيها وهي تفسح لها الطريق بترحيب فاتر مغمغمة :
– إزيك يا جمانة ؟ تعالي ياحبيبتي اتفضلي .
دخلت (جمانة) بهدوء تتعلق بيدها صغيرتها، جلست أمامها بابتسامة خافتة، مدت الجدة يديها لحفيدتها فألقت الصغيرة نفسها بينهما بمرح، قبلتها وداعبتها قليلا ثم انتبهت لكُنَّتِها :
– عاملة إيه مع جوزك ياجمانة ؟
ارتبكت، انتابها القلق، لن تهرب طويلا فحتما ستضطر لإخبارها، أجابت بخفوت :
– الحمد لله يا ماما، طمنيني عليكِ .
ردت المرأة بلهجة عاتبة :
– أديكي شايفة أهو، لوحدي، إنت اتجوزتي ويادوب ملك كانت بتيجي لي كل أسبوع شوية مع مامتك.
صمتت للحظات و(جمانة) لا تدري بماذا ترد عندما سألتها فجأة :
– إيه جوزك مانعك ؟ بيغير ؟
اتسعت عينا (جمانة) وهتفت بسرعة :
– لا طبعا يا ماما، مستحيل يمنعني عنك، إنت في مقام مامتي وهو عارف كده .
سألتها السيدة باستخفاف :
– عارف كده ! طيب، عملتي إيه في موضوع الأرض ؟ مامتك قالت لي إنه خلص على خير .
ردت بزفرة ارتياح لتغيير الموضوع :
– أيوة فعلا الحمد لله، الحاج (عبد الرحمن) عارف إن مصالحه في السوق هتتأثر لو عمل عداوة مع أدهم، عشان كده خلص الموضوع بسرعة واشترى الأرض بتمنها الفعلي .
رفعت المرأة حاجبا في سخرية، قالت :
– أدهم، ده جوزك، هو معروف للدرجة دي في السوق .
ارتبكت ثانية وهي تجيبها بتلعثم :
– يعني يا ماما، رجل أعمال وشركة كبيرة وكده طبيعي يكون معروف .
عادت تسأل :
– إمممم، طيب خير خير، هتطلقي إمتى بقى ؟
صُدِمَت (جمانة) من الكلمة، فصمتت للحظات تنظر للجدة في عدم فهم، لاحقتها السيدة :
– إيه مش قلتِ لي إنه جواز صوري مؤقت لحد ما مشكلة الأرض تتحل ! وأهي اتحلت .
علا التوتر وجهها، ازدردت لعابها في صمت، المواجهة حتمية وقد حان وقتها، سمعتها تقول ثانية كأنها ترفض إعطائها فرصة للتفكير والرد :
– مفيش طلاق مش كده ؟
نظرت إليها في دهشة، همست :
– ماما، اللي حصل إن ….
قاطعتها بلهجة حادة :
– إيه اللي حصل يامرات ابني الوحيد ؟ حبيتيه ؟ مابقاش جواز صوري خلاص ؟ سلمتيه نفسك وإنت اللي وعدتيني إنك هتفضلي ملك حسام لحد ما تموتي ؟ هتكملوا مع بعض خلاص ؟ مش ده اللي حصل يا أم ملك ؟ .
لم تجد ردا، تلعثمت من جديد، دمعة لمعت في عينيها لم تهتم لها الجدة وهي تهتف بعصبية :
– أنا تعبانة يا جمانة ومحتاجة أستريح، إنت عارفة طريق الباب، عن إذنك .
علت الصدمة وجه (جمانة) من جديد، إنها تطردها، ألهذه الدرجة ؟ لم تشعر بنفسها إلا وهي تتابع المرأة بعينيها تتحرك من أمامها خارجة من الغرفة لتنهض هي أيضا وتخرج من المنزل، بأصابع مرتعشة ودموع لا ترى من خلالها تجمعت بين مقلتيها اتصلت به، لم تستمع لرنين فجأة سمعت صوته فهتفت بصوت دامع :
– تعالى يا أدهم أنا هاروح .
استغرب نبرة صوتها وانتابه القلق، أخبرها بسرعة :
– انزلي أنا تحت ما مشيتش .
لم تنتبه لما قاله، فقط تحركت بآلية مع طفلتها التي سألتها بحروفها الغير واضحة :
– ماما، تيتة مش جابت لي لعبة .
ابتسمت لها بحزن وربتت على رأسها، همست بصعوبة :
– هاجيبلك أنا يا حبيبتي حاضر .
خرجت من بوابة المبنى تمسك بيد ابنتها، هبط هو من السيارة ليستقبلها، لمح الدموع تتلألأ في عينيها فهتف في لهفة :
– جمانة مالك ؟ حصل إيه ؟
هزت رأسها بلا اتزان، ردت بصوت مخنوق :
– مفيش، ممكن نروح لو سمحت يا أدهم ؟
حاول قول شيء لكن الألم المرسوم على وجهها ألجمه، فصمت وفتح لها باب السيارة المجاور له، دخلت إليها فمد يديه يتناول الصغيرة لتجلس في الخلف لكنها تشبثت بها هاتفة :
– لا خليها في حضني .
لم يفهم، القلق ينهشه وقلبه ينبض بقوة، أومأ برأسه موافقا في صمت ثم دار حول السيارة، جلس إلى جوارها والتفت إليها متسائلا في اهتمام :
– حبيبتي فهميني في إيه، إنت تقريبا ما قعدتيش فوق عشر دقايق !
ردت بصوتها المتحشرج :
– من فضلك يا أدهم، روحني .
ظل يتطلع إليها لثوان أخرى، ثم تنهد بعمق وأدار السيارة منطلقا بها نحو منزلهم، تابعت عيني الجدة ما حدث من نافذة غرفتها وانحدرت منهما الدموع كالسيل، لقد كان ينتظرها بالأسفل، أوصلها ولم يذهب، أصبحت لآخر، لم تعد ابنتها زوجة وحيدها، هي الآن ملك رجل يشاركها حياتها، نال قلبها وحبها وهي التي ستحيا في وحدتها حتى مماتها .
********
عندما دخلت إلى المنزل اندفعت نحو غرفتها، غيرت ملابسها بسرعة ثم توجهت نحو صغيرتها، غيرت لها ملابسها هي الأخرى وأطعمتها في صمت و وضعتها بفراشها، تتحرك بآلية شديدة وسكون تام، التزم هو الآخر الصمت متابعا إياها بعينيه في قلق امتزج ببعض التوتر، هل قالت لها جدة الصغيرة ما ضايقها ؟ هي تكاد تبكي، تزم شفتيها في حزن، وهو يكاد يجن لا يعلم لمَ ؟ لمحها تتجه نحو غرفتهما فتبعها، وجدها تدخل إلى الفراش وتدثر نفسها بالغطاء حتى رأسها، تلتزم الصمت وتجبره عليه، أخذ حماما سريعا ثم اندس إلى جوارها، عيناها مغمضتان، هي تهرب، تدعي النوم، لا تريد الحديث، لكنه اكتفى، اقترب منها وهمس بجدية :
– أنا عارف إنك صاحية .
أغمضت عينيها بقوة ولم ترد، ارتفع صوت تنفسها وهي توليه ظهرها معلنة رفضها، اقترب منها ثم جذبها بين ذراعيه، انتفضت لوهلة ورغبت في الابتعاد لكنه أحكم قبضتيه بشدة حولها هامسا من جديد :
– ششششش، اهدي، أنا معاكِ .
انهمرت دموعها فجأة ووصله صوت أنفاسها المضطربة المتقطعة، شعر ببلل على قميص منامته فرفع وجهها إليه في جزع، لمح الدموع تغرق وجنتيها فهتف :
– جمانة في إيه ؟ إنت بتعيطي ليه ؟ حبيبتي عشان خاطري بلاش دموع .
لم تستطع حبسها، قهرا غلبتها واستمرت بالانهمار لثوان كاد هو يجن فيها وهو يضمها إليه بقوة كأنه لو أفلتها فستضيع من بين يديه، قبل رأسها بحنو وانتظر حتى هدأت قليلا، رفع وجهها نحوه ثانية يمسح دموعها بأصابعه، سألها بشكل تقريري :
– قالت لك كلام زعلك ؟
مسحت دموعها هي الأخرى بظهر كفها كطفلة وأجابت بصوت مخنوق :
– شبه طردتني .
شعر بالدهشة، لم يفهم فعاد يقول بحنان :
– احكي لي .
أحاطته بذراعها الحر وهي تدفن وجهها في صدره كأنها تبحث عن أمان ما، فاستجاب لضمتها بتربيتة على شعرها، أجابت بعد ثوان :
– عرفت إن الجواز هيستمر، زعلت، قالت لي إنها بقت لوحدها خلاص وإني هابعد عنها ومابقيتش بنتها .
لم يفهم بالتحديد فجملُها قصيرة غير مترابطة، فقط ما لفت انتباهه سأل عنه :
– يعني إيه عرفت إن الجواز هيستمر ؟ إنت كنت قلتِ لها إنه مؤقت ؟
ثم رفع وجهها إليه ينظر في عينيها مكملا :
– وصوري ؟
أخفضت عينيها تهرب من مواجهته وهي تومئ برأسها إيجابا، همست :
– أنا وعدتها إني مستحيل أتجوز بعد … بعد حسام الله يرحمه تاني .
انقبض قلبه ثانية رغما عنه عندما نطقت باسمه، تجاهل الأمر، هو يعلم بأمر هذا الوعد من قبل عندما زل لسانها به أمام أخيه، لكنه إدعى عدم الفهم متسائلا بدهشة :
– إيه الوعد ده يا جمانة ؟ ليه تدي وعد بحاجة زي دي ؟ ولما اضطريتي توافقي على فكرة الجواز طبعا قلتِ لها إنه هيبقى صوري ولفترة معينة وترجعي لها تاني بعد ما حق بنتك يرجع لكم مش كده ؟
شعرت بالحرج وهو تومئ برأسها ثانية في صمت، تنهد بعمق، هي مجنونة يعلم ذلك، لكنه قلبها الحنون الذي يشفع لها، همس ثانية برقة :
– معلش، اعذريها، صعب بالنسبة لها تتخيل إنك ممكن تكوني لحد غير ابنها، مع الوقت هتتقبل الأمر الواقع وتتفهم الموقف، خصوصا إنك مش هتبعدي عنها، لا إنت ولا ملك، مالهاش غيركم زي ما قلتِ لي، ودايما حاولي تراضيها، بس سيبيها تاخد وقتها وتهدى، أنا مقدر شعورها .
رفعت عينيها إليه في دهشة، فابتسم لها ورد على سؤالها الصامت بلهجة مداعبة :
– أيوة مقدر، لما طلبتِ مني تزوريها ولما وصلتك وطلعتِ، دقايق قليلة بس ماكنتش قادر أتحملها، قلت لك هالف بالعربية بس ماقدرتش، فضلت واقف تحت البيت مستنيكي، كل دقيقتين أبص في الساعة، ولما لقيتك بتتصلي استغربت بس حمدت ربنا إنك نازلة لي تاني بسرعة .
لمعت عينيها بنظرة حب فهمس ثانية :
– عاجبك كده ؟ خليتيني مجنون ؟
دفنت رأسها في صدره ثانية كطفلة صغيرة فقال بمرح :
– طيب يعني جننتيني شوفي لي حل، كده ما ينفعش .
ضحكت بصوت مكتوم فرفع وجهها نحوه يتأمل آثار الدموع في عينيها وهمس :
– بحبك .
ابتسمت بخجل ثم ردت بخفوت شديد لا يكاد يسمع صوتها :
– أنا كمان بحبك .
عقد حاجبيه وهتف بسرعة :
– إيه ؟ ما سمعتش ؟ إنت بتكلمي نفسك ولا إيه ؟
وكزته في كتفه بقبضتها في رفق فأمسك بيدها وقال مشاغبا :
– لا كده كتير، إنت ناوية تكسريه أنا عارف، قولي قلتِ إيه ماسمعتش وإلا مش هاسيب إيدك .
هتفت في خجل :
– وبعدين معاك بقى ! سيب إيدي .
عاندها :
– لا .
اغتاظت :
– أدهم .
تنهد وهمس بلهجة حالمة أضحكتها :
– ياعيون أدهم، ياروح أدهم، أدهم هيموت وهو بيسمع اسمه من بين شفايفك .
عندما سمع ضحكتها هتف بمرح :
– أخيرا نولت الرضا السامي وسرقت ضحكة، بس كده أنام وأنا مطمن وبالي رايق .
ابتسمت في صمت حينما ضمها هو إليه أكثر وانزلق في الفراش لتنام قريرة العين بين ذراعيه، تداعب أذنيها سيمفونية دقات قلبه باسمها، ويحوطها دفء صدره .
********
مرت الأيام سريعا، في نفس اليوم الذي قرر (أدهم) زيارة والديه فيه أعطى (كمال) الضوء الأخضر لـ (فتحي) لينفذ مهمته .
كانت (جمانة) في منزلها تتابع أعمالها اليومية، وبعد أن انتهت وجدت بضعة مظاريف بريدية موضوعة على طاولة بجوار الباب بإهمال، قررت أن تتسلى فيهم، فتحت البعض وكانت في الغالب إعلانات، وجدت في وسطها جواب الإخطار البنكي الدوري الذي يأتي للمودعين بانتظام، كان باسمها فابتسمت، ما الجديد ؟ لماذا يصرون على إرسال هذه الخطابات على الرغم من أنها لا تفعل بها شيئا ! فتحته من باب الفضول لتجد مفاجأة بانتظارها، حسابها متضخم بشدة، فعلى الرغم من بيعها للأرض إلا أنها تعلم ثمنها جيدا وتعلم أنه مودع في حسابها، أما الآن فالحساب مضاعف كأن الأرض بيعت مرتين، اندهشت للغاية وخطرت في بالها فكرة لم تعلم كيف تتأكد منها ؟ قررت الاتصال بخدمة عملاء البنك لتسأل عن المودعين إن كان ذلك ممكنا، وجاءها الرد أنه منذ حوالي أسبوعين تم إيداع مبلغ مليون جنيه في رصيدها وقبلها بما يقرب من شهر تم تحويل مبلغ مليون جنيه آخر لنفس الحساب، كان الذهول قد بلغ منها مبلغه فاستفسرت عن الحساب الذي تم التحويل منه لتجده باسم زوجها (أدهم جلال الحسيني)، أغلقت الخط وبقيت تفكر وهي لا تعلم ما الذي يمكن أن تفعله، إذن فبعد رفضها الشيك الذي حرره لها عندما وقعوا أوراق الأرض قام بتحويل المال لحسابها بدون سؤالها، لكن كيف أتى برقم حسابها أو علم أي معلومات عنه، عقدت حاجبيها بشدة ثم هتفت فجأة :
– لميا !!
قامت مسرعة لتتصل بشقيقتها وما إن سمعت صوتها حتى بادرتها في لهفة :
– لميا هو أدهم جاب رقم حساب البنك بتاعي منك ؟
ضحكت شقيقتها وهتفت :
– لسه واخدة بالك يامجنونة، أيوة وخلاني وعدته ماأقولش .
سألتها :
– إمتى بقى ؟
ردت بابتسامة :
– يوم ما كنت عندكم بنعمل العقود لما صمم ينزل يوصلني .
فكرت وهي تقول ببطء :
– يعني يوم مارفضت الشيك .
(لمياء) باقتضاب :
– أيوة .
ابتسمت فجأة في حب وشعرت بنفسها تحلق عاليا في سعادة، من أين أتى هذا الرجل ؟ هل هو كائن أرضي بالفعل ؟ وكيف يحبها لهذه الدرجة وتعشقه هي بجنون ؟ طال صمتها لتنتبه على صوت (لمياء) تقول في مرح :
– ياعيني ع الناس السرحانة .
ضحكت وقالت بسرعة :
– لومي عاوزة منك خدمة .
تنهدت (لمياء) في رومانسية وردت :
– اؤمريني .
قالت في مرح :
– ماشي يا حونينة، تعالي خدي ملك بقى النهاردة .
كانت ضحكة (لمياء) هذه المرة طويلة ولم تتمالك نفسها إلا بصعوبة، ثم هتفت في مرح :
– لا مش جاية .
جارتها (جمانة) هي الأخرى فقالت مصطنعة الحزن :
– كده يالومي، أهون عليكي !
ردت بغرور :
– امممممم طيب قولي لي هتعملي إيه وأنا آجي آخدها .
تنهدت (جمانة) في حب وقالت بدلال :
– هاعمل إيه يعني ! ركزي معايا بقى .
ضحكت (لمياء) وهتفت :
– بتقوليها في وشي ببجاحة كده ؟ هيه فاكرة يومها كنتِ عاملة إزاي ؟ خلاص هآجي آخدها، بس كله بتمنه .
ضحكت هي الأخرى وسألتها :
– أي تمن المهم تيجي ، عاوزة إيه بقى ؟
همست في خبث :
– التفاصيل لاحقا .
ضحكت (جمانة) بشدة وهتفت :
– مش بأقولك لسعتي، تعالي بقى بسرعة.
قالت بسرعة :
– طيب طيب، افتحي الباب أنا جيت اهو .
ظلت تضحك معها قليلا ثم أنهت المكالمة وانتظرتها حتى أتت لتأخذ الصغيرة، وبعد انطلاقهما تحولت لنحلة نشيطة تنثر رحيق أزهارها في كل ركن حتى أتمت تحضير كل شيء وجلست في انتظار حبيبها .
********
في نفس اليوم قرر (أدهم) أن ينهي عمله ويتوجه لفيلا والده، لقد أوحشه كثيرا وكذلك والدته على الرغم مما حدث بينهما ، ما إن دخل حتى وجد والدته جالسة تقرأ في أحد الكتب، نعم والدته كانت تعشق القراءة وورث هو عنها تلك الهواية على الرغم من قلة ممارسته لها، شعر بالحنين لذراعيها وبالشوق ليملأ عينيه من رؤيتها، وقف في صمت للحظات يتأملها، ثم توجه نحوها ببطء، سمعت صوت خطواته فرفعت عينيها لتجد صغيرها المدلل أمامها، كانت نظراته تمتلئ بالحنين ونظراتها بالحزن والعتاب، اقترب أكثر ووقف أمامها قائلا في هدوء :
– إزيك يا أمي ؟
ارتجفت شفتاها قليلا ثم ردت بخفوت :
– الحمد لله يا أدهم، إزيك إنت ؟
جلس أمامها على الأرض وهو يثني ركبتيه مجيبا :
– الحمد لله .
ثم داعبها قائلا بمرح :
– وحشتيني يا فيري .
كانت ابتسامتها كسيرة وهي تتساءل :
– بجد يا أدهم ؟ لو كنت وحشتك كنت سألت عليَّ من زمان، بقى لي قد إيه ما شفتكش ؟
شعر بالحزن وهو يجيب :
– يا أمي، إنت مقاطعاني من وقت مااتجوزت، أنا مش عاوز أعاتب او أقول كلام كتير، بس …. أنا يهمني رضاكِ وجمانة كمان يهمها رضاكِ دي بتسأل عليكِ يوميا وعاوزة تيجي تشوفك وتقعد معاكِ بس أنا اللي رافض لأني خايف تجرحيها .
تضاعف الحزن الظاهر على وجهها وانخفض صوتها أكثر وهي تقول :
– خايف عليها مني ؟ للدرجة دي يا أدهم ؟
لم يجد مايقوله، نعم هو يخاف جرحها، لن تتحمل قسوتك أمي أو تكبرك ولا يمكنني التسبب لها في أي أذى، غير الموضوع وسألها في مرح :
– أمال فين سارة ؟
هزت رأسها بلا اهتمام وردت :
– برا بتعمل شوبينج، واضح إن مراتك مش عاوزة تاخدك إنت بس في صفها .
عقد حاجبيه ولم يفهم فسألها :
– قصدك إيه يا أمي ؟
أجابت في ضيق :
– يعني الأول إنت تصمم تتجوزها بعدين أبوك يوافق ويدافع عنها وكمان أختك استنى لما تشوفها عشان تعرف زيارة واحدة لمراتك عملت فيها إيه ؟
ظل على عدم فهمه، لكنه تخطى الأمر وأراد سؤالها عن موضوع العقد الضائع، بادرته هي قائلة :
– أدهم تقدر تخلي أخوك آدم ييجي البيت هنا ؟
تطلع إليها في دهشة ونبض قلبه بقوة، هل يمكن … ؟ سألها بسرعة :
– ليه يا أمي ؟
ترددت وبدا عليها نوع من الخجل والاستياء وهي تجيب :
– لقيت الكوليه اللي كان ضايع .
ابتسم وتنهد في ارتياح، قال :
– سارة ؟
تطلعت إليه في دهشة وهتفت :
– إنت عرفت إزاي ؟
رد :
– كانت عندي يومها عاوزة تعرف اللي حصل وفجأة لقيتها نطت من مكانها وبتقولي الكوليه ده كان معايا .
شعرت بالخجل أكثر وقالت بخفوت :
– أنا مش عارفة أقوله إيه ولا أبرر الموقف إزاي .
شعر بالسعادة تغزوه، وفي نفس الوقت كانت الدهشة تملؤه، ليست هذا والدته أبدا، بها نوع من الخنوع والتواضع الذي لم يكن أبدا سمْتَا لها، ابتسم ورد في هدوء :
– انا هاتصرف يا أمي، آدم طيب جدا لدرجة ماتتخيليهاش، عارفة لو كان العكس وأنا مكانه كان التصرف هيبقى مختلف، بس لأنه آدم أنا عارف هو رد فعله هيبقى إيه .
رفعت عينيها إليه وسألته في أمل :
– تفتكر؟
اتسعت ابتسامته وهو يجيب :
– أنا متأكد مش بس أفتكر .
سمعا صوتا عند بوابة المنزل، التفتا إلى المدخل ليجدا (سارة) ، تطلعت إليها الأم في صمت وإن كان به لمحة استياء، أما (أدهم) فقد ابتسم ابتسامة واسعة وامتلأت عيناه بمزيج رائع من الحنان والفرح، ما إن رأته حتى هتفت في مرح وهي تقبل عليه :
– أدهم، أخيرا جيت، وحشتني .
تطلع إليها سعيدا للغاية وقال :
– سارو تصدقي ماعرفتكيش ؟ اتحجبتي من إمتى ؟
ابتسمت هي الأخرى في سعادة :
– من بعد مازرتكم ؟ جمانة .
ظهر الحنان في عينيه لدى سماعه اسمها ونبض قلبه بقوة، هاهي حبيبتي تستحق ذلك العشق الذي يصول ويجول بداخلي، وللمرة المليون أعلم أن اختياري كان موفقا، جذب شقيقته إليه وقبل رأسها في حنان قائلا :
– مبروك يا سارو، بجد فرحان أوي إنك أخدتي القرار ونفذتيه، ربنا يثبتك ياحبيبتي .
صعد بعدها (أدهم) لوالده الذي شاركه دهشته بسبب تغير أحوال والدته لكنه كان أيضا سعيدا بها، قص عليه ما حدث لـ (دينا) والذي كان سببا في موت والدها المفاجئ للجميع، شعر بالشفقة، فبالرغم من كونها هي هي وفعلت الكثير لتؤذيه وتؤذي حبيبته لكن تلك النهاية مفجعة حقا، ووالدها الذي كان يحترمه راح هو أيضا ضحية، قضى معهم بعض الوقت ثم عاد لمنزله ليجد مفاجأة حبيبته من أجله.

error: