خارج أسوار القلب

الفصل الثامن عشر

*************

بعد خروج الرجلين من الفيلا انطلقت (فريدة) تصرخ وتصيح في زوجها بغضب وهو مكتفي بالصمت، تطلع إليها كثيرا وبدا أنه لا يسمع حرفا مما تقول، هاهو يخذل ابنه للمرة الثانية ويكمل مسلسل خذلانه بمحاولة حرمان ابنه الآخر من المرأة التي أحب، تركها تفرغ شحنات تكبرها وغرورها ووقف، نظرت إليه في دهشة لكنه اتجه نحوها ثم تخطاها خارجا من المكتب، وصعد لغرفته مغلقا بابها عليه بإحكام، كان يود تفريغ ذهنه من كل المنغصات والأحداث، أراد التفكير بصفاء في كثير من الأمور التي تحتاج لحسم، راجع حديث ابنه (آدم) هل يقسو بالفعل على (أدهم) وستكون نتيجة ذلك هي ابتعاده بلا عودة ؟ لمَ صمت بالأسفل عندما صرخت زوجته في وجه ابنه وآذته واتهمته بالغيرة والكره والسرقة للمرة الثانية ؟ لمَ يخذله دوما ويكسر شيئا بداخله في كل مرة، ابنه الذي سامحه في المرة السابقة لمجرد أن نظر في عينيه وهمس باسمه، يا إلهي لما يشعر بالضعف ؟ شعر بنبضات قلبه تتعالى وتكاد تخترق أذنيه لم يتمالك نفسه فاستند لأحد المقاعد بالغرفة ومنه للحائط متجها للباب وما إن فتحه حتى وجد (فريدة) خلفه تهم بطرقه رفع عينيه إليها في ألم بادلته هي بالقسوة ، ثم هوى فاقدا للوعي عند قدميها تصاحبه صرختها الملتاعة باسمه.
********
لحق (أدهم) بأخيه في سيارته واستقلها بجواره، جلس داخلها (آدم) صامتا يعتصر عجلة القيادة بكفيه، مشاعره كانت مزيجا من الألم والحزن والغضب مع شعور طاغ بالانكسار واليتم، ربت أخوه على يده برفق فالتفت ينظر إليه، كانت عينيه لوحة مجسدة لعذاباته التي قرأها (أدهم) في لحظة، حاول قول شيء فخرجت حروفه متحشرجة خافتة ليس بينها رباط، قاطع حشرجاته رنين هاتف (أدهم) بشكل مفاجئ جعله ينتفض هو وأخيه في عنف، التقط (أدهم) هاتفه ليرى رقم هاتف الفيلا الأرضي، رفع عينيه نحوها في قلق متسائلا عن السبب الذي يدعوهم للاتصال به من هذا الهاتف، فتح الخط ليجد صوت والدته صارخا :
– الحقني يا أدهم باباك وقع في الأرض ومغمى عليه.
كان صوتها عاليا وصل للجالس إلى جواره فالتقت أعينهما في نظرة جزعة فتح بعدها كلاهما الباب المجاور له وقفز خارج السيارة متجها نحو الفيلا، دخلا إليها وصعدا السلم قفزا حتى غرفة والدهما، رأت (فريدة) (آدم) يعدو بجوار ابنها فشعرت بالضيق لكنها صمتت، كانت خائفة على زوجها ربما كانت قاسية همها نفسها أولا لكنها تحب زوجها حتى وإن عاملته بخلاف ذلك، حمل الرجلان الأب ووضعاه في سريره ثم اتصل (آدم) بأحد أصدقائه الأطباء الذي جاء على الفور، طمأنهم الطبيب أن الأمر لا يعدو عن كونه نوعا من الضغط العصبي تعرض له مؤخرا فنظرت الأم لابنها في عتاب جعله يخفض عينيه أرضا في ألم، طلب منهم الطبيب أن يعتنوا به وبراحته وألا يبلغوه أية أخبار سيئة يمكن أن تضايقه، كتب له بعض الأدوية وانصرف، ومعه انصرف (آدم) بعد أن إطمأن على والده، بقي (أدهم) بجواره وهو يمسك كفه وينحني مقبلا جبهته قائلا في حزن وبصوت متألم :
– سامحني يا بابا، أرجوك ماتزعلش خليك معايا.
هتفت فيه أمه بعصبية :
– عاجبك كده يا أدهم، هي دي آخرتها ؟ هتموت أبوك من القهر ؟
رفع عينيه إليها وقال في حزن يحمل لمحة غضب :
– أنا برده يا أمي اللي قهرته وأهنت ابنه قدام عينيه واتهمته بالسرقة، أنا اللي وقفت في طريق سعادة ابنه التاني ومش عاوزه يتجوز اللي اختارها ؟ راجعي الموقف كويس يا فريدة هانم .
صاحت فيه بغضب :
– انت اتجننت يا أدهم ؟ إزاي تكلمني بالطريقة دي ؟
زفر في حنق و رد :
– تقريبا اتجننت، ماهو لما تبقى دي طريقتك في تربية ولادك ومعاملة ابن جوزك اللي هو أخوهم الكبير أبقى اتجنن، ارحميني يا أمي وارحمي بابا، من فضلك بابا محتاج يرتاح يلا نخرج ونسيبه بلاش نتعبه أكتر.
تطلعت إليه في غضب لكنها صمتت لخاطر زوجها المريض فاتجهت لباب الغرفة يتبعها (أدهم) والذي التفت كالصاروخ عندما سمع همسا باسمه، كان والده قد أفاق من إغماءته وناداه، حدق في والده في فرح واقترب منه وكذلك والدته التي هتفت :
– حمدالله على سلامتك يا جلال، كده ترعبني عليك ؟
تطلع إليها في صمت ثم قال بصوت خافت لا يكاد يسمع :
– سيبينا لوحدنا يا فريدة.
نظرت إليه في دهشة ثم قالت في عصبية :
– ليه ياجلال ؟ بعد خوفي عليك ده كله تقولي سيبينا لوحدنا ؟
نظر إليها نظرة جمع فيها كل مااستطاع من الصرامة الموجودة بداخله فبادلتها بنظرة عصبية ثم التفتت مغادرة الغرفة في غضب، حاول هو النهوض فأسرع إليه ابنه هاتفا :
– لا يا بابا خليك مستريح.
قال والده :
– لا يا أدهم ارفعني بس شوية عاوز أقعد.
ساعده على الجلوس في وضع مريح ثم جلس في مواجهته على الفراش والتقط يده يقبلها قائلا :
– كده يا بابا؟ كنا هنموت من القلق .
لم يهتم الرجل بما يقوله ابنه لكنه سأله :
– أخوك فين يا أدهم ؟ مشي وسابني ؟
رد (أدهم) مدافعا :
– لا يا بابا، آدم كان معايا برا لما أمي اتصلت ورجع معايا فورا وهو اللي جاب الدكتور وفضل معانا لحد من 10 دقايق بس اضطر يمشي عشان يوسف.
ابتسم والده ابتسامة حنان خافتة ثم قال له :
– أدهم، هأسألك سؤال وترد علي بصراحة ووضوح اتفقنا ؟
أومأ (أدهم) برأسه وهو يرد :
– طبعا يا بابا !
صمت الرجل لحظة ثم سأل :
– إنت بتحب جمانة بجد ولا مجرد نزوة أو حاجة غريبة مش متعود تشوفها فشدتك ليها، حاجة جديدة عليك وعاوز تجربها زي وانت صغير لما صممت نجيب لك كمبيوتر عشان تفككه وتعرف هو عبارة عن ايه ؟
نظر إليه ابنه بجمود ثم قال بهدوء يحمل الكثير من الغضب الذي حاول كتمانه :
– إنت شايفني طفل يا بابا ؟ المهم إني لقيت لعبة جديدة وشبطت فيها وعاوزها ؟ هي دي فكرتك عني بعد السنين دي كلها ؟
رد والده بلهجة دفاعية :
– لا طبعا يا أدهم مش دي فكرتي والمسألة مالهاش علاقة بالسن قد حبك للتجديد والحاجات الغريبة اللي مش متعود عليها، يا أدهم لو ده فعلا اللي حاصل هنا يبقى بتظلم نفسك وتظلمها قبلك، الست مش بتستحمل إنها تكون مجرد تجربة في حياة الراجل، بتحب تكون هي حياته ، لو حست إنك اتجوزتها لمجرد الاختلاف بينكم هتتعذب معاك وتكسر قلبها لو هي فعلا بتحبك.
قال في نفسه ساخرا : هذا إن كانت تحبني؟ أنا بالنسبة لها مجرد وسيلة دفاعية تحتمي بها، لكنه علق ردا على كلام والده :
– يا بابا أنا قلت لك إني لقيت معاها مشاعر عمري ماكنت اتخيل إني اعيشها، مشاعر مجنونة بتتحول من الحاجة لنقيضها في ثواني، بأحس في وجودها إني طفل مشاغب، أبقى عاوز أقولها بحبك وفي نفس الوقت استفزها وأغيظها وأضحك من جوايا زي الأطفال، حاجات جميلة أوي عاوزين تحرموني منها لمجرد فوارق مادية سهل أوي أستغنى عنها.
كان يتطلع إليه في حنان وهو يتحدث عنها لم يلبث أن تحول إلى ذهول عندما نطق جملته الأخيرة فسأله في قلق :
– تقصد إيه بتستغنى عنها يا أدهم ؟
تنهد مفكرا ثم رفع عينيه لأبيه وهو يجيب :
– أقصد إني هاسيب البيت واعيش في شقة عادية واسيب إدارة الشركة لآدم وأشتغل موظف فيها وكده ميزانكم هيتظبط، أنا مرتبي الفترة اللي فاتت كان شبه غير مستخدم وبيتراكم في حسابي وخلاص وأعتقد إني أقدر أبتدي حياتي بيه معاها.
شعر والده بقبضة باردة تعتصر قلبه فقال في حزن :
– هتسيبنا عشانها يا أدهم ؟ هو ده قرارك ! هو ده الحل اللي هداك له عقلك، تبيع أهلك ؟
لم يجد ردا فصمت، لمَ قال ما قاله لوالده خاصة وهو في هذه الحالة، هل كان فقط يبثه أوجاع قلبه عله يشعر به ؟ هل يمكنه بالفعل تنفيذ ما قاله للتو ؟ سمع والده يقول له :
– أدهم، أنا مش هأقدر اوافق على جوازة زي دي وأقولك أنا راضي عنها، لا هي تنفع لك من الناحية الاجتماعية ولا المستوى المادي ده غير جوازها السابق وبنتها ولا حتى إنت تنفعها بعصبيتك وشدتك واندفاعك، ومصيره ييجي يوم تحسوا بالفوارق دي لأن التوافق على كل المستويات حاجة ضرورية في أي جواز.
شعر (أدهم) بالألم هاهو والده يصر على رأيه ويحاول منعه من الاختيار الوحيد الذي أراده، لقد ترك المجال الذي أحبه من أجله، ليقف بجانبه ويعمل في الشركة ويديرها، العمل الذي يعتبر الأول في حياة أي رجل، قاطع تفكيره والده بعدما لاحظ صمته وعلامات الألم المرتسمة على وجهه وهو يستطرد :
– أدهم، أنا قلت لك إن التوافق مهم، لكن أنا هأسيبك تخوض التجربة بنفسك.
رفع (أدهم) عينيه إليه في أمل فأكمل بابتسامة حانية :
– أيوة يا أدهم، إنت اخترت وهاسيبك تتحمل نتيجة اختيارك، لو التجربة نجحت يبقى خير، ده شيء يسعدني إنك تكون مبسوط في حياتك، ولو فـ ……
قاطعه (أدهم) بلهفة :
– مستحيل يا بابا، أنا واثق في اختياري وعارف أنا باعمل وهاعمل إيه.
تطلع إليه والده في حنان وهو ينحني مقبلا يده ثم يرمي بنفسه بين ذراعيه فربت على كتفه، ثم سأله :
– إنت عرضت عليها الجواز ؟
ابتعد عنه ثم أومأ برأسه إيجابا في خجل فابتسم الأب واستطرد :
– وهي رأيها ايه ؟
أجاب في خجل أكبر وتردد :
– لسه مش عارف، اديتها مهلة تفكر.
رفع والده حاجبيه في دهشة ثم سأله :
– يعني إنت مش عارف قرارها وعامل الفيلم ده كله ؟
ارتبك (أدهم) وقال مدافعا :
– ماهي لو ماوافقتش هاتجوزها غصب عنها، يعني في جميع الأحوال في جواز.
ازدادت دهشة الأب وهو يتطلع إليه ثم ضحك بصعوبة رسمت ابتسامة على شفتي ابنه وقال :
– مجنون يا أدهم، للدرجة دي بتحبها ؟
شعر (أدهم) بنوع من الخجل مجددا وهو يجيب :
– وأكتر يا بابا.
ابتسم الأب في حنان وهو ينظر لابنه كأنه يراه لأول مرة، هاهو مندفع مجنون مثابر، عاد يسأله :
– آدم عامل إيه بعد اللي حصل ؟
عاد الارتباك لـ (أدهم) وهو يجيب :
– مش عارف يا بابا، كان شكله متضايق جدا وحزين ولما أمي كلمتني عشانك جري معايا وجاب الدكتور وفضل جنبك شوية ومشي، مش عارف هو عامل ايه دلوقتي.
أومأ والده برأسه ثم قال :
– طيب يا أدهم روح له اطمن عليه وقول له ما يزعلش مني، سكوتي كان مراجعة حسابات ماكانش قصدي أخذله.
رد (أدهم) وهو لا يفهم :
– حاضر يا بابا، المهم تقوم لنا بالسلامة.
تنهد الرجل بعمق وهو يستعيد ذكرياته مع والدة (آدم) تلك المرأة الحنون التي لم تعش طويلا لترى ابنها الرجل الناجح الحنون الذي يهتم بالجميع ويحتويهم على الرغم من فقدانه هو نفسه للدعم والحنان.
********
اتصلت (دينا) بـ (هشام) وطلبت مقابلته فدعاها لمنزله لكنها رفضت واتفقا على اللقاء في النادي الذي تذهب إليه، كان اللقاء ليلا وحرصت أن تتأنق أكثر من المعتاد، هي تريد ولاؤه الكامل ليس فقط من الناحية المادية فهي ستدفع له مهما طلب لكنها تريد إبهاره كأنثى، تريده ذليلا لجمالها وأنوثتها متضرعا من أجل رضاها، وقد كان فما إن وقع بصره عليها من بعيد حتى تدلى فكه في بلاهة شديدة، رأته هي فتعمدت تجاهله وظلت ترقص مع أحد أصدقائها أمامه متمايلة في إغراء خلب لبه، اتجه إليها فتظاهرت أنها رأته للتو وتركت صديقها متجهة إليه مادة يدها فتلقفها في لهفة وهو يهتف في تملق :
– إيه الجمال ده، كتير كده أوي، إنت متأكدة إنك من الأرض مش من الجنة ؟
ضحكت بميوعة تاركة له يدها يلهث عندها وقالت :
– أكيد من الجنة بس اتكرمت عليكم ونزلت الأرض.
ضحك بفظاظة لفتت الانتباه إليهما فأمسكت بيده وجذبته مقربة إياه منها هاتفة :
– تعالى نرقص.
ارتبك وقال في خجل :
– بس أنا مابعرفش أرقص.
ظلت تضحك وهي ترد :
– مش مهم تعرف اعمل أي حركات هتلاقيك بترقص يلا.
وظلت تتمايل أمامه وتجذبه من يده وهو يتحرك معها كالمتخشب، أما هي فكانت ترقص بحرفية عالية وحركات مغرية للغاية أدارت الرؤوس من حولها، و هو كان يتحرك أمامها كالأبله وعينيه لا تنفكان عن متابعة جسدها بتفاصيله المكشوفة وتخيل المغطى منه، كاد لعابه يسيل عليها بالفعل وكم أسعدها ذلك وهي تلاحظ تعبيرات وجهه وهو ينظر لجسدها في اشتهاء مقزز لكنها لم تهتم، بعد انتهاء الرقصة جذبته من يده متجهة إلى إحدى الطاولات في ركن هادئ وجلسا سويا ، سألته في دلال :
– ها ايه رأيك في رقصي ؟
أجاب في شغف :
– يجنن، كلك على بعضك تجنني، أنا مش فاهم إنت بتشتغلي في الشركة دي ليه ؟
تجاهلت سؤاله وقالت :
– ثانكيو بيبي، المهم أنا لقيت فكرة هايلة عشان نعاقب جمانة ع اللي عملته فيك.
انتبه لها وسأله بلهفة :
– بجد ؟ فكرة ايه ؟
ابتسمت في انتصار واقتربت منه وهي تحكي له تفاصيل فكرتها الخبيثة وهو يستمع إليها وعيناه تلمعان في جشع، جشع لأنوثتها ولما سيعود عليه من فكرتها.
********
في مساء اليوم التالي كانت (دينا) جالسة مع والدتها في حديقتهم تثرثر معها بخصوص فكرتها للتفريق بين (أدهم) و (جمانة)، سألتها والدتها باهتمام :
– إنت متأكدة يا دونا إنه هيساعدك ؟ آخر مرة كان زعلان منك جدا.
ابتسمت في غرور وردت :
– مام، هو مايقدرش يزعل مني لأنه بيموت فيا، هو بس غضبان زي الأطفال وحابب يتدلع شوية، وأنا عارفة مفتاحه فين.
قالتها وأطلقت ضحكة ماجنة عالية شاركتها إياها والدتها ثم قالت بعدها :
– خلاص كلميه دلوقتي أما نشوف.
قالت (دينا) وهي تهز كتفيها بلا اهتمام :
– أوك مام.
ثم تناولت هاتفها واتصلت بأحد الأسماء المخزنة عليه، انتظرت الرنين بصبر وهي تنقر بأظافرها على الطاولة بجوارها، أتاها صوت ذو نبرة حازمة :
– دونا، أخيرا افتكرتيني؟
ردت بدلال :
– هو أنا أقدر أنساك يا بيبي، ظروف كده على حاجات كانت شاغلاني وباظبطها.
شعرت بابتسامة على شفتيه وصوته يقول في شغف :
– وحشتيني أوي، عاوز أشوفك.
ابتسمت في ظفر وأجابت :
– شور يابيبي، وقت ماتحب هاجيلك، بس عاوزة منك خدمة الأول.
قال بسرعة :
– أؤمريني.
جاءه ردها سريعا :
– انتو لسه بتسجلوا مش كده
جاوبها صمته فأسرعت تبرر :
– عاوزة عينة من صوت اتنين كده هتقدر تجيبهالي ؟
لم تجد سوى الصمت مرة أخرى فعقدت حاجبيها في قلق وكادت تقول شيئا لولا أن أتاها صوته يقول في صرامة ولهجة من اعتاد أن يأمر فيطاع :
– تعالي يا دونا ولما تيجي هنتكلم في الموضوع ده وتشرحي لي التفاصيل.
قفز شعور مبهم بالخوف إلى قلبها لكنها ضحكت بدلال وردت :
– طيب يا بيبي، ويت فور مي Wait for me في مكاننا المعتاد.
وافقها ثم أغلقت الخط لتلمح علامات التساؤل على وجه والدتها فقالت :
– عاوز يقابلني ويعرف التفاصيل.
سألتها أمها :
– اممممم وهتقولي له ؟.
ردت بسرعة :
– لا طبعا مش كلها، هاديله فكرة سريعة كده وأألف الباقي، مش من مصلحتي يعرف إني بأعمل حاجة عشان أتجوز واحد تاني دلوقتي، خليها بعدين .
هزت الأم كتفيها بلا اهتمام وتابعتها بنظرها وهي تنهض متجهة للفيلا قائلة :
– هاطلع اغير وانزل اروح له، مام بليز دونت تيل داد Don’t tell dad يمكن أتأخر النهاردة.
قالت أمها :
– شور يادونا.
قابلت والدها عند مدخل الفيلا فابتسم لها قائلا :
– دينا حبيبتي، أنا رايح أزور عمك جلال تعبان شوية، تيجي معايا ؟
عقدت حاجبيها وهي تسأل :
– تعبان ماله داد ؟
رد في قلق :
– مش عارف اللي عرفته إنه أغمى عليه النهاردة وجاله الدكتور، هو الحمد لله أحسن بس لازم أزوره واطمن عليه.
شعرت أن ذهابها معه سيزيد من قيمتها لدى (فريدة) ووالد (أدهم) لكنها لم تكن تملك من الأمر شيئا الآن فلديها موعد أهم، فما كان منها إلا أن أجابته :
– أوك داد، معلش مش هاقدر آجي تعبانة شوية وهاطلع آخد شاور وانام، ابقي سلم لي عليهم كلهم.
سألها والدها في قلق عليها هذه المرة :
– مالك يادينا ؟ تعبانة من ايه ؟
ردت في ملل :
– مفيش داد مرهقة بس شوية وحاسة عاوزة أنام، سي يو.
تركته ثم دخلت إلى الفيلا لتستعد لموعدها الهام.
********
أوقفت (دينا) سيارتها أسفل تلك البناية الفاخرة في أحد أرقى أحياء العاصمة، ثم ترجلت منها واتجهت للمصعد، ضغطت زر الطابق السابع عشر وهي تعدل من هندامها في مرآته وتخلع سترتها لتبدو من أسفلها ملابسها الشفافة الضيقة، أخرجت أحمر شفاة من حقيبتها وطلت شفتيها الممتلئتين سريعا مما زادها جاذبية ثم نثرت رذاذا آخر من عطرها المفضل، وصل المصعد للطابق المنشود فغادرته متجهة لإحدى الشقق في نهاية الممر، أخرجت مفتاحا من حقيبتها وفتحت الباب ودلفت للداخل، وجدت الشقة مضاءة بأضواء خافتة وتفوح منها رائحة عطرية محببة، تلفتت حولها في اهتمام فلم تلمح أحدا، أغلقت الباب خلفها واتجهت للداخل ملقية سترتها وحقيبتها على إحدى الأرائك في إهمال ثم نادت بصوت ناعم :
– طارق، طروقة إنت هنا ؟
سمعت صوتا من ناحية الشرفة فالتفتت إليها لتجده يدخل منها مرتديا روبا منزليا أنيقا وهو ينفث دخان سيجارته وينظر لها بشغف، يبدو في العقد الرابع من عمره طويلا عريض المنكبين وبدا على جسده أنه يمارس إحدى الرياضات العنيفة، عيناه سوداوين صارمتين تحملان نظرة تشي بالقسوة خاصة مع أنفه الحاد وشفتيه الرفيعتين التهمها بعينيه في ثوان ثم قال :
– دونا، وحشاني يا مزة، تعالي.
مد يده إليها فاتجهت إليه ووضعت كفها في يده فضغط عليها ثم جذبها نحوه وهو يتأملها بجرأة جعلتها تبتسم، ثم قالت في دلال :
– إنت أكتر يا طروقة، من زمان ماكلمتنيش ولا لازم أكلمك أنا ؟
انطلقت من حلقه ضحكة مجلجلة ساخرة وهو يرد :
– إيه يادونا احنا هنضحك على بعض ؟ ماانت عارفة إننا مش بنتقابل إلا لو في مصلحة مش بس للمزاج.
مطت شفتيها في دلال أكبر وردت متظاهرة بالغضب :
– يعني مااعرفش اتدلع عليك شوية يا طاطا ؟
استمر في الضحك وضمها إليه هامسا :
– اتدلعي براحتك ياقمر، هو أنا أقدر.
ابتعدت عنه وسارت تتهادى في خطواتها مثيرة إياه أكثر ثم جلست على أريكة كبيرة والتفت تناديه :
– تعالى اقعد بقى عشان نشوف المصلحة.
رفع حاجبيه في دهشة مفتعلة وقال :
– ياااه مستعجلة أوي ع المصلحة المرة دي يعني !!
تظاهرت بعدم الاهتمام وهي ترد :
– مش أوي تقدر تقول انتقام، تعالى وأنا أحكيلك.
ثم جلست تقص عليه قصة ملفقة عن (جمانة) و (أدهم) وعن رغبتها في الانتقام منهما بعد إهانتها وطردها من الشركة، ثم صمتت في انتظار رده، قال بعد فترة قصيرة من الصمت :
– اممممم يعني الموضوع مزعلك وعاوزة تنتقمي وخلاص ؟ مفيش حاجة تانية ؟
نفت قائلة :
– نو، حاجة تانية زي ايه ؟
رد بذكاء وهو ينظر إليها :
– عاوزاه لنفسك مثلا.
شعرت بالارتباك ولم تجد ردا فضحك مرة أخرى وقال :
– يابنتي عادي، حتى لو عاوزاه لنفسك، أهو زيادة الخير خيرين والمليون يبقى ملايين، مادام أنا وانت زي مااحنا.
قال جملته الأخيرة بلهجة خاصة أصابتها بالرعب لكنها على الرغم من ذلك ابتسمت و ردت :
– أكيد مع بعض يا طروقة.
سألها مدعيا النسيان :
– ها قلتي لي بقى عاوزة ايه ؟
أجابته بسرعة :
– تسجيلات، هاديك الرقمين وعاوزة بس عينة، وأظن الموضوع ده سهل أوي بالنسبة لظابط في مركزك.
فكر لثانية ثم تساءل في خبث :
– اممممم والتمن ؟
ابتسمت في إغراء وردت :
– زي ماتحب.
اقترب منها وقال في شغف :
– أنا بحبك إنتِ.
ولم يمهلها فرصة للرد.

error: