خارج أسوار القلب

الفصل الحادي والعشرون

****************

لملمت (جمانة) أوراقها التي كانت تراجعها وجمعتها في أحد الملفات ثم فركت عينيها في إرهاق وهي تأخذ نفسا عميقا بعدها وضعتها في أحد أدراج مكتبها و أغلقته في إحكام ثم التقطت حقيبتها وقامت لترحل، كانت تبحث في حقيبتها عن مفاتيحها كالمعتاد وهي تسير باتجاه الباب عندما لمحت شخصا يقف أمامه ويسده بجسده، رفعت عينيها لترى الواقف فكان (أدهم) يتطلع لها بطريقة غريبة أشعرتها بالخجل، خفضت عينيها أرضا وهي تتساءل :
– انا استأذنت من دكتور آدم عشان أمشي بدري شوية.
تجاهل ماقالته تماما ودلف للمكان وهو يسألها :
– رأيك إيه ؟
رفعت عينيها إليه في دهشة واستغراب ثم تذكرت عرضه للزاوج منها فغزت الحمرة وجنتيها بشدة وخفضت عينيها مجددا، بدا وكأنها تنظر لحذائه، شعر هو بالسعادة وهو يتطلع إلى وجنتيها الحمراوين و أحس بالنشوة أن يكون هو السبب، سألها مرة أخرى ممازحا :
– إيه ؟ عاجبك ؟
نظرت إليه بدهشة مرة أخرى وتساءلت :
– هو ايه ؟
حرك قدمه مشيرا لحذائه وقال في مرح :
– الشوز ؟ ملاحظ إنك بتبصي له كتير ؟
شعرت بالحرج مرة أخرى واستغربت مرحه وكأنما يسعده أن يسبب لها كل هذا الارتباك فابتسمت ولم ترد، عقد ذراعيه أمام صدره وتنحنح ثم سألها مرة أخرى :
– هافضل مستني كتير؟ رأيك ايه ؟ هتتجوزيني ولا هتتجوزيني ؟
ابتسمت في خجل لدعابته فتطلع إليها بحنان، استطرد مستفزا إياها :
– ماعنديش وقت المأذون مشغل العداد .
تطلعت إليه في دهشة هذه المرة وكتمت ضحكتها بصعوبة فوجدته ينظر إليها باحتواء أشعرها بالدفء، عادت تطرق برأسها أرضا وهي لا تجد ما تقوله، فسكت تماما، كانت في هذه اللحظة تراوده أفكار عدة، هل ترفضه لكنها تستحي من إخباره ؟ هل يمكنه بالفعل إن هي رفضت أن يجبرها على الزواج منه ؟ وإن أجبرها هل بإمكانه جعلها تحبه يوما ؟ يا إلهي لما هي صامتة هكذا ؟ رفعت رأسها أخيرا وقالت في تردد :
– باشمهندس أدهم، أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه ؟ يمكن حضرتك ماتعرفش علاقتي بحسام الله يرحمه كانت عاملة ازاي ؟ وإزاي صعب بالنسبة لي إني أضطر أرتبط بحد بعده حتى لو بشكل صوري أو مؤقت ؟ لما الظروف تضطرك تعمل حاجة كنت رافضها بيبقى صعب عليك أوي تاخد قرارك فيها وتوافق الظروف أو تتحداها، ومش الكل عنده القدرة ع التحدي ده أو إنه يقف في وش الظروف ويرفض إنها تجبره على حاجة ضد رغبته، أنا مش باقول لحضرتك الكلام ده عشان قصدي أزعلك او أرفضك، أنا بس باوضح لحضرتك إني فعلا مش هاقدر استمر في الجوازة دي للأبد، حضرتك لما عرضت علي الجواز قلت لي صوري أوك لكن ينتهي بعد مدة دي معترض عليها، مش عارفة إيه سبب اعتراضك إذا كنت وافقت على أول شرط ؟ فأنا باعيد عليك طلبي تاني، حضرتك وافقت تقف جنبي وتساعدني وأنا مش لاقية كلام يكفي إني أشكر حضرتك بيه على موقفك ده فأرجوك كمل جميلك للنهاية واوعدني وقت مااطلب منك حريتي تديهالي.
كانت كلماتها كالسياط، حدث نفسه : ألا تعلم تلك المرأة ماتعنيه له ؟ لكنني لن أتركك مهما فعلت وطالما حييت أنت امرأتي أنا وستكونين لي أنا فقط، تخطى كل كلامها وحاول أن يضفي بعض المرح على لهجته وهو يسألها :
– يعني موافقة ؟
نظرت إليه في دهشة مرة أخرى وهي لا تدري ما به ولمَ يبدو كطفل يلهو هكذا ذلك الذي كان يرعبها، وجدت نفسها تبتسم في خجل لم تدري لمَ شعرت به وهي تومئ برأسها إيجابا في صمت وتعود للنظر لحذائه مرة أخرى، أما هو فكاد يطير فرحا أو يضمها ويحملها ثم يدور بها في المكان لولا بقايا عقل منعته، توقفت الكلمات في حلقه وشعر بها تسده فتنحنح بقوة جعلتها تنظر إليه في قلق لكنه ابتسم وقال :
– لا لا ماتقلقيش ده حاجة كده وقفت هنا.
قالها وهو يشير لحلقه عبر عنقه ثم قهقه بلا داعي وهي تقول في سرها : إنه مجنون بالفعل، عاد يسألها في هدوء مفتعل :
– طيب آجي البيت إمتى ؟
ردت في خفوت وهي تشعر بخجل شديد :
– هاكلم ماما وأرد على حضرتك.
حضرتك ؟ فكر فيها، ثم ضحك بداخله وقال لنفسه : سأريك، فقط انتظري، سأل بنفس الهدوء :
– أوك، تاخدي تليفوني عشان تبلغيني ولا ايه ؟
ردت بسرعة :
– لا لا هابقى اقول لحضرتك بكرة بإذن الله.
رفع أحد حاجبيه في سخرية وشعر بالغيظ فأراد إحراجها أكثر، تقدم منها خطوة فتراجعت للخلف بسرعة وهي تنظر إليه في توتر فقال في دهشة مصطنعة :
– إيه ؟
ردت في حياء :
– إيه إيه ؟
عاد يقهقه مرة أخرى وهي تشتعل غيظا أمامه ثم قال :
– رايح لأخويا فيها حاجة ؟
أفسحت الطريق أمامه ومر بجوارها ببطء سعيداً بالخجل المرتسم على وجهها ثم ابتسم في ارتياح .
********
حُدد الموعد وذهب مع أخيه وابنه، والده كان مريضا ووالدته لازالت مصرة على رفضها، لم يهمه الأمر فحبيبته كفيلة بأن تجعل تراب الأرض يعشقها فكيف بأمه، سألته والدتها عن أبويه فتعلل بمرض والده وبقاء والدته إلى جواره، دعت له بالشفاء وإن لم تقتنع بما قاله، اتفقوا على موعد عقد القران وصممت (جمانة) ألا يشتري لها ذهبا أو ماشابه فهي تعلم جيدا أنه ليس زواجا حقيقيا لكنه أصر فصممت على رفضها، جاراها وقتها وهو ينوي أن يعلمها درسا لاحقا، أخبرهم بصداقها فصعقت، ظلت تتطلع إليه في دهشة ممتزجة بالصدمة التي تعلو ملامحها، ما الذي يفعله حاولت الاعتراض فمنعتها نظرته الصارمة كأنه يقول : ” هذا أمر بيننا “، كانت شاردة خائفة قلقة مترددة أما والدتها وشقيقتها فكانت سعادتهما جمة به وبحبه الواضح على ملامحه والذي كانت هي الوحيدة التي لا تراه، أخبرهم أنه بدأ في تجهيز شقة مناسبة لهما قريبة من منزلهم هذا، هي ترغب في البقاء هنا فوالدتها لديها منزل بالفعل لكنه رفض هذا الأمر تماما وأصر على رأيه ولم تفهم السبب في ذلك فقبلت على مضض، ثم أنهوا اتفاقاتهم .
جاء يوم عقد القران وأصر والده على حضوره وبصحبته (سارة) ، وكم كانت سعادة (أدهم) كبيرة بوجود أبيه، تساءلت (جمانة) كثيرا عن سبب غياب والدته، وخمنت السبب، لم تكن ترغب في مشاكل كثيرة فاكتفت بالتأكيد في نفسها على قرار الزواج المؤقت حتى يعود هو لبيته مع أبويه، وبعد انتهاء اليوم وعقد قرانهما والذي تلاه حفل عشاء عائلي هادئ عاد كل منهم إلى منزله وذهبت الصغيرة مع خالتها وجدتها، حمدت الجدة الله أن كانت نائمة حتى لا تتسبب في مشكلة وتجعل زوج ابنتها يأخذها معهما .
عاد والده لبيته بصحبة (آدم) الذي أوصله بسيارته للفيلا فالتفت يتطلع بحنان للصغير (يوسف) النائم على الكرسي الخلفي بجوار (سارة)، ثم عاد يلتفت لابنه الصامت، نعم يعلم أنه غاضب منه، لم يأت وقت تطييب الجراح لكنه اكتفى بأن جذبه إليه وقبل رأسه في حنان جعل الدهشة تكتنفه وهو يتطلع إليه في صمت، دار بين أعينهما حديث مطول خفض بعدها (آدم) عينيه وهو ينتظر هبوط والده وأخته ليبتعد مرة أخرى، ترجل الأب من سيارة ابنه ومعه ابنته تتابعهما عيني (فريدة) من شرفة غرفتها في حنق شديد، رحل (آدم) ودخلت (سارة ) ووالدها إلى الفيلا بهدوء، تلفت حوله فلم يجد زوجته، ابتسم وقال لابنته :
– اطلعي إنت نامي ياسارة، يلا تصبحي على خير.
أومأت برأسها وردت :
– وإنت من أهله يا بابا.
ثم اتجه كل منهما لحجرته، ما إن فتح (جلال) باب غرفته حتى طالعه وجه زوجته المحتقن بشدة وملامحها التي خطها الغضب بحِرَفية، دلف للداخل وأغلق الباب خلفه ثم اتجه للفراش ليجلس عليه بهدوء وهو يشعر بإرهاق شديد. سألته في عصبية :
– الهانم خدت ابنك خلاص يا جلال؟ ابني الوحيد يتجوز بالشكل ده ؟ من غير فرح من غير ما نعزم أصحابنا من غير مانفرح ؟
رد عليها بملل، كان لا يريد الحديث بل فقط يطلب الراحة :
– مش مهم فرح يا فريدة المهم هو يكون مبسوط.
ازداد غضبها فهزت رأسها في عنف وهي تهتف :
– كده يا جلال ؟ مش مهم ؟ أمال ايه المهم ؟ نفرح بولادنا إزاي لما جوازهم يبقى في الضل كده ولا فرح ولا ناس تعرف، لما هو بيحبها مكسوف يعملها فرح ليه.
أجابها في عصبية :
– يوووه يافريدة دي رغبتها هي، سيبيه يعيش حياته بقى ولو مالقاش سعادته معاها ابقي اشمتى فيه.
تطلعت إليه بصدمة من كلماته الصريحة، وقالت في حزن :
– أشمت فيه يا جلال ؟ هو ده اللي قدرت تواسيني بيه عشان ماعرفتش أفرح بابني الوحيد ؟
رد في عصبية أكبر :
– وانا مافرحتش بولادي الاتنين، سيبيني في حالي بقى يا فريدة انا تعبان.
نزلت من عينيها دمعة لم يلحظها ثم التفتت مغادرة الغرفة في صمت، تنهد هو في غضب، كان بداخله بركان لو تركه لأحرقها بحممه وهو يحاول كبحه لكنها تفتأ تثيره وتغضبه أكثر ولا تدري أنها بذلك تقضي على الخيوط التي تربط بينهما خيطا تلو الآخر .
********
أضاء (أدهم) النور وهو يدخل خلف (جمانة) إلى منزلهما، كانت تشعر بتوتر لا حد له أما هو فكانت سعادته لا توصف، أغلق الباب خلفهما في هدوء وتطلعت هي إلى الشقة التي أثثها على ذوقه، بدت راقية أنيقة بسيطة، أعجبتها للغاية، وقف خلفها صامتا يتطلع إليها بِوَله، بدت جميلة ورقيقة للغاية في ثوبها الناعم وحجابها الأنيق، ود لو أمكنه أن يأخذها بين ذراعيه ويذيقها خمر عشقه المختزن بداخله لسنوات طوال من أجلها هي فقط، لكنه يعود فيتذكر وعده لها فيكتفي بالصمت، شعرت بالهدوء يعم المكان فالتفتت إليه في خجل جعله يبتسم قائلا :
– أنا هنا مامشيتش.
ابتسمت في حياء ولم تعلق، فاقترب منها لكنها تراجعت للخلف بسرعة جعلته يضحك فتطلعت إليه في غيظ، قال لها :
– في إيه ؟ تعالي بس ماتقلقيش هاوريك أوضتنا .
سألته في صدمة :
– أوضتنا ؟
أومأ برأسه إيجابا في صمت فعادت تهتف :
– لا طبعا، أنا هانام مع ملك في أوضتها وحضرتك خليك في الأوضة التانية.
رد ببرود :
– جملتك دي فيها حاجتين غلط، حضرتك والأوضة التانية .. مفيش حاجة اسمها حضرتك، إنت دلوقتي مراتي مفيش واحدة بتقول لجوزها حضرتك ولا إيه ؟ عندك أدهم ، أدهوم، أبو الأداهيم، أي حاجة تطلع منك، خلي بالك من الموضوع ده كويس عشان مالاقكيش فجأة قدام الناس بتقولي لي حضرتك ويا باشمهندس، ده أولا، ثانيا بقى دي أوضتنا …
وأشار لغرفة مقابلة وهو يكمل :
– أوضتنا، سوا، ماحدش هينام في أوضة لوحده.
ثم اقترب منها وهي تتراجع للخلف حتى اصطدم ظهرها بالجدار، فقال في حزم واضعا ذراعيه حولها مستندا بهما عليه خلفها :
– أوووووضتناااااااا… سهلة مش كدة ؟
شعرت بارتباك شديد أصابه بالسعادة، لم يرد أن يربكها أكثر فابتعد عنها وسألها :
– هتغيري الأول ولا أنا ؟ المفروض هنصلي مع بعض ولا إيه ؟
تطلعت إليه في دهشة وتساءلت :
– نصلي !!
رفع حاجبيه في استهجان و رد :
– آه طبعا نصلي، مش ده الطبيعي في يوم زي ده ؟
وعاد يقترب منها مثيرا توترها مرة أخرى :
– يوم جوازنا، ليلة دخلتنا، بنصلي الأول صح ؟
اتسعت عيناها في ذعر كاد يفقد أعصابه معه وتدوي ضحكته في المكان، أما هي فتمتمت في خوف :
– دخلتنا ؟
لم يتمالك نفسه أكثر فضحك بشدة، أدار لها ظهره متوجها للغرفة وفتحها ثم دخل إليها ليتجه إلى دولاب كبير في مواجهة الباب، التقط منه شيئا ما ثم استدار بوجهه لها وهي تنظر إليه في وجل، وجدته يخلع سترته ويلقيها على الفراش و يبدأ في فك أزرار قميصه فأدارت وجهها في خجل جعله يضحك مرة أخرى وهو يخاطب نفسه : ” سأريكِ جمانة، فقط انتظري “، حمل ملابسه واتجه للحمام الملحق بالغرفة وهتف فيها :
– انا هاغير جوا وآخد شاور، لو اتأخرت روحي الحمام التاني بقى .
أومأت برأسها دون أن تلتفت إليه، ما إن أغلق باب الحمام خلفه حتى تنفست الصعداء ورفعت كفيها لوجنتيها تدلكهما في توتر وهي تهتف بخفوت :
– إنت عاوز ايه يا باشمهندس ؟ مااتفقناش على كده ؟ المصيبة إني باحس قدامك إني متخدرة، أعمل إيه بس ؟.
تنهدت مرة أخرى واتجهت للغرفة، تطلعت إليها بإعجاب فهي كبقية الشقة تتمتع بذوق راق أنيق، توجهت لدولاب الملابس وفتحته، وجدت ملابس (أدهم) فاتجهت للجزء الآخر وفتحته لتفاجأ بالعديد من قمصان النوم وبعض الفساتين الأنيقة جعلتها تتراجع للخلف في صدمة وتغلقه بسرعة لاهثة في عنف، خاطبت نفسها : ” يا إلهي ماذا ينوي هذا الرجل ؟ ” ، اتجهت لباب الدولاب الثالث وفتحته ثم تنهدت في ارتياح فهاهي ملابسها التي أوصت شقيقتها بترتيبها في غرفتها، التقطت عباءة منزلية أنيقة وحجابا ملائما لها والتفتت لتخرج من الغرفة عندما فوجئت به أمامها، كان يبدو وسيما للغاية في منامته الزرقاء الداكنة، بدت كأنما تراه للمرة الأولى، بعض البلل أصاب قميصه فالتصق بصدره وكتفيه مظهرا ذراعيه القويتين، ذقنه خشنة وشعره مبتل وملتصق بجبينه، ودت لو تمد يدها وتعيده للوراء لكنها تنحنحت في ارتباك وقالت :
– كنت هاروح برا لما اتأخرت.
لاحظ نظراتها إليه فابتسم وتطلع لما تمسكه في يديها، احتار أيستمر في إثارة توترها أم يتركها ويكتفي بحصاد اليوم، تنحى من أمام باب الحمام وأشار لها بالدخول، اتجهت للحمام وهو واقف أمامه، ترك لها مساحة كافية فقط لتمر منها بجواره، انكمشت على نفسها وهي تمر من أمامه بسرعة، تطلع هو إليها في صمت، تسلل عطر جسده لأنفها وهي تتخطاه فخفق قلبها، أغلقت الباب خلفها لتتنهد وهي تستند إليه أما هو فابتسم في ظفر واتجه ليتمدد على الفراش في انتظارها .
خرجت من الحمام وهي ترتدي عباءتها وتلف حجابها على شعرها لتجده ممددا أمامها، أدارت وجهها عنه في خجل في حين تطلع هو لما ترتديه ولم يقل شيئا بل نهض واقفا وقال :
– يلا نصلي .
وقفت خلفه في توتر وبدأا الصلاة، سمعته يقرأ القرآن بصوته العميق فشردت بعيدا إلى يوم زفافها إلى (حسام)، فقدت تركيزها وخشوعها وتركت دمعة تسيل من عينيها لم تستطع منعها، أنهيا صلاتهما فالتفت إليها ليجد دمعة تسيل على وجنتها، شعر بالألم يمزقه، هل تذكرت زوجها ؟ حبيبها الأول ؟ أول من أحبت وعشقت ولمست ؟ لم يدر ماذا يفعل فتصرف وكأنه لم ير شيئا، بل وضع كفه على جبينها فانتفضت في عنف من لمسته وكادت تبتعد لولا أن أوقفتها نظرة عينيه الصارمة، فصمتت في وجل وتوجس، وجدته يأخذ نفسا عميقا ثم يقول : ” اللهم إني اسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه “، وجدت ذاكرتها تعود بها للخلف مرة أخرى، ثم تنبهت له يمسح دمعتها الساقطة بأصابعه في حنان، نظرت إليه في توتر وابتعدت عنه بسرعة فابتسم لها مطمئنا، استقبلت هي ابتسامته في صمت، لم تعلم لمَ شعرت بالأمان والهدوء فجأة لكنها استمرت على صمتها، نهض ثم مد يده يساعدها على النهوض عنوة فشعرت بالخوف مرة أخرى، لكنه أدار ظهره لها واتجه ليتمدد على أحد طرفي الفراش مبتعدا قدر الإمكان عن منتصفه وقال في نبرة شعرت بالحزن يتخللها :
– تصبحي على خير.
لم تدر لمَ بدا صوته حزينا في أذنيها هل يحبها بالفعل كما اعتقدت شقيقتها ؟ هل تؤلمه ؟ ردت بخفوت :
– وإنت من أهله.
عاد لها توترها مرة أخرى واستمر هو يتطلع إلى الجدار أمامه في صمت، لم يشعر بها تدخل إلى جواره فانتظر لحظات حتى سمع حركتها تتجه مبتعدة عنه، التفت إليها ليجدها تجلس على مقعد كبير في الغرفة وتريح رأسها للوراء في إرهاق، شعر بالغضب هذه المرة ورغب في استفزازها مجددا فناداها في حزم :
– جمانة.
فتحت عينيها بسرعة وتطلعت إليه في قلق، فأشار إلى الفراش جواره وقال بنفس النبرة :
– مكانك هنا.
هزت رأسها نافية وهتفت في توتر :
– لا طبعا، إنت قلت أوضتنا وسكت، مش هانام كمان ع ….
صمتت في خجل فناداها مرة أخرى :
– جمانة.
رفعت عينيها إليه لتجده يشير إلى جواره قائلا في صرامة :
– مكانك هنا، تعالي نامي فيه حالا.
ردت في ارتباك :
– بس أنا مش …..
وجدته يعتدل في مكانه وبدا كأنه سينهض ليجبرها على النوم إلى جواره، فنهضت بسرعة واتجهت إلى الفراش، عاد يسألها بنفس الحزم :
– هتنامي كده ؟
هتفت بداخلها ” الآن ماذا تريد بالضبط ؟ ” لكنها سألته :
– كده إزاي ؟
أشار إلى حجابها في صمت فتوترت وأجابت :
– أيوة أنا كده كويسة.
سألها بسرعة :
– ليه مفيش شعر ولا وحش للدرجة دي ؟
وجدت نفسها تتطلع إليه بدهشة لتقابلها عينيه الصارمتين المخيفتين، كانت تود قول الكثير لكن لسانها لم يطِعها فاكتفت بأن همست :
– ماتضغطش عليا.
ظل على نظرته الصارمة فكادت تبكي متوسلة وقبل أن تقول شيئا مد يده إليها ونزعه عنها دفعة واحدة لتتناثر خصلات شعرها الكستنائي على وجهها في نعومة، وجد قلبه يخفق في عنف أما هي فانتفضت شاعرة بالصدمة من تصرفه، من يظن نفسه ؟ إن زواجنا صوريا وسيبقى هكذا،” يا إلهي أَعِنّي لما أشعر بالضعف أمامه “، أفاقت على لمسته وهو يرفع خصلة من شعرها ويعيدها للخلف، فنظرت إليه وابتعدت عن يده بسرعة، كانت نظرته إليها تأسر عينيها وتتركها حبيسة عينيه وكأنه يقتحم أسوار حصونها ويكبلها بسلاسله ويغلق عليها أقفاله، لم تستطع الحركة، وجدته يقترب منها فتجمدت كتمثال، اقترب أكثر وتسارعت مع اقترابه دقات قلبها حتى باتت تسمعها في أذنيها ثم وجدته يمد يده إليها ويتخطاها ليلتقط هاتفه من فوق الطاولة خلفها ثم يعود لمكانه قائلا بصوت متحشرج :
– بكرة الجمعة لازم أظبط المنبه، هتصحي للفجر ولا أصحيكي ؟
انتفض قلبها بداخلها مرة أخرى ولم تدر لمَ فعل ذلك ؟ هل تماسك بالفعل أم أنه لم يكن ينوي شيئا منذ البداية وكان يستفزها فقط ؟ شعرت بالحنق الشديد فالتفتت تسحب غطاءا فوق رأسها وتنام قائلة :
– لا هاصحى طبعا لو تحب أصحيك قولي .
نظر إليها في دهشة، ماذا أصابها ؟ ألا تدري ما فعلته بي للتو حتى تغضب أيضا، لقد تماسكت ومنعت نفسي عنها لأجلها بشق الأنفس وهي تغضب، ماذا تريد هذه المرأة ؟ أدار وجهه هو الآخر وأجاب في برود :
– لا أنا باصحى لوحدي.
أغمضت عينيها في ألم ولم ترد، حاولت النوم لكن أنى له أن يزور أجفانها، ظلت مستيقظة وهي تشعر بأنفاسه المنتظمة إلى جوارها، لقد نام كطفل وهي يكاد رأسها ينفجر من قلة النوم والإرهاق والتفكير، نهضت بعد ساعتين من المحاولات الفاشلة للنوم وخرجت من الغرفة بهدوء، بعد خروجها التفت يتطلع للباب في صمت، ثم عاد يلف وجهه للجدار ويحاول النوم دون جدوى، عادت هي بعد قليل وشعر بدفء جسدها يقترب منه، نامت إلى جواره في هدوء دون أن تنام حقيقة، ومر الليل دون أن يغمض لأيهما جفن .
قامت في الصباح مبكرا، كان هو قد نام بعد شروق الشمس أما هي فبعدما غلبها الإرهاق استيقظت فزعة على صوت (حسام) يناديها في أحلامها قائلا في حزن حطم قلبها ” أنت لي جمانة، لا تمنحيه ما امتلكتُه يوما، ستبقين لي حتى آخر نفس يتردد في صدرك، أنتِ ملكي .. ملكي .. ملكي ” وظل صدى صوته يتردد في عقلها حتى فتحت عينيها في فزع لتجد نفسها إلى جوار رجل آخر، اعتدلت في إرهاق وهي تتثاءب ثم قامت من مكانها، شعر هو بحركتها فتجاهلها وحاول النوم مجددا، خرجت من الغرفة بهدوء وتطلعت للساعة لتجدها التاسعة صباحا، قررت أن أمامها وقت كافي حتى يستيقظ ليتناول فطوره ويذهب للصلاة، اتجهت للحمام الخارجي وملأت حوض استحمامه بالماء الدافئ وفقاعات الصابون العطرة ثم استلقت فيه لساعة كاملة، شعرت بإرهاقها يتلاشى وبأعصابها تسترخي فأغمضت عينيها في راحة، عندما تأخرت قام هو من فراشه واتجه خارج الغرفة ليبحث عنها فلم يجدها، وعندما التفت ليعود للغرفة لاحظ باب الحمام المغلق فعلم أنها بالداخل، شعر بالقلق يكتنفه ماذا لو حدث لها شيء، لمَ هي بالداخل كل هذا الوقت ؟ اتجه إليه وطرق الباب برفق ففزعت هي وهتفت :
– أيوة.
سألها باهتمام :
– إنت كويسة ؟
تنهدت وردت :
– أيوة، كنت مرهقة بس فمليت البانيو عشان استرخي شوية.
تنهد هو الآخر في ارتياح ثم تنبه لما قالته : بانيو ؟ إذن فهي …. ، شعر بدقات قلبه تتسارع مرة أخرى فابتعد عن الباب بسرعة، لاعنا إياها ولاعنا قلبه ولاعنا وعده لها، جلس في الغرفة لثوان ثم عادت إليه رغبته الطفولية في إثارتها واستفزازها فعاد إليها وهتف من خلف الباب :
– جمانة لما تخلصي ماتفضيش البانيو .
شعرت بالدهشة فسألته :
– ليه ؟
ابتسم في خبث وأجاب :
– هأخد شاور بعدك.
توترت بشدة لكنها ردت :
– طيب ما تروح الحمام التاني.
قال في عناد :
– لا أنا عاوز ده ونفس البانيو ونفس الماية والصابون، ماتفضيهوش لو سمحتي وخلصي بقى عشان مااتأخرش ع الصلاة، فين الفطار يا هانم ؟
كاد يصلها صوت ضحكاته من خلف الباب وهي تعقد حاجبيها في خجل كعادتها وترد :
– حاضر دقيقة وأخرج أحضر لك الفطار.
أجاب :
– يلا بسرعة.
ثم عاد لغرفته بسرعة وتمدد على الفراش في انتظار خروجها، كان يشعر بسعادة لا مثيل لها كلما أشعرها بالخجل أو استفزها، سمع باب الحمام يفتح فتطلع إلى خارج الغرفة منتظرا إياها، وجدها ترتدي عباءة أخرى رقيقة وقد صففت شعرها المبتل وتركته منسدلا على كتفيها وخصلة منه نافرة على جبهتها قام من أمامها مسرعا واتجه للحمام وأغلق بابه خلفه في شيء من العنف لم تفهمه، فتجاهلته واتجهت لتعقص شعرها بشريطة ملونة رقيقة ثم عادت للمطبخ لتحضر له الفطور، بعد ما يقرب من نصف ساعة سمعته يخرج من الحمام فحاولت أن تناديه ليتناول فطوره لكن لسانها لم يطِعها لتنطق باسمه، شعرت بالخجل وصمتت منتظرة حضوره، أما هو فبدا وكأنه ينتظرها أن تناديه، اتجه للغرفة في صمت، فوجدت نفسها مضطرة للذهاب خلفه لكنها انتظرت قليلا عله يعود، لما تأخر اتجهت إليه لتجده مستقبلا القبلة ويصلي في خشوع، تراجعت للخلف مستندة للجدار المجاور لها وقلبها ينبض بقوة، عادت للمطبخ لتجده يدلف إليه بعد دقائق هاتفا :
– إيه اللي أنا شامه ده ؟؟ امممممم ده بيض ده ولا ايه ؟
ابتسمت وهي ترد :
– أيوة بيض ماله ريحته فيها حاجة ؟
أجابها بمرح :
– أيوة فيها حاجة حلوة.
اتسعت ابتسامتها وقالت :
– طيب افطر يلا عشان ماتتأخرش ع الصلاة، تحب إيه مع الفطار ؟
جلس على مائدة صغيرة تتوسط المطبخ وهو يتساءل :
– إيه مع الفطار ازاي ؟
بنفس الابتسامة أجابت :
– قصدي بتشرب إيه مع الفطار ؟ عصير قهوة شاي نسكافيه لبن ؟
ضحك ورد مداعبا :
– أي حاجة ساقعة بيبس.
بادلته ضحكته بضحكة رقيقة خجول أذابت قلبه وهو ينظر إليها فهز رأسه ورد متصنعا الجدية :
– هاتي نسكافيه .
أومأت برأسها إيجابا وقامت بتحضير كوبين من النسكافيه، حملتهما واتجهت للمائدة، جلست أمامه تتأمله وهو يلتهم طعامه في نهم، أما هو فشعر أنه يأكله بهذا الشكل لأنها فقط من صنعته له، ابتسمت في حنان انقلب لخجل شديد عندما رفع عينيه ووجدها تتأمله ونظرة الحنان تملأ عينيها، فكر: لقد أزال حجرا من السور المحيط بها، ابتسم لها وسألها :
– إيه ؟
ردت بخجل :
– إيه إيه ؟
اتسعت ابتسامته وعادت إليه رغبته الطفولية في استفزازها وهو يتساءل ثانية :
– بتبصي لي كده ليه ؟
ثم تطلع إليها واستطرد بنبرة مغايرة ولهجة ملتفة :
– جعان فيها حاجة ؟
ازداد خجلها وهتفت مدافعة :
– لا لا مش قصدي، بالهنا والشفا.
عاد يأكل من جديد وغمغم :
– آه انا قلت بآكل أكلك ولا حاجة.
ضحكت مرة أخرى برقة فرفع عينيه إليها بنظرة أخجلتها فأطرقت برأسها تتطلع إلى كوب النسكافيه الساخن وتديره بين كفيها على المائدة، نظر إلى الكوب وشعر بالحسرة، تحتضنه بكفيها وتأخذ منه دفئه وهو لا يستطيع حتى لمسها، أنهى طعامه والتقط كوبه ثم قام واقفا قائلا باستياء :
– إنت يا إما مش عاوزة تاكلي معايا يا إما محرجة، وفي الحالتين أنا هاروح اشرب النسكافيه برا وخدي راحتك.
قالها والتفت مغادرا المطبخ بخطوات واسعة وهي تحدق فيه بدهشة، إنه حقا مجنون فهي لا تتناول فطورا في الغالب، لملمت الأطباق ووضعتها في حوض المطبخ ثم حملت كوبها وذهبت خلفه، عندما دخلت لغرفة المعيشة وجدته جالسا يمسك مصحفا ويقرأ في خفوت، جلست في ركن الغرفة تتطلع إليه في إعجاب، لكنه فجأة أقفل مصحفه ورفع عينيه إليها في تساؤل صامت أجابته :
– أنا غالبا مش بافطر باشرب بس قهوة الصبح أو نسكافيه وخلاص.
تطلع إليها في صمت فأطرقت أرضا وهي لا تجد ما تقوله فسألها :
– في حاجة تاني ؟
هزت رأسها نفيا فقال بنبرة تحمل بعض الفظاظة :
– طيب ممكن تسيبيني لوحدي ؟
شعرت بالحرج فقامت خارجة من الغرفة بسرعة، زفر هو في حنق، هاهو يغضبها لكن ما بيده حيلة كيف يخشع ويتدبر في كتاب الله وهي حوله بهذا الشكل ؟ تنهد مرة أخرى ثم عاد للقراءة، خرجت هي من الغرفة شاعرة بالغضب، ما الذي فعلته ليحدثها بهذه الطريقة ؟، توضأت ووقفت على سجادتها لتصلي ركعتي الضحى، دعت الله أن ينير بصيرتها ويفرج همها ويساعدها في حل مشكلتها وأن يحفظ لها صغيرتها، رآها هو تصلي بخشوع وتدعو سمعها تنتحب في سجودها فرَّق قلبه لها، وغضب من نفسه لطريقة حديثه معها، سمع مكبر الصوت في المسجد القريب يبدأ في العمل فعاد للحمام توضأ واتجه للغرفة ليرتدي ملابسه فلم يجدها تلفت حوله بحثا عنها ثم خرج من الغرفة وناداها :
– جمانة ؟
جاءه صوتها من غرفة المعيشة :
– أنا في الليفينج.
اتجه إليها ليجدها تجلس كما كان هو منذ قليل وتحمل مصحفه في يدها وتنظر إليه في تساؤل فقال في حنان :
– أنا نازل، محتاجة حاجة ؟
هزت رأسها نفيا وهي تغمغم :
– لا شكرا.
ابتسم لها ثم غادر المنزل لأداء صلاة الجمعة.

error: