خارج أسوار القلب

الفصل الثلاثون

***********

نعود للخلف قليلا، في منزل عائلة (زيدان) ، كان (كمال) يذرع المكان ذهابا وإيابا في انتظار مكالمة (فتحي)، رن هاتفه فرد بسرعة :
– أيوة يافتحي عملت إيه ؟ … جبتها من مطرح ماسبتها إمبارح؟ … في الجرن الغربي زي ماقلتلك ؟ ….. طيب حلو أوي …. لا أني هاكلمه مالكش إنت دعوة …. باقولك ايه خلي بالك دي بنت أخويا ماحدش ييجي جنبها … طيب خلي عويس معاها وهات لها اللي تحتاجه وتعالى لي عشان ميعادنا معاه … عايزين نخلص من الموضوع ده بقى وتبقى توريني هتعمل إيه … يلا بالسلامة .
أنهى المكالمة ثم زفر بعمق، صعد لطابقه العلوي ثم لغرفته ليجد زوجته لاتزال نائمة، فاتجه للحمام ليستحم ويحضر نفسه للقاء اليوم، لم ينتبه لزوجته التي كانت تتنصت على مكالمته، انتظرت حتى خرج من المنزل والتقطت هاتفها، ظلت تبحث فيه عن رقم (جمانة)، لقد اختطف ابنتها أي رجل هذا ؟ حتى الحيوانات لا تفترس بعضها أو تتعامل فيما بينها بهذا الشكل، لم تجد الرقم فكادت تجن، توجهت لزوجة الحاج (عبد الرحمن) وجلست تتسامر معها لبعض الوقت الذي طال حتى انتابها قلق شديد، ثم عاد زوجها، وجدها هناك فألقى سلاما مقتضبا وألقى ما يحمله ثم دخل لغرفة نومه، رأت (صفية) هدفها الذي جاءت من أجله، قامت زوجة الرجل خلفه، فانتظرت هي لثوان ثم اختطفت هاتفه الجوال وبحثت فيه بسرعة، وجدت اسم (أدهم الحسيني) فسجلته لديها سريعا، ووجدت أيضا اسم (أم لمياء) فأخذته، تركت الهاتف سريعا وقامت من فورها متجهة لطابقها، كان الوقت يسرقها ويمر سريعا، دخلت غرفتها وأغلقتها عليها بسرعة وأمسكت هاتفها لتتصل بالسيدة والدة (جمانة) أولا، وهي على أمل أن تصل إليهم في الوقت المناسب .
********
في المنزل عند (جمانة) ووالدتها وشقيقتها كن جميعا يجلسن وكأن على رؤوسهن الطير، الصمت يخيم على المكان إلا من صوت نهنهات متباعدة تصدر من (جمانة) ودموعها لا تتوقف عن الانهمار أو قلبها عن القلق، رفعت رأسها لشقيقتها وقالت بضعف :
– لميا أنا خايفة على أدهم، قلبي مقبوض أوي .
ربتت شقيقتها على كفها في حنان وواستها :
– معلش، يارب خير بإذن الله وإن شاء الله يرجع ومعاه ملك .
عادت تبكي بصوت مسموع وهي تهتف :
– أنا زعلته قبل ما يمشي، جرحته ووجعته، أنا .. أنا ….
ولم تجد ماتكمل به جملتها فصمتت وشقيقتها تضمها بين ذراعيها في حين قالت الأم في شفقة :
– معلش ياجمانة هو عارف اللي إنت فيه ومقدر ماتخافيش، ربنا يرجعهم بالسلامة يارب .
ظلت تبكي لثوان أخرى حتى قطع نحيبها صوت هاتف والدتها، انتفضن جميعا في أماكنهن، التقطت الأم هاتفها بسرعة لتجد رقما لا تعرفه، ترددت لثانية فهتفت (جمانة) :
– هاتي ياماما، أنا هارد .
وانتزعت الهاتف من يد والدتها لترد بسرعة :
– السلام عليكم ؟!!
أتاها الصوت الأنثوي المرتبك :
– وعليكم السلام ورحمة الله، أني صفية مرات كمال أخو حسام الله يرحمه .
نبض قلب (جمانة) بعنف وهي تهتف :
– أيوة ياصفية أنا جمانة، خير في حاجة ؟
ترددت لثوان كاد قلب (جمانة) يتوقف خلالها، ثم ردت في خفوت :
– بنتك عند كمال.
توقف قلبها بالفعل ولم تستطع النطق، انتفضت فجأة وهي تصرخ :
– بجد يا صفية ؟ عرفتي إزاي وعنده فين ؟
حكت لها (صفية) سريعا المكالمة التي سمعتها بين زوجها وصديقه، فهتفت :
– صفية أنا جايالك بسرعة لازم تدليني ع المكان اللي بيقولوا عليه ده .
ردت صفية بحسم :
– ماتجيش لوحدك يا جمانة، لازم يكون معاكِ البوليس، أني مااضمنش مين هناك أو ممكن يعمل إيه .
هتفت بسرعة :
– طيب خليكِ على اتصال بيا أرجوكِ .
أغلقت الخط ثم التفتت لوالدتها وشقيقتها واللهفة ترتسم على وجهيهما ثم هتفت :
– دي صفية مرات كمال بتقول إن ملك معاه، لازم أكلم أدهم يرجع وناخد البوليس ونروح نشوفها .
كادت الأم تصرخ من الفرحة في حين انتفضت (لمياء) واقفة في مكانها وصاحت :
– بجد يا جمانة ! طيب يلا كلميه بسرعة عشان نلحقهم .
التقطت هاتفها واتصلت به، أتتها الرسالة المسجلة تخبرها أن الهاتف مغلق، حاولت عدة مرات ولا فائدة، نهش القلق قلبها ورفعت عينيها إليهما في جزع وهتفت :
– تليفونه مغلق، أدهم حصل له حاجة .
طمأنتها (لمياء) وقلبها هي يمتلئ بالقلق :
– لا لا ماتخافيش أكيد فصل شحن ولا حاجة انتو هنا من امبارح وماشحنش أكيد .
تساءلت في توتر :
– طيب هنعمل ايه ؟ لازم نروح هناك حالا .
ردت (لمياء) بسرعة :
– هنتصل بالبوليس ودكتور آدم تحت هيتصرف ونسافر بلدهم فورا .
ثم التفتت لوالدتها قائلة :
– خليكي إنت هنا يا ماما عشان لو أدهم اتصل أو جه .
هبطتا سويا لـ (آدم) الجالس في سيارته يتحدث في الهاتف باهتمام، وعندما لمحهما أنهى مكالمته وهبط من السيارة في اتجاههما بسرعة وهو يهتف :
– خير في حاجة ؟
عاجلته (جمانة) بالرد :
– أيوة يادكتور آدم، مرات أخو حسام كلمتني وقالت لي إن ملك عند جوزها، عاوزين نتصل بالبوليس ونروح بسرعة .
برقت عيناه وقال :
– بجد، طيب يلا بسرعة.
اتجهوا جميعا للسيارة وانطلقوا بها و (جمانة) لاتزال تحاول الاتصال بزوجها ولا يقابلها سوى رسالة باردة تخبرها أن هاتفه مازال مغلقا .
********
تطلع (كمال) لجسد (أدهم) الساكن أمامه ودماؤه التي تسيل بسرعة وعنف، وكزه بقدمه فلم يصدر عنه صوت وزاد نزيف الدم الخارج من فمه، سمع صوت (فتحي) خلفه يقول في عجلة :
– أبو كمال يلا بينا مش هنقف كتير، ماتنساش إننا على طريق .
التفت إليه (كمال) بسرعة وسأله :
– تفتكر مات ؟
رد (فتحي) بسرعة :
– ما إنت شايفه قدامك أهو، يلا بينا بس .
عاد ينظر لـ (أدهم) ثم انحنى نحوه يهزه بيده، لم يصدر عنه أقل حركة، تحرك مبتعدا و قد أصاب يده بعض الدماء، مسحها بإهمال واتجها سويا نحو سيارة (أدهم)، التقطا منها حقيبتين كبيرتين ثقيليتن وقاما بوضعهما في السيارة الحمراء، سأله (فتحي) :
– هناخد عربيته ولا إيه ؟
نهره (كمال) :
– ناخدها نعمل بيها إيه إنت كمان، هو إحنا هنشتغل حرامية عربيات ؟
ظهر ضوء سيارة من بعيد فتطلعا لبعضهما البعض لثانية ثم ركبا السيارة وانطلقا بها بسرعة تاركين (أدهم) خلفهما يلفظ أنفاسه الأخيرة في بطء، بعد سيرهما بالسيارة قليلا قال (فتحي) في جشع :
– بس ماقلتليش إنك هتطلع من العملية بأرنبين ؟
نظر إليه (كمال) في استخفاف و أجابه :
– وإنت يهمك إيه يافتحي ؟ إنت ناسي بتاخد كام على خدماتك من أي حد ؟ ولا هو طمع وخلاص ؟
قال (فتحي) في عصبية :
– بس عملية زي دي لها مكسبها لازم تشوفني صح، ده أني خطفت وقتلت وكمان كنت حمايتك، ما أني شفته لما كان هيمسك في خناقك، واحد زيه كده كان هيعصرك قبل ما تتنفس ويطلع منك القديم والجديد، كش منك لما هددته إنك مش لوحدك ولا نسيت ؟
زفر (كمال) في غضب وسأله حانقا :
– عاوز كام يا فتحي اخلص .
رد في جشع :
– ربع الأرنبين ونبقى صحاب .
شهق (كمال) في ذهول وهتف :
– إنت اتجننت يا فتحي، اطلب على قدك عشان تلاقي.
رد (فتحي) بلهجة ذات مغزى :
– هالاقي ياكبير، بس إنت شوفني عشان ابقى ستر وغطا عليك .
عماه الغضب للحظة لكنه سيطر عليه وقال في حنق :
– ماشي يافتحي، ماشي .
هتف (فتحي) في جشع :
– وممكن كمان هدية مني فوق البيعة أجيبلك المزة اللي الهلمة دي كلها عشانها .
نظر إليه (كمال) في اشمئزاز قائلا :
– لا مش عايزها، بعد اللي حصل دِه ماهيبقاش فيها نفس .
قهقه (فتحي) ثم مسح فمه بكمه بطريقة مقززة في حين عقد (كمال) حاجبيه في غيظ وقاد السيارة عائدا لبلدته في صمت وهو يفكر ما الذي سيفعله بالصغيرة بعد ذلك .
********
امتلأ ليل القرية بالأضواء والسيارات والبشر فأصبح كنهارها، تجمع الكثير من سكانها يتابعون ما يحدث بفضول، كان الحاج (عبد الرحمن) واقفا أمام (جمانة) وشقيقتها بصحبة (آدم) يلوح بيده في غضب صائحا :
– إيه اللي بتقوليه دِه يا أم ملك ؟ هو إحنا مجرمين عشان نخطف بنت أخونا ؟ عاجبك الفضيحة اللي عملتيها لنا في البلد دي ؟ جاية وجايبة البوليس كأننا قتالين قتلة ؟
قالت في صرامة :
– أنا ماجبتش حاجة من عندي ياحاج، أخوك خطف بنتي وآخرته إعدام إن شاء الله .
أما (لمياء) فقالت في حزم هي الأخرى :
– كل ده عشان الفلوس ياحاج ؟ تبيعوا الدم والقرابة اللي بيننا وتقلبوا بلطجية عشان فلوس مش من حقكم أصلا ؟
كاد الرجل ينفجر في وجهها وهو يهتف :
– يا أستاذة عيب اللي بتقوليه دِه، إحنا خلاص نهينا الموضوع وكل واحد خد حقه لا بتوع خطف ولا غيره، هنخطف بنت أخونا ياناس .
قبل أن ترد كان أحد الضباط يأتي من خلفها يحمل الصغيرة على كتفه برفق وهي تبكي بشدة، سمعتها (جمانة) فالتفتت إليها وكادت تسقط أرضا وهي تجري نحوه لتلتقطها منه، انهالت على وجهها بالقبلات وهي تنهار بجوارها أرضا، تتابعها عيني شقيقتها و(آدم) في سعادة في حين كان الذهول يرتسم على وجه (عبد الرحمن) وهتف في رهبة :
– البنت كانت هنا ؟
وقف أمامه الضابط الذي أتى بها وقال في صرامة :
– حاج عبد الرحمن إنت هتيجي معانا وهنسيب قوة هنا عشان لما كمال يظهر، الراجل اللي كان مع البنت اتصاب وهيطلع ع المستشفى لحد مانحقق معاه .
لم يستطع الرجل النطق بكلمة، عندما ظهرت سيارة أخيه وهو بداخلها، ترجل منها وهو يتطلع لما حوله بقلق ثم وقعت عيناه على (جمانة) وهي تحمل ابنتها، سقط قلبه بين قدميه، واتجه إليه أحد الجنود هاتفا :
– ممنوع ياحضرت .
دفعه في عنف واتجه نحوها فلمحته، تراجعت للخلف وهي تهتف :
– إنت عاوز ايه ؟
وقف (آدم) أمامها كأنه يحميها في حين قالت (لمياء) في حزم :
– حضرت الظابط ده الشخص اللي خطف البنت.
التفت إليه الضابط وقال في صرامة :
– إنت كمال زيدان ؟
التفت للضابط و رد بتبجح :
– أيوة أني كمال زيدان خير يا حضرت الظابط والناس دي كلها بتعمل إيه هنا ؟
صرخت (جمانة) في وجهه :
– يابجاحتك، بتخطف بنتي وتطلب فلوس وتقول خير ؟ أنا مش كفاية عندي إعدامك .
قبل أن يرد كان شقيقه يصيح فيه بغضب :
– هو ده اللي اتربيت عليه يا كمال يابن أمي وأبويا، تخطف بنت أخوك عشان تاخد فلوس، بقينا بلطجية يا كمال ؟
صاح أمامه :
– أخطف مين يا عبد الرحمن، أخطفها بتاع إيه يعني …..
قاطعه بعنف :
– ماتنكرش يا كمال، البت كانت هنا ومراتك هي اللي بلغت عنك، حسبي الله ونعم الوكيل ضيعتنا وخليت سمعتنا في الأرض .
رن هاتف (جمانة) في هذه اللحظة لتجد رقما غريبا لا تعرفه، شعرت بالقلق وانقبض قلبها في صدرها، فتحت الخط لترد :
– السلام عليكم … أيوة أنا جمانة أبو الفتوح … مستشفى ؟؟
ثم اتسعت عيناها في ذعر وهي تصرخ :
– إيــــــــه !!!!
وتهاوت أرضا لتلتقطها يدي شقيقتها قبل أن تصطدم بالأرض في عنف وهي تصرخ باسمها في لوعة، تطلع إليها (آدم) في جزع والتقط الهاتف الذي سقط من يدها أرضا ثم وضعه على أذنه في تردد وتساءل :
– أيوة مين معايا ؟
اتسعت عيناه في ذعر هو الآخر وهو يستمع لمحدثه، ثم هتف :
– مستشفى إيه ؟ … طيب طيب .
أغلق الخط والتفت للضابط خلفه وصاح :
– حضرت الظابط أنا باتهم كمال زيدان بمحاولة قتل أخويا أدهم الحسيني .
اتسعت عينا (كمال) في رعب، وصرخت (لمياء) :
– مستحيييل .
قال الضابط في تساؤل صارم :
– حصل ايه يادكتور آدم ؟
أجاب في غضب وهو يكاد يبكي :
– طلبوا مننا فدية عشان يرجعوا البنت واشترطوا أدهم يروح لوحده وفعلا راح، كان غلط مننا نسيبه يخاطر لوحده، لقوه ع الصحرواي مضروب بالرصاص وبين الحيا والموت ، أكيد هو اللي عملها مادام هو اللي خطف ملك وكان طالب الفدية .
التفت إليه الضابط ثم هتف في بعض الجنود من حوله :
– فتشوا العربية اللي هناك دي .
اتسعت عينا (كمال) فصرخ :
– أني ماقتلتش حد، إنتوا جايين تقولوا خطفت وقتلت، إحنا مش بتوع الكلام دِه يا حضرت الظابط .
قبل أن ينطق أحد كانت يد أخيه (عبد الرحمن) تهوي على وجهه في لطمة قوية جعلته يتطلع إليه في صدمة وهو يصيح فيه :
– خطف وقتل ياكمال، بنت أخوك وجوز أمها يا كمال ؟ هي دي آخرتها وديتنا ورا الشمس .
عاد ينفي في غضب :
– إنت بتقول إيه يا حاج أني مااعملش كده .
كانت (لمياء) تحاول عبثا وعيناها دامعتان إيقاظ شقيقتها التي تعاقبت الصدمات فوق رأسها في اليومين الآخيرين، أما (آدم) فقد أمسك بـ (كمال) من ياقته ودفعه أمامه في عنف وهو يضربه في وجهه وما أمكنه الوصول إليه من جسده بكل ما أوتي من قوة، كان يكيل له اللكمات فقط في صمت والغضب مرتسم على ملامحه ولم تتح لـ (كمال) فرصة للدفاع عن نفسه، أمسك الضابط وأحد الجنود بـ (آدم) فالتفت إليهم في عنف وكاد يضرب الجندي هو الآخر فهتف به الضابط في صرامة :
– دكتور آدم من فضلك امسك نفسك إحنا لسه مانعرفش حاجة .
قبل أن يصرخ في وجهه عاد الجنود الذي قاموا بتفتيش السيارة وهم يحملون حقيبتين كبيرتين مملوءتين بالنقود وعلي أحدهما آثار دماء طازجة، نظر إليه الضابط وسأله في صرامة :
– ايه رأيك في دول ياكمال ؟ وعليهم دم كمان ؟
ثم التفت للجنود من حوله هاتفا في حزم :
– اقبضوا عليه .
تراجع للخلف بسرعة وصرخ :
– أني ماعملتش حاجة .
ثم أخرج مسدسا أطلق منه رصاصة على أقرب الجنود إليه وهو يعدو هاربا، بعدها أتت الرصاصة التالية في ركبته ليسقط أرضا في عنف وهو يصرخ بألم، أعاد الضابط مسدسه لحزامه وهو يهتف بجنوده :
– هاتوه .
أسنده الجنود حتى أتوا به أمام الضابط الذي وضع الأصفاد في معصميه وهو يصرخ في ألم، في هذه الأثناء كانت (جمانة) قد استعادت وعيها لتقف بمعاونة شقيقتها و(آدم) يتطلع إليها في قلق، يبدو عليها الإعياء الشديد وكأنها تنتظر لحظة أخرى لتغيب عن الوعي ثانية، ودموعها تنهمر باستمرار في صمت، بدت وكأن قلبها قد اكتفى وبدأ ينزف داخلها حتى الاحتضار، ثم فوجئ الجميع بصراخ (كمال) في وجهها :
– أيوة قتلته يامرات أخويا، هيموت، وهتعيشي حياتك كلها أرملة تندبي حظك في الرجالة، مش رفضتيني، خلاص أهو خليكِ أرملة لحد ما تموتي .
ازداد انهمار دموعها في حين اندفع (آدم) نحوه ثانية لكن منعه الجنود من ضربه مجددا، استقلت (جمانة) السيارة مع صغيرتها التي حملتها بين ذراعيها وهي بين ذراعي شقيقتها، كان (آدم) يقود السيارة وهو يشعر بالغضب والحزن والجزع، وبين كل فينة وأخرى يتطلع إليها في مرآة السيارة ليطمئن ثم يعود لينتبه للطريق، هتفت فجأة وهي تبتعد عن حضن (لمياء) :
– أنا جرحته .
تطلعت إليها شقيقتها في قلق وألقى (آدم) عليها نظرة مرة أخرى، لم تعطي فرصة لأحد لينطق بل عادت تهتف وهي تبكي :
– أنا وجعته وقلت له إنه السبب في اللي حصل .
التفتت لشقيقتها واستمرت تقول :
– مش هو السبب، أنا السبب في اللي حصل له، أدهم هيضيع مني يا لميا وأنا السبب .
كانت على شفا انهيار عصبي جعل شقيقتها تتطلع إليها في قلق وهي تحاول ضمها لصدرها ثانية قائلة في حنان :
– لا طبعا يا جمانة مش إنت ولا هو ، دي إرادة ربنا ماحدش عارف الخير فين واللي حصل ده حصل ليه، بس أكيد خير .
نظرت إليها وبدت وكأنها لم تسمع حرفا من كلام أختها ثم صرخت بطريقة أفزعت ابنتها :
– أنا السبب يا لميا، أنا السبب، لو حصل له حاجة مش هاسامح نفسي أبدا.
لم تجد شقيقتها ما تقوله سوى أن تجذبها لحضنها محاولة تهدئتها، ظلت تنتحب وهي تقول :
– أنا بحبه أوي يا لميا، مش هاستحمل يجراله حاجة، مش هاقدر.
ثم استمرت في النحيب، تشاركها شقيقتها دموعها في صمت، أما (أدم) فغافلته دمعة اجتمعت فيها مشاعر الحزن والقلق على أخيه بالشفقة على (جمانة)، ظل على صمته حتى وصلوا للمستشفى، كانت (جمانة) تسير وهي تحمل (ملك) وكلما حاولت شقيقتها حملها عنها رفضت تركها، شعرت بالشفقة تجاهها فاكتفت بالسير إلى جوارها لتستند إليها، وأمام غرفة العمليات وجدوا والدا (أدهم) وشقيقته، عندما رأتها (فريدة) صاحت بها في غضب ممتزج بالانكسار بطريقة غريبة :
– رجعتي بنتك وضيعتي لي ابني ؟
عادت الدموع تنهمر من عيني (جمانة) في حين هتف فيها (آدم) :
– طنط فريدة من فضلك، كفاية اللي هي فيه .
نظرت إليه بحزن وبدأت دموعها تنهمر هي الأخرى وغمغمت :
– لسه بتدافع عنها يا آدم ؟ مش دي اللي أخوك كان هيضيع بسببها ؟
كان الصوت هذا المرة صادرا من زوجها، قال في صرامة وصوته لا يكاد يخرج من بين شفتيه :
– فريدة، اسكتي خلينا نطمن على أدهم، مالكيش دعوة .
كانت (لمياء) تتابع الموقف في صمت، وكم آلمها أن تتلقى شقيقتها وهي في هذه الحالة اللوم من والدة زوجها، لم تكن تملك ما تقوله فالسيدة مكلومة لكنها حزنت و(جمانة) تزداد دموعها انهمارا في صمت، انتظروا لوقت بدا لهم كدهر، كان (آدم) يذرع المكان جيئة وإيابا وهو يشعر بتوتر لاحد له، في حين جلست (جمانة) على أحد الكراسي وطفلتها بين ذراعيها وإلى جوارها شقيقتها، وعلى الجانب الآخر (سارة) ووالديها، فتح باب غرفة العمليات لتخرج منه ممرضة متوترة وهي تسأل :
– محتاجين نقل دم ضروري وفصيلته نادرة عاوزين متبرعين .
هتف (آدم) بسرعة :
– أنا نفس الفصيلة .
أما (جمانة) فهبت واقفة وهي تقول :
– أنا مش عارفة فصيلته بس لو ممكن تشوفوا أنا أنفع ولا لا .
هتف بها (آدم) :
– لا يا جمانة مش هينفع، إنت ماتنفعيش تتبرعي بحالتك دي خالص .
صرخت في انهيار :
– لا ممكن هيحصل إيه يعني هادوخ، المهم هو يبقى كويس .
قاطعتها (لمياء) بحسم :
– خلاص ياجمانة إنت مش هتنفعي أنا هاروح مع دكتور آدم وأشوف لو فصيلتي تنفع وربنا يسهل .
تطلع إليها (آدم) للحظة، وشعر بالاحترام والتقدير تجاهها، أما (جمانة) فهتفت في أمل وهي تبدو ضعيفة مستكينة :
– بجد يا لميا هتروحي ؟.
ربتت على كتفها بحنان وأجابتها :
– أيوة ياحبيبتي ماتخافيش، إن شاء الله هيقوم بالسلامة .
وبالفعل توافقت فصيلتها معه وتم سحب لتر من الدم منها وآخر من (آدم)، بعدها بدا عليها الإعياء فقال لها (آدم) :
– مدام لميا، اتفضلي ماتقفيش كتير، حضرتك شكلك مش متعودة على كده .
نظرت إليه بامتنان وجلست قليلا شاعرة ببعض التعب عندما وجدت يد تمتد لها بعلبة عصير وقطعة حلوى مغلفة، تطلعت لصاحب اليد فوجدته (آدم) يتطلع إليها بحنان غريب قائلا :
– اتفضلي عشان ماتتعبيش .
هزت رأسها شاكرة و ردت :
– لا معلش مش هأقدر، شكرا يا دكتور آدم .
سمعته يقول في حزم :
– مدام لميا لو سمحتي بلاش عناد، ده ضروري على فكرة .
رفعت عينيها إليه ثانية لتجد نظرة الحنان تلك مرة أخرى فشعرت بالخجل هذه المرة وتقبلتهم منه شاكرة، جلسوا في صمت لدقائق أخرى بعدها فتح باب غرفة العمليات ليخرج الطبيب منه وهو ينزع كمامته ويتطلع إليهم بصمت، سقطت قلوبهم بلا استثناء بين أقدامهم وهرع إليه (آدم) مع والده، قال الطبيب بلهجة عملية :
– إحنا طلعنا الرصاصة الحمد لله، بس الحالة لسه مش مستقرة، هيفضل في العناية ع الأقل يومين بعدها ممكن ننقله غرفة عادية، لو اليومين الجايين دول مروا بسلام نقدر نطمن بإذن الله .
سأله (آدم) في لهفة :
– هو حصل ايه يادكتور؟
أجابه الطبيب بنفس اللهجة :
– رصاصة من مسافة مش قريبة أوي، دخلت جسمه بزاوية غريبة كأنه كان بيتحرك وقتها يمكن لو كان ثابت كانت اخترقت القلب فورا، الرصاصة مرت جنب القلب واصطدمت بضلع كسرت جزء منه واستقرت بعد مااخترقت الرئة ، للأسف نقله للمستشفى كان اتأخر ونزف كتير بس الحمد لله، ربنا يطمنكم عليه .
قالها ثم تركهم، كان قلب (جمانة) ينبض بعنف، يا إلهي، كاد يموت بسببي، كان يمكن أن تكون في قلبه، قلبه الذي احتواني وسكنته، قلبه الذي هو بيتي ومستقري، (آدم) تنهد في ارتياح وإن كان صعبا عليه أن يسمع ذلك عن أخيه، لازال القلق ينهشه لكنه حمد الله ودعاه أن يتمم شفاؤه على خير، أما أمه فكانت لا تزال تبكي في صمت، وقلبها يبكي صغيرها الذي كان سيضيع منها في ثوان، كل منهم كان قلبه في ناحية وإن توحدت القلوب على الدعاء .

error: