خارج أسوار القلب

الفصل الخامس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

مرت الأيام و(جمانة) تتعلم وتلتزم وتعمل، بدأت تتقن عملها، وشجعها زملاؤها كثيرا حتى أصبحت تفهمه جيدا، نشأت بينها وبين (هالة) صداقة جميلة لكنها كانت دوما تعامل (عصام) بنوع من الجفاء ازداد عندما شعرت بحاستها كأنثى أنه يعاملها بشكل مختلف عن (هالة) ويتقرب منها محاولا التعبير عن إعجابه بها بعدما علم أنها أرملة، لم تكرهه لأنه لم يكن سيئ الخلق أو لزجا أو لحوحا لكنها فقط تحاشت التعامل معه إلا في أضيق الحدود وكم كان هذا يحزنه، كان يراها هشة وضعيفة كأنها تحتاج دوما لمن يظللها بحمايته ويمدها بالأمان ولكن كلما حاول الاقتراب ليمارس هذا الدور وجد أنثى شرسة عنيدة منغلقة على نفسها تصده بحزم قاطع، لم يدري كيف اجتمعت تلك الرقة مع ذلك العنفوان وهذا الكم من الحزن والضعف مع الصمود البادي عليها في نفس الشخص لكنها حققت تلك المعادلة عن جدارة، ربما لم تكن فاتنة ككثيرات يعملن في الشركة لكنها كانت رقيقة للغاية ورقتها أكسبتها جمالا غير عادي بالفعل، كان الحزن المحفور في عينيها وموشومة به ملامحها يكسبها فوق جمالها جمالا آخر، جلس يتطلع إليها في ذلك اليوم بصمت وهي منكبة على مكتبها وأمامها ملف ضخم يخص حسابات تقوم بها لأحد فروع الشركة ، كان يشعر أنها مرهقة حائرة بعض الشيء خاصة وأنها لازالت مبتدئة ولا يدري لما كلفها مدير الشركة بحسابات ضخمة كهذه وكأنما يختبرها أو يتصيد لها خطأً ما فهي في كل الأحوال جديدة وكما علم منها بدون خبرة، شعر بالشفقة تجاهها فقام من خلف مكتبه واتجه إليها ثم سألها برفق وهدوء :
– مدام جمانة لو محتاجة مساعدة في الملف أنا أقدر أساعدك أنا عارف إن الفرع ده مشاكله كتير دايما وحساباتهم مش مظبوطة .
رفعت عينيها إليه وبدا فيهما الإرهاق واضحا لكن كان ردها حازما قاطعا جافا :
– شكرا يا أستاذ عصام، المدير كلفني بالحسابات دي ولازم أثبت جدارتي فيها من غير مساعدة .
حاول الحديث مرة أخرى ليقنعها بالمساعدة لكنها عادت تنظر إلى الأوراق أمامها معلنة انتهاء الحوار فالتفت عائدا إلى مكتبه في استسلام عندما التقت عيناه بعيني (هالة) التي ابتسمت في خبث، فأشاح بوجهه بعيدا عنها وعاد ليجلس خلف مكتبه في صمت لثوان أخرى وانشغل ببعض الأوراق أمامه عندما ارتفع رنين هاتف (جمانة) النقال فتطلعت إليه لترى اسم المتصل ثم عقدت حاجبيها في قلق وهي ترد :
– السلام عليكم، خير يا ماما إنت كويسة ؟
أتاها صوت والدتها باكيا عبر الأثير، فانتفضت (جمانة) في جزع وهي تصرخ :
– ماما إنت بتقولي ايه انتو فين ؟
تطلع إليها كل من (هالة) و (عصام) في قلق وإلى دموعها التي بدأت تنهمر على وجنتيها، وعندما بدأت تلملم أشيائها وتبحث عن حقيبتها وهي لا تكاد ترى أمامها سألتها (هالة) في قلق :
– مالك ياجمانة ؟ خير ايه اللي حصل ؟
ردت عليها (جمانة) بصوت باكي مختنق :
– ملك خبطتها عربية ودلوقتي في المستشفى، لازم أمشي حالا.
ظهر الجزع على وجهي (عصام) و(هالة) التي قامت من مكانها هاتفة في قلق بلغ مداه :
– ياخبر طيب هي عاملة ايه دلوقتي وإزاي ده حصل ؟
حملت (جمانة) حقيبتها وهي تندفع خارج المكان هاتفة :
– مش عارفة، مش عارفة .
تطلع (عصام) لــ (هالة) لحظات في صمت ثم غمغمت (هالة) :
– ياحبيبة قلبي، ربنا يكون في عونها وتكون البنت بخير.
واصل (عصام) صمته للحظات أخرى ثم قال بتردد وكأنه يسألها رأيها :
– المفروض حد يكون معاها في وقت زي ده ، أروح أوصلها وأطمن على البنت.
قالت (هالة) بتلقائية :
– أيوة يا عصام بالله عليك وكلمني طمني .
في هذه الأثناء كانت (جمانة) تنتظر المصعد وعندما وصل وفتح بابه اندفعت داخله دون أن تنتبه للشخص الخارج منه فاصطدمت به، رفعت عينيها لتلتقيا بعيني (أدهم) مدير الشركة الصارمتين، نظر لعينيها وأثر الدموع مازال بهما ثم قال في حزم :
– على فين حضرتك ؟ إحنا لسه في أول اليوم ما أظنش ميعاد الانصراف دلوقتي ؟ وفين الملف اللي سلمته لك عشان تخلصيه ؟
ردت عليه بتوتر وهي تحاول أن تتفادى الحديث لتسرع لابنتها :
– آسفة يافندم مضطرة أمشي دلوقتي ومن فضلك سلم الملف لأي محاسب تاني حاليا، بعد إذنك .
قال في غضب :
– انت كمان هتقولي لي أدي الشغل لمين ؟ ده انت حتى ماردتيش على سؤالي إنت سايبة شغلك ورايحة فين ؟ دي شركة مش تكية ومش معنى إنك اشتغلتي هنا بواسطة إنك تتصرفي على مزاجك من غير انضباط أو مراعاة لقواعد المكان اللي بتشتغلي فيه .
تطلعت إليها مصدومة من كلماته الجافة والتي لا داعي لها لكنها ردت في خشونة وحزم :
– خلاص حضرتك أنا آسفة إني اعتبرت شركتك تكية وماراعيتش قوانين المكان واستقالتي هتكون على مكتب حضرتك بكرة بإذن الله، بعد إذنك .
تحركت لتذهب للمصعد واندفعت داخله وهو يتطلع إليها مندهشا مما قالت ثم عقد حاجبيه في غضب عندما سمع صوت (عصام) ينادي باسمها قبل أن تغلق باب المصعد :
– مدام جمانة من فضلك استني .
التفت إليه والغضب يتجلى واضحا على ملامحه وعندما رآه (عصام) توقف أمامه لحظة وقال :
– باشمهندس أدهم إزي حضرتك ؟
لم يهتم (أدهم) بإجابة سؤاله وهو يهتف فيه غاضبا :
– في إيه يا أستاذ عصام هي الشركة بقت كافيه الناس تدخل وتخرج وقت ماتحب ولا إيه ؟
تطلع إليه (عصام) بارتباك وفوجئ بغضبه ثم أجاب :
– لا يافندم طبعا بس مدام جمانة بنتها حصلها حادثة وكنت هاعرض عليها أوصلها المستشفى وأكون معاها عشان بس نطمن ع البنت ومدام جمانة ماتسوقش وهي في الحالة دي .
انعقد حاجبي (أدهم) في ارتباك ثم تساءل في تردد :
– حادثة ؟
ثم رفع عينيه لـ (عصام) قائلا بلهجة قاطعة :
– طيب يا أستاذ عصام اتفضل انت على مكتبك دلوقتي .
قالها والتفت يضغط زر المصعد مرة أخرى عندما قال (عصام) في ارتباك :
– بس يافندم كنت ….
قاطعه (أدهم) في صرامة :
– قلت اتفضل يا أستاذ عصام على شغلك .
ولم يعطه فرصة للرد، دخل إلى المصعد ليهبط إلى جراج الشركة في حين خفض (عصام) عينيه في غضب مكتوم وعاد للمكتب، عندما رأته (هالة) تساءلت باستغراب :
– خير ياعصام مارحتش معاها ليه ؟
تطلع إليها في صمت، بدا الحنق على وجهه وهو يقول في غيظ :
– قابلت الباشمهندس أدهم ورفض إني أروح أوصلها ؟
(هالة) :
– رفض! ليه طيب كنا نطمن عليها ؟
(عصام) :
– مش عارف، حاجة تغيظ .
وفي الجراج توقفت (جمانة) أمام سيارتها مسرعة وظلت تبحث بارتباك عن المفاتيح في حقيبتها حتى وجدتها، دلفت إليها بسرعة وحاولت إدارة المحرك لكن السيارة الصغيرة لم تستجب، حاولت عدة مرات ونفس النتيجة فصرخت غيظا ثم خرجت منها وهي تكاد تركلها، اتجهت لمخرج الجراج لتبحث عن سيارة أجرة لتوصلها وقبل أن تصل للباب توقفت بجوارها سيارة فارهة وفتح زجاجها الداكن المجاور للسائق، سمعت صوت (أدهم) الآمر يقول في حزم :
– اركبي .
تراجعت وهي تنظر إليه بغضب ثم ردت وهي تحاول الخروج مرة أخرى :
– لا متشكرة، أنا هآخد تاكسي .
أخافتها نظرة عينيه عندما ردد في صرامة أكبر :
– قلت اركبي .
ثم لان صوته قليلا وهو يكمل في حزم :
– دلوقتي صعب تلاقي تاكسي خصوصا في المنطقة هنا، اتفضلي هأوصلك .
كانت (جمانة) تحترق، ترغب في اللحاق بصغيرتها وفي نفس الوقت لا تطيق الرجل لذلك قالت محاولة إنهاء الحوار :
– متشكرة يافندم أنا هاتصرف .
وبالفعل تقدمت عدة خطوات عندما لحق بها بالسيارة، فتح الباب الخلفي وقال برفق :
– اتفضلي يامدام جمانة، اعتبري نفسك في تاكسي، ويلا عشان نطمن على بنتك .
ترددت مرة أخرى ثم حسمت ترددها ودلفت بالفعل للمقعد الخلفي، تطلع إليها بصمت في مرآة السيارة الداخلية وكأنما فوجئ أنها فعلا جلست في الخلف لكنه تجاهل الأمر وبدأ في قيادة السيارة وهو يسألها :
– أي مستشفى ؟
أخبرته باسم المشفى والعنوان ولم تتبادل معه كلمة أخرى حتى وصلا للمكان وما إن توقفت السيارة أمام المستشفى حتى فتحت الباب بسرعة وهمت بالخروج فاستوقفها هاتفا وهو ينظر إليها في مرآة السيارة الداخلية :
– مدام جمانة لحظة من فضلك، بنتك اسمها ايه ؟
تراجعت للخلف وهي تتطلع إلى ظهره باستغراب ولاتزال ممسكة بمقبض الباب وتساءلت :
– حضرتك بتسأل ليه ؟
التفت إليها نصف التفاتة ورفع حاجبه في استخفاف قائلا :
– هيكون ليه ؟ هأركن العربية وآجي اطمن عليها عشان ع الأقل لما أرجع الشركة أطمن الأستاذ عصام لأنه كان واضح إنه قلقان جدا .
تطلعت إليه لحظة في صمت وحنق من تلميحه السخيف ثم أجابت باقتضاب :
– ملك حسام زيدان .
ثم خرجت من السيارة وأغلقت بابها خلفها بشيء من العنف، اتجهت بسرعة للمشفى في حين زفر هو بغيظ وحاول البحث عن مكان مناسب لسيارته، دخلت (جمانة) استقبال المشفى واتجهت للمكتب هناك، سألت الواقف بلهفة :
– من فضلك في بنت صغيرة جت من شوية اسمها ملك حسام زيدان في حادثة عربية ؟
راجع الرجل الأوراق أمامه ثم أجاب :
– أيوة فعلا حضرتك تقربي لها .
أسرعت تقول :
– أيوة أنا مامتها هي فين من فضلك .
أخبرها الرجل برقم الغرفة فاتجهت في خطوات أقرب للعدو للمكان المحدد، وجدت باب الغرفة مواربا ففتحته قليلا وأطلت برأسها في تردد خوفا مما توقعت أن تراه، وجدت صغيرتها راقدة في فراش المشفى الأبيض مغمضة العينين فانتفض قلبها وترقرقت دمعة في عينيها ثم دلفت للغرفة واتجهت للفراش، لم ترى والدتها التي تجلس على أريكة في ركن الغرفة والتي ما إن رأتها حتى هتفت :
– جمانة .
التفتت لها فوجدت آثار الدموع على وجهها وشعورا بالانكسار يغلفها فاتجهت إليها وألقت نفسها بين ذراعيها وهي تتساءل بصوت مهزوز :
– ماما ايه اللي حصل وملك عاملة ايه طمنيني عليها ؟
أخذت والدتها بيديها وأجلستها بجوارها على الأريكة وهي تضمها إليها وتحكي لها ماحدث :
– أنا السبب سبتها من إيدي وانا مش واخدة بالي وهي جريت مني .
ثم بدأت في البكاء وهي تكمل :
– ماتزعليش مني ياجمانة ماكانش قصدي .
وصمتت وهي تنهنه، لم تفهم (جمانة) ما حدث بالضبط لكنها ربتت على كتف والدتها وقبلت رأسها قائلة :
– معلش ياماما خلاص ماتعيطيش المهم إنها كويسة، طمنيني الدكتور قال ايه ؟
ردت الأم :
– الحمد لله يابنتي ، الدكتور قال شوية كدمات ورضوض بسيطة مفيش كسور ولا حاجة كبيرة ربنا ستر .
(جمانة) :
– واللي عمل الحادثة ياماما لحقتوه ولا هرب ؟
(الأم) :
– هو اللي جابنا المستشفى هنا يابنتي، راجل ذوق والله .
(جمانة) باستنكار :
– ذوق ؟ يعني يخبط البنت بالعربية ومش عاوزاه يعمل كده أنا هاوديه في داهية أصلا بس أطمن على بنتي .
قالت الأم بسرعة :
– يابنتي ماتظلميهوش، أنا غلطت وملك كمان غلطت وجرت قدام عربيته فجأة، حد غيره كان زمان بنتك لا قدر الله لكن حاول يفاديها وكانت عربيته هو هتعمل حادثة وتتقلب بيه ودخل في عربية الأستاذ حسين جارنا وربنا يستر عليه منه .
تطلعت إليها (جمانة) في صمت وقررت أن تفهم الأمر لاحقا بعد أن تطمئن على طفلتها، اتجهت لفراشها وانحنت تتطلع إليها، أوجع قلبها جرحا طويلا في جبهة الصغيرة وكدمات تظهر على وجهها بوضوح، انحنت وقبلت جبهتها برفق عندما دخل الطبيب للحجرة ومعه شخص آخر التفتت إليهما فقالت والدتها :
– ده دكتور إيهاب اللي استقبلنا وعمل اللازم ربنا يجازيه خير، وده اللي …
وصمتت في حرج فأكمل هو في أسف وهو يطأطئ رأسه :
– أنا اللي عملت الحادثة .
تطلعت إليه (جمانة) في غضب قاتل وودت لو تقفز وتتعلق بعنقه ولا تتركها إلا بعد أن يلفظ آخر أنفاسه، في هذه الأثناء فحص الطبيب الصغيرة ووصل (أدهم) للمكان ووجد به أناس كثر فتطلع إليهم بصمت، انتظر حتى سمع الطبيب يقول مطمئنا :
– الحمد لله، هي كويسة بس احنا اديناها مسكنات ومنوم عشان الألم ، مهما كانت طفلة حتى لو مجرد رضوض هتتعبها ، هامر عليها تاني بالليل بإذن الله.
ثم غادر الحجرة تصحبه دعوات الأم وشكرها، تطلعت (جمانة) للشخص الذي صدم طفلتها بسيارته ولم تشعر بوصول (أدهم) الذي تطلعت إليه والدتها في تساؤل، طال الصمت حتى قطعته (جمانة) موجهة حديثها لذلك الشخص محاولة أن تكسب صوتها بعض الهدوء لكن خرج على الرغم منها غاضبا معنفا :
– وحضرتك بقى وإنت ماشي ماكنتش بتبص قدامك ؟ أكيد كنت ماشي بسرعة لدرجة إنك عشان تهدي أو تقف كنت هتقلب عربيتك، إنتوا فاكرين نفسكوا إيه، إنت عارف لو كان بنتي حصلها حاجة ماكانش هيكفيني إعدامك إنت وكل اللي زيك، لأ كان هيبقى لازم أنفذ الحكم بإيدي .
بدا وجهها صارما وللحظة بدت مخيفة عنيفة تكاد تنقض عليه بالفعل لتمزقه كلبؤة اقترب أحدهم من صغارها لتتركه أشلاء لا يمكن التعرف عليها، تطلع إليها (أدهم) في دهشة، وفكر تلك المرأة مختلفة تماما عن التي تعمل معه، لا هدوء هنالك أو سكون أو خجل وإنما عاصفة هوجاء مقتحمة، قطع سيل أفكاره صوت والدتها وهي تحاول تهدئتها قائلة :
– يابنتي بلاش الكلام ده، اعرفي اللي حصل الأول وبعدين احكمي ع …..
قاطعت والدتها قبل أن تكمل وهي تشتعل غضبا :
– مش عاوزة أسمع، النيابة تبقى هي تسمع وتحكم .
تطلعت إليها والدتها فيما يشبه الذعر، منذ متى كانت طفلتها المدللة عنيفة مخيفة هكذا؟، أما الشخص الذي صدم الصغيرة فطأطأ رأسه أرضا وقال في خفوت واعتذار :
– اللي حضرتك تشوفيه، أنا معترف بغلطي وعارف إني كنت سايق بسرعة لظرف خاص لكن ماكانش ده الشارع المناسب لسرعة زي دي، وأنا حاولت أمنع الحادثة بس للأسف ماقدرتش .
نظرت إليه في نوع من الدهشة وإن كانت لازالت غاضبة، كيف لم يهدد أو يتوعد، كيف لم يهرب أو يخرج حتى بعد أن أوصلها للمشفى ولم تكن لتستطيع الوصول إليه، هل هناك شخص بتلك الأخلاق ولديه الإحساس الكامل بالمسئولية هكذا في هذا الزمن ؟ حتى (أدهم) تطلع إليه بنفس الدهشة، كان يعلم أنه لو في نفس الموقف لتصرف بنفس الطريقة لكن رؤية الأمر يحدث أمامه أورثته شعورا بالاستغراب نوعا ما واستنكر ذلك من نفسه ثم اعترف أنه نوع من الغرور أن يرى نفسه الشخص الوحيد الذي يقوم بالأمور الصحيحة، قاطع أفكاره مرة أخرى صوت الأم وهي تقول بهدوء بطريقة فهم منها أنها تحاول إثناء ابنتها عن إبلاغ الشرطة :
– جمانة، اهدي كده وتعالي نقعد في جنينة المستشفى وتعرفي اللي حصل بالظبط لأن فعلا الموضوع مش مستاهل، اسمعي الأول وبعدين احكمي.
تطلعت إليها (جمانة) باستنكار، كيف تقول أن الأمر لا يستأهل إبلاغ الشرطة، لكنها استجابت لرغبة أمها واتجهت للصغيرة تتطلع إليها مرة أخرى بألم ثم طبعت قبلة ثانية على جبهتها اتجهت بعدها للخروج من الغرفة عندما لاحظت لأول مرة وجود (أدهم)، رفعت عينيها إليه باستغراب و تساءلت :
– باشمهندس أدهم حضرتك هنا ؟
كاد يجن، إنه هناك منذ بداية الحديث وهي لم تره إلا الآن، ابتسم في برود وهو يرد :
– أيوة هنا، من بدري .
قالت الأم :
– مش تعرفينا ياجمانة ؟
وهي تتطلع لـ (أدهم) بفضول فردت (جمانة) :
– ده الباشمهندس أدهم يا ماما مدير الشركة .
ظلت الأم تنظر إليه وإن امتزجت بنظرتها دهشة ظهرت بوضوح في صوتها وهي تسأل :
– مدير الشركة اللي بتشتغلي فيها ؟
ثم وجهت حديثها إليه :
– أهلا يابني، ماكنتش فاكراك صغير كده لما بنتي قالت لي على موضوع الشغل.
ابتسم في هدوء وهو يوضح :
– أهلا بحضرتك، أنا بأدير الشركة بس وهي ملك والدي في الأصل .
هزت الأم رأسها في تفهم فقالت (جمانة) وكأنها تنهي حفل التعارف ذاك :
– طيب يلا نشوف مكان نتكلم فيه وأعرف اللي حصل بالظبط بعيد عن ملك عشان مانزعجهاش .
كانت جافة فظة لكن تقبل الكل منها ذلك فهي أم مكلومة وموجوعة على طفلتها، اتجهوا جميعا لحديقة المشفى وقبل أن يجلس معهم (أدهم) استوقفته قائلة بهدوء بارد :
– متشكرة أوي ياباشمهندس، تعبت حضرتك معايا جدا تقدر ترجع الشركة وآسفة على العطلة اللي اتسببت فيها.
نظر إليها بهدوء لا يعبر عن الغيظ الذي يشعر به ورد ببرود هو الآخر :
– لا خلاص مش هارجع الشركة دلوقتي، عاوز أطمن ع البنوتة الصغيرة وأعرف اللي حصل بالظبط .
تطلعت إليه في دهشة وتساءلت ما الذي يهمه من الأمر ليبقى ويتابعه لكنها طرحت دهشتها جانبا واتجهت لتجلس في مواجهة الرجل وتبعها (أدهم) بجواره وإلى جوارها والدتها بدأت هي الحديث قائلة بصرامة بدت غريبة عليها وعلى صوتها الرقيق :
– ممكن نعرف إيه اللي حصل بقى ؟
ثم التفت لوالدتها تسألها باستغراب ممزوج بقليل من الاستنكار :
– وليه ماحدش بلغ البوليس ياماما ؟ أعتقد المستشفى في موقف زي ده بيبلغوا بنفسهم لأنها حادثة ؟
ردت والدتها في خجل :
– أنا قلت لهم إنها غلطتنا ومفيش داعي للبلاغ ياجمانة، لأني معترفة بغلطي وغلط ملك كمان.
ظلت ترمق والدتها باستنكار وهي مندهشة كيف تقول والدتها ذلك؟ أما الرجل فتطلع إليها لحظة في صمت للحظة ثم بدأ الحديث :
– أنا اسمي حسام عبد الرحمن صيدلي وصيدليتي آخر الشارع اللي حصلت فيه الحادثة في اليوم ده كان عندي جرد ولظرف خاص سهرت متأخر ومانمتش كويس وصحيت برده متأخر ونزلت مستعجل عشان ألحق شغلي …
قاطعته بفظاظة وقد استاءت لتشابه اسمه مع اسم زوجها :
– أنا ما طلبتش أعرف قصة حياتك يا دكتور أنا عاوزة أعرف ليه الحادثة حصلت ؟
شعر بالإحراج وهو يتطلع إليها في خجل ويكمل حديثه :
– أنا بس بأوضح إني كنت مستعجل واضطريت أسوق بسرعة …..
هنا قاطعه (أدهم) بحزم :
– بس ده مش مبرر عشان تمشي بسرعة زي دي في شارع سكني ضيق على حسب ماعرفت .
نظرت إليه (جمانة) بغيظ وهي تتساءل بداخلها ما به هذا الشخص ولما يدس أنفه في الأمر لمجرد أن قدم لي خدمة في حين صمت (حسام) للحظة هو الآخر وهو يتطلع إليه باستغراب وكأنه هو الآخر يتساءل عن سبب اهتمامه ووجوده من الأساس لكنه أكمل في أسف :
– أنا عارف ومعترف إني غلطت في موضوع السرعة ده ومستعد أتحمل نتيجة غلطي، بنت حضرتك لقيتها فجأة اندفعت قدام عربيتي، حاولت ألف بسرعة بعيد عنها ولأن الشارع صغير العربية لفت حوالين نفسها فجأة ودخلت في عربية راكنة وبنت حضرتك اتخبطت في شنطة عربيتي.
ثم صمت فقالت والدتها كأنها تكمل ما حدث :
– الغلطة مني كمان ياجمانة نزلت أنا وملك نشتري حاجات من السوبرماركت واحنا راجعين لقيتها بتجري فجأة وسابت ايدي ورايحة بسرعة على البيت، مالحقتش أمسكها بعدها ظهرت عربية الدكتور والحقيقة هو حاول يبعد بس الشارع زي ماانت عارفة وفي الآخر دخل في عربية الأستاذ حسين جارنا وماحاولش يجري ويسيب الموقف لا وقف في نفس اللحظة ونزل جري يشوف ملك والناس اتجمعت والأستاذ حسين عرف اللي حصل ونزل طبعا يشوف عربيته ما أنت عارفاه وماسابش الدكتور إلا لما أخد الكارت بتاعه ومضاه على إيصال تخيلي.
شعرت (جمانة) بنوع من الشماتة فهو وإن لم يكن الخطأ خطؤه تماما فهو يستحق ما سيحدث له من جارهم حتى يتوقف عن قيادة سيارته بسرعة في شوارع صغيرة داخل المدينة .. طال صمتها وهي تفكر وتقلب الأمر في رأسها وبدا لها الرجل آسفا حزينا وشهما كذلك والحوادث تقع، الكل كان ينظر إليها في ترقب وهي تفكر ، (أدهم) كان شبه متأكد أنها ستبلغ الشرطة بعدما حدث خاصة عندما رأى طريقة حديثها مع (حسام) في البداية ولأنه أيضا مخطئ، و(حسام) كان ينظر إليها في أمل وإن كان يتوقع تماما مثلما توقع (أدهم)، أما الأم فقد كانت تعرف ابنتها، قد تثور وتغضب عندما تخدش صغيرتها لكنها تضع كل شخص في موضعه وتقيم المواقف جيدا لذلك عندما نطقت (جمانة) أخيرا كان قرارها موافقا لما توقعته الأم :
– خلاص يادكتور حصل خير، أنا مش هأعمل محضر بس في نفس الوقت لازم توعد إنك تخلي بالك بعد وإنت سايق لأن أطفال الناس مش من السوبرماركت ولما يحصلهم حاجة هنروح نشتري غيرهم، المهم إن ملك الحمد لله إصابتها بسيطة .. وكمان هي غلطت.
رفع (حسام) عينيه إليها وهو لايصدق ماسمعه للتو أما (أدهم) فقد رفع حاجبيه في دهشة ثم لم يتمالك نفسه فهتف :
– مدام جمانة إنت متأكدة من قرارك ده ؟ الدكتور غلط ولازم يتعاقب .
نظرت إليه باستياء وهي ترد :
– أيوة يافندم متأكدة وعارفة بأعمل ايه والدكتور ماغلطش لوحده بنتي غلطت ووالدتي كمان تحب أقدمهم للنيابة معاه، الدكتور بس محتاج ياخد مخالفة سرعة.
نظر إليها في حنق في حين التفتت هي إلى (حسام) الذي كان ينظر بغيظ لـ (أدهم) وهو يقول :
– أنا متشكر جدا يامدام جمانة وأوعدكم إن فعلا الغلطة دي مش هتكرر ومصاريف علاج البنوتة أنا متكفل بيها طبعا دي أقل حاجة .
ردت (جمانة) ببرود :
– متشكرة يا دكتور حسام إحنا مش محتاجين حد يعالجنا إحنا نقدر الحمد لله وبنتي مسئولة مني .
شعر بالحرج وهو يقول :
– بس يامدام جمانة ده المفروض وواجب علي بما إني أنا اللي عملت الحادثة ومن فضلك ماترفضيش خليني ع الاقل أدفع تمن غلطتي .. وقبل ماترفضي أنا رايح حالا على الحسابات، بنت حضرتك اسمها ايه لأني ماسمعتش جدتها وهي بتقولهم عليه لما نقلناها هنا.
ظلت (جمانة) تطلع إليه في برود بدون أن تجيب على سؤاله وكادت تصرخ غيظا عندما دوى صوت (أدهم) مجيبا بدلا منها بهدوء :
– اسمها ملك حسام زيدان.
التفتت إليه في حنق وهتفت :
– باشمهندس أدهم أظن حضرتك شفت القرار اللي أخدته ومش من حقك تلغيه وأنا قاعدة كده .. مش من حقك تلغيه أصلا وأنا حرة يدفع هو تمن غلطته أو مايدفعهاش مش مشكلة حضرتك .
رد عليها بهدوء أكبر :
– الطبيعي إن أي حد يغلط يعتذر ويصلح غلطه أو يتعاقب عليه أو ع الأقل زي ماهو قال يدفع تمنه، اللي إنت بتعمليه ده دافع لأي حد إنه يغلط ويعتذر بكلمتين ويجري مادام مش هيتحاسب ولا يتغرم حاجة.
كادت تنفجر في وجهه عندا تساءل (حسام) فجأة :
– حسام زيدان ؟ دكتور حسام زيدان الصيدلي ؟
نظرت إليه بدهشة وهي تقول :
– أيوة، إنت تعرفه ؟
علت شفتيه ابتسامة خفيفة وبدا كأنه يستعيد ذكرى قديمة وهو يرد :
– أيوة طبعا، دكتور حسام ده دفعتي وكانوا كتير بيتلخبطوا بينا بس للأسف من بعد التخرج ماشفتوش، أمال هو فين؟ مسافر ولا ايه ؟
طأطأت (جمانة) رأسها في حزن في حين تطلع إليها (أدهم) في صمت وترقب لردها، ولكن أتى الرد من والدتها :
– حسام الله يرحمه يابني .
شعر (حسام) بالارتباك وقال في خفوت :
– أنا آسف، ماعرفتش للأسف، لأننا ماكناش أصحاب اوي، البقاء لله حضرتك .
استمرت (جمانة) على صمتها وردت الأم :
– البقاء والدوام لله يابني، حسام الله يرحمه مات من ييجي 3 سنين.
رد حسام وهو مازال على ارتباكه :
– لا حول ولاقوة إلا بالله، ربنا يرحمه .
هنا خرجت (جمانة) من صمتها قائلة بسرعة كأنها تود الهروب من أمامهم :
– بعد إذنكم، هأروح أطمن على ملك وأفضل جنبها.
انطلقت عائدة إلى الداخل ودمعة تسيل على وجنتها تتبعها نظرات (أدهم) في تعاطف واستغراب في نفس الوقت من تلك الضعيفة الحزينة المكلومة والتي كانت وحشا منذ دقائق قليلة، وتبعتها نظرات (حسام) في تصميم على المساعدة وشفقة على الزوجة التي فقدت زوجها وكادت تفقد طفلتها وبسببه، قالت لهما الأم :
– معلش اعذروها أكيد انتم مقدرين هي عاملة إزاي دلوقتي .
رد (أدهم) بسرعة :
– أكيد طبعا ربنا يكون في عونكم وإن شاء الله ملك تقوم بالسلامة .
قال جملته الأخيرة وهو ينظر لـ (حسام) شذراً لكنه لم يلحظ نظراته وقال :
– أنا مش عارف أقول ايه والله، اعتذاري مش كفاية أبدا وحتى موضوع مصاريف المستشفى.
وارتبك مرة أخرى وهو يردد للمرة المائة :
– أنا آسف جدا جدا .
ابتسمت الأم في وجهه وقالت :
– ربنا يخليك يابني إنت عملت اللي عليك وزيادة
ثم ترددت لحظة وهي تدير فكرة ما في رأسها طرأت في بالها فجأة لكنها قررت الصمت مؤقتا حتى تستشير (جمانة) ثم التفتت لـ (أدهم) مستطردة :
– وإنت يابني ربنا يجازيك خير على مساعدتك ووجودك مش عارفة أقولكم ايه .
علت ابتسامة جميلة وجه (أدهم) وهو يرد :
– على إيه حضرتك بس ؟ ده واجب، طيب هأستأذن أنا دلوقتي عشان أرجع الشركة وده كارت فيه رقم تليفوني الخاص لو احتاجتم أي حاجة كلميني فورا .
ورمى (حسام) بنظرة أخرى ثم انطلق مغادرا المكان، بعدها قال (حسام) :
– طيب حضرتك أنا هأروح دلوقتي الحسابات وبعدين هأرجع لأستاذ حسين نشوف مشكلة عربيته وآجي أطمن على ملك بالليل بإذن الله .
ردت الأم بسرعة :
– شكرا يابني ، ماتتعبش نفسك.
(حسام) :
– مفيش تعب ولا حاجة حضرتك ده واجب .
الأم :
– الله يكرمك يابني ويكون في عونك مع الأستاذ حسين .
ابتسم (حسام) وقال :
– بسيطة إن شاء الله، بعد إذن حضرتك.
ثم غادر المكان واتجهت الأم لغرفة الصغيرة (ملك) .
********
بعد مرور أسبوع بدأت الصغيرة في التحسن والحركة بشكل جيد بدون ألم، في خلال هذا الوقت لم تنقطع زيارات (حسام) وشراء الهدايا لها واللعب معها، كانت والدة (جمانة) سعيدة به للغاية وبحنانه على (ملك)، لم يكن يضايقها سوى طريقة (جمانة) الجافة في التعامل معه على الرغم من حنانه الذي يغدقه على الجميع، في نهاية الأسبوع كانت (جمانة) في المنزل تحضر بعض الأشياء لها ولوالدتها وتركت والدتها بصحبة الصغيرة، عندما عادت للمكان وجدت (أدهم) هناك فدخلت وهي تقول بلهجة جافة :
– السلام عليكم
رفع (أدهم) – والذي كان يداعب الصغيرة وهي تضحك بصوت عال – رأسه ورد السلام في هدوء في حين ردته الأم ثم قالت :
– تعالي ياجوجو الأستاذ أدهم الله يكرمه جاي يطمن على ملك وجايب لها حاجات كتير.
ثم التفت إليه تخاطبه :
– ماكانش له لازمة ده كله والله يابني .
ارتسمت ابتسامة على شفتيه وداعب رأس الصغيرة بحنان وهو يرد :
– بسيطة حضرتك، المهم الأميرة الصغيرة تقوم بالسلامة.
تطلعت إليه (جمانة) في صمت للحظات وهي تشعر بالغيظ من طريقته خاصة بعد موقفه الأخير معها في الشركة وكيف انقلب 180 درجة بعدما علم بالحادثة، كان من المفترض أن يغير موقفه وجهة نظرها فيه لأنه قام بما هو أكثر من الواجب لكنها كانت حانقة عليه فما كان منها إلا أن قالت ببرود :
– وتاعب نفسك ليه يا باشمهندس، كده كتير فعلا خصوصا إني استقلت من الشغل ومفيش داعي لأي حاجة حضرتك شايف إنها واجب تجاه الموظفين بتوعك.
اندهشت والدتها عندما صرحت بأمر استقالتها فهتفت :
– استقلتي ؟ هو انت لحقتي ياجمانة ؟
أما (أدهم) فتطلع إليها باستخفاف ثم قال كأنه يكلم طفلة صغيرة عنيدة :
– استقالة ايه يا مدام جمانة ؟ أنا ماوصلنيش حاجة ؟ وبعدين في شركتنا مش أي كلمتين يتقالوا في ساعة غضب يبقى معتد بيهم كأنهم ورق رسمي موقع يعني.
كانت تنظر إليه في غيظ وهو يبتسم ابتسامة عجيبة تجمع بين السخرية والاستخفاف وودت لو تلكمه في أسنانه ليغلق فمه ويتوقف عن الابتسام بتلك الطريقة، لكنها تركته واتجهت لصغيرتها فانحنت عليها ومسحت شعرها برفق وقبلتها فبادلتها الصغيرة القبلة عندما قالت مرة أخرى موجهة كلامها إليه :
– دول مش كلمتين يافندم ده كان قراري وأظن حضرتك فاكر اللي قلته لي وقتها وأنا نزلت على رغبة حضرتك واستقالتي الرسمية هتكون على مكتبك بكرة بإذن الله.
ظهر الحزم في عينيه فجأة وكأنما مل من لعبها لدور الطفلة العنيدة وقال بصرامة قاطعة معلنا انتهاء النقاش :
– مدام جمانة الموضوع منتهي وبما إن ملك الحمد لله بقت كويسة والدكتور كان هنا دلوقتي وصرح لها بالخروج النهاردة فإنت تكوني على مكتبك من بكرة بإذن الله.
علت الدهشة وجهها ثم مالبثت أن انقلبت لغضب وفتحت فمها لتتكلم لكنه قاطعها بإشارة حازمة من يده وجملة قاطعة صارمة أرهبتها :
– قلت الموضوع منتهي.
ثم التفت للصغيرة وانحنى ليطبع على جبهتها قبلة هو الآخر وسألها محاولاً إغاظة والدتها :
– ولا إنت ايه رأيك ياملك ؟ مش ماما ترجع الشغل عشان كل يوم وهي مروحة تجيب لك شيكولاتة وحاجات حلوة .
ضحكت الصغيرة بسعادة وأومأت برأسها أن نعم وقالت ببراءة بلهجتها الطفولية :
– ماما عاوزة شيكولاتة كل يوم .
شعرت (جمانة) بالحنان يتدفق داخلها فاحتضنت الصغيرة وهي تربت على شعرها هامسة :
– بس كده ؟ شيكولاتة وكل اللي تحبيه ياملوكة .
ورفعت عينيها بغيظ لـ (أدهم) الواقف بجوار الفراش فوجدته يبتسم ابتسامة ساحرة وفي عينيه نظرة حنان غريبة، شعرت أن الغيظ الذي كانت تشعر به ذاب فجأة وهي تتطلع لابتسامته ولأول مرة تنتبه لملامحه الرجولية الوسيمة وعينيه البنيتين العميقتين وذقنه النامية والتي بدا كأنه لم يحلقها منذ أيام، ضبطت نفسها تفكر بتلك الطريقة فخفضت عينيها سريعا وهي تؤنب نفسها وتستغفر، كيف نظرت إليه بهذا الشكل ؟ ثم وجدت نفسها فجأة تقول في خنوع بصوت خافت :
– شكرا ياباشمهندس على اهتمامك، إن شاء الله هأكون على مكتبي بكرة .
هنا كان النصيب الأكبر من الدهشة مرتسما على وجه أمها والبعض منها على وجه (أدهم) الذي لم يتوقع تراجعها عن قرارها بهذه السرعة وكان يستعد لجدال طويل معها لكن أسعده ذلك خاصة لما لمسه من شخصية عنيدة ثائرة بداخلها، أما الأم فنظرت لابنتها باستغراب وهي تتساءل كيف تراجعت عن قرارها الذي اتخذته وهي التي لم تفعل ذلك مطلقا من قبل، أما هي فبعد أن نطقت جملتها تلك امتلأت بموجة عاصفة من الغضب وهي تكاد تفتك بنفسها، ماهذا الذي قلته لن أعود أبدا، ارتسمت ابتسامة على شفتي والدتها وهي تنظر للحيرة المرتسمة على وجه ابنتها ثم قالت لتشق السكون الذي عم الغرفة :
– والله ياباشمهندس أدهم إحنا فعلا تعابينك معانا كل يوم تطمن على ملك بالتليفون ودي تالت زيارة ، يارب بس مانكونش معطلينك عن شغلك.
ارتسمت ابتسامة حانية على شفتيه وهو يتطلع لـ (ملك) قائلا :
– لا أبدا ولا تعب ولا عطلة المهم الأميرة تبقى بخير.
استغربت (جمانة) منه ومن حديث والدتها وأن هذه هي الزيارة الثالثة، إذن لما لم تره من قبل، هل كان يأتي وهي غير موجودة، وكان يهاتفهم يوميا ليطمئن عليها، رجل غريب، هنا سمعوا طرقة هادئة على باب الغرفة فقالت (جمانة) :
– ادخل .
كان القادم هو الدكتور (حسام) والذي ما إن رآه (أدهم) حتى نظر إليه شذرا كما اعتاد ولم يتكلم في حين ألقى هو السلام واستقبل الرد ثم اتجه لفراش (ملك) وعلى شفتيه ابتسامة عريضة وهو يسأل :
– ملوكة عاملة ايه النهاردة ؟
ارتسمت ابتسامة سعيدة على شفتي (ملك) وهي تمد يديها إليه فأمسك كفيها وانحنى ليقبل رأسها بحنان، كانت الأم تتطلع إليهم في سعادة وهي ترى الرجال بالغرفة يتصرفون بحنان غير عادي مع (ملك) وبدا وكأنها تبحث عن عريسا لابنتها منهما، أما (جمانة) فلأول مرة تقابل (حسام) بهدوء وبدون جفاء كالمعتاد فابتسمت ابتسامة صغيرة وهي تغمغم :
– ملوكة حبتك أوي يادكتور مش من عادتها تتعامل كده مع حد غريب .
شعر (أدهم) بالغيظ فالصغيرة تحبه أيضا، هذه المرأة تنوي إصابته بأزمة قلبية قريبا، ولمَ تبتسم في وجهه هكذا؟ أليس هذا من كاد يقتل ابنتها وكانت ستعدمه بيديها؟ عجيبة فعلا، أما (حسام) فبدت السعادة على وجهه عندما لاحظ الفارق بين طريقة (جمانة) السابقة والحالية وعندما لاحظ (أدهم) سعادته تلك كان يريد أن يعطيه لكمة محترمة في أنفه تمحو تلك السعادة وتستبدلها بالألم لكن (حسام) قال :
– والله يا مدام جمانة أنا برده حبيتها جدا ، ملوكة بنوتة عسولة ورقيقة وتتحب .
ابتسمت (جمانة) في حين نظر إليه (أدهم) ولسان حاله يقول فعلا أتتغزل فيها أمامنا هكذا ؟، ثم ضبط نفسه يفكر بهذه الطريقة الغريبة فهز رأسه بعنف كأنما يخرجها منها وقال بسرعة :
– طيب ياجماعة أسيبكم أنا عشان عندي شغل.
والتفت لـ (جمانة) مخاطبا إياها :
– هتبتدي الشغل من بكرة يامدام جمانة كفاية تأخير الملف اللي سلمته لك لسه زي ماهو وماحدش غيرك هاينهيه .
ألقى التحية عليهم ونظرة أخيرة حانقة على (حسام) ثم انطلق مغادرا المكان بدون أن ينتظر ردها، تطلع (حسام) للباب الذي خرج منه (أدهم) للحظة ثم قال :
– واضح إن الباشمهندس مهتم جدا بملك، ذوق فعلا .
خرجت منه كلمته الأخيرة بطريقة غريبة لم تفهمها (جمانة)، فسرتها الأم في نفس اللحظة وابتسمت مرة أخرى، قامت (جمانة) تحضر أشياء (ملك) وتلملم ما تناثر هنا وهناك منها وبدأت تجهزها ليعودوا للمنزل، أصر (حسام) أن يوصلهم بنفسه لأن سيارة (جمانة) لازالت معطلة في جراج الشركة، طلب منهم أن يطمئن على الصغيرة بين حين وآخر، ترك لديهم رقم هاتفه في حالة احتياجهم لأي شيء.

error: