خارج أسوار القلب
الفصل الثامن
**********
اجتمعت عائلة (الحسيني) على طاولة العشاء وكل منهم يأكل من طبقه في صمت وتعتمل بداخل عقله فكرة مختلفة عن الآخر، كان (جلال) يفكر في ولده البكر الذي لا يعلم عنه شيئا منذ مدة، حزينا لفراقه وأكثر حزنا لسبب الفراق نفسه، يتعمق حزنه ويزداد ألمه كلما طال الفراق ومقاطعة ولده له ولأخوته، أما الأم (فريدة) فكانت تفكر في طريقة تقنع بها ولدها (أدهم) أن يترك (دينا) ابنة صديقتها تعمل معه في الشركة، تعلم أن ابنها عنيد ولا يطيق الفتاة لكنها تحاول جاهدة إيجاد طريقة تصلح لإقناعه، و(أدهم) كان لا يأكل تقريبا وهو يعبث بالطعام في طبقه محاولا إيجاد طريقة يخبر بها والده أن أخاه (آدم) قد عاد من سفره الطويل، الوحيدة التي كانت تفكر وتتساءل عما يفكرون به جميعا كانت (سارة) والتي داعبت شقيقها متسائلة :
– ايه ياباشمهندس انت هنا ولا رحت فين ؟
رفع (أدهم) عينيه إليها للحظة في صمت ثم ابتسم ابتسامة خافتة وهو يجيب :
– هنا وعندي خبر هيفرحك …. يفرحكم .
تردد في صيغة الجمع التي بالضرورة لن تضم والدته فهي لن تسعد بعودة أخيه من سفره، بعدها سأله والده :
– خير يا أدهم خبر ايه ؟
أما سارة فداعبته محاولة إغاظته قائلة :
– إوعي تكون طبيت ياكبير ؟
هز رأسه وهو يبتسم في حين نهرتها والدتها بعصبية :
– ايه يابنت الكلام ده ! اتكلمي كويس وبلاش ألفاظ السواقين دي.
ردت (سارة) ضاحكة :
– احم احم ، سوري يا ماما.
أما (أدهم) فأجاب بابتسامة مترددة :
– ريحي نفسك ياسارة وعموما كنت نفسك تبقي عمتو أديك بقيتي عمتو أهو.
اختفت ابتسامتها وهي تتطلع إليه بدهشة لم تكن أقل من دهشة والديه والتي تحولت لسؤال صارم من والده :
– قصدك إيه يا أدهم ؟
أجابه (أدهم) بسرعة حاسما أمره :
– آدم رجع من السفر يابابا .
لمعت عينا والده بمزيج مدهش من الحزن والفرحة، فرحة بعودة ولده الذي اشتاق إليه وحزن أنه يعلم من ابنه الآخر وليس من (آدم) نفسه، أما (سارة) فقالت بسعادة :
– ايه ده معقول آبيه آدم رجع ؟ امتى وهو فين ؟ واحشني جدا .
أما والدته التي توقع رد فعلها قامت من مقعدها وهي تضع شوكتها في الطبق بعنف قائلة بعصبية :
– أنا طالعة ارتاح.
اتجهت للطابق العلوي دون أن تنظر إليهم ودون أن يردوا عليها فقط تطلعت إليها سارة بدهشة، سأل (جلال) ابنه :
– إنت عرفت إزاي إنه رجع ؟ شفته ولا كلمك ؟ وهو عامل ايه ؟
(أدهم) مبتسما للهفة والده :
– هو كلمني يابابا وشفته ، وهو الحمد لله كويس و…..
تردد قليلا في الإفصاح عن زواجه وعن وجود ابنه فاستحثه والده :
– و إيه يا أدهم ؟
(أدهم) :
– آدم اتجوز وعنده ولد.
علت الصدمة وجه والده ممتزجة بألم واضح، في حين صرخت (سارة) بفرحة واستغراب :
– إيه اتجوز وعنده ولد؟ يعني أنا عمتو؟ أخيرا .. أحمدك يارب .. كنت فقدت الأمل خلاص .
قالتها وهي تنظر لأخيها مغيظة إياه لكنه لم يلتفت لدعابتها وهو يتطلع لوالده بقلق عندما تمتم في تساؤل لم ينتظر إجابته :
– اتجوز وخلف كمان ؟
ثم رفع عينيه لولده وسأله :
– وهو فين دلوقتي يا أدهم ؟
(أدهم) بقلق على والده :
– قاعد في فندق (…..) لحد مايلاقي شقة مناسبة.
(جلال) بحزن :
– شقة ؟
أما (سارة) والتي كانت طفلة عند رحيله فتساءلت باستغراب :
– شقة ؟ ليه يا أدهم هو مش هييجي يعيش معانا ؟
ثم ابتسمت وحسبت أنها فهمت الأمر فاستطردت :
– ولا مدامته مش عاوزة ؟
رد (أدهم) بخفوت :
– مراته ماتت ياسارة.
وهكذا توالت الصدمات، بدا الانزعاج على وجه (سارة) وعلى وجه الأب اختلط بالألم والحزن مع شعور هائل بالشفقة على ولده الذي فقد أولا أمه ثم زوجته، لكنه تماسك وسأل (أدهم) في حزم :
– طيب يا أدهم خلص أكلك والبس عشان هنروح له حالا.
تطلع إليه ولداه في دهشة لكن (أدهم) لم يعلق أما (سارة) فألحت كطفلة صغيرة :
– بابا ممكن آجي معاكم، واحشني بجد وعاوزة أشوف ابنه .
انتظر (أدهم) رد والده الذي تطلع لـ (سارة) قليلا ثم هز رأسه موافقا وقال :
– ماشي ياسارة اجهزي يلا.
********
وصل (جلال الحسيني) للفندق الذي يقيم به ولده مع (أدهم) و (سارة) وبعد تقديم نفسه في الاستقبال صعد لغرفته، وأمام الباب تردد، يريد طرقه، أن يضم بكريه بين ذراعيه، يعوضه ما فات، لكنه يخشى رد فعله عندما يراه، هل سيتقبله أم لا ؟ تطلع إليه (أدهم) شاعرا بما يعتمل داخله أما (سارة) فنظرت لوالدها بقليل من الدهشة وهي تتساءل :
– إيه يابابا مش هتخبط ؟
أفاق من شروده على سؤال ابنته فتطلع إليها لحظة في صمت ثم طرق الباب طرقات خافتة خجولة سمع بعدها صوت ابنه من الداخل يجيب بسرعة :
– لحظة واحدة.
شعر بالاشتياق والحنين يغزو قلبه، التوتر بدأ يعتلي ملامحه وتجعد وجهه في قلق، لحظات أخرى وانفتح الباب ليظهر وجه (آدم) البشوش وهو يعتقد أنها خدمة الغرف، لكنه فوجئ بوالده وأخويه، ظل يتطلع إلى عيني والده في صمت وفي خيال كل منهما دار حوار تبادلته أعينهما ولم يفصح عنه اللسان ولا تكفيه كلمات، حوار امتلأ بالشوق، بالحزن، بالدموع المحبوسة في مآقيها، بالحنين، بالذكريات الحلوة والمرة، وبالسعادة، طال الصمت والذي كان من الغريب أن (سارة) لم تقطعه كعادتها لكنها بقيت تطلع لكليهما باستغراب و فقط لم تتكلم وكأنها رغبت أن تستمر محادثة الأعين تلك وصمتت إجلالا لها، كان (أدهم) هو من تساءل فجأة :
– ايه يا آدم، ايه يا بابا، هنفضل واقفين هنا كتير ؟
كان يريد قطع حديث الذكريات بين العيون الذي لاشك أنه يحمل بعض المرارة والتي لن تكون في صالح لقاءهما سويا، التفت إليه (آدم) ببطء وشرود ثم أفاق على صوت والده الهامس :
– آدم !
تطلع إليه (آدم) ولمعت في عينيه دمعة لم يستطع قتلها في مهدها فبقيت تتلألأ في مقلتيه لكنه فجأة رمى نفسه بين ذراعي والده، والده الذي شعر وكأن حملا أثقل من الجبال قد أزيح عن صدره وبخطوة واحدة من ولده الذي دوما ما يشعر أنه يفهمه فقط من عينيه، لقد شعر بحزنه، بألمه وبإحساس الخزي داخله، شعر بعجزه في السابق مع أنه يفترض أن يكون أقوى، تغاضى عن ذلك العجز وسامح، ذلك القلب الطيب والنية الرقراقة الصافية وذلك الحنان الذي اعتاد أن يحيط به كل من حوله على الرغم من افتقاده هو لمن يحنو عليه، لم يعلم أيبكي أم يسعد، أتلك الدمعة التي نزفت من قلبه دمعة فرح أم حزن، قدسية الموقف أجبرت الواقفين على الصمت، صمت (أدهم) وهو يشعر بالسعادة لموقف (آدم) كان قلقا من مقابلة والده وأخاه، لكن وكعادته محى (آدم) ذلك القلق دفعة واحدة بمجرد نظرة في وجه أبيه، أما (سارة) الطفلة الكبيرة فسعادتها منعتها من الحديث ووقفت فقط تتطلع إليهما بحنو ارتسم على وجهها واضحا مع ابتسامة صغيرة على شفتيها، بعدها ربت (أدهم) على كتف أخيه وهو يقول بخفوت مداعبا وكأنه يخشى أن يفسد صوته الموقف :
– طيب خلي المشاعر الحلوة دي جوا بدل ماحد يشوفنا ويفهمنا غلط .
انسلخ (آدم) من بين ذراعي والده ببطء فشعر الأب بانسلاخ روحه معه، كان يحاول إفساح الطريق لهم ليدخلوا لكن والده لم يترك كفه وهو يدخل للغرفة ويملأ عينيه بملامح ابنه التي طالما اشتاق إليها، سلم (آدم) على (سارة) الصغيرة وهو يداعبها ويشد خصلة من شعرها القصير قائلا بحنان :
– كبرت ياسارو وبقيتي آنسة محترمة، فين الشعر المنكوش الكيرلي بتاع زمان ؟
ضحكت (سارة) بطفولة وهي ترد :
– منكوش ايه بقى، إحنا خلاص تخطينا المرحلة دي من زمان.
أما (أدهم) فضحك هو الآخر و قال :
– يابني آنسة ايه ؟ دي أخوك الصغنن بس إنت مش واخد بالك، مش شايف عاملة ايه في شعرها 2 سم أقصر وتبقى حلاقة جيش .
نظرت إليه (سارة) في غضب طفولي في حين وكزه (آدم) في كتفه موبخا وهو يربت على رأسها قائلا :
– بس إنت خليك في دقنك اللي بتحلقها في السنة مرة، سيبلي أنا القمر الحلو ده، وحشتيني يا سارو أوي .
ظل والدهم يتطلع إليهم في حنان وشوق لتلك الأوقات السعيدة التي كانوا يتشاكسون فيها وهم صغار ، كان (آدم) دوما حنونا متفهما يتعامل مع أخويه بحنان أبوي وخاصة الصغيرة (سارة) على العكس من (أدهم) المشاكس دوما، تساءل الأب بعد لحظات :
– فين ابنك يا آدم ؟
التفت إليه ولده يملأ عينيه بملامح والده المجهدة والتي ارتسم عليها اشتياق واضح ثم رد :
– نايم يا بابا، متعود ينام بدري خاصة إنه هيصحى بدري الصبح عشان مواعيد الدراسة قربت وعاوزين نشوف له مدرسة كويسة.
(الأب) :
– طيب عاوز أشوفه، حتى لو نايم مش لازم أكلمه.
تطلع إليه ولديه في صمت في حين قالت (سارة) :
– وأنا كمان عاوزة أشوفه .
التفت إليها أخويها ثم نهض (آدم) من مقعده وأشار لهما أن يتبعانه وهو يتجه لغرفة جانبية فتبعاه بصمت وهو يفتح باب الغرفة بهدوء شديد ويطل منه مشيرا ناحية الفراش في أحد أركانها، دلفوا إلى الداخل بخفوت، تطلع الأب للصغير النائم في فراشه كملاك بحنان شديد أما (سارة) فاقتربت من الفراش تتطلع إليه عن قرب ثم مسحت بأصابعها على شعره برفق وطبعت قبلة حانية على جبهته وعادت إلى جوارهما ثانية، لم يتحرك الأب من مكانه وظل يتطلع للصغير كأنما التصقت عيناه به ، عيناه التي امتلأتا بمشاعر كثيرة متضاربة، حب وحنان، شوق وشفقة ممتزجة بعطف لذلك اليتيم الصغير الذي ذكره بابنه الأكبر والده، لم يفق من شروده إلا على جذبة حانية من يد ابنه (آدم) تنبهه ليخرجوا من الغرفة، التفت إليه بشرود ثم تبعه للخارج، تحدثوا كثيرا وحكى لهم (آدم) الكثير مما مر به، الكثير عن غربته وزوجته وطفله، فضفضة لم يتوقع من نفسه أبدا أن ينطق بها خاصة لوالده الذي اعتصره الغضب والحزن منه في يوم ما، يوم شعر فيه بمرارة اليتم للمرة الثانية بعد فقدانه لوالدته وهو بعد رضيع، كان وقت الفجر قد اقترب ولم يشعروا جميعا بمرور الوقت إلا عندما رفع الآذان الأول في مسجد شهير قريب فتنحنح (أدهم) قائلا :
– ياخبر الفجر هيأذن وإحنا مش حاسين بالوقت، يلا يابابا عشان تروح ترتاح وآدم أهو موجود وهيزهقك من هنا ورايح، وعدني إنه هييجي يقف جنبي في شغل شركتنا زي زمان .
قالها كأنما يؤكد على أخيه وعده السابق، فتطلع إليه لحظة في صمت طال حتى قال الأب :
– بتفكر كتير ليه يا آدم ؟ مش عاوز تشتغل في شركتك كمان؟ طيب البيت وقلنا ماشي إنما الشركة دي بتاعتك إنت وأخواتك وماحدش يقدر يخرجك منها .
اندهشت (سارة) من كلام والدها لكنها لم تتدخل في حين رد (آدم) :
– مش بأفكر ولا حاجة يا بابا ، ربنا يسهل بإذن الله ألاقي مكان كويس نعيش فيه أنا وجو وبعدين نشوف موضوع الشغل .
لم يعقب والده على موضوع سكنه ذلك فهو يعلم أن ابنه لن يعود لفيلا زوجته مهما حدث وله الحق في ذلك، فقال :
– موضوع السكن محلول يا آدم لي أصحاب كتير في المقاولات هأعرف أجيب لك مكان يليق بيك .
ارتسمت ابتسامة باهتة تحمل لمحة ساخرة على شفتي (آدم) وهو يغمغم :
– المهم مكان أرتاح فيه.
فهمه والده جيدا أما (أدهم) فشعر بقليل من الغضب لكنه يعلم جيدا أنه لا حق له في ذلك فاكتفى بالصمت، (سارة) اكتفت بمتابعة حديثهم في صمت ممتزج بالدهشة لكنها أخذت قرارا بداخلها أن تعلم السبب فيما يحدث الآن ولمَ يرفض أخوها الإقامة معهم ؟ اقترح (آدم) أن يصلوا سويا في مسجد الفندق فمازحه (أدهم) هاتفا :
– ايه ده رحت كندا ولسه برده عم الشيخ ؟
نظر إليه (آدم) كأنه ينظر لطفل صغير طائش ورد بسخرية :
– ليه هو اللي بيصلي اليومين دول يبقى شيخ ؟.
لكزه أخاه في كتفه وهو يشعر بالغيظ ثم قال :
– طيب يلا ياسيدي عشان الإقامة قربت.
والتفت لشقيقته مستطردا :
– سارة خلي بالك على جو على مانيجي .
ابتسمت (سارة) في حنان وهي تنظر لغرفة الصغير مجيبة :
– ماتقلقش .
ذهبوا للصلاة في حين اتجهت (سارة) لغرفة (يوسف) وجلست متكئة بجواره تتطلع إليه بحنان وهي تنتظر عودتهم لتصلي هي الأخرى .
********
كانت الشمس تعانق السحب وترسل بضوئها الأرجواني على الموجودات عندما دلف (جلال) وابنه وابنته من باب الفيلا، وجدوا (فريدة) في استقبالهم والحنق والغضب مرتسم بأشد صوره على وجهها، تطلعوا إليها جميعا في صمت ممتزج بالقلق خاصة عندما صاحت في غضب :
– والله؟ لسه فاكرين ترجعوا دلوقتي ماكنتوا تخليكم معاه أحسن.
أشار (جلال) لولديه في حزم قائلا :
– أدهم خد أختك واطلعوا ارتاحوا، شوية كده وانزل الشركة يا أدهم.
(أدهم) بتوتر حاول إخفاؤه :
– لا يا بابا أنا هاروح الشركة دلوقتي، بعد إذنكم.
وانطلق مغادرا المكان هاربا من إعصار يعلم جيدا أنه انطلق من عقاله، المهم أن يغادر الفيلا حتى ولو لم تفتح الشركة أبوابها بعد، أما (سارة) فازداد فضولها أكثر وأكثر بعدما رأت رد فعل والدتها على زيارتها وأخيها ووالدها لأخيها الأكبر (آدم) لكنها فضلت الانسحاب الآن فاتجهت صاعدة لغرفتها بصمت يتبعها والدها الذي صرخت زوجته فيه :
– جلال، أظن أنا باكلمك.
التفت إليها قائلا بهدوء صارم :
– فريدة عاوزة تتكلمي يبقى نتكلم في أوضتنا وبهدوء من غير صوت عالي، مش هنفرج الشغالين علينا.
شعرت بالغيظ ينهشها لكنها استجابت إليه علها تشفي غليل قلبها، تبعته لغرفتهما وما إن دخلتها وأغلق الباب خلفهما حتى هتفت بصوت عال :
– أدينا بقينا لوحدنا ياجلال، ممكن أفهم في ايه بقى ؟ وابنك ناوي على ايه؟ هييجي يعيش معانا هنا تاني هو ومراته وابنه ؟
تطلع إليها في حنق، كان حزينا بسبب ماعلمه عن ابنه وامتزج حزنه بالغضب الشديد عندما رأى طريقة تفكير زوجته، أحيانا يفكر كيف اختارها لتكون أما ثانية لـ (آدم) بعد رحيل أمه لكن يعود فيقول أنه خطؤه منذ البدء وعليه تحمل نتائجه خاصة وأن ابنه وابنته يحبان أخاهما كثيرا تنبه من شروده على صوتها الغاضب يتساءل ثانية :
– جلال ، أنا بأكلمك.
رد عليها بجفاء واقتضاب :
– ريحي نفسك يافريدة آدم مستحيل يرجع بيتك مع إنه بيت أبوه ومراته مش هتشوفيها لأنها ماتت الله يرحمها وما أعتقدش إنك هتشوفيه أو تشوفي ابنه أصلا.
كان بعض الارتياح قد ظهر على ملامحها مما أثار غضبه أكثر لكنها قالت :
– وهو أنا قلت مايجيش يعيش معاك، إنت باباه يعني.
زم شفتيه بمزيد من الغضب مكملا كلامها :
– وده بيتك يافريدة وهو مستحيل يرجع فيه بعد اللي عملتيه قبل كده.
(فريدة) بدفاع :
– عملت ايه ياجلال إنت عارف إني اتسرقت وهو الوحيد اللي كان متاح له يدخل أوضتي مع أدهم وسارة مش حد تاني والشغالين اتفتشوا وأوضهم اتفتشت كلها يومها وأدهم مستحيل يعمل حاجة زي كده وسارة كانت صغيرة يبقى مين …..
قاطعها بغضب أخافها :
– فريدة الموضوع ده لو اتفتح تاني هتكون نهايته وحشة خليه مقفول أحسن وإياكي تفكري في حاجة زي دي أو تتكلمي فيها مع حد تاني وكفاية أدهم اللي شوهتي صورة أخوه مثله الأعلى قدامه.
(فريدة) وهي مازالت تدافع عن نفسها :
– قلت لك ياجلال إن مفيش حد تاني ممكن …….
قاطعها مرة أخرى بإشارة حازمة من يده وهو يمسك ذراعها بيده الأخرى هاتفا بحدة و صرامة :
– الموضوع ده مش هيتفتح تاني يافريدة فاهماني ولا لا ؟ جلال الحسيني اللي عمل لك خاطر زمان وضيع ابنه منه عشر سنين لحد مااتجوز وخلف وابنه كبر وهو مايعرفش مش هيعمل خاطر المرة الجاية، ماتخليش غيرتك وأنانيتك تخليكي تعملي أي تصرف تندمي عليه بعدين.
(فريدة) بغضب :
– إنت بتهددني ياجلال ؟ وعشان مين ؟
(جلال) بمزيد من الغضب وهو يترك ذراعها :
– ده مش تهديد يافريدة، إنت عارفة كويس إني مش بتاع تهديدات وإن اللي بأقوله بأنفذه فورا، حافظي على بيتك وخليكي في حالك ومالكيش دعوة بابني.
تطلعت إليه في غضب، كانت تعلم كم هو محق، وتعرف أن غضبه عندما ينطلق من عقاله لا يمكن الإمساك بلجامه أو السيطرة عليه فآثرت الصمت ولو بشكل مؤقت ثم تصنعت الاهتمام قائلة :
– خلاص ياجلال، ماليش دعوة بيه ولا بابنه، إنما هو هيعيش فين طيب وهيشتغل إزاي مادام مش عاوز يبقى له علاقة بينا ؟.
نظر لها في صمت، كان يعلم غرضها تماما من تلك الأسئلة فقطع الشك باليقين وأعطاها ما أردات حتى ينتهي الأمر :
– هيشوف شقة يافريدة والشغل هيشتغل في شركته طبعا ولا عاوزاه يدور على شغل وهو ماله موجود.
شعرت بالغيظ يأكلها، من أين ظهر لها ؟ ألم يهاجر ويترك البلد من سنين ؟ مالذي أعاده لينغص عليها حياتها ثانية ؟ ظهرت مشاعرها وأفكارها على وجهها بوضوح لأنها كانت أقوى من أن تخفيها ببراعة وقرأها (جلال) جيدا لكنها قالت بعد فترة قصيرة من الصمت :
– يعني هيشتغل في الشركة عند أدهم ؟
كانت نظرته قاتلة في هذه اللحظة لكنه أجاب في هدوء يخفي عاصفة تصول وتجول بداخله :
– مع أخوه يافريدة مش عنده، آدم له فيها زيه زي أدهم بالظبط ويمكن أكتر، ماتنسيش إنه بناها معايا لحد ماوصلت للي هي فيه دلوقتي.
لم تحاول الاعتراض فهي تعلم جيدا أنه يستفزها بقوله لذلك آثرت السلامة وأنهت الموضوع :
– طيب ياجلال، عملت إيه في موضوع شغل دينا؟ كلمت أدهم ؟
تركها تغير الموضوع كما أرادات فهذا يريحه أكثر وأجاب :
– لا لسه ماكلمتوش.
تساءلت في دهشة :
– ليه لسه ياجلال الموضوع كلمتك عليه من شهور وأنا كل ده فاكراك بتمهد لأدهم الفكرة.
هز كتفيه بعدم اهتمام و رد :
– ابقي كلميه إنت يافريدة، أظن إنك قلت لي أسيب الموضوع عليكي وماقلتليش إني هأدخل فيه.
شعرت بالغيظ لكنها تماسكت فهي لا تريد إفساد الأمر معه لذلك قالت :
– خلاص ياجلال أنا هأكلمه، هتنام دلوقتي ؟
اتجه لدولاب ملابسه وفتحه موليا إياها ظهره مجيبا باقتضاب :
– أيوة هأنام.
(فريدة) :
– طيب هاسيبك تستريح.
ثم تركت الغرفة متجهة لحديقة الفيلا بعد أن أمرت بتحضير فطورها ولم تهتم حتى بسؤال زوجها أو ابنتها عن احتياجهم للفطور أم لا، كان عقلها مشغولا بطريقة لتفتح بها موضوع عمل (دينا) في الشركة مع (أدهم) بل وتقنعه به، أما (جلال) فقد انتظر خروجها من الغرفة وابتعادها عنها ثم أمسك هاتفه النقال واتصل بأحد الأرقام المسجلة لديه، انتظر قليلا ليستمع للرنين في الجهة الأخرى ثم أعقبه صوت مرح يهتف في صخب :
– جلجل، مش معقول وأخيرا افتكرتنا.
شعر (جلال) بالحنين لصاحب الصوت وعلت ابتسامة شفتيه وهو يجيب :
– إبراهيم، إزيك، لك وحشة.
(إبراهيم) بمرح :
– لا ياشيخ، لو كنا وحشناك انا والشلة كنت زرتنا ولا حتى سألت علينا، إنما إنت بعدت ولا بتسأل ولا بتهتم.
(جلال) وهو يعلم طيبة قلب صديقه فهو على الرغم من استيائه من المقاطعة التي كانت (فريدة) أحد أسبابها إلا إنه كان يحادثه بمرح أزاح عنه ثقلا :
– معلش يا إبراهيم إنت عارف المشاغل والحياة بتاخد الواحد لدرجة إنه بينشغل عن أقرب الناس ليه، وأنا مااقدرش أنساكم أبدا، إنتوا عشرة عمري.
(إبراهيم) وهو يرفع الحرج عن صديقه أكثر :
– ماشي ياعم ربنا يعينك، المهم طمني عليك، وإزي الولاد؟
(جلال) :
– الحمد لله كلنا كويسين وإنت وولادك عاملين ايه ؟
(إبراهيم) :
– احنا تمام بس محتاجين نشوفك، ماريا بقى عندها بيتر وميرا ويوسف عنده إبراهيم الصغير.
(جلال) :
– ماشاء الله ربنا يخليهم.
ثم تردد لحظة حسم بعدها أمره قائلا :
– إبراهيم كنت قاصدك في خدمة.
(إبراهيم) :
– خير ياحبيبي؟ يعني اتصال مصلحة ! ماشي.
قالها وضحك فبادله (جلال) ضحكته ثم قال :
– يا إبراهيم ماتقولش كده إنت عارف إني مش بالجأ إلا ليكم وقت الشدة.
(إبراهيم) وهو يطيب خاطره :
– عارف ياجلجل ولا يهمك ، خير اؤمرني ؟
(جلال) :
– عندك أي عمارة فيها شقق فاضية بس تكون كويسة في مدينة نصر ؟
(إبراهيم) :
– أيوة عندي، في عمارة جديدة يادوب هأخلص تشطيبها كمان أسبوعين بالكتير في الحي الثامن، بس لمين ؟
(جلال) :
– آدم ابني رجع من السفر وعاوز له شقة كويسة ومش عاوزه يلف كتير وفي نفس الوقت تكون قريبة من الشركة.
(إبراهيم) :
– بجد ؟ رجع إمتى الواد حبيبي ده؟ ماشفتوش من أيام ماساب البيت عندك.
(جلال) :
– يادوب لسه راجع من يومين وإنت عارف إنه مش هيرجع الفيلا فعاوز له حاجة على ذوقك بقى.
(إبراهيم) :
– بس كده، عيوني ليه، نفسي أشوفه اتجوز ولا لسه ؟
(جلال) :
– أيوة اتجوز برا واحدة كندية بس اتوفت من ييجي سنة كده ورجع عشان يستقر هنا، هيشتغل مع أخوه في الشركة ويشوف مكان مناسب يعيش فيه هو وابنه، مش هأوصيك بقى.
(إبراهيم) :
– ماتقلقش ياجلال، اديني بس فرصة أسبوع تكون واجهة البرج قربت تخلص والشقة اتشطبت لأنهم لسه بيفنشوا فيها بس هيأخد شوية وقت على ما الاسانسيرات تشتغل .
(جلال) :
– ماشي ياحبيبي، هأكلمه وأقوله إنها منك إنت، أنت عارف إنه بيعزك وبيثق فيك.
(إبراهيم) :
– خلاص ماشي تمام، خليه يعدي علي في أقرب وقت نشوف العقود .
(جلال) :
– وبالنسبة للسعر ماتكلموش فيه بقى يا إبراهيم، الموضوع ده معايا.
(إبراهيم) :
– ياسلام ولو مني له هدية ماتدخلش إنت، آدم ده في معزة ماريا و يوسف.
(جلال) :
– ربنا يخليك لي يا إبراهيم، كنت عارف إني دايما أقدر أعتمد عليك.
ثم أنهى المكالمة في بعض المجاملات وهو يشعر بالارتياح يغمره، فهاهو يقترب من ولده أكثر ويحاول أن ينسيه موقفه السابق وتخاذله في نصرته، دعا الله أن يقبل ولده وأن يعيده إلى كنفه مجددا.