خارج أسوار القلب
الفصل الرابع
ــــــــــــــــــــــــــــ
بعد خروج (جمانة) من الشركة اتجهت لسيارتها وجلست فيها أمام الشركة ثم أخرجت هاتفها لتتصل بشقيقتها لتطمئنها بعد ثوان من بدء الرنين سمعت صوت (لمياء) تقول في لهفة :
– جمانة !! طمنيني عليكي عملتي إيه وخرجتي من الشركة ولا لسه ؟
ضحكت (جمانة) وردت على شقيقتها :
– طيب قولي السلام عليكم الأول .
(لمياء) بلهفة :
– السلام عليكم ياستي، ماتبقيش رخمة بقى وطمنيني .
أخذت (جمانة) نفسا عميقا وقصت على شقيقتها كل ما حدث وأبلغتها أنها ستتسلم عملها بدءا من الأسبوع القادم، كانت (لمياء) سعيدة جدا وهي تحادث لــ (جمانة) :
– أنا فرحانة أوي ياجوجو، ربنا يسعدك ياحبيبة قلبي وإن شاء الله تنبسطي في شغلك، تعالي بقى النهاردة وهاتي ماما وملوكة حبيبة خالتو عشان نتغدى سوا .
ارتسمت ابتسامة سعيدة على شفتي (جمانة) وهي تجيبها :
– ربنا يخليكي ليا يا لولو وما يحرمنيش منك أبدا، مش هينفع النهاردة بقى خليها يوم تاني بإذن الله؛ عشان يمكن بالليل أروح لماما راضية أطمن عليها وتشوف ملك زي كل أسبوع لأني فوت الأسبوع اللي فات، وأقولها كمان على موضوع الشغل .
ردت شقيقتها :
– ماشي ياحبيبتي ابقي سلمي عليها كتير وقولي لها خلينا نشوفها .
(جمانة) :
– إن شاء الله يالولو ، يلا سلام بقى .
أنهت المكالمة وقادت سيارتها عائدة لمنزلها، أبلغت والدتها بنتيجة المقابلة وموعد تسلمها العمل ثم قامتا بتحضير الغذاء سويا، جلس ثلاثتهن يتناولن طعامهن و(جمانة) ربما لأول مرة منذ فترة طويلة تعتني بطفلتها (ملك) بهذا الشكل، كانت الوالدة في منتهى سعادتها لرؤيتها صغيرتها (جمانة) تتحرر من بوتقة الحزن التي حبست نفسها فيها لمدة طويلة، بعد الغذاء عرضت (جمانة) على والدتها أن تذهب معها لوالدة (حسام) لكنها أخبرتها بأنها متعبة قليلا وتريد أن تستريح مما أثار قلقها وقررت تأجيل الزيارة لكن والدتها طمأنتها أنها فقط مرهقة وتحتاج لبعض النوم ثم حملتها سلاما لوالدة زوجها.
استعدت (جمانة) للذهاب وجهزت صغيرتها (ملك) التي كانت تتقافز فرحا كونها أولا ستخرج مع والدتها وأيضا ستزور جدتها، مرت (جمانة) على أحد محلات الهدايا لتشتري هدية لوالدة (حسام) ثم أكملت طريقها حتى وصلت للمنزل، فتحت (راضية) الباب لتجد قرة العين (ملك) والحبيبة (جمانة) فابتسمت وأفسحت الطريقة وهي تنخفض لمستوى الصغيرة وتفتح ذراعيها لتندفع بينهما (ملك) وهي تقبلها وتحتضنها بشوق هاتفة :
– ملوكة حبيبة تيتة وحشتيني، ينفع كده كل ده ما أشوفكيش ؟
ثم بدون أن تقف وهي مازالت محتضنة الصغيرة تطلعت ل(جمانة) بنظرة معاتبة :
– كل ده ياجمانة أسبوعين ما تجيش ! هانت عليكي ماما راضية ؟
خفضت (جمانة) عينيها وهي تقول بأسف :
– معلش يا ماما راضية إنت عارفة ظروفي وعارفة احساسي عامل إزاي أنا تقريبا حتى ماكنتش بأشوف ملك إلا وقت الأكل .
بدأت الدموع تتجمع في عينيها وقالت آخر كلماتها بصوت مخنوق فوقفت (راضية) وضمتها لصدرها، ربتت على كتفها في حنان مرددة :
– خلاص ياجوجو بلاش بكا عشان ماافتحش قصادك أنتو جايين تقعدوا معايا شوية مش عاوزين نفضل نعيط بقى، تعالي يلا أنا عملت لك البسبوسة اللي بتحبيها .
دخلتا لغرفة الجلوس وجلستا تتحادثان قليلا و(ملك) بين ذراعي جدتها وقد بدأت في التململ فابتسمت الجدة وقبلتها ثم سألتها :
– ملوكة نفسها تلعب مش كده ؟
أومأت الصغيرة برأسها في سعادة فقالت الجدة :
– طيب تعالي شوفي بقى تيتة راضية جابت لك إيه !
دخلت إحدى الغرف وعادت تحمل في يديها علبة كبيرة، جلست بجوار الصغيرة على الأرض والتي بدا عليها السعادة وقالت :
– تعالي يا ملوكة شوفي اللعبة اللي تيتة جابتها لك مخصوص .
فقالت (جمانة) بابتسامة :
– دايما مدلعاها يا ماما .
التفتت إليها الجدة و ردت بابتسامة حانية :
– هو أنا عندي مين غيركم ياجمانة من ريحة حسام، ربنا مايحرمني منكم .
ثم قامت من جوار الصغيرة وأكملت مخاطبة (جمانة) :
– تعالي ياجوجو نروح المطبخ نعمل حاجة نشربها ونجيب الشيكولاتة لملوكة .
صحبتها (جمانة) ووقفتا سويا تتحادثان أثناء بينما تعدان الشاي وأثناء انشغال الجدة بالتحضير سألتها في خفوت :
– عاملة ايه ياماما ؟ مش ناوية بقى تسمعي الكلام وتيجي تعيشي معايا أنا و ملك ؟
ابتسمت الجدة ابتسامة صغيرة يتخللها الحزن وردت :
– أنا كويسة الحمد لله يا حبيبتي، سيبك مني إنت عارفة إني مش هاقدر اسيب بيتي أبدا ، المهم طمنيني عليكم.
قالت (جمانة) :
– احنا الحمد لله كويسين يا ماما .
ثم ترددت قليلا ولاحظت الجدة ترددها فحثتها على الحديث قائلة بابتسامة :
– مالك يا أم ملك عاوزة تقولي حاجة ؟
ابتسمت (جمانة) وأجابت في تردد :
– أيوة ياماما، أنا بإذن الله ناوية أشتغل.
صمتت الجدة للحظة ثم التفتت إليها متسائلة :
– ليه ياحبيبتي إنت محتاجة شغل ؟؟ في حاجة محتاجاها ؟
ردت (جمانة) :
– مش احتياج مادي يا ماما قد ماهو احتياج نفسي، محتاجة أنشغل بحاجة لأني فعلا قربت أنهار ….
وبدأت الدموع تلمع في عينيها وسقطت إحداها على وجنتها وهي تكمل :
– قربت أفكر إزاي أكون معاه في أقرب وقت عارفة ده معناه ايه ؟
تركت السيدة الحنون ما في يديها و اتجهت إليها بسرعة لتضمها إلى صدرها وتربت عليها برفق وحنو مقاطعة :
– جمانة إيه اللي بتقوليه ده! أستغفر الله العظيم .
وبدأت تبكي هي الأخرى وهي تستطرد :
– أنا عارفة ياحبيبتي ، عارفة قد ايه كنت بتحبيه وقد ايه انتظرتيه ، عارفة الصدمة اللي كلنا عشناها لما الحادثة حصلت وعارفة كويس اللي حصلك أيامها بس خلاص وقت البكا انتهى ، عمر اللي راح ماهيرجع وعندنا حتة منه ملك ربنا يحميها ويسعد قلوبنا بيها.
ثم أبعدتها عن حضنها وهي تمسح دموعها بكفها وتكمل :
– خلاص ياحبيبة قلبي شوفي لو الشغل هيريحك اشتغلي ماتحبسيش نفسك بس خلي بالك من نفسك ومن ملك .
ابتسمت (جمانة) بارتياح في حيت سكتت الجدة قليلا كأنها تفكر في أمر ولاحظت (جمانة) ذلك فتساءلت :
– مالك يا ماما سكتي ليه بتفكري في ايه ؟
ظهرت نظرة قلق في عينيها وهي تطلع لـ (جمانة) لحظات أخرى في صمت ثم همست بحزن :
– جمانة عاوزة أسألك سؤال وتردي علي بصراحة .
وصمتت لترى رد فعل أرملة ابنها فوجدت عينيها تشجعانها على الحديث فأكملت :
– إنت ممكن تتجوزي تاني ؟
صدمت (جمانة) من السؤال وتراجعت بعنف كأنما دفعتها يد خفية وهي تحدق في السيدة بذهول ثم هتفت :
– ماما ايه الكلام ده ؟ انت تعتقدي إني ممكن أتجوز حد بعد حسام الله يرحمه أو حد ممكن يدخل حياتي أو قلبي بعده .
تطلعت لها السيدة بصمت لثوان ثم قالت في خفوت :
– انت هتشتغلي وهتقابلي ناس وانت لسه صغيرة وجميلة يعني كتير يتمنوكي وأكيد هيبقى لك زمايل في شغلك ….
قاطعتها (جمانة) قائلة حسما للأمر :
– ماتفكريش في الموضوع ده أبدا ياماما لأنه مستحيل يحصل ، مستحيل أي راجل تاني يدخل حياتي بعد حسام مستحيل يكون لملك زوج أم الله أعلم ممكن يعمل فيها ايه ، مستحيل أفكر في حد تاني غير حسام مستحيل .
صمتت الجدة وهي مازالت تتطلع إليها ثم غمغمت في تردد :
– توعديني ؟
تساءلت (جمانة) كأنها تريد التأكد مما سمعته :
– ايه ؟
قالت السيدة في تردد أكبر :
– توعديني إنك ماتكونيش لحد غير حسام .
تطلعت إليها (جمانة) وكم رقت لحالها، هذه السيدة المسكينة التي فقدت وحيدها وهو مازال شابا ومرتعبة من فكرة فقد زوجته وطفلته هي الأخرى، كانت تعلم داخل نفسها أن شيئا من هذا لن يحدث أبدا لذا طمأنتها قائلة وهي تمسك يدها لتقبلها :
– أوعدك يا ماما.
وابتسمت فعادت الدموع تتجمع في عيني (راضية) مرة أخرى فسارعت (جمانة) تداعبها قائلة :
– ماما خلاص بقى يلا ولا عشان عارفة غلاوتك عندي، دلوقتي ملوكة هتيجي تجري ورانا عشان الهوت شوكليت بتاعتها زي ماانت معوداها .
ابتسمت الجدة وهي تكمل تحضير الشراب الساخن للصغيرة وقالت عندما بدأت (جمانة) في مساعدتها :
– ربنا مايحرمني منكم أبدا .
اتجهت إليها (جمانة) وقبلت رأسها وعادتا للصغيرة التي جلست تلعب بلعبتها الجديدة وهي سعيدة للغاية فجلست الجدة بجوارها تلعب معها وهي تضحك كطفلة هي الأخرى و (جمانة) تراقبهما بسعادة حتى شدتها الجدة لتعلب معهما، قضت (جمانة) وطفلتها وقتا جميلا مع جدة الصغيرة ثم عادتا لمنزلهما، نامت (ملك) بين ذراعي والدتها وهي تتحدث مع أمها كانت تبدو مختلفة وقلقة بعض الشيء مما جعل والدتها تسألها عما بها :
– مالك ياجمانة ياحبيبتي في حاجة ضايقتك عند راضية ولا هي زعلتك
(جمانة) :
– لا أبدا ليه بتسألي السؤال ده ياماما
(الأم) :
– شكلك متغير من ساعة ما رجعتي قلقانة وسرحانة وزي مايكون في حاجة شاغلة بالك، انتم اتكلمتوا في ايه هناك بالظبط؟
(جمانة) :
– عادي يا ماما الكلام المعتاد ولعبنا مع ملك وجدتها جابت لها لعب جديدة برده كالمعتاد .
قالتها وحاولت الابتسام حتى لا تقلق والدتها أكثر فتطلعت إليها والدتها بصمت، لم تكن ترغب في الضغط عليها لتخبرها بما حدث هناك وجعلها تبدو هكذا وفي نفس الوقت كانت تريد الاطمئنان على صغيرتها فزمت شفتيها وأظهرت القليل من استيائها قائلة :
– ماشي ياجمانة لما تحبي تحكي أنا موجودة مادام شايفة انك بقى لك أسرار مع مامة جوزك الله يرحمه .
ثم وقفت لتخرج من الغرفة فاستوقفتها (جمانة) وأمسكت بيدها وهي تهتف :
– ماما وبعدين معاكي انت زعلتي ولا ايه، ياحبيبة قلبي فعلا مفيش حاجة ، هي بس ماما راضية قلقت من شغلي وخايفة ياخدني منها ويشغلني عنها وكده .. بس .
تطلعت لها والدته بصمت وكأنها تحاول سبر أغوارها واكتشاف صحة ما تقول من عدمها ثم تنهدت باستسلام قائلة :
– غريبة انها تقلق من حاجة زي دي، ايه علاقة الشغل بيها وبإنك تنشغلي عنها ده له وقته وده له وقته .
فكرت (جمانة) لثوان هل تخبر والدتها بوعدها لوالدة (حسام) أم لا وهل فعلا ستتفهم أمها الوضع وسبب الوعد الذي قطعته على نفسها .. ترددت كثيرا ثم فجأة قالت بسرعة وكأنها تخاف من التراجع :
– ماما راضية خايفة لا أنشغل عنها بسبب الشغل لأني ممكن اتجوز في يوم من الأيام لكن أنا وعدتها إن مستحيل ده يحصل ومستحيل حد يدخل حياتي بعد حسام الله يرحمه .
تطلعت لها والدتها فيما يشبه الصدمة، كانت تتساءل داخلها كيف يمكن لـ (جمانة) أن تقطع على نفسها مثل هذا الوعد وحولت تساؤلها لصوت مسموع طرحته عليها بغضب :
– إنت بتقولي ايه ؟ إزاي تعملي حاجة زي دي ؟
تطلعت لها (جمانة) بدهشة وهي ترى مشاعر الغضب مرتسمة على وجه والدتها ثم قالت :
– أعمل إيه يا ماما ؟ ما إنت عارفة كويس إني مستحيل أفكر في حد غير حسام .
ردت والدتها وغضبها يتصاعد :
– إنت أكيد اتجننتي، جمانة انت اللي في سنك كتير لسه مااتجوزوش أصلا انت ماكملتيش 30 سنة لسه، جميلة وصغيرة ومتعلمة وهتشتغلي كمان يعني المستقبل والحياة لسه قدامك إزاي تفكري إنك تحرمي نفسك من حق من حقوقك بوعد زي ده ؟ مافكرتيش إنك فعلا ممكن تقابلي إنسان كويس يراعي ربنا فيكي وفي بنتك ويكون أمين عليكم ؟ بتحَرّمي على نفسك اللي ربنا حلله لك ؟ إنت أكيد ماكنتيش في وعيك، وإزاي راضية تعمل حاجة زي دي؟ يعني لو لا قدر الله كان هو اللي عايش وانت لا كانت هتطلب منه يتعبد في محرابك لحد مايموت ولو أنا اتجرأت وطلبت منه حاجة زي دي كان رد فعلها هيبقى ايه ؟ قولي لي كده ؟.
حاولت (جمانة) تهدئة والدتها وقالت بتصميم :
– ماما من فضلك حتى لو ماكانتش ماما راضية طلبت حاجة زي دي فالموضوع مفروغ منه بالنسبة لي ومنتهي وصدقيني لو كان حسام هو اللي عايش كان هيبقى الموضوع منتهي بالنسبة له برده، المسألة مش مسألة انت أو هي مسألة أنا وإنسان حبينا بعض وعمر الموت ماهيكون سبب في فراقنا أنا وعدته إني هاكون ليه لحد آخر نفس وماعنديش استعداد أخلف وعدي له ولا لماما راضية.
كادت والدتها تصرخ في وجهها مجددا لولا أنها استوقفتها قبل أن تتكلم :
– لو سمحتي يا ماما الموضوع منتهي بالنسبة لي ولو هتضغطي علي بالشكل ده وكله بسبب الشغل يبقى بلاش منه وخليني في بيتي أحسن بدل المشاكل .
تطلعت إليها والدتها في صمت وعينيها يملؤهما الحزن والغضب في مزيج عجيب، كانت تريد أن تخرج ابنتها من شرنقتها التي فرضتها على نفسها، لن تقضي عمرها كله في الحزن على ما فات وفي نفس الوقت كانت غاضبة جدا بسبب ذلك الوعد، قررت أن تنهي الحديث في الموضوع الآن حتى تبدأ ابنتها في عملها وسيكون لها معها حديث آخر، وتوعدت (راضية) بحديث لن يرضيها أبدا لذلك قالت لابنتها في هدوء أقلقها :
– ماشي ياجمانة اعملي اللي انت عاوزاه .
والتفت لتخرج من الغرفة فلاحقتها (جمانة) بسرعة :
– ماما، الموضوع ده مايطلعش لحد ولا حتى لميا وطبعا مش هأوصيكي ان ماما راضية ماتعرفش هي مش ناقصة كفاية ابنها الوحيد اللي ضاع منها.
توقفت والدتها للحظات ولم تلتفت إليها وبدت كأنها تحاول هضم ما قالته ابنتها ثم ردت في النهاية :
– اللي انت عاوزاه .
واندفعت تغادر الغرفة في غضب، تراجعت (جمانة) في مقعدها وهي تتنهد بحزن ثم همست وهي تمسك سلسلة ذهبية تبدو كقلب صغير وتحتضنها بيدها :
– وحشتني ياحسام .. أوي.
ثم انحدرت من عينها دمعة ساخنة سالت على وجنتها لتحرق قلبها معها .
********
في اليوم التالي قررت (جمانة) أن تتصل بصديقتها الوحيدة (نورا) وتتفق معها أن تتقابلا وبالفعل هاتفتها وعندما سمعت صوتها ترد قالت بتردد وخجل :
– نوني أنا جمانة .
لم تصدق (نورا) أذنيها فصرخت في الهاتف :
– مش ممكن جمانة! حرام عليكي يابنتي كفارة ينفع كده كل المدة دي مااسمعش صوتك ولا أشوفك ؟
ابتسمت (جمانة) في ارتياح بعدما كانت خائفة من رد فعل صديقتها، أجابتها :
– معلش يانوني إنت عارفة الظروف وبعدين يعني أنا مااتصلش تقومي انت كمان تطنشي .
فضحكت صديقتها ضحكتها الصافية التي تسعد بها (جمانة) و ردت :
– لا يا شيخة الكلام ده لي أنا ؟ ماتفتحيش الورق القديم عشان هأقولك كلام وحش قال انا اللي مش با أسأل قال .
قالت (جمانة) وهي مازالت محتفظة بابتسامتها :
– خلاص خلاص خلي الورق القديم في الدرج، المهم إنت وحشاني جدا ونفسي أشوفك .
فرحت (نورا) للغاية وهتفت في سعادة واضحة :
– بجد ياجوجو هتخرجي ؟
(جمانة) :
– أيوة ياستي هاأتكرم عليكي وأخرج معاكي، ايه رأيك نتقابل في النادي وتجيبي ياسين معاكي وأهو يلعب مع ملك شوية دي مش بتشوف أطفال خالص .
(نورا) :
– بس كده ياسين وأم ياسين وعيلته كلها كمان المهم طمنيني عليكي عاملة ايه وازي ملوكة ولميا ومامتك ؟
(جمانة) :
– الحمد لله كلنا تمام وانتو الأخبار عندكو ايه وإزي شريف عامل ايه معاكي ؟
(نورا) ضاحكة :
– شريف ده حبيبي حبيبي سيبك إنت خلينا فينا أحسن، هنتقابل بكرة، تمام ياقمري .
بادلتها (جمانة) ضحكتها قائلة :
– تمام يانوني يلا سلام .
في اليوم التالي تقابلت الصديقتين وجلستا تتحادثان كما اعتادتا، جلست (ملك) مع (ياسين) الذي يكبرها بعام واحد يلعبان سويا، قصت عليها (جمانة) آخر أخبارها وخبر عملها الجديد وفرحت لها (نورا) للغاية، انتهى اليوم سريعا وعادت (جمانة) و (ملك) للمنزل، أعدت (جمانة) نفسها لبدء العمل في اليوم التالي، حضرت ما سترتديه وصلت ركعتي القيام ودعت الله أن يوفقها في عملها ثم قرأت وردها اليومي من القرآن ودخلت الفراش بجوار صغيرتها، طبعت على جبهتها قبلة دافئة ثم راحت في نوم عميق .
********
استيقظت (جمانة) على رنين منبه هاتفها في اليوم التالي فأطفأته سريعا خشية أن يوقظ صغيرتها ثم تثاءبت في كسل وقامت من الفراش، توضأت وصلت ركعتي الضحى ثم ارتدت ملابسها وخرجت من الغرفة لتعد لنفسها فنجانا من القهوة فوجدت والدتها واقفة في المطبخ تحضر لها الإفطار فقالت بدهشة :
– ماما! إيه اللي مصحيكي بدري كده .
ردت عليها والدتها بجفاف :
– طيب قولي صباح الخير الأول، وبعدين هأكون صاحية ليه، عشان أعملك فطار قبل ماتنزلي عارفة إنك مش هتعملي لنفسك .
احتضنت (جمانة) والدتها من الخلف وطبعت على كتفها قبلة وقالت في مرح :
– صباح الخير ياقمر، إنت لسه زعلانة ياماما ؟ ينفع كده أول يوم أروح فيه الشغل أنزل وانت زعلانة مني .
(الأم) :
– خلاص ياجمانة مش زعلانة ومش وقت كلام في الموضوع ده، يلا خدي ساندويتشاتك وعصيرك وروحي افطري.
(جمانة) :
– لا مش هأفطر إلا وست الكل معايا وتأكلني بإيدها كمان، استني هأعمل لنفسي فنجان قهوة ونفطر سوا .
(الأم) :
– براحتك عصير ولا قهوة ماهو إنت كل تصرفاتك من دماغك .
حزنت (جمانة) بسبب رد فعل والدتها عندما علمت بوعدها لوالدة زوجها الراحل، ليت أمها تعلم أنها تعنيه بالفعل، لكنها حاولت استرضاء والدتها فقالت :
– ماما عشان خاطري سيبك من الموضوع ده بقى دلوقتي وتعالي افطري معايا وهاشرب العصير ياستي عشان من ايديكي الحلوة، يرضيكي اروح شغلي وانت زعلانة افرضي بقى حصل لي حاجة أموت وانت زعلانة مني .
نظرت لها والدتها بغضب و صاحت في حنق :
– جمانة بلاش الدلع اللي من النوع ده وماتحاوليش بقى يلا افطري وروحي شغلك ولما ترجعي لينا كلام تاني .
ثم تركتها وعادت لغرفة (جمانة) لتنام بجوار الصغيرة، تنهدت هي في حزن، تعلم أن غضب أمها لن يطول لكنها تحتاج لبعض الوقت لتبتلع الأمر ويمر وتنساه، كانت تود أن تتفهم أمها موقفها لا أن تغضب منها وتخاصمها، أن تشعر بما يعتمل داخلها ومشاعرها المرهقة وقلبها الموجوع على حبيب ذهب ولن يعود، تنهدت مرة أخرى ثم قضمت قضمتين من الشطيرة وشربت القليل من العصير وانطلقت ذاهبة لعملها وهي تدعو الله بالتوفيق.
وصلت للشركة وسألت عن الأستاذ (محفوظ) رئيس قسم الحسابات فدلوها إلى مكتبه، اتجهت إليه وعرفته بنفسها فابتسم مرحبا وقال :
– أهلا يا بنتي، جلال بيه موصيني عليكي، تعالي هأوريكي مكتبك وأفهمك المطلوب منك بالظبط .
أخذها واتجه به إلى مكتب يضم أثنين آخرين شاب وفتاة، أشار لمكتب ثالث فارغ قائلا :
– ده مكتبك إن شاء الله وزمايلك في المكتب المحاسب الأستاذ عصام ومدام هالة .
ثم خاطب الآخرين وقال :
– مدام جمانة زميلتكم الجديدة في المكتب، مش هأوصيك يا عصام تعرفها مبادئ الشغل وتساعدها لحد ماتفهم طبيعته وطبعا مدام هالة تساعديها في شغلها برده اتفقنا .
ابتسمت الفتاة وقامت لترحب بها :
– أنا هالة زميلتك هنا نورتينا إن شاء الله تلاقي الشغل سهل وتنبسطي معانا .
صافحتها (جمانة) بخجل وقام (عصام) مادا يده ليصافحها قائلا :
– أهلا بيكي مدام جمانة .
طأطأت رأسها خجلا وهي تمسك إحدى يديها بالأخرى وتغمغم في نبرة اعتذار :
– ربنا يخليك يا أستاذ عصام، آسفة أصلي مش بأسلم .
شعر (عصام) بالحرج وهو يتطلع لها في دهشة ثم قال في خفوت :
– لا ولا يهمك أهلا بيكي ولو احتجتي أي حاجة اسألي فورا وإحنا أكيد معاكي أول ماتستلمي الشغل بإذن الله .
ثم عاد خلف مكتبه وهو يختلس إليها النظرات بين حين وآخر ولازال يشعر بالدهشة في حين جلست معها (هالة) أمام مكتبها تتحدث إليها وتشرح لها مبادئ عملها في المكتب.
مر اليوم بسلام واندهشت (جمانة) كثيرا مما رأته وخبرته في يوم واحد في عملها، لم تكن قد تسلمت عملا فعليا لكن تابعت (هالة) و (عصام) في عملهما وهما يشرحان لها في بعض الأحيان ما يقومان به .
عادت للمنزل وهي تدعو الله أن تكون والدتها قد نسيت الأمر، قابلتها والدتها بابتسامة وسألتها عن عملها، تنهدت (جمانة) بارتياح عندما رأت ابتسامة والدتها وجلست تحكي لها عن يومها الأول وهي تداعب طفلتها، علمت أن أمها تناست الأمر ولم تنسه فقط لتسعدها وحمدت الله على قلب والدتها الحنون .