خارج أسوار القلب
الفصل الثالث
_________
عاد (أدهم) للمنزل متأخرا قدر الإمكان وهو يأمل أن تكون الزيارة الموعودة قد انتهت حتى لا يلتقي بـ (دينا) أو والدتها وعندما ذهب ليوقف سيارته في مكانها المعتاد وجد سيارة أخرى متوقفة في موضعها فاستغرب كثيرا وظن أنهم مازالوا بالداخل، للأسف لا يعرف نوع سيارتهم وإلا لفر من المكان قد تكون سيارة والده الجديدة أو أخته لم يدر ماذا يفعل فقرر أن يأخذ جولة سريعة بالسيارة ثم يعود من باب الحرص، وعندما أغلق باب سيارته عليه مرة أخرى وهم بإدارة المحرك فتح باب الفيلا الرئيسي وخرجت منه (دينا) وأبويها مع والديه فشعر كأنه وقع في المصيدة ولا يمكنه الفكاك لمحته أمه فنادته بغضب مكتوم :
– أدهم ! اتأخرت كده ليه ؟ مش قلت لك إن دينا هتيجي النهاردة ؟
ترجل من السيارة على مضض ورسم ابتسامة مصطنعة باهتة على شفتيه وهو يقترب منهم وهز رأسه محييا وهو يجيب :
– معلش يا أمي غصب عني كان عندي شغل النهاردة كتير وللأسف ما قدرتش آجي زي ماوعدتك .
والتفت لـ (دينا) ووالديها مرحبا :
– إزيك ياعمو مصطفى، إزيك ياطنط؟ عاملة ايه يادينا وأخبار الكلية ايه ؟
رد عليه والد الفتاة :
– احنا الحمد لله كويسين يا أدهم إنت عامل ايه ؟ ينفع كده مش بنشوفك خالص ؟
أما (دينا) فمطت شفتيها في دلال ثم اقتربت منه للغاية حتى أنه تراجع خطوة للخلف وهي ترد بميوعة لم تعجبه :
– أنا كويسة يا أدهم بس زعلانة منك خالص، كل مرة نيجي مش بألاقيك وعلى طول شغل شغل ايه مش بتزهق ؟
تطلع إليها بملل وهو يرد في برود :
– معلش يادينا ظروف بقى .
ثم استدار محاولا الدخول للفيلا وهو يقول بسرعة :
– شرفتونا يا جماعة وآسف إني اتأخرت عليكم ، تتعوض مرة تانية إن شاء الله، بعد إذنكم عشان تعبان جدا من الشغل .
وانطلق مسرعا للداخل كأنما هناك أفعى تطارده، نظرت إليه والدته بغضب ولم تعلق في حين سلم والده على ضيوفهم وودعتهم (فريدة) حتى صعدوا إلى سيارتهم وانطلقوا بها ثم عادت للداخل كالإعصار تغلي غضبا، وجدت (أدهم) يخرج من المطبخ ويحمل كوبا من العصير يشرب منه في استمتاع فهتفت فيه حانقة :
– إيه اللي إنت عملته ده يا أدهم ؟ ينفع تحرجني وتحرج باباك بالشكل ده ؟ أنا عارفة كويس ومتأكده إن ماكانش عندك شغل مش بعيد تكون رحت تتمشى بالعربية في الشوارع لحد ماهما يمشوا ، ع الأقل لما جيت ولقيتهم كان المفروض تسلم عليهم بطريقة كويسة .
وضع (أدهم) كوب العصير على طاولة قريبة ثم جلس على مقعد يجاورها وهز كتفيه مخاطبا والدته :
– يا أمي ليه بتقولي كده ويعني من إمتى وأنا بأكدب ؟ أنا فعلا كنت في الشركة وجيت من هناك مباشرة على هنا وإنت عارفة كويس رأيي في دينا وأهلها أو بلاش أهلها نقول مامتها فما تجبرنيش أقابلهم عشان هابقى جلف زي ماشفتي كده .
عقدت والدته حاجبيها في غضب وكادت تصرخ في وجهه لولا أن تدخل والده محاولا تهدئة الموقف ومخاطبا ولده :
– أدهم يابني عيب تقول كده دول مهما كانوا ضيوفك ولازم تكون ذوق معاهم طيب ماهي سارة برده مش بتحب دينا وعلى الرغم من كده قابلتهم ورحبت بيهم واتعشت معانا ويادوب لسه طالعة من شوية تشوف مذاكرتها عشان عندها امتحان بكرة، إنت مش قادر تيجي على نفسك شوية عشان شوية اجتماعيات ؟ دول ناس معارفنا وبينا وبينهم بيزنس مهم وكبير وماعنديش استعداد أخسرهم وخصوصا عمك مصطفى لأنك بتدلع ومش بتطيق
دينا ، فاهمني يا أدهم ؟ بعد كده تتعامل معاهم بذوق وتكون موجود وترحب بيهم معانا مش تيجي في نص الزيارة أو بعد مايمشوا ، وده آخر كلام عندي .
كظم (أدهم) غيظه وهو يتطلع إلى والده لثوان في صمت ثم هز كتفيه في لامبالاة قائلا :
– هأحاول يا بابا مع إن إنت عارف إني مش باحب طريقة الاوامر دي بس عشان خاطرك .
فهتفت والدته في حنق :
– لا والله تصدق كريم واتنازلت واتعطفت علينا ….
فقاطعها والده مهدئا :
– خلاص يافريدة الموضوع خلص .
وأكمل مخاطبا (أدهم) :
– وانت اطلع شوف أختك واطمن عليها عندها امتحان بكرة و قلقانة منه ، وبكرة إن شاء الله مدام (جمانة) هتيجي الشركة ابقى شوف هتتفق معاها على ايه وبلغني، يلا تصبح على خير، يلا يافريدة نطلع ننام احنا كمان .
رمقته والدته بنظرة محنقة أخيرة ثم ذهبت خلف زوجها في حين مط هو شفتيه في ضيق وذهب ليطمئن على شقيقته الصغرى ، طرق باب غرفتها بهدوء وسمع صوتها تأذن للطارق بالدخول ففتح الباب برفق وأطل برأسه فقط وهو يقول بمرح :
– سارو، سمعت إنهم لغوا امتحان بكرة .
ضحكت شقيقته وهتفت :
– بجد حقيقي فعلا؟!
ألقت الكتاب الذي تحمله على مكتبها وقامت تتقافز في الغرفة كطفلة صغيرة وهي تصيح:
– هيه هيه هيه هيه .
دلف (أدهم) للغرفة وهو يضحك بشدة ثم قال :
– مجنونة هنقول ايه بس ؟ عاملة ايه يامجنونة في المذاكرة ؟
ابتسمت (سارة) بضيق :
– ماعرفتش أذاكر كويس ياسيدي وربنا يستر عليَ بكرة .
تساءل شقيقها بقلق :
– ليه كده في حاجة مش فاهماها ولا ايه ؟
ردت بغرور مصطنع وهي ترفع حاجبيها :
– لا طبعا من امتى بيبقى في حاجة مش بأفهمها لكن الست دينا ومامتها فضلوا ماسكين في لحد من شوية صغيرة لما كنت خلاص هاسيب لهم البيت كله مع انهم عارفين إن عندي امتحان بس تقول ايه بقى .
ومطت شفتيها في حنق فقال (أدهم) :
– معلش ياسارو هنعمل ايه بقى صاحبة مامتك وبيزنس باباكي قدرنا .
فضحكت بخبث وقالت :
– أيوة ياعم بس إنت نفدت بجلدك وأنا اللي ادبست، دي دينا كانت خلاص شوية وهتجنن إنك ماجيتش بس والله برافو عليك يمكن تحس على دمها بقى .
ضحك (أدهم) في غيظ وهو يقول :
– ياريت يابنتي تحس ، بس واضح إن مفيش دم والمصيبة إني مش عارف أتنفس في الموضوع عشان بابا والشغل اللي بينه وبين عمو مصطفى .
ردت شقيقته :
– معلش ربنا يعينك ويصبرك، بس قولي إنت معاك حق ماتبقاش طايق دينا الغلسة دي ، بس مفيش حاجة كده ولا كده طايقها ؟
وغمزت بعينها وهي تضحك فأمسك شقيقها بأذنها وشدها هاتفا :
– لا مفيش يالمضة وريحي نفسك وركزي في مذاكرتك أفيد لك .
ابتعدت وهي تبعد يده عن أذنها قائلة :
– آآآآه ، كده ؟ ماشي يا أدهم ، بس بجد اعترف فعلا مفيش حد ؟
نظر لها باستغراب وتساءل :
– هو لازم يبقى في حد في حياتي ؟ لما ألاقيها ياستي هأبقى أقولك .
نظرت له شقيقته الصغرى وهي تقول بجدية :
– أدهم انت عديت الـ 34 يعني اللي زيك المفروض ألاقي عفاريت صغننة كده بتنطط حواليه وتقولي ياعمتو بقى وكده ، بجد نفسي أعرف البنت اللي هتختارها دي هتكون عاملة إزاي ؟
ضحك باستخفاف وهو يقول :
– يابنتي ركزي في مذاكرتك واعتبري نفسك بنتي وقولي لنفسك ياعمتو ما أنا زي بابا برده .
أومأت برأسها في تهديد ثم غمغمت :
– ماشي ماشي وأنا أعملك إيه وانت زي بابا ما انت اللي عجوز وأنا لسه نونو صغنتوتة .
لكزها في كتفها برفق وهو يضحك قائلا :
– ماشي يابنتي روحي بقى ذاكري عشان يومك كده مش هيعدي .
ابتسمت وهي تومئ برأسها وفي هذه الأثناء في غرفة والديهما كانت (فريدة) تقول لزوجها بحدة :
– وايه حكاية جمانة دي كمان ؟ مش دي اللي شكري قالك شوف لها شغل ؟
عقد (جلال) حاجبيه وتنهد في ضيق وهو يجيبها :
– أيوة يافريدة هي وقلت لك مليون مرة ده شغلي وأعرف أديره إزاي وماتدخليش فيه .
ثم تركها ذاهبا للحمام الملحق بالغرفة، أغلق بابه خلفه في عنف أما هي فجلست تغلي وتتمتم :
– بقى كده يا جلال شغلك وماادخلش ! ماشي هنشوف .
بعد خروجه من الحمام بادرته قائلة :
– طيب ياجلال بما إنك ممكن تعين ناس معارفك في الشركة عاوزاك تشوف شغل لدينا هناك .
التفت لها مندهشا وردد :
– دينا ؟ بنت مصطفى ؟
ردت بغطرسة :
– أيوة ، هي خلاص في آخر سنة في الكلية وممكن تشتغل عادي .
فرد زوجها ومازالت الدهشة تعلو ملامحه :
– وليه أشغلها عندي ماهي عندها شركة باباها وهو قايلي إنه هيشغلها فيها لأن مسيرها تديرها في يوم من الأيام، وبعدين دي عندها 25 سنة ولسه في كلية تجارة وكل سنة باتنين وتلاتة أشغلها عندي ليه بقى ؟
فردت وبدأ صوتها يعلو :
– ياسلام ماانت مشغل واحدة أهو من غير إعلان لمجرد إن صاحبك طلب منك فلما أنا أطلب تعمللي الفيلم ده .
نظر لها بتهديد فحاولت أن تهدأ وتلتقط أنفاسها وهي تقول بهدوء ونعومة :
– ياجلال أنا عارفة إنها هتدير شركة باباها ومش محتاجة شغل وكلام فاضي من ده بس أنا عاوزة أقربها من أدهم ، إنت عارف كويس إن جوازهم هينفعك في شغلك وهيقوي العلاقة بينك وبين مصطفى ومش بعيد تدمجوا الشركتين مع بعض وخصوصا وإنت داخل على صفقة كبيرة زي ماعرفت ومحتاج مساندته ليك في السوق ،
فمابالك بقى لو كان حما ابنك أكيد هيقف معاك جامد أوي وغير كده بعد عمر طويل مصير الشركة وكل فلوس باباها تبقى ليها لأن زي ما انت عارف مالوش قرايب ومفيش غير دينا وناريمان يعني هتبقى لأدهم ولينا ، وإنت شايف ابنك منشف دماغه ازاي ومش عاوز يتجوز وعاملنا فيها مااعرفش ايه فلما تشتغل معاه هيقربوا من بعض ومش بعيد يحبها البنت جميلة ودلوعة وصغيرة وغنية عاوز إيه أكتر من كده ؟
أدار (جلال) كلام زوجته في رأسه لدقيقة كاملة ثم أجابها :
– بس إنت عارفة إن أدهم مش من النوع ده من الرجالة ومايفرقش معاه غنية ولا جميلة ماهي قدامه بقى لها كتير أهي وبتشوفي بيعاملها ازاي ده غير إني خليته يوافق على شغل قريبة شكري بصعوبة مع إن شهاداتها كويسة فما بالك بقى بدينا اللي احنا عارفين كويس إنها فاشلة ولا بتهتم بدراسة ولا شغل مستحيل هيوافق.
أشرق وجهها وهي تقول :
– سيبك إنت منه أنا هاعرف اخليه يشغلها المهم إنت تكون موافق ع الفكرة .
أومأ برأسه في استسلام و رد :
– موافق ياستي مصطفى بني آدم كويس أينعم دينا طايشة شويتين بس أدهم هيظبطها.
تراجعت في مقعدها وهي تبتسم في ارتياح ورضا .
********
في سيارة عائلة (مصطفى) أثناء عودتهم من منزل (جلال الحسيني) كانت (دينا) تقضم أظافرها وهي تقول في غيظ من المقعد الخلفي :
– شفتي أدهم مام ؟ شفتي عمل إيه وجاي متأخر ويدخل يجري على جوا مش هاين عليه حتى يسلم علينا بطريقة كويسة ، أوك يا أدهم انا هاوريلك إزاي تتعامل معايا .
ردت والدتها الجالسة في المقعد الأمامي بجوار زوجها :
– دودي احنا قلنا ايه ؟ من غير عصبية وبالهدوء كله يتحل ، أدهم دماغه ناشفة وعنيد ولازم تشوفي مداخله الصح وتدخلي منها ماتعكيش وتبقي هبلة وطايشة كده ، دونت ميس إت أب don’t mess it up .
فقال والدها الطيب :
– ياجماعة إنتو زعلانين ليه ؟ الولد بيعاملها زي أخته وعارف إننا مش أغراب احنا أكتر من أهل، وإنت ياناني عارفة كويس إنه مش هيتجوز دينا لأنهم مش شبه بعض فماتفضليش تحطي في دماغ بنتك الأفكار دي .
ردت (ناريمان) بعنف :
– أفكار ايه يامصطفى ماتقوليش انك عاوز تطيره من ايدينا وتقولي أخته وأهل دي ، أدهم مش هيتجوز غير دينا لو اطربقت السما ع الارض فبلاش الطيبة الزيادة دي عشان هتشلني كده .
أدار وجهه لها لثانية وهو ينظر لها بدهشة في حين قالت دينا :
– في ايه يا داد ما أنت عارف كويس إني لازم أتجوز أدهم شركة باباه هتبقى بتاعته وبسهولة ممكن أطير سارة من الميراث وتبقى ليه لوحده وبعدين تبقى لي أنا ، ماتنكرش إن شركتهم أكبر من شركتنا وإننا مستفيدين من الشراكة والبيزنس اللي بينكم أكتر منهم ، إدميت إت admit it .
رد والدها وهو لا يستطيع ابتلاع كلماتها :
– ايه يادينا الكلام الغريب ده ؟ هو احنا محتاجين ؟ انت محسساني انك مش عارفة تاكلي او تلبسي او تجددي عربيتك كل كم شهر ، أنا ماشفتش بنت مدلعة زيك وبنلبي لها كل طلباتها بالشكل ده غيرك وجاية تقولي شركته
ولي ولوحدي ، وبعدين إيه أنت ناسية آدم ؟ بتقولي هتخليه ياخد ميراث سارة طب وآدم متوقعة ايه معاه هو كمان ؟
خبطت والدتها جبهتها كمن فاتها أمر هام وتذكرته فجأة وقالت :
– يااااه احنا ازاي نسينا آدم ده هيبقى زي الشوكة ….
ردت دينا مقاطعة أفكار أمها :
– ماتقلقيش يا مام أنت ناسية طنط فريدة ولا ايه ؟ تفتكري انها هتخلي آدم ياخد مليم من ميراث باباه وعموما برده سو إيزي so easy نشيله برا الموضوع بس أوصل لأدهم الأول .
نهرها والدها قائلا :
– ايه الكلام ده يادينا ماتتكلمي بأسلوب كويس وبلاش الطريقة السوقية دي .
ردت على والدها وهي تهادنه :
– سوري داد ، مش قصدي أنت شور sure فاهمني .
تطلع إليها بنظرة غاضبة في مرآة السيارة الداخلية ثم نظر أمامه وقاد السيارة في صمت وهو يشعر بغضب كبير تجاه زوجته وابنته، لا يعلم لما تتصرفان هكذا وأين أخطأ معهما بالضبط ؟.
********
أتى الصباح وكل منهم في باله ما يشغله (جمانة) القلقة والتي لم تنم جيدا بسبب موعدها مع رب عملها الجديد فقامت من فراشها مبكرا وتطلعت من خلف نافذتها للشمس وهي تشرق بضوئها الذهبي، شعرت بدفئها على
بشرتها فتثاءبت في كسل وذهبت لتغسل وجهها وتحضر الإفطار ربما لأول مرة منذ زمن طويل لطفلتها ووالدتها، دعت الله أن يوفق شقيقتها (لمياء) ويرزقها بذرية تقر عينها بها فلطالما كانت بجوارها تشد من أزرها وتساندها .
قامت بتحضير الإفطار وأيقظت والدتها وطفلتها ثم جلسن يتناولن الإفطار سويا، في منزل (جلال الحسيني) استيقظ (أدهم) مبكرا كعادته للذهاب للعمل لكنه فوجئ بوالده مستيقظا ويرتدي بذلته فلما رآه ابتسم وحياه قائلا :
– صباح الخير يا أدهم ، أنا جاي معاك ومش هأخد عربيتي يلا نفطر سوا ونمشي .
فرد (أدهم) :
– صباح الخير يا بابا، صاحي بدري يعني وجاي معايا على طول، ماعملتش كده بقى لك كتير خير ؟
ثم ابتسم في خبث فتطلع له والده وهو يهز رأسه :
– ريح نفسك يا أدهم وماتعملش أفلام أنا جاي عشان أشوف مدام جمانة وأتفق معاها ع الشغل ، بصراحة مش مطمن لك.
قال (أدهم) :
– أيووووة، أنا كنت عارف كده، وياترى ماما ملاحظة اهتمامك الزايد ده ولا مش واخدة بالها عشان ممكن أنبهها يعني .
وضحك في مرح فبادله والده الضحك ثم قال :
– لا ملاحظة ريح نفسك ويلا بقى نفطر عشان ننزل ومانتأخرش .
جلسا على مائدة الإفطار سويا يتمازحان كأنهما صديقان حميمان بعدها انطلقا للعمل معا في سيارة (أدهم) حتى وصلا للشركة، صعدا لمكتبه الذي هو في الأصل مكتب والده الذي أخبره :
– اقعد انت ع المكتب يا أدهم أنا هاخليني هنا قدامك .
رد (أدهم) بسرعة :
– ليه يا بابا ؟ لا تعالى اقعد إنت على مكتبك عشان تتفق معاها وأنا هاتابع الحوار من بعيد .
فقال والده بلهجة قاطعة :
– أدهم اسمع الكلام ، أنا أصلا مش اللي هاتفق معاها ده انت اللي هتعمله بس عاوزك حيادي لاتديها زيادة عن اللزوم ولا تبخسها حقها زيادة عن اللزوم اتفقنا ؟! واتفاهم معاها بذوق عشان انا عارفك .
غمغم (أدهم) في تبرم :
– طيب ما تتفق إنت معاها يا بابا مادام شايف إني رخم أوي كده .
نظر له والده في غيظ وكأنه يقول : اصمت ونفذ ما آمرك به ثم ذهب ليجلس على أريكة أمام المكتب في انتظارها .
********
قادت (جمانة) سيارتها الصغيرة حتى وصلت للعنوان الذي أملته لها شقيقتها، لم تتوقع أن تكون الشركة بهذا الحجم، زاد الخوف بداخلها وكادت أن تتراجع وتعود للمنزل فرارا من المكان لكن في هذه اللحظة رن هاتفها النقال فانتبهت ونظرت لشاشته، وجدت اسم شقيقتها ، التقطت نفسا عميقا ثم ردت عليها :
– السلام عليكم، صباح الخير يالولو
جاءها صوت شقيقتها المطمئن :
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، صباح الورد ياجوجو، عاملة ايه ؟ إنت فين دلوقتي ؟
ردت (جمانة) :
– أنا قدام الشركة، ماقلتليش إنها شركة ضخمة أوي كده يا لميا ، أنا مرعوبة جدا .
فقالت (لمياء) :
– ياحبيبة قلبي ماتقلقيش، عمو شكري طمني وقال لي إن صاحبه جلال الحسيني هيقابلك بنفسه عشان تطمني مش ابنه بس يعني ماتقلقيش .
اتسعت عينا (جمانة) وهي تردد :
– بنفسه ؟ لاااا ده ابنه أرحم أنا كده اترعبت أكتر .
سمعت شقيقتها تضحك فاستطردت مغتاظة :
– بقى كده بتضحكي عليَ كمان ! ماشي يالولو لما أشوفك .
تماسكت شقيقتها بصعوبة وهي تطمئنها قائلة :
– يابنتي صدقيني هو أرحم من ابنه، ابنه ده كان زميل أحمد في الكلية وكان مشيبهم وعامل فيها زعيم وماحدش يقدر يكلمه ولا بنت حتى تبص له، بس أحمد بيقولي إنه محترم جدا مرعب شوية بس بيعامل كل اللي حواليه بذوق أما باباهم بقى فمن النوع الهادي التي تشوفيه تطمني له مباشرة يعني مش مرعب زي المهندس أدهم ده، فما تقلقيش خالص وخليكي واثقة من نفسك وإن ربنا هيكون معاكي بإذن الله، يلا أسيبك بقى عشان توصلي في ميعادك مش عاوزين مواعيد بايظة من أولها لازم تسيبي انطباع حلو وتكوني منضبطة .
تنهدت (جمانة) بعمق وودعت شقيقتها ثم غادرت سيارتها متجهة لمدخل الشركة، أبلغت مكتب الاستقبال بسبب وجودها فتم إبلاغ السيد (جلال) عن وصولها فأمر بصعودها مباشرة لمكتبه، دلها سكرتير الاستقبال لمكان المكتب فاتجهت في طريقها إليه ووصلت لمكتب السكرتارية حيث تجلس فتاة هناك، تنحنحت برفق لتجذب انتباهها، رفعت الفتاة عينيها إليها وتطلعت لها بنظرة سريعة متسائلة :
– أفندم ؟
ردت (جمانة) بصوت مرتبك :
– أنا جمانة أبو الفتوح المفروض عندي ميعاد مع الباشمهندس أدهم دلوقتي .
تطلعت إليها الفتاة بنظرة غريبة ثم مطت شفتيها على طريقة ليس هذا من شأني ثم رفعت سماعة الهاتف الداخلي وأبلغتهم بحضورها فسمحوا لها بالدخول، أشارت لها الفتاة تجاه باب المكتب ودفنت رأسها في الأوراق أمامها مرة أخرى وهي تقول :
– اتفضلي الباشمهندس وجلال بيه منتظرينك جوا .
هزت (جمانة) رأسها بلا داعي وهي تهمس :
– متشكرة جدا.
رفعت الفتاة عينيها إليها مرة أخرى بسرعة وهي تتابع خطواتها البطيئة الخجولة عندما توجهت للمكتب ثم طرقت الباب بخفوت وسمعت الصوت الحازم من الداخل يسمح لها بالدخول، أخذت نفسا عميقا وسمت الله في سرها وفتحت الباب بهدوء ودلفت للغرفة وجدت (أدهم) جالسا خلف مكتبه ووالده جالسا على أريكة في أحد أركان الغرفة ، تطلع إليها الاثنان بدهشة خاصة (أدهم) الذي لم يكن يتوقع أبدا أن تبدو هكذا، نعم كان يعلم عمرها لكنها تبدو في الواقع أصغر بملامحها الطفولية تلك ترتدي حجابا أنيقا محتشما وعباءة داكنة اللون ولا يوجد على وجهها ذرة واحد من مستحضرات التجميل، تساءل بداخله هل حقا لازال هناك فتيات بهذا الشكل ؟ كان يتوقع امرأة قوية لا ترتدي حجابا أو على الأقل ترتدي حجاب الفتيات الحديث هذا الذي لا يذكر اسمه وتغرق وجهها بكيلو من المكياج لكنها فجآته بهيئتها هذه ورقتها الملحوظة، لاحظ أن صمته طال وهو يتطلع إليها حينما تنحنح والده لينبهه وقام من مكانه ليرحب بها قائلا :
– مدام جمانة أهلا بيكي، اتفضلي استريحي .
لاحظ الرجل بفطنته أنها تكتف يديها بجوارها ويبدو عليها عدم الاستعداد لمصافحته ومن شكل ملابسها استنتج أنها لن تصافحه فلم يحاول مد يده لها، أما هي فطأطأت رأسها خجلا وهي تهمس :
– شكرا لحضرتك .
ثم جلست في المقعد أمام المكتب وجلس الوالد في المقعد المقابل، كان (أدهم) قد تجاوز دهشته فوجه حديثه إليها :
– أهلا بيكي مدام جمانة، الحقيقة هأكون صريح معاكي، التعيين هنا في الشركة عمره ماكان بالواسطة دايما لما نكون محتاجين حد يشتغل معانا بنعمل إعلان وبيتقدم للوظيفة كتير وبيفوز بيها الأفضل لكن …. السي في بتاعتك مشرفة جدا ينقصها بس عامل الخبرة واحنا مش هنعتمد عليه إنما هنعتمد عليكي إنت وفي نفس الوقت هتكتسبي هنا في شركتنا الخبرة اللي هتحتاجيها مستقبلا .
تطلعت إليه لثانية ثم خفضت عينيها وقالت بخفوت :
– إن شاء الله يافندم وشكرا لحضرتك .
تنهد وقال في حزم :
– طيب تمام نتفق بقى على مبادئ شغلك والمرتب وكده .
تم الاتفاق بينهم وتقرر أن تبدأ عملها مع بداية الأسبوع التالي أي بعد ثلاثة أيام، في نهاية المقابلة حياها السيد (جلال) و(أدهم) لازال يتطلع إليها باستغراب وكاد يقوم من مقعده ليصافحها أثناء مغادرتها المكتب لكن والده أشار إليه من طرف خفي أن يجلس كما هو، قال (جلال) :
– دلوقتي هأكلم سهام برا عشان تاخد ملفك لقسم المحاسبة والمسئول عنه الأستاذ محفوظ هيساعدك ويفهمك طريقة شغلنا إزاي ويوفر لك مكتبك في القسم ولو في أي مشاكل قابلتك تقدري تتناقشي فيها مع الأستاذ محفوظ وهو هيبلغنا بيها .
أومأت برأسها إيجابا وحيتهم شاكرة ثم خرجت من الغرفة في هدوء أما الوالد فاتجه للمكتب ورفع سماعة الهاتف الداخلي واتصل بسكرتيرته (سهام) ليبلغها المطلوب عمله ثم عاد وجلس على المقعد أمام المكتب وقال لابنه الصامت :
– هاي ياباشمهندس إنت رحت فين ؟
تطلع إليه (أدهم) لثوان كأنه لم يفهم ما قاله ثم انتبه فجأة فقال :
– ها !! ايه الست الغريبة دي ؟ أنا مش متعود ع المناظر دي الحقيقة .
تنهد والده بملل متسائلا :
– ايه مالها ياسيدي ؟ هو لازم الواحدة تبقى مالية وشها ألوان عشان تبقى عادية يعني ؟
رد (أدهم) بسرعة :
– لا مش قصدي الشكل بس يا بابا، حتى طريقتها في الكلام وهدوءها وكمية الخجل اللي كانت على وشها دي حتى مااتكلمتش في المرتب مع إني تعمدت أقول مرتب مش أوي وقبلت عادي جدا .
تطلع إليه والده في دهشة وخشي من تفكيره بهذه الطريقة فقاطعه بسرعة :
– ايه يا أدهم إنت هتقول شعر ؟ دي مجرد موظفة واشتغلت وخلاص .
رد (أدهم) وهو يهز رأسه :
– أيوة يا بابا ما أنا عارف أنا بس مستغرب .
صمت للحظة ثم استطرد متسائلا :
– صحيح يا بابا إنت ليه ماخلتنيش أسلم عليها ؟ اوعي تكون معجب وغيران .
وابتسم في خبث فقال والده وهو يهز رأسه بسبب استظراف ابنه ثم أجابه :
– لا يا فالح لأن واضح جدا من طريقة لبسها ووقوفها إنها مش بتسلم على رجالة فهمت ياعبقري!
اندهش (أدهم) للغاية وظهرت الدهشة واضحة على صوته وهو يتساءل :
– معقول ؟!
فقال والده محاولا إنهاء الموضوع :
– طيب نتكلم في الشغل بقى .
تساءل (أدهم) بسرعة :
– لحظة يا بابا قبل الشغل، كنت عاوز أسألك مفيش أخبار عن آدم ؟ وحشني فعلا وباحاول كتير أكلمه على رقمه اللي معايا مفيش رد .
تراجع (جلال) في مقعده وتنهد بحزن ثم قال :
– للأسف لا، أنا مش عارف أخوك بيعمل كده ليه وليه دايما بيبعد عننا لدرجة السفر والغربة بالشكل ده ولا حتى اتصال يعرفنا هو فين أو يطمنا عليه .
ظهرت نظرة حزن في عيني (أدهم) وتنهد مغمغما باستسلام :
– نفسي يرجع بقى وأشوفه ويعيش معانا تاني، بقى لي كتير ماكلمتوش وحتى مش عارف شكله زي ماهو ولا اتغير !
رد والده بنبرة حزينة :
– يلا ربنا يسامح اللي كان السبب.
نظر له ابنه بعتاب ولم يرد فهو يعلم أن أمه هي السبب في خروجه من منزل والده بعجرفتها وتعاملها المتعالي معه وفي النهاية اتهمته بسرقتها كأنه لص وليس ابن زوجها وأخو أولادها، وفي النهاية كادت أن تبلغ الشرطة لكن والده منعها وحذرها من مجرد التفكير في الأمر و(أدهم) نفسه لم يكن ليصدق شيئا كهذا عن أخيه الأكبر الذي طالما اعتبره مثلا أعلى يقتدي به، كان دوما يشجعه على الدراسة والتفوق ونصحه كثيرا بالعمل أثناء الدراسة ليكتسب الخبرات اللازمة حتى في أثناء دراسته فمن وجهة نظره لاشيء أفضل من الخبرة العملية، بعد اتهام والدة (أدهم) له
ترك المنزل بلا رجعة وحاول لقاءه بعدها كثيرا لكنه كان دوما يتهرب منه ثم بلغه بعدها نبأ سفره إلى كندا وهاهو غائب منذ ما يقرب عشر سنوات ولم يسمع عنه سوى مرة واحدة اتصل به فيها ليطمئن عليه وعلى شقيقته سارة ونتيجتها في الثانوية العامة .. أخرجه والده من شروده قائلا :
– أدهم يلا نشوف اللي ورانا وربنا يطمنا عليه قلبي حاسس إنه راجع قريب .
التفت إليه (أدهم) بعينيه الحزينتين وحاول أن ينسى ويتابع عمله .