خارج أسوار القلب
الفصل الحادي و الثلاثون
****************
كانت قلوب الجميع تلهج بالدعاء والدموع متحجرة في عيون الرجال في حين تبكي النساء في صمت، نُقل (أدهم) لغرفة العناية المركزة على محفة تتبعه عائلته، بدا وكأنما فقد كل دمائه شاحبا ساكنا والضمادات تحيط بصدره بعناية، (جمانة) كانت هي الأقرب إليه ولاتزال تحمل طفلتها وهي تسير خلفهم وهم يدفعونه، أدخلوه غرفة العناية ثم نقلوه على فراشه ومنعوهم من الدخول، خرج الطبيب بعدها لتتعلق به كل العيون، ثم اتجهوا إليه، قال بهدوء :
– دلوقتي هو في فترة حرجة، قدامنا 48 ساعة نقدر نطمن بعدها بإذن الله .
ثم تركهم وانصرف، تركت (جمانة) ابنتها لشقيقتها ثم وقفت أمام نافذة الغرفة الزجاجية الكبيرة تتطلع إليه في لوعة وحزن والدموع لا زالت تحفر أنفاق ألم على وجنتيها، كان قلبها كسيرا وهي تدعو الله أن يحفظه لها وتعد بأن تكون له نعم الزوجة، اقترب منها (آدم) ووقف إلى جوارها يتأمل أخيه الراقد أمامهم في غيبوبته ثم همس بصوت حزين :
– إن شاء الله هيبقى بخير .
التفتت إليه والحزن يغمر حروفها في نهره حتى أغرقها، عادت تردد :
– أنا جرحته قبل ما يمشي وحسسته إنه ماكانش أمين وإنه خلف وعده ليا بحمايتي، وجعته أوي وراح عشان يرجع لي بنتي وكانت حياته هي التمن .
شعر بحزنه يتضاعف ثم قال بخفوت :
– هو أكيد عارف إنك ماتقصديش تزعليه ومقدر إحساسك كان عامل إزاي وقتها .
عادت تنظر لزوجها وتقول بصوت دامع متقطع :
– ده اللي واجعني أكتر، لو كان قسي أو زعلني أو حتى زعل مني أو عمل أي حاجة كنت سكت، لكن كان حنون أوي وكنت بأجرحه وألاقيه بيوعدني إنه مش هيخذلني وهيرجعها لحضني تاني مهما كان التمن .
ثم عادت تبكي بصوت مسموع وهي تكمل :
– وكان التمن حياته، ليه ؟ ليه بيوجعني ؟ ليه هو كده ؟ ليه حبني وقرب مني ؟ ليه دافع عني ؟ أنا مش عاوزة حاجة غير إنه يبقى كويس حتى لو هيبعد وخلاص، يرجع لأهله ولمامته اللي قلبها مكسور عليه بسببي، بس يبقى كويس .
لم يجد (آدم) مايقوله ليواسيها به فهو الآخر يبكي قلبه في جزع، أخيه الوحيد والذي كان كظله، علمه كل مايعرفه ودوما ما ساندا بعضهما البعض، هاهو أمامه جريح، ضعيف قد تنتهي حياته في أية لحظة، سمعوا صوت خطوات تقترب منهم ليجدوا الطبيب قد عاد، قال لهم بحزم :
– ماينفعش يا جماعة تفضلوا هنا، اتفضلوا في الاستراحة ده بالاضافة إن وقت الزيارة انتهى من بدري إحنا عدينا نص الليل لازم تمشوا .
التفت إليه الكل واقتربت منه (جمانة) بسرعة وهي تقول من بين دموعها :
– إزاي وقت زيارة ! ما ينفعش ما أقدرش أسيبه وأمشي .
نظر إليها ولدموعها لحظة شعر خلالها بالشفقة فرد هدوء :
– ممكن مرافق واحد بس هيفضل في الأوضة اللي هيتنقل لها بعدين إن شاء الله .
هتفت (جمانة) ووالدته في نفس الوقت :
– أنا هافضل .
ثم تطلعتا لبعضهما البعض لحظة، كانت نظرة الزوجة خلالها كسيرة خنوع والأم حزينة غاضبة، لم تستطع (جمانة) النطق، فأمه المكلومة هي الأحق بالبقاء إلى جواره، عادت تقول في انكسار :
– طيب خلاص أنا هاستنى برا في العربية .
نظرت لها الأم في دهشة، لمَ تراجعت ؟ كان يمكنها أن تصر على البقاء إلى جواره، أن تكون الأقرب، لكنها تركت لها تلك الفرصة ؟ شعرت بشيء من الامتنان لها ولكنها صمتت ولم تقل شيئا، سمعت (جمانة) ترجو الطبيب في حزن :
– لو سمحت يا دكتور ممكن أشوفه، عاوزة أكلمه، لو حتى دقيقة واحدة ؟
نظر إليها الطبيب في دهشة ثم قال بلهجة قاطعة :
– لا طبعا ما ينفعش، غرفة العناية ممنوع دخولها لغير الأطباء والممرضين .
عادت تستجديه :
– دقيقة واحدة بس يا دكتور، أطمن عليه من قريب وهاطلع على طول، أرجوك .
عاد يهز رأسه نفيا في حزم وهو يؤكد :
– يافندم ما ينفعش الموضوع مش محل نقاش .
عادت تبكي بشدة فرق قلبه لها لكنه لم يتراجع عن موقفه، أتت (لمياء) لتقف إلى جوارها وهي تقول للطبيب :
– يادكتور من فضلك، هي بس دقيقة واحدة، ولو في حاجة معينة مطلوب منها تعملها، تلبس حاجة أو تعقيم بس من فضلك دقيقة واحدة، ده جوزها .
تردد للحظة تطلعت إليه هي فيها بأمل ثم قال بسرعة :
– طيب دقيقة واحدة بس، اتفضلي معايا لحظة .
نبض قلبها بقوة وتبعته بسرعة ثم عادت معه وهي تحمل ما يشبه الكيس وتستعد لارتدائه في قدميها، وقف الطبيب أمام الباب والكل يتطلع إليه ثم قال مؤكدا في حزم وهو يفتحه سامحا لها بالدخول :
– دقيقة واحدة .
دخلت هي بتردد، كان الطبيب واقفا على الباب إلى جواره (آدم) و (لمياء) أما أبويه وشقيقته فكانوا يتابعون ما يحدث من النافذة وأمه تشعر بالحسرة، لمَ لم تطلب هي الأخرى أن تدخل إلى صغيرها أيضا !، وقفت أمامه (جمانة) في صمت، تتطلع إلى وجهه وعينيه المغمضتين في حزن، كان يغمرها بحنانه وتقتلها نظراته عشقا، لمَ لا تفتحهما حبيبي وتنظر إلي ؟، اقتربت أكثر ثم مدت يدها تتحسس شعره وانحنت تطبع قبلة على جبينه انعقد لها حاجبا الطبيب في ضيق، أمسكت كفه وقبلتها هي الأخرى واقتربت أكثر لتهمس في أذنه بكل العشق والحزن المختزنين بداخلها :
– أدهم، حبيبي، أنا آسفة، ياريت كنت أنا اللي أخدت الرصاصة مش إنت، ماتزعلش مني أنا عارفة إني جرحتك، بس برده عارفة قد إيه إنت بتحبني ومش هتزعل مني، وكمان هتفوق وترجع لي مش كده ؟
انهمرت دموعها وهي تكمل :
– حبيبي عشان خاطري افتح عينيك وبص لي، زي ما أنا متعودة، وحشتني نظراتك ووحشني كلامك، وحشني صوتك وإنت بتنادي اسمي، عشان خاطري فوق وارجع لي، أنا آسفة ، آسفة ، أنا السبب، أنا اللي ……….
قاطع حديثها الباكي الجهاز المتصل بقلبه معلنا توقفه عن النبض بأزيز واحد متواصل كاد يوقف قلبها هي الأخرى، كان الذعر يملأ ملامحها وهي تنظر إليه والطبيب يندفع نحوه بسرعة ويستدعي الممرضات، صرخت فجأة :
– أدهم لاااااااا، أدهم .
وانهمرت دموعها كشلال يصهر قلبها، رأت التوتر على ملامح الجميع، والدته تصرخ في انهيار والذعر يملأ ملامح أخيه وأبيه، تراجعت للخلف في جزع وهي تتطلع لما يحدث في بلاهة وتستمع لهتافاتهم وترى توترهم وكأنها في عالم آخر مواز، كان الطبيب يصرخ في الممرضات وهن يسرعن بتجهيز جهاز الصدمات، رأته يضعه فوق يصدره ويهتف :
– Clear
لينتفض جسد حبيبها في عنف ويبقى الأزيز على اتصاله، ثم يصرخ الطبيب مجددا في ممرضاته ويضع الجهاز فوق جسده ثانية بنفس الهتاف فيعود لينتفض مرة ثانية فثالثة والنتيجة لا استجابة، رأتهم يحقنونه بشيء ما ويعودون لتنشيط قلبه مرة أخرى فينتفض أمامها لتشعر بلوعة تكاد تعتصر قلبها، سمعت الأزيز المتقطع من جديد معلنا عودة قلبه للنبض، ثم وكأنما استنزف الخوف والحزن وبقايا الألم وإرهاق الأيام الماضية كل طاقتها فانهارت أرضا فاقدة الوعي تصاحبها صرخة شقيقتها باسمها في حين أسرعت إليها إحدى الممرضات لتحاول إفاقتها، ضعفها مع حزنها اشترك في فقدانها لوعيها لفترة من الوقت، احتاجت بعض المحاليل والمقويات التي أوصى بها الطبيب لها واستقرت في غرفة ليست ببعيدة عن حبيبها.
مرت تلك الليلة كأنها دهر، الكل في انتظار والحبيبة المكروبة فاقدة لوعيها منهكة وقلبها يئن، شقيقتها إلى جوارها بعدما أعادت الطفلة للمنزل مع والدتها، والدتها التي لم تصدق ماحدث وانهارت بالبكاء هي الأخرى، بكاءً على رجلٍ دفع حياته ثمنا وفداءً لمن يحب وكمدا على ابنتها التي لا تكتمل فرحتها إلا وتقطعها الدموع مرة أخرى، في الصباح التالي أفاقت (جمانة)، أتى الطبيب ليطمئن عليها، أمرها بالراحة لفترة وأوصى لها بأدوية جديدة، بعد خروجه هتفت في شقيقتها :
– أدهم عامل إيه يا لميا ؟
ربتت (لمياء) على كفها برفق وهي تجيب :
– ماتقلقيش هو الحمد لله لحد دلوقتي كويس والحالة مستقرة .
كشفت الغطاء وحاولت النهوض وقالت :
– عاوزة أشوفه .
حاولت شقيقتها إعادتها للفراش وهي تهتف :
– لا لا، جمانة ما ينفعش إنت تعبانة جدا مش هينفع تروحي تقفي هناك هيغمى عليكي تاني .
لم تهتم لما تقول وعادت تحاول النهوض، قالت في حزم على الرغم من الإعياء البادي على وجهها :
– لا لازم أشوفه .
وقفت على الأرض وفي الثوان التالية كان الدوار يكتنفها وشعرت برأسها تكاد تقع من فوق كتفيها فأسرعت (لمياء) إلى جوارها تساندها، أخذت نفسا عميقا وقالت :
– يلا نروح له .
ثم سارت ببطء حتى وصلت لغرفة العناية، وجدت والدته هناك مع (آدم) لم تستطع النظر في وجهها في حين وقف (آدم) واتجه نحوهما بسرعة هاتفا في قلق :
– جمانة إنت بتعملي ايه ماكانش المفروض تيجي دلوقتي إنت تعبانة .
التفتت إليه و ردت في حزن :
– تعبانة إيه بس يا دكتور آدم، مش أكتر منه، عاوزة أطمن عليه، الدكتور قال حاجة ؟
هز رأسه نفيا وأجاب :
– لسه على نفس الوضع .
وقفت أمام النافذة تنظر إليه في صمت، بدأت دموعها تنساب على وجنتيها مرة أخرى بذات الصمت، وعاد الألم يغلف قلبها مفتتا ضلوعها وممزقا إياه لأشلاء، كانت إلى جوارها شقيقتها والقلق ينهشها من كل صوب، على الاثنين شقيقتها وزوجها، سمعت فجأة صوت رجولي قوي يهتف بنوع من السعادة :
– أستاذة لميا ؟
التفتت للصوت لتجد شخصا بالزي الرسمي يتجه إليها وعلى شفتيه ابتسامة واسعة بادلته إياها بهدوء، كان (آدم) وزوجة أبيه يتطلعان إليه في دهشة وهو يقترب من المرأتين حتى وقف أمامهما وقال :
– إزيك عاملة ايه ؟ من زمان مش بنشوفك ؟ القضايا خلصت ولا إيه ؟
ابتسمت في خجل وأجابت :
– لا والله يا سيادة المقدم القضايا موجودة بس على حسب، مش عندك بقى .
حافظ على ابتسامته وتطلع لخجلها بحنان ثم التفت لشقيقتها الباكية في تساؤل أجابت عنه بدون أن يطرحه :
– أختي جمانة، جوزها مضروب بالرصاص امبارح .
رفع حاجبيه في دهشة وهتف :
– أدهم الحسيني ؟
أومأت برأسها إيجابا وهي تسأله :
– أيوة، حضرتك اللي ماسك القضية ؟
أجاب :
– أيوة، أنا كنت لسه جاي أطمن على حالته عشان أعرف هنقدر نستجوبه إمتى، إحنا قبضنا على كمال إمبارح طبعا وواحد اسمه عويس، عويس ده كان مصاب أول مافاق اعترف مباشرة ودل على واحد تاني اسمه فتحي، للأسف مات أثناء القبض عليه، قاوم وحاول يهرب وضرب نار ع القوة اللي راحت تجيبه فضربوا هما كمان اتصاب وعلى مااتنقل المستشفى كان مات، لقوا عنده نص مليون جنيه، غالبا من فلوس الفدية لأنها كانت ناقصة في الشنط اللي مع كمال .
ثم تنهد لحظة وأكمل :
– لقينا عنده مسدس لسه الطب الشرعي هيحدد إذا هو اللي خرجت منه الرصاصة اللي انضرب بيها المجني عليه ولا لا .
أومأت برأسها إيجابا في صمت، حينما جاء (آدم) ليقف إلى جوارها متسائلا :
– في إيه يا أستاذة لميا ؟
أجابت بسرعة :
– ده المقدم حازم اللي ماسك قضية أدهم .
مد (حازم) يده إليه وصافحه قائلا بود :
– أهلا يافندم .
ابتسم (آدم) ابتسامة باهتة وهو يصافحه و رد :
– أهلا بحضرتك، أنا آدم أخو أدهم .
قال بابتسامة :
– تشرفنا، أخبار الأستاذ أدهم ايه ؟ نقدر نستجوبه إمتى ؟
عقد (آدم) حاجبيه وهو يتساءل :
– تستجوبه ؟ ليه ؟
ابتسم الرجل في حين أجابت (لمياء) موضحة :
– عادي يادكتور آدم، عشان نعرف منه اللي حصل بالظبط، هو طرف في الموضوع فده طبيعي .
نظر إليها للحظة ثم عاد يتساءل :
– بس هو دلوقتي في غيبوبة، إنتو مسكتوا حد تاني ؟
أجاب الضابط :
– أيوة بس للاسف اتصاب ومات، ماقدرناش نستجوبه ونعرف اللي حصل .
سألت (جمانة) فجأة :
– هو كمال هيتعدم ؟
نظروا إليها جميعا وإلى البؤس المرسوم على ملامحها، أجابت شقيقتها :
– لسه يا جمانة، الموضوع ده مش وقت الكلام فيه، لسه قضية وشهود وتحقيقات ومحكمة وحكم، كل ده بياخد وقت .
بكت وهي تهتف :
– والرصاصة اللي كانت هتموته ليه ماخدتش وقت ؟ وبنتي اللي كانت هتضيع مني، ليه في ثانية واحدة بس كانت هتضيع ؟ يعني ايه كل ده ؟ كده بتدوا المجرمين فرصة إنهم يفلتوا بجرايمهم .
اقتربت منها وقالت وهي تربت على كتفيها :
– ماتخافيش يا جمانة، أكيد هياخد جزاءه إن شاء الله، المهم أدهم يقوم بالسلامة .
صمتوا للحظات قال بعدها (حازم) مخاطبا (لمياء) بابتسامة حانية :
– طيب يا أستاذتنا، أنا هاطمن من الدكتور على الحالة وأعرف التفاصيل، ابقي زورينا بقى عندنا قضايا من اللي بتحبيها كتير .
بادلته ابتسامته وظلت تتطلع إليه وهو يلتفت مغادرا، وعينا (آدم) معلقتين بعينيها وهو يتساءل عن سر الطريقة التي يحدثها بها الرجل هكذا وكأنهما أصدقاء، هي أيضا تتبسط معه بكل ود بهذا الشكل، استغرب تفكيره في هذا الأمر فسألها :
– هو حضرتك تعرفي المقدم ده من زمان ؟
أومأت برأسها وهي تجيب :
– أيوة، المقدم حازم من الناس القليلة اللي تقدر تتعامل معاها في أقسام الشرطة بهدوء واحترام وسهولة كمان .
هز رأسه هو الآخر وقال في اقتضاب :
– آها .
بعد قليل عاد الضابط وبصحبته شاب في العقد الثالث من العمر، نحيف يرتدي منظارا طبيا يبدو عليه التوتر والخجل، التفتوا إليه جميعا ورحبت به (لمياء) مرة أخرى وهي تتطلع للشاب المصاحب له في تساؤل أجاب هو عنه :
– ده دكتور زياد، اللي نقل الأستاذ أدهم المستشفى .
على الفور امتلأت العيون بالامتنان وبدأوا جميعا يثنون عليه ويشكرونه، عاد الضابط يقول :
– دكتور زياد كان ماشي مع اتنين أصحابه بالعربية ولمحوا فجأة عربية بتطلع قدامهم بسرعة وعربية تانية واقفة جنب الطريق ع الرمل وابوابها مفتوحة ومنورة، نزلوا يشوفوا في ايه لقوا الأستاذ أدهم جنبها من الناحية البعيدة عن الطريق غرقان في دمه، دكتور زياد فحصه بسرعة وكلم والده دكتور أحمد السعيد الجراح اللي أكيد كلكم تعرفوه بلغ أقرب مستشفى لمكان الحادث وبعتوا اسعاف مجهزة، كان له الفضل بعد ربنا سبحانه إنهم يقدروا يوقفوا النزيف بس طبعا الشغل كمل هنا مع دكتور أحمد بنفسه .
ظلوا يشكرونه مرة أخرى و(جمانة) تتطلع إليه بامتنان شديد، تقبل الشاب امتنانهم في هدوء يشوبه بعض الخجل، ثم تركهم وانصرف، بعد انصرافه قال (حازم) مخاطبا الجميع :
– الدكتور أحمد طمني وقال لي في خلال ساعات بإذن الله هيتنقل غرفة عادية .
ثم التفت لـ (لمياء) وقال :
– من فضلك يا أستاذة لميا لما الدكتور يطمنكم ويسمح بالكلام وكده ابقي كلميني ، وأنا هاكون على اتصال إن شاء الله.
عقد (آدم) حاجبيه في ضيق مفاجئ في حين قالت هي بهدوء :
– أكيد يا سيادة المقدم .
أومأ برأسه محييا الجميع ثم خرج من المكان، تابعه (آدم) بعينيه للحظة ثم عاد يلتفت إليها فوجدها قد عادت إلى جوار شقيقتها فابتسم، أخرج هاتفه واتصل بالمنزل ليطمئن على صغيره والذي طلب من مربيته البقاء معه في هذين اليومين وقرر أن يذهب ليأتي به لأن السيدة ترغب في الرحيل .
مر نصف اليوم، أحضر (آدم) ابنه وأتت والدة (جمانة) للاطمئنان على زوج ابنتها، وللمفاجأة كانت (فريدة) تقابلهم بصمت دون غضب أو كلمات جارحة، بدت مكسورة حزينة جل همها أن يعود لها ابنها سالما، ثم مر اليوم كله بأمان، في اليوم التالي نقل (أدهم) لغرفة عادية والقلوب لازالت تدعو وتتضرع لله أن يتمم شفاؤه على خير .
********
رحل الجميع وهذه المرة أصر والد (أدهم) على عودة والدته للمنزل، لتبقى (جمانة) مع زوجها ولترتاح هي الأخرى فهي تلازمه طوال الوقت، بقيت (لمياء) مع شقيقتها لبعض الوقت بعد انصراف الآخرين، الصمت يغلف المكان بردائه، الزوجة تجلس على مقعد بجوار فراش زوجها والشقيقة جالسة على أريكة في ركن الغرفة، بين كفي (جمانة) استكانت يد (أدهم) كأنها تحيطه بكل الدفء المخزون بداخلها عبر أصابعه الساكنة، تنهيدة حارة خرجت من بين شفتيها صاحبتها طرقة خافتة على باب الغرفة، التفت إليه مع شقيقتها ثم ردت بهدوء :
– ادخل .
فتح الباب ببطء لتطل منه جدة الصغيرة وشيء من خجل يرتسم على ملامحها، ما إن لمحتها (جمانة) حتى انتفضت واقفة وهي تفلت يد زوجها من بين أصابعها، لمحت الجدة ما حدث لكنها رسمت ابتسامة خافتة على شفتيها وهي تدلف للغرفة بهدوء، اقتربت من فراشه وتطلعت إليه في صمت، لم تجد (جمانة) أو (لمياء) ما تقولانه فالتزمتا الصمت، رفعت (راضية) عينيها لتواجه والدة حفيدتها هامسة كأنها تخشى كسر حاجز الهدوء الذي يحيط بالغرفة :
– عامل إيه ؟
ردت (جمانة) بقلق :
– الحمد لله، لسه غايب عن الوعي من وقتها .
خفضت السيدة عينيها في صمت ثم عادت ترفعهما وهي تمد يدها لتمسك بكف (جمانة) وتقودها إلى الأريكة التي تجلس عليها (لمياء) والتي أفسحت لهما، سألتها مجددا :
– ليه ماحدش قال لي اللي حصل ؟ أعرف بالصدفة من مامتك وأنا باتصل أسأل على ملك ؟
ارتبكت (جمانة) وأجابت في تردد :
– معلش يا ماما، اللي حصل كان بسرعة والأمور مرتبكة ومتوترة، وتاني يوم طلبوا الفلوس، أدهم راح يديها لهم بعدين لقوه مضروب بالرصاص ع الطريق، ولولا ستر ربنا كان .. كان ……
لم تستطع إكمال الجملة فربتت الجدة على كفها بحنان، تساءلت :
– هو راح لوحده عشان يرجع ملك ؟
رفعت (جمانة) عينيها إليها لتجيبها بألم لم تستطع منعه :
– أيوة، طلبوا منه كده وإلا هيأذوها .
عادت تسأل :
– وكمال حاول يقتله ؟.
أومأت برأسها إيجابا في صمت فاستغربت، تساءلت من جديد كأنها تخاطب نفسها :
– طيب ليه، مادام كانوا عاوزين الفلوس بس وخدوها، ليه يأذوه ؟
أجابتها (جمانة) بقلب منقبض كلما تذكرت صرخة (كمال) في وجهها :
– كمال اعترف قدام البوليس هناك، وقال لي إنه كان قاصد يقتله عشان … عشان أنا أفضل أرملة طول عمري، لحد ما أموت، عشان رفضته .
انقبض قلب المرأة فجأة، دمعت عينيها وهي تطأطئ برأسها أرضا، همست بصوت ضعيف :
– الظاهر إن أنا وكمال كان لينا نفس الهدف .
علا الذهول وجه الفتاتين إزاء اعتراف السيدة، عادت تنظر إليها وهي تكمل :
– لما جيتي لي وقلتِ لي إنك هتكملي معاه، وقتها وقبلها كنت بافكر بس إنك تفضلي مرات حسام، كنت باشوفه في وشك إنت وملك، باقول أنا اديت حياتي لابني بعد موت باباه ومافكرتش في غيره، قسيت عليكِ وقلت ليه ماتفضليش أرملة زي ما أنا عملت ؟ ليه تبقي ملك حد تاني غير ابني ؟ .
صمتت لثوان ثم استطردت بعد تنهيدة حارة :
– ماخدتش بالي إن لما والد حسام الله يرحمه مات كان حسام شاب وبيحب وأنا كنت داخلة ع الخمسين، ماخدتش بالي إن حسام سابك أرملة وإنت يادوب خمسة وعشرين سنة، مش من حقي أحجر عليكِ وعلى قلبك وأقولك لا لازم تفضلي أرملة لحد ما تموتي، ماتزعليش مني يا جمانة، حقك عليَّ يابنتي .
بعدها انسابت دمعة على وجنتها أسرعت (جمانة) بمسحها بأصابعها وهي تضم الجدة بين ذراعيها هاتفة في حزن :
– حبيبتي يا ماما عشان خاطري ماتعيطيش، خلاص الحمد لله، المهم إنك مش زعلانة مني وراضية عني وهتخليكِ جنبي على طول .
ربتت الجدة على ظهرها برقة ثم ابتعدت عنها ناظرة إليها بلطف :
– أنا ماليش غيرك يا جمانة إنت وملك، مهما حصل ومهما زعلت هتفضلي بنتي .
احتوت (جمانة) يدها بين كفيها في صمت كأنها تخبرها أنها ستبقى ابنتها مهما حدث، التفتت الجدة ناحية (أدهم) الراقد بصمت في فراشه، تطلعت إليه للحظات ثم قالت :
– أنا جيت أطمن عليه، واضح إنه بيحبك أوي، رمى نفسه في الخطر عشان ملك، ربنا يسعدكم يابنتي .
نهضت واقفة وهي تكمل :
– هامشي أنا بقى وهابقى أشوفك لما يقوم بالسلامة .
قبلتها (جمانة) مودعة حين وقفت (لمياء) التي ظلت صامتة طوال الوقت وقالت :
– تعالي هاوصلك ياطنط .
رفضت المرأة لكن الفتاتان أصرتا، فاستجابت لهما، بعد خروج الجدة مع (لمياء) عادت (جمانة) لتجلس بجوار فراش زوجها وتحتضن يده في حب وابتسامة كسيرة تسلك طريقا إلى شفتيها وسط الألم .
********
ترددت وهي تتطلع إليه، يقف صامتا أمام نافذة غرفة أخيه، الحزن يملأ ملامحه على الرغم من بعض الطمأنينة التي منحهم إياها الطبيب بخصوصه وبخصوص استقرار حالته، اقتربت منه بخطى مرتبكة، تقدم إحداها وتعود أخرى، وقفت إلى جواره ناظرة إلى داخل الغرفة لتجد (جمانة) كما هي منذ تم نقل زوجها إلى هناك، تجلس على مقعد بجواره وكفه مستكين بين يديها، التفت لها في محاولة لتطييب خاطرها قائلا :
– إن شاء الله هيبقى كويس ويقوم لنا بالسلامة .
رفعت عينيها إليه في حزن، ردت بصوت منكسر :
– إن شاء الله، آدم ….
ترددت ثانية وهو يتطلع إليها متسائلا، دفعت نفسها للحديث مرة أخرى بصوت خافت :
– حبيبي أنا عارفة إنت بتحبه أد إيه، اعذرني على … على الكلام اللي قلته لك قبل كده .
علت الدهشة ملامحه، منذ متى تعتذر ؟ بل منذ متى تصدق مشاعره نحو أخويه ؟ هزت رأسها من جديد وهي ترى وجهه، استطردت :
– عارفة إنك مستغرب، الكم يوم اللي فاتوا كسروني أوي يا آدم، عرفوني إني ظلمتك، ماكنتش الأم اللي باباك كان بيتمناها ليك، ولا حتى لولادي أنا، لابني اللي كنت عاوزة أحرمه من الانسانة الوحيدة اللي حبها، أنا مش هأقولك إني اتغيرت وبقيت واحدة تانية وإني خلاص راضية عن جواز أدهم ويعيش بقى عادي، أنا غصب عني جوايا حزن ورفض بس باحاول أسيطر عليه عشان خاطره، لأني شايفاه مبسوط، شايفاه بيحب، وأنا عارفة يعني إيه حب ! يمكن إنت ماتعرفش أد إيه بحب جلال بس أنا مقدرة مشاعر ابني دلوقتي، أكتر من قبل كده، وعاوزة ….
صمت آخر وهو فقط يتطلع إليها بذهول شديد، لقد تغيرت، أهذا بسبب إصابة أخيه ؟ أكملت بصوت مخنوق :
– عاوزة أقولك ما تزعلش مني، بسبب موضوع الكوليه، أنا …. أنا لقيته .
هتف في صدمة :
– لقيتيه ؟
أومأت برأسها إيجابا وهي تبتعد بعينيها عن عينيه قائلة :
– للأسف سارة وقتها كانت فاكراه مجرد لعبة وأخدته، وإحنا أيامها مافكرناش إنه ممكن يكون معاها أبدا، وللأسف لسه عارفة مكانه من كم يوم بس، أدهم كان عندي وقال لي … قال لي إنك هت .. هتسامحني .
ظل ينظر إليها صامتا، الأمر مثير للسخرية بالفعل، بعد كل هذه السنوات، كل هذا الألم والشعور باليتم والانكسار، كل تلك الوحدة والغربة، تأتي لتعتذر، عن سوء فهم، وخطأ، كاد يضحك، لكن رجولته منعته من القيام بذلك في وجهها، أشاح بوجهه بعيدا في صمت، ليت الأمر سهلا، هو سيسامح، سيتجاهل، لكن لن ينسى، يعرف نفسه جيدا، عاد ينظر إليها بابتسامة شاحبة قائلا :
– حضرتك والدة إخواتي، في مقام والدتي، مش محتاجة تعتذري لو زعلتيني، بعد إذنك هأطمن على أخويا .
تنهيدة ارتياح خرجت من صدرها وإن لم تكتمل، لقد بذلت جهدا، اعتذرت، وهو لم يقبله، بل فقط تجاهل الأمر وطيب خاطرها، أخطأت في حقه كثيرا وها هو يقابل ذلك بالصمت، تطلعت إليه وهو يدلف لغرفة أخيه، يلقي سلاما على زوجته ثم يقترب منه، ينحني طابعا قبلة على جبينه هامسا بشيء ما و يجلس في ركن الغرفة منتظرا إفاقته .
********
في غرفة (أدهم) اجتمعت الأم مع زوجة ابنها التي رفضتها، تتطلع إليها وإلى الحزن الموشوم به وجهها، إلى النظرة الكاسفة في عينيها وآهات الوجع التي تخرج من صدرها بين حين وآخر حزنا عليه، كانت ترى أنها ربما أخطأت في حقها، ربما هي فعلا من تصلح لابنها حتى وإن كانت حياته ستكون ثمنا لحبها وقربه منها ! استغربت كثيرا لمَ يحبها (أدهم) لهذه الدرجة ؟ أن يضحي بحياته ويذهب ليعيد إليها صغيرتها غير عابئ بما قد يحدث له، أن يتلقى رصاصة قاتلة فقط من أجل ابتسامتها وراحتها وسعادتها، ترى كيف سيتصرف عندما يستيقظ ؟ هل سيظل على حبه لها ؟ أم ستترك الرصاصة أثرا لا يبرأ كانت هي سببا فيه ؟
سألتها فجأة :
– خايفة عليه ؟
رفعت (جمانة) عينيها إليها في صمت، لم تتفاجأ، كانت تنتظر حديث السيدة إليها وربما جرح قلبها أكثر، لم تجد جوابا، بما تجيبها حقا وما هي كلمة خوف مقارنة بما تشعر به ؟، دمعت عيناها مرة أخرى وهمست :
– أنا بأموت كل ما أبص له، وأحس إني كنت السبب في اللي حصل له، مش هأقولك إني مش غلطانة ، كلنا غلطنا عشان سيبناه يروح لوحده، بس لو بإيدي كنت رحت مكانه وأخدت الرصاصة بداله و هو يبقى كويس .
صمتت السيدة، هي تحبه بالتأكيد، لِم تكون على هذه الحال إن لم تكن تحبه ؟ في خمسة أيام أصابها الضعف والهزال وغارت عينيها في وجهها وحُفَت بالهالات السوداء، حتى ابنتها لم تلتصق بها كما توقعت بل تركتها لوالدتها وشقيقتها، قامت من مكانها واتجهت نحوها و(جمانة) تنظر إليها في قلق، اقتربت أكثر ثم وقفت أمامها والعيون تتبادل حديثا غير مفهوم، فجأة ضمت رأسها لصدرها وربتت عليها في رفق أصابها بالذهول، قالت في حنان :
– ربنا يقومه بالسلامة عشان يشوف بتحبيه قد ايه .
دمعت عينا (جمانة) وشاركتها الأم دموعها وهما تتضرعان لله أن يشفيه ويتمم عليه عافيته، سمعتا همسا مفاجئا به قدر ضئيل من المرح يقول :
– خيانة .
انتفضتا في عنف، استدارت المرأتان تجاه الراقد على الفراش لتجدا العينان المجهدتان تتطلعان إليهما بحنان بدا غريبا على وجهه الشاحب وابتسامة طفيفة تتسلل إلى شفتيه، فقدت كلاهما القدرة على النطق وهو ينظر إليهما محاولا إبقاء جفنيه مفتوحين، هبت (جمانة) واقفة واتجهت إليه بسرعة تتطلع إلى وجهه وعينيه التي تحوطانها بالدفء، كانت تتأمل ملامحه بكل تفصيلة فيها، عيناها تجولان في وجهه وتستقران عند عينيه المتعبتين، نعم هي لم تخطئ، هو مستيقظ ويداعبهما أيضا، لقد عاد .