خارج أسوار القلب
الفصل الثالث والعشرون
****************
تعمدت (جمانة) أن تتأخر أثناء تغيير ملابسها فلم تكن تريد أن تخرج إليه وحده هكذا وتتلقى نظراته أو تعليقاته اللاذعة، انتظرت حتى سمعت جرس الباب معلنا قدوم شقيقتها، سمعت (أدهم) يفتح الباب ويرحب بـ (لمياء) فخرجت إليهم، التفتا سويا إليها، وظهرت السعادة على وجه شقيقتها وهي تحتضنها وتقبلها، أما هو فحمد الله أنها لم تخرج من الغرفة إلا بعد وصول أختها، كانت ترتدي بنطالا قصيرا للركبة و ضيقا من الجينز وفوقه بلوزة رقيقة ذات أكمام قصيرة واسعة وقد عقصت شعرها على شكل ذيل حصان قصير وتركت بعض خصلاته حرة تداعب وجنتيها مع حمرة لامعة خفيفة على شفتيها ومثلها على وجنتيها، كانت رائعة كما اعتاد أن يراها والآن زادت روعتها، ابتسم في حب في حين التفتت إليه المرأتان ولمحت (لمياء) نظراته وابتسامته فشعرت بالسعادة من أجل شقيقتها، أما (جمانة) فلم تنتبه لأي منها و هي تقود أختها لغرفة المعيشة وهو يلحق بهما، جلسوا جميعا وأخذوا يتحادثون في سلامات وسؤال عن الحال حتى قام واقفا فجأة وقال :
– طيب خليكم بقى اتكلموا براحتكم وانا هاجيب حاجة نشربها.
ثم التفت لـ (لمياء) متسائلا بابتسامة :
– نسكافيه يا لميا ؟ عشان نصحصح .
أومأت برأسها أن نعم وابتسمت وهي ترد :
– أوك، بس مش هنتعبك كده ؟
كانت ضحكته لطيفة وهو يجيب :
– عشان نسكافيه ؟ لا طبعا.
ثم التفت تجاه (جمانة) التي تنظر في الأرض وقال في حنان :
– تعبكم راحة.
رفعت (جمانة) رأسها تنظر إليه في امتنان وابتسمت (لمياء) التي قالت لأختها بعدما خرج :
– يا بنت المحظوظة يا جوجو .
ضحكت (جمانة) وسألتها :
– ليه يا لومي ؟
أشارت للباب الذي خرج منه (أدهم) إشارة ذات مغزى ثم قالت في هيام :
– يازيدي يازيدي ع الحب، خصوصا لما يبقى الحبيب من نوعية … ولا بلاش لاحسن تكوني بتغيري ولا حاجة.
ضحكت بعدها في مرح، تطلعت إليها (جمانة) باستغراب مختلط بسعادة، لقد تغيرت (لمياء) كثيرا، صارت أكثر مرحا وانطلاقا بل وجرأة، هل كانت حياتها من قبل تعيسة إلى هذه الدرجة ؟ وما هو هذا الحب الذي تتحدث عنه ؟ لقد فقدت قدرتها في الحكم على الأمور، انتبهت من أفكارها على شقيقتها تجذب يدها وتقربها منها أكثر هامسة في فضول :
– ها احكي لي بقى، بالتفصيل الممل .
اشتعلت وجنتاها وهي تهمس في خجل :
– أحكي لك ايه يامجنونة إنت، خلينا في الورق.
ضحكت شقيقتها لحمرة وجنتيها وتنهدت وهي تقول :
– هييييييييييييييح.
داعبتها (جمانة) قائلة :
– إيه يابنتي انت لسعتي ولا ايه ؟
استمرت (لمياء) في الضحك وهتفت :
– لا طبعا، أنا لاسعة من زمان بس إنت اللي ماكنتيش مركزة معايا، وبعدين إيه الحلاوة دي ياقمر إنتِ ؟ أتاريه مارفعش عينيه من عليكِ من ساعة ما دخلتِ .
وكزتها (جمانة) في كتفها وهي تتساءل عن مدى صدق ماقالته أختها للتو ثم سمعت صوته آتيا من المطبخ مناديا :
– جمانة لحظة من فضلك .
قامت لتتجه إليه عندما لمحت أختها تنظر إليها في خبث فعقدت حاجبيها في تساؤل قابلته (لمياء) بابتسامة مرحة وكأنها تعلم سبب مناداته لها، هزت رأسها واتجهت إليه، كان واقفا قرب أحد الكبائن ويبحث بداخلها عن شيء ما ولما سمع صوت خطواتها سألها :
– فين السكر ؟ بقى لي ساعة بأدور مش لاقيه .
اتجهت للجهة المقابلة وهي تجيب :
– السكر هنا.
ثم مدت يدها تفتح الباب عندما شعرت به خلفها فجأة وقريب منها للغاية خاصة عندما وجدت ذراعيه حولها على سطح المطبخ، شعرت به يتشممها وإن لم يلمسها فارتبكت للغاية وانكمشت على نفسها وسألته في توتر :
– في إيه ؟
أجاب بلهجة أقلقتها :
– أنا عارف السكر فين بس مش عارف أطوله أصلي وعدت .
عقدت حاجبيها في عدم فهم، وعد ؟ تنبهت فجأة لمغزى كلامه فشعرت بسخونة في وجنتيها خاصة عندما أكمل بنفس اللهجة :
– إنت مش عارفة في إيه بجد ؟ ولا بتستعبطي ؟
أجابت بنفس التوتر :
– لا مش عارفة.
شعرت به ينحني ليهمس في أذنها :
– بصي لنفسك في المراية وإنت تعرفي، وايه البرفيوم ده ؟ اممممم .
هتفت :
– ما أنا قلت لك خليني بالعباية.
ابتعد فجأة وقال في حزم :
– إنت عارفة لو جبتي سيرة العبايات دي تاني ؟ ولا فكرتي حتى تلبسيهم؛ المقصات هنا كتير هأقوم معاهم بالواجب وأخليهم غير صالحين للاستهلاك الآدمي .
التفتت بسرعة وهي تبتعد عنه خارجة من المطبخ ووجهها يكاد يشتعل، عندما لمحتها (لمياء) هكذا ضحكت في مرح مما زاد من خجلها فهتفت :
– بس لاحسن هاعضك.
قالت :
– الله وأنا مالي، هو انت اللي خليت وشك احمر كده ولا وتّرتِك كدهون بقى يعني ؟
قرصتها في ذراعها فتأوهت متظاهرة بالألم وصرخت في خفوت :
– آه يامفترية.
ردت بابتسامة :
– عشان تحرمي .
عاد حاملا صينية عليها الأكواب وهو يقول في مرح :
– نسكافيه بقى يا لميا هيعمل لك إدمان وهتطلبيه مني .. بس أنا مش هاعملهولك.
ضحكت بخفوت ثم شعرت بالحرج فها هي عيناه تستقران مرة أخرى على شقيقتها وكأنها لم تكن موجودة فقررت أن تنهي الأمر سريعا حتى تتركهما وحدهما، نغز قلبها شعور بالألم عندما تذكرت نظرات (أحمد) لها في بداية زواجهما وكلماته المعسولة التي إعتاد أن يسكرها بها، نفضت الذكريات المرة عن عقلها بسرعة وقالت :
– طيب نشوف الورق بقى .
أصغيا إليها باهتمام وهي تشرح لهما ماهيته وتوضح لهما أماكن إمضاءاتهما ثم أخرجت ورقة أخيرة وهي تقول :
– ده بقى عقد عشان ضمان الحقوق يا باشمهندس وطبعا دي حاجة ماتزعلكش.
هز رأسه نفيا في حزم و رد :
– لا طبعا، ده حاجة أساسية، ولو ماكنتيش عملتيها كنت هاطلبها منك.
ابتسمت في احترام في حين أخرج هو ورقة صغيرة من جيبه، قال وهو يناولها لـ (جمانة) :
– ده بقى زيادة ضمان حقوق.
تناولتها منه وهي تتطلع إليه في تساؤل في حين عرفت (لمياء) ماهيتها على الفور، فضتها (جمانة) لتجده شيكا ممهورا بتوقيعه بثمن الأرض، لم تدري ما تقول فأعادته إليه وهي تقول في حزم قاطع :
– لا طبعا، كفاية أوي الورق اللي لميا عملته كده يبقى كتير، وبعدين مش خايف انا أنصب عليك.
شعر بالغضب منها فأراد أن يخجلها عقابا لها وأمام شقيقتها فابتسم وقال بلهجة خبيثة ذات معني ملتو :
– يعني هتاخدي ايه اكتر من اللي أخدتيه ؟
ثم تنهد في حب جعل (لمياء) تبتسم وهي تطرق برأسها أرضا في خجل، في حين اتسعت عيناها هي وهتفت بداخلها : إنه مجنون بالفعل، لم ترد على كلامه واكتفت بإعادة الشيك إليه والحزم يرسم ملامحها قائلة :
– بجد …
كادت تنطق باسمه لكنها شعرت بالخجل فجأة فتراجعت وفهم هو تراجعها فرمقها بنظرة صارمة أخافتها فقالت مرة أخرى لكن خرج صوتها مرتبكا خجولا هذه المرة :
– بجد يا .. أدهم مش هينفع .
ود لو يطلب منها إعادة اسمه بعدما سمعها تنطق به أخيرا لكن الوقت غير مناسب على الإطلاق، فاكتفى بأن قال :
– الموضوع منتهي يا جمانة، ده حقك خليه معاكي احتفظي بيه او اصرفيه المهم إنه ضمان أنا مصمم عليه، وماتقلقيش ده من حسابي الشخصي مالوش علاقة بحد تاني، يعني تمن أرضك من فلوس جوزك.
ضغط على حروف كلمة “جوزك” ليخجلها أكثر لكنها شعرت بالغضب فقامت بتمزيقه أمامه وهو ينظر إليها في غيظ هو الآخر وقلبه يشتعل بحبها أكثر، تلك المرأة ستدفعه فوق حافة هاوية الجنون في أقرب وقت، كيف تثق به هكذا ؟ سمعها تقول :
– هو فعلا منتهي وكفاية أوي العقد ده.
لم يقل شيئا فقط نظر إليها، وخلايا مخه وأعصابه تتشاجر فيما بينها أيغضب أم يأخذها بين ذراعيه في الحال !
شعرت (لمياء) بنظراته فازداد حرجها وتساءلت كيف ستأتي (ملك) للعيش مع والدتها وهو على هذه الحالة ؟ قامت تلملم أوراقها فسألتها (جمانة) :
– ايه يالومي ؟ هتمشي ولا ايه ؟
أومأت برأسها وهي تجيب :
– أيوة يا جوجو هاروح بقى المكتب عشان أخلص الورق وأسجله وكده تبقى رسمي وماحدش يقدر يعمل معانا حاجة إلا بالقانون.
هب واقفا وقال :
– طيب هآجي اوصلك .
شعرت بالارتباك و ردت :
– لا لا طبعا، أنا معايا عربيتي .
عاد يقول مجددا في حزم هذه المرة :
– طيب خلاص أوصلك تحت .
نظرت إليه باستغراب ثم هزت كتفيها في استسلام في حين تطلعت إليه (جمانة) في تقدير وشقيقتها تودعها وتغادر معه، اتجهت تلملم الأكواب وتعيدها للمطبخ، ثم تذكرت ما ترتديه فأسرعت لغرفتها لتغيره بشيء أكثر احتشاما، لقد فعلت ذلك فقط أمام شقيقتها والحمد لله لم تشعر بشيء بل على العكس، وهو بدا وكأنه لا يدخر وسعا في إثبات الأمر أمامها، وقفت أمام الدولاب لتنتقي شيئا لا يغضبه لكنه لا يشعرها بالحرج في نفس الوقت، مدت يدها تلتقط رداءا منزليا قطنيا رقيقا ثم أغلقت الدولاب وقبل أن تلتفت سمعته يقول في سخرية :
– بلاش استفزاز عشان قلت لك هاخليهم غير صالحين للاستهلاك الآدمي ويمكن الدولاب كله وفي الآخر ماتلاقيش حاجة تلبسيها.
التفتت إليه بسرعة وهي تهتف :
– إنت جيت إمتى ماحسيتش بيك.
أجاب :
– دلوقتي بس، طلعت بسرعة عشان مش واثق فيكِ .
ضحكت ضحكة بلا معنى وعادت تقول في خجل :
– أنا مش هالبس عباية بس مش هاقدر اقعد كده، وبعدين الجينز عموما مش مريح .
دنا منها في بطء وهو ينظر في عينيها، كانت نظرتها هي أيضا ملتصقة بعينيه حتى اقترب منها والتصقت هي بالدولاب خلفها فخفضت عينيها لتقعا على شفتيه اللتين تحركتا ببطء وهو يقول :
– قلت خليكي كده، بطلي مقاوحة وجدال بقى.
قالت في استسلام وكأنها فقط تريده أن يبتعد:
– أوك .
لمحت ابتسامته ثم ابتعد عنها في حركة واحدة وجلس على الفراش يتأملها مما أشعرها بالخجل الشديد والذي انعكس بالتالي عليه سعادة غامرة، اتجهت تجلس على مقعد مواجه له، شعرت بحاجة لبعض الحديث الجدي معه، هل يحبها فعلا ؟ وإن كان يحبها ؟ فما الحل إن كان قلبها ملكا لغيره ؟ نعم هو يستفزها ويخجلها ويربكها ويجعل نبضات قلبها في سباق لكنها أقرت أنه فقط بسبب الخجل، قالت في هدوء :
– عاوزة أسألك على حاجة ؟ لو ممكن نتكلم جد شوية ؟
عقد حاجبيه وقال :
– هو الجد مالوش لازمة بس تحت أمرك .
ارتبكت لكنها استجمعت شجاعتها وسألته في صوت جمعت فيه أكبر قدر من الحزم :
– إن شاء الله بعد ما موضوع الأرض ينتهي والمشكلة تتحل …
قاطعها :
– إنت عرفتي منين إنها هتتحل ؟ لسه مانعرفش هيتصرفوا إزاي ؟
أجابت بتلقائية جعلت قلبه يحلق في سمائها :
– عشان واثقة فيك .
قالتها وشعرت بالخجل الشديد فابتسم لخجلها لكنه لم يستفزها أكثر وصمت في انتظار سؤالها، تنحنحت ثم عادت تكمل :
– المهم بعد الموضوع ما ينتهي، أنا كلمتك أكتر من مرة قبل جوازنا بخصوص انفصالنا وإن الجواز بالنسبة لي كان حل مؤقت، وموافقتك عليه دي حاجة أنا باقدرها لك جدا، لكن إنت دايما يا إما بترفض يا إما بتطنش كلامي .
كان يتطلع إليها في ألم، لكنها لم تلحظه، رفعت عينيها إليه واستطردت :
– لو بعد المشكلة ما تنتهي طلبت منك ننفصل، هتديني حريتي ؟
أخذ نفسا عميقا وظل يتطلع إليها في صمت لكنها قالت بلهجة دفاعية :
– شوف انا مش غبية ومتأكدة إن مامتك مش موافقة عليا بدليل انها لحد دلوقتي حتى مااتصلتش بيا على الرغم من إن سارة كلمتني من يومين، أنا مش عاوزاها تقاطعك عشاني خصوصا إن جوازنا كان لهدف معين، مفيش داعي تزعل منك وإنت مصمم على حاجة لا هتقدم ولا هتأخر .
كان الصمت هو رده حتى هذه اللحظة، شعر بغضب يصليه ناره، ويحرقه في سعيره، ماذا إن تمّلَكْتُكِ الآن وفورا ومنعتكِ كلمة أخرى في هذا الأمر ؟ هل ستصمتين أم تعاودين الحديث فيه مجددا ؟ كاد يقولها لكنه تماسك وقرر أن يخوض النقاش معها تاركا عاطفته المشبوبة جانبا بشكل مؤقت، رد بعقلانية :
– أمي مصيرها ترضى، أنا مش هانكر إنها زعلانة لكن لأنها كانت عاوزاني اتجوز دينا ودي حاجة عمرها ما هتحصل، وأنا واثق إنها لو اتعرفت عليكي هتحبك زي بابا وسارة، يعني ده مش دافع يخليني أوافق ع اللي بتقولي عليه، وبعدين مين قالك لا هتقدم ولا هتأخر ؟ إنت عرفتي منين، أنا عارف أنا باعمل ايه كويس وهاوصل لفين حتى لو صبرت كتير.
تطلعت إليه لحظة في خجل، هذا اعتراف ضمني بحبه، وبرغبته أن تبقى جواره للأبد، شعرت بسعادة أثارت دهشتها، هل قلبها يتجاوب معه بالفعل أم أنها تخدع نفسها ؟ عاد يقول في حزم :
– السؤال بقى وخليني صريح، إنت ليه مصممة ع الانفصال، عشان الذكريات، هتفضلي عايشة في الماضي للأبد ؟ .
نظرت إليه ولم تدري ما تقول، فأكمل :
– اديني فرصة أثبت لك إن الحاضر أفضل ولازم تعيشيه صح عشان يبقى عندك ذكريات أجمل لبكرة .
صمتت تماما، هاهو يهدهد مشاعرها برقة ، ويداعب خيالها بحبه، نعم هو يعترف، يا إلهي لمَ يدق قلبها بهذه السرعة وتتصاعد الدماء لمخها بعنف أشعرها بالدوار ؟ أما هو فقد تأملها، ترك لقلبه العنان ليخرج من بين ضلوعه ويرفرف حولها، أن يضمها بحنو، ويربت على كتفيها برفق، أن يمسح دمعة ألم تساقطت هناك، أن يلثم تلك العيون ويمسح دمعاتها بشفتيه، أن يقسم على حمايتها، وإتاوته هي حبها، أن يقتلها عشقا، ويسرق من بين دموعها ابتسامة هوى، أن يدمر تلك الأسوار المحيطة بقلبها الصغير، ولو بمعول في يده حجرا حجرا، أن يزلزل دفاعاتها ويقتحم حصونها، يمحو ذكرى آلام مضت وذكرى أي رجل سواه، أن يكون هو رجلها الأوحد ونهر عشقها الذي تنهل منه نبضاتها .. لذلك قال لها بكل هدوء لا يعبر عما بداخله :
– أنا مش هأقولك لازم تحبيني، لكن عاوز أقولك إن السور اللي بنيتيه وحبستي نفسك وقلبك وراه مش هيحميكي مني، أنا هأهدمه بإيدي ولو فضلت فيه سنين.
تطلعت إليه في صمت تشوبه بعض الشفقة، يا مسكين أنت لا تعلم مقدار متانة أسواري ولا ارتفاعها لكنها كانت هادئة مثله تماما وهي ترد :
– السور اللي بتتكلم عليه مش أنا اللي بنيته، اللي بناه كان شاطر أوي وأسسه كويس جدا ورفعه عالي عشان يحجب عن قلبي أي حد غيره، السور ده من زمان مش هتيجي في يومين تقولي هأهدمه بإيدي، الأسوار دي لها بوابة واحدة مصفحة ومؤمنة، وكان لها مفتاح واحد راح مع اللي راح.
نظر لها نظرة كادت تذيب دفاعاتها في لحظة لكنها تماسكت، وهتفت في قلبها لا تضعف الآن أما هو فرد بنوع من الحزم :
– سيبك من السور، السور أنا كفيل به، المهم إنت مش عاوز كل ما أهد حجر ألاقيكي بنيتيه تاني بإيدك، عاوز وعد منك إن تسيبي المكان اللي أهده مفتوح، يمكن أقدر أفتح مساحة تسمح بمروري لجوا الأسوار ، مش عاوز مفتاح البوابة لأني ناوي أشيل السور من أساسه والبوابة مش هي هدفي، هتوعديني تسيبيني احاول ؟
طأطأت رأسها، فكرت هل يمكن أن أتركه وأنا أعلم أن حصوني ليست بالقوة التي تخيلتها، أن أسواري تنتظر دقة واحدة من معوله لتنهال فوق رأسي ترابا ؟ ، هل يمكنني أن أعده بالاستسلام بدون قيد أو شرط ؟ رفعت عينيها إليه وجدته ينظر إليها بأمل، بحب، يضمها بعينيه، تشعر بدفء صدره دون أن تلمسه، كادت تصرح بأن دفاعاتها بدأت في التهاوي بالفعل لكن دوما يبقي هناك حاجزا يمنعها، أخيرا أجابت :
– أوعدك، بس اللي ما أقدرش أوعدك بيه هو نجاحك.
بلهفة ظهرت واضحة في عينيه وإن لم تلتقطها كلماته قرر :
– نجاحي مفروغ منه، سيبيه علي وبس .
صمت لحظة ثم أكمل في حزم صارم هذه المرة وكأنما تعمد إخافتها :
– وموضوع الانفصال ده مااسمعكيش بتتكلمي فيه تاني، حتى مع نفسك.
ثم قام من مكانه وطبع قبلة حنونة على رأسها استسلمت لها، خرج بعدها من المكان تاركا إياها في دوامات الحيرة والقلق والحب .
********
مرت عدة أيام عاد فيها (أدهم) لعمله ومنعها من الذهاب بحجة أنها عروس وأن هذا ليس وقته، أتت (ملك) لتعيش مع أمها وزوجها، وفي يوم عودته للشركة ذهب إليه (آدم) في مكتبه ودلف إليه ثم أغلقه خلفه وهو يهتف في مرح شديد :
– عريسنا وصل، إيه ياعم إنت لزقت في البيت وماكنتش عاوز تنزل ولا إيه ؟
ضحك (أدهم) وأجابه وكأنه يغيظه :
– الحقيقة آه لزقت، أنزل بس ليه وأسيب القمر اللي معايا.
ظل (آدم) يضحك وقال محاولا تصنع الغيرة :
– آه ياعم، الله يسهل له بقى.
ظلا يتضاحكان سويا عندما رسم (آدم) على وجهه جدية مصطنعة وقال :
– أمال هي هترجع الشغل إمتى ؟ مكتبي ملخبط من غيرها .
كان يعلم أن هذا سيثير غيظ أخيه وكان هو يتعمده وبالفعل حدث ما توقعه لأن (أدهم) قال في حزم به لمحة غضب :
– لا ريح نفسك مش هترجع.
كما توقع، لن يتركها تعمل، تظاهر بالدهشة وسأله :
– إيه ؟ ليه يابني إنت بتستهبل ؟ دي خسارة كبيرة للمكتب وليا.
تطلع إليه بغضب وهتف :
– نعم ؟ ليك ليه بقى يعني ؟
انطلقت فجأة ضحكة أخيه ساخرة مجلجلة فعلم أنه كان يستفزه فاغتاظ أكثر، هتف فيه :
– بأقولك إيه هو إنت فاضي ؟ روح على مكتبك وسيبني اشوف الشغل المتكوم ده.
رد يغيظه أكثر :
– ماهو إنت السبب سايب الشغل بقى لك قد إيه ؟ بس قولي بجد إنت فعلا مش هتخليها تشتغل ؟
رد بسرعة وحزم :
– أيوة، ماعنديش ستات تشتغل أنا .
اصطبغت لهجة (آدم) بالجدية وسأله مرة أخرى :
– بس يا أدهم وشغلها هنا ؟ كانت هايلة بجد ماينفعش ، وبعدين إنت قلت لها ولا لأ ؟
عقد حاجبيه في غيظ و ردد :
– هايلة ؟ إنت يابني مش خايف على نفسك ؟ روح شوف وراك ايه .
هتف فيه :
– يابني باتكلم جد ورد ع السؤال قلت لها ولا لأ ؟
أجابه بغيظ أكبر :
– لا لسه وبعدين حد قالك إنها هتناقشني ؟ الموضوع مقفول من قبل ما يتفتح أصلا .
سأله مرة أخرى :
– طب ليه كده بس ؟ ماتعملش كده يا أدهم عشان ماتزعلهاش .
كان حانقا عندما قال :
– لا ماتخافش مش هتزعل، وبعدين يا أخي باغير فيها حاجة ؟
ضحك (آدم) وقال :
– بتغير ؟ ليه ومن مين إن شاء الله ؟ دي حتى هتبقى جنبك على طول كده.
ابتسم هذه المرة لكنه أصر على قراره وهو يقول :
– باغير منك يا سيدي وإنت حلو و أمور كده ، وكمان كنت أستاذها ، باغير من الهوا ، من مكتبها ، من باب الشركة وهي بتعدي منه ومن موظف الاستقبال والقلم وهي بتمضي حضور وانصراف، خلاص ! روح مكتبك بقى .
تطلع إليه في دهشة، يا إلهي ألهذه الدرجة ؟ ابتسم هو الآخر وأراد أن يغيظه أكثر :
– لا ده إنت حالتك صعبة، طب دول تغير منهم براحتك إنما أنا تغير مني ليه بس ؟ ما أنا كان ممكن أوصلها قبلك بس أنا مارضيتش وأنا شايفك مِدّهوِل ياعيني .
هتف في صدمة :
– مِدّهوِل، في دكتور جامعي كان في كندا عشر سنين يقول مِدّهوِل ؟ ماشي ماشي امشي بقى عشان هتلاقي المكتب طار في وشك، قال أوصلها قبلك قال، كان زماني باقرا على روحكم الفاتحة إنتو الاتنين في زنزانتي وانا مستني حكم الاعدام .
قهقه (آدم) وقال :
– ومن الحب ما قتل .
قام (أدهم) من خلف مكتبه ثم شد أخيه من ذراعه وهتف وهو يدفعه تجاه الباب :
– يلا بقى من هنا عشان هاقتلك بجد .
استجاب (آدم) لدفعته وهو يضحك بشدة ثم فتح الباب وهو يلقيه خارجه أمام عيني (سهام) المذهولتين والتي نظرت إليهما في صمت جعلهما يستعيدان وقارهما المهدر في لحظة، قال (آدم) وهو يتنحنح :
– طيب يا أدهم هأبقى اجيلك بعدين .
ثم انطلق خارجا بسرعة وهي تكاد تضحك، فرمقها (أدهم) بنظرة صارمة جعلتها تضع عينيها في الأوراق أمامها وتعود لعملها بصمت .
في نهاية اليوم اتجه (أدهم) لمكتب أخيه فوجده منكبا على العمل وبدا الإرهاق واضحا على ملامحه فسأله :
– ايه يا آدم مش هتروح ؟
رفع رأسع إليه ثم فرك عينيه ورد :
– هأروح طبعا، زمان يوسف روح البيت والبيبي سيتر مش بتفضل لمتأخر زي ما إنت عارف .
أومأ برأسه وقال :
– طيب تمام، تعالى بقى أوصلك واتكلم معاك في موضوع كده يهمني رأيك فيه .
تساءل (آدم) :
– طيب وعربيتي، هآجي بكرة إزاي ؟
اغتاظ (أدهم) وقال :
– يعني ماهي التاكسيات مالية البلد وبعدين خلاص يا سيدي ماتزعلش هابقى اعدي عليك الصبح ونيجي سوا، مبسوط كدة ؟ .
رد (آدم) وهو ينهض من خلف مكتبه :
– اوك، إذا كان كده ماشي .
أنهى عمله ورتب أوراقه وغادرا سويا لسيارته، وبعدما انطلق (أدهم) بها سأله أخيه :
– ها كنت عاوزني في إيه ؟
أجاب (أدهم) بجدية :
– موضوع أرض جمانة، محتار فيه، عاوز أنهيه إنت عارف اني مش باحب الأمور المتعلقة، مش عارف خطتي تبقى هجوم ولا دفاع ؟
عاد يسأله باهتمام :
– طيب إيه الهجوم وايه الدفاع عشان نختار من بينهم ؟
أجابه بسرعة :
– الهجوم ياسيدي هأعلن ملكيتي للأرض لعيلة بنتها …
قاطعه (آدم) بسرعة فقط ليغيظه وكأنما لم يقاوم أن تأتي له فرصة ولا يستغلها :
– قصدك عيلة جوزها ؟
التفت إليه في غضب شديد فهتف :
– إيه يامجنون بص قدامك .
عاد ينظر أمامه وصاح فيه :
– أنا اللي مجنون ؟ يعني باتكلم معاك في موضوع مهم تقوم تقولي جوزها، ما جوزها قاعد جنبك أهو وواحد رزل من عيلته قاعد جنبه .
ضحك (آدم) ضحكة مجلجلة فمال (أدهم) بالسيارة لليمين ثم توقف بجانب الطريق وهو يقول لأخيه بغيظ :
– أنا هاتبنى يوسف وهاقولك الوداع تحب تموت إزاي ؟
ظل (آدم) يضحك وهو يقاوم بصعوبة حتى دمعت عيناه و(أدهم) يكاد يخنقه بالفعل، ثم صمت متطلعا إليه وقال :
– خلاص خلاص ماتزعلش، عيلة بنتها، المهم اشرح لي بقى قصدك ايه ؟
زفر (أدهم) في حنق ثم عاد يقود السيارة وهو ينظر أمامه وأكمل كأن شيئا لم يكن :
– الهجوم إني هاعلن ملكيتي للارض وهاجيب مهندس صاحبي يشرف عليها ويتابعها وإيرداها وشغلها مسئول منه مش منهم، وبالتالي استفزهم عشان يعملوا حاجة من اتنين، يايسيبوا الارض زي ماهي وتفضل ملك (جمانة) و (ملك) وبالتالي صاحبي يستمر في إشرافه عليها يا إما يطالبوا بالأرض وفي الحالة دي نبيعها بشكل مظبوط وبتمنها الفعلي.
سأل (آدم) بجدية :
– طيب والدفاع ؟
أجابه بسرعة :
– مفيش هما أكيد هيعرفوا إن الأرض اتباعت بس أنا مش هاعمل حاجة هاسيب الموضوع كده وخلاص وانتظر رد فعلهم هما وعلى حسب رد الفعل أشوف أنا هاعمل إيه يا نبيعها لهم برده يا إما أخلي صاحبي يشتغل عليها .
فكر (آدم) لدقيقة ثم قال :
– غالبا مش هتلحق تنفذ خطة الهجوم دي يا أدهم ، تلاقيهم عرفوا دلوقتي أو في طريقهم إنهم يعرفوا وهما أكيد هيبادروا بحاجة، أحسن نستنى ونشوف .
سأله (أدهم) باهتمام :
– تفتكر كده ؟ يعني بلاش أعمل حاجة ؟
أجابه بنفس الاهتمام :
– أيوة، وبعدين بلاش نستفزهم، خلينا نشوف هيعملوا إيه ونتصرف على أساسه بلاش نبادر بالهجوم فنوتر الموقف أكتر .
أومأ (أدهم) برأسه موافقا ثم عاد يدرس الأمر في رأسه وهو يقود السيارة إلى منزل أخيه في صمت .