رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش
الفصل الرابع وعشرون
أخطأت بحقك كثيرًا
وقسوت عليكِ كثيرًا
وجرحتكِ مرارًا وتكرارًا..
عبثت بحياتك، وتدخلت
بأدق تفاصيلك، وارتويت
من رحيقك، دون مللٍ
ودون كللٍ، رغم مقاومتك
مرارًا وتكرارًا..
فعلتُ بكِ الويل والويلات..
وامتلكتكِ عنفًا وقسرًا
واحببتك جدًا جدًا..
ورغم ومع كل ما فعلت،
لا زلت افعل عديدًا وعديدًا
وسأفعل كثيرًا وكثيرًا..
————————–
لم تستوعب ما فعلته أبدًا.. الحقد سلب منها إنسانيتها.. لا لم يكن حقدها فقط من سلب منها إنسانيتها.. كان ساري بتمسكه الشديد به.. كانت فاجعة موت احمد.. كان الضغط الحاد الهائج في أوصالها..
كانت بحاجة للخلاص منه.. واي فرصة قد تجعلها تتخلص منه لن تتردد باستغلالها.. الا أنه رغم كل شيء لا تريد أن تكون قاتلة دون حق.. لا تريد أن تشهد زورًا شهادة تُحاسب عليها امام رب العباد..
بعد كلماتها التي نزلت على اذان البعض منهم كاوية كالجمر ارتسمت إبتسامة شجية بائسة على شفتي ساري.. الهذه الدرجة اذاها حتى أصبحت كفيفة بحقدها؟ لقد قال سابقًا أن حقدها سيدمرهما معًا.. وها هي افعال ياقوت تثبت صحة كلامه..
السكون ران طويلًا بينما هي تحدق بهم بعينين واسعتين.. واخيرًا قال أبو مالك بهدوء وهو يراقب نظرات ساري المثبتة عليها.. مبتسمًا! صدقًا؟؟!!
– لنذهب الى المجلس في منزلي حتى نحسم الأمر.
هتف صفوان محتجًّا بغيظ:
– عمي ابو مالك.. انت تدري انه يجب أن يموت الان.. هو كان يكذب وذلك يعني فقط أنه هو القاتل.. وقسورة اقسم أن حينما بعرف هوية القاتل سيقتله بنفسه!
أغمض قسورة عينيه والشكوك كلها تعبث في عقله دون أي شفقة.. الرحمة يا الله ليكن اي شخص ولكن ليس أحد أفراد عائلته المقربين لأحمد..
ثم بثبات قال:
– لنفعل كما قال القاضي أبو مالك.
تطلع الى معتصم واضاف:
– ولا زال وعدي بالثأر وقسمي بالثأر لموت احمد لم يتغير يا معتصم.. تأكد من ذلك.
التزمت ياقوت الصمت بينما الشحوب يستوطن وجهها وخفقات فؤادها تضج ضاربة بعنف صاخب في صدرها.. حاولت اكثر من مرة أن تحاول اخراج نفسها من هذا المأزق التي ألقت نفسها به وتقول انهما كانا معًا ولكن… ولكن لم تقدر وذكريات أسوأ لياليها وايامها برفقته تغزو روحها ككل مرة فتستشرس رغبتها بالانتقام والتخلص منه دون أن تفكر بالعواقب..
إزدرمت ريقها حالما مال يوسف ليهمس لها بصوت منخفض بينما ينهض الجميع وضمنهم ساري:
– لا تخافي حبيبي.. سأخلصك منه نهائيًا لهذا الحقير الذي اوجعك وأوجع احمد.
حاولت على الأقل أن تخبر يوسف بالحقيقة ولكن احساسها بالخوف من رد فعل ساري فيما فعلته بعد أن يخرج من دائرة الاتهام والشك هذه لم تسعف لسانها اطلاقًا..
لم تغفل عن نظراته العميقة بفحواها التي ألقاها عليها قبل أن يغادر برفقة الرجال..
اضطر يوسف أن يبتعد عنها بعد أن لثم جبينها بحنو بينما لا تزال هي قابعة في مكانها غير قادرة على التحرك.. تكرهه وتكره الحال الذي آلت إليه بسببه..
وصلها نحيب وصراخ والدته وشقيقاته اللواتي حاولن التشبث به ومنعه من الذهاب برفقة الرجال فنهضت هي الأخرى لتقترب من مكانهم وتشاهد الطريقة التي أمسكت بها غزالة يدي فؤاد وهي تهدر ببكاء:
– فؤاد لقد وعدتني! وعدتني أن تحميه! والله هو كان برفقتها خارج القبائل كلها.. هي قالت ذلك فقط لأنها غاضبة منه.. ارجوك لا تدعهم يقتلونه ظلمًا! ارجوك!
انتبهت غزالة لوجود ياقوت فصاحت بتوسل وهي تنظر إليها برجاء:
– ارجوك ياقوت قولي الحقيقة! انا ارجوك!
- كفى غزالة! هل تظنين انني لن اقدر على الدفاع عن نفسي!
زجرها ساري بتأنيب قبل أن ينظر إلى فؤاد ويهتف: - هيّا يا فؤاد لنذهب الآن.
ضمها فؤاد الى صدره وهمس مطمئنًا بصوت خافت لا يسمعه غيرها:
– سيكون بخير غزالة.. لا تقلقي وانا موجود!
ثم استطرد:
– يجب أن أذهب الآن.. الرجال سبقونا وخرجوا.. فقط أتيت لأدعك تعرفين انني مهما حدث سأبقى بجانبك وبجانب عائلتك.. لذلك لا اريد أن أرى أي دمعة تسيل على هذا الخد الجميل.. حسنًا غزالتي؟
هزت رأسها وهي تبتعد عنه بينما ذعرها على شقيقها يهدأ ويخف بسبب وعده زوجها لها.. خاصةً أن زوجها ليس اي احد! زوجها ابن قاضي القبائل كلها.. ما دام قال كلمته فهو سوف يفي بها دون أي شك!
بقيت ياقوت تراقبهم جميعًا بهدوء لم يتزعزع إلا حينما دنى منها ساري.. بادلته نظراته القوية رغم الخوف الذي يسكن روحها.. وإرتدت خطوتين الى الخلف عندما حاول أن يمسك يدها..
إرتسمت ابتسامة خفيفة على ثغره قبل أن يهز رأسه بمعنى غير مفهوم البتّة ويقول ثم يخرج:
– سأعود.. انتظريني!
أحست بإختناق رهيب وهي تشاهد خروجه برفقة فؤاد.. إحساسها كان يطغي عليه الرعب.. اذا عاد لن يرحمها وإذا لم يعود لن يرحمها احد من قبيلته..
تفاقم احساسها المرير وعيناها تنطق بالعجز والاستسلام فور اقتراب والدته هدية منها:
– أتفهم كرهك لابني ولتصرفاته التي انا نفسي لم ارضى عنها.. اتفهم مقدار المك ووجعك الذي سبّبه لك.. أتفهم حقدك عليه وعلى الجميع.. ولكن أن تشهدي زورًا شهادة ستحاسبين عليها يوم الحساب هذا ما لم اتوقعه ولن اتقبله منك! لو مات بسبب شهادتك كذبًا وزورًا كيف ستهربين من رب العباد؟! انت بهذه الطريقة ليس فقط ستخسرين زوجك يا ياقوت بل ستخسرين اخرتك! ما فعلته ليس هيّنًا أبدًا.. واتمنى أن تدركي ما فعلتِ وتستوعبي مقدار ذنبك بشهادتك هذه!
وكأنها صفعتها دون رحمة بكلامها فسرعان ما كانت تبتعد اكثر واكثر وهي تستوعب انها خسرت آخرتها بسببه.. لن ترتاح في الدنيا ولا في الآخرة على ما يبدو..
انزلقت دموعها على خدّها دون أن تنتبه بينما غزالة تغمغم:
– أمي دعيها.. لا يحق لأحدنا أن يلومها!
تنهدت هدية قبل أن ترمق بآسى ياقوت التي بدت طفلة يتيمة مسكينة بكل ما للكلمة من معنى وهي تنظر إليهن بعينين واسعتين باكيتين.. ثم قالت:
– لا اقصد أن اقسو عليكِ فيشهد الله انني اعتبرك بمثابة ابنتي ولا يهون علي أبدًا ان يؤذيك ابني.. ولكن…!
انهمرت دموعها وهي تسترسل:
– ولكن ساري طفلي ايضًا.. اذا مات سأموت بعده! انا أم رغم كل شيء.
همست عائشة لوالدتها بتوسل باكٍ وهي تضم والدتها الى صدرها كما فعلت شقيقتها الأخرى حليمة:
– أمي كفى! أتوسل إليكِ كفى! انظري الى حالها.. لن تتحمل أي عتاب! ارجوكِ! أن شاء الله ساري سيعود الينا سالمًا فهو بريء ولم يقتل زوج… اقصد احمد!
كادت أن تقولها ولكن بسرعة تراجعت عن الكلمة بسبب ياقوت.. رحمتها ورحمت حالها.. شفقت عليها وعلى الطريقة التي صارت تؤذي بها نفسها بدلًا من غيرها.. هذه الفتاة التي أحبها احمد وعشقها ذلك العشق النادر.. فكيف بحق الله ترضى بحزنها وظلمها؟
بقيت ياقوت واقفة مطرحها عدة دقائق قبل أن تسير مبتعدة وتصعد الى جناحها ودموعها تسير برفقتها وسط نظراتهن لها..
في مجلس الرجال في بيت ابو مالك..
كان أول من علّق من الرجال هو معتصم الذي هتف:
– انا لا افهم ما الذي تنتظرونه بعد؟!
اجابه فؤاد وهو يحدجه باشمئزاز:
– هلّا صمتَ وتركت من هم اكبر منك شأنًا يتحدثون؟
إبتلع معتصم الإهانة بصعوبة شديدة واكتفى بالنظر إليه بكرهٍ قبل أن يسمع قاضي القبائل يهتف بصوت جاد حازم وهو يطالع قسورة والجد كريم:
– يجب قبل إصدار أي حكم التأكد من القاتل.. اليس كذلك؟ الفتاة طريقة كلامها كلها تشي ان قلبها محروق وموجوع وجميعنا نعرف ما حدث معها والمعاناة التي عاشتها.. فلا اعتقد اننا يجب أن نأخذ كلامها بعين الاعتبار دون فعلًا أن نتأكد اذا كانت شهادتها صادقة ام لا.. ثم إن خروج ساري برفقتها ام لا ليس دليلًا قاطعًا انه المجرم.
علّق معتصم بحقد:
– اراكَ تدافع عنه كثيرًا بعد أن أصبحت شقيقته زوجة ابنك والتي كانت يومًا ما زوجتي!
هاجت اعصاب ساري وفؤاد ليقول قاضي القبائل بسرعة، رادعًا ايًا منهما بالرد على معتصم الفهدي:
– الحكمة تُقال يا معتصم كما أن الحق يجب ان يُقال.. وكنتي حمدًا لله انك حررتها منكَ لتصبح زوجة ابني وينعم لوحده بأنثى اشك ان يوجد مثلها في الوجود.. كان افضل ما فعلته انت هو الطلاق!
تمتم يوسف بصوت منخفض حانق:
– هذا المتخلف ما خطبه، لا يجلب الإهانة الا لنفسه؟!
بهدوء هتف قسورة ليحسم القضية بأسرع ما يمكن خاصةً وأنه يشعر صدقًا أن ساري بريء:
– ساري امامكً حلًا واحدًا تزيل به بواسطته اي مجال للشك بك!
- وانا على استعداد لفعله!
اجابه ساري فتابع قسورة: - أن تضع يدك على المصحف الشريف وتقسم برب العباد انك بريء من موت احمد.
-
أحضروا القرآن الكريم وسأفعل!
قال بثقة ليسأله والده: - الستَ بحاجة أن تتوضأ؟
- لا.. لا زلت على وضوء.
إبتسم يوسف بسخرية وهو ينتظر احضار احد ابناء القاضي للقرآن الكريم بينما الصمت يسود على المجلس من قبلهم جميعهم..
بعد عدة دقائق عاد محمد ابن قاضي القبائل ووضع القرآن الكريم أمام يوسف ليضع ساري يده عليه ويقول بثقة شديدة:
– اقسم برب العباد وبكلماته انني لم اقتل احمد الفهدي وليس لي اي علاقة بموته.. اقسم بالله انني بريء من موته.. اقسم بالله انني لم ابعث اي احد ليقتله.. وأقسم بالله انني تفاجأت مثلكم حينما سمعت بخبر موته.. والله شاهد انني بريء وانني كنت خارج القبيلة خلال موته!
ثم نظر إلى أفراد قبيلة الفهدي الموجودين فردًا فردًا وتابع:
– واعدكم انني بنفسي من سيساعدكم على إحضار القاتل.. ووالله العظيم انني بريء من موت احمد.. ها انا اقولها مجددًا وسأبقى أكررها أن أردتم.
ابعد يده عن المصحف الشريف وهتف بجدية:
– الموضوع اكبر من فكرة الخوف من الموت.. الموضوع الحقيقي هو أن يبقى المجرم الحقيقي يدور بينكم وان يموت أحدًا ليس له أي علاقة بالموضوع ويصبح اسمه ظلمًا على لسان كل شخص أنه هو القاتل!
حسم قسورة قراره بعد لحظات ران بها الصمت منتظرين بها حكمه:
– ما دمتَ قسمتَ يا ساري ووضعتَ يدك على المصحف الشريف قسمًا تقابل به رب العباد فأنت بريء من موت احمد.. ولكن إذا تأكدت بدليل قاطع انك انت من قتلته لن أبالي بقسمك وبسيفي سأخذ حق احمد منك!
بعد أن أخبر قسورة خنساء ماذا حدث اغتاظت وبشدة مما حدث.. خاصةً أنها ترى بطريقة ما أن قسورة واثق بكون ساري بريئًا من قضية موت شقيقها.. ومع ذلك لم تعقب وهي تثق أن قسورة سينفذ لها وعده..
طيلة الوقت الذي سرد به قسورة ماذا حدث لم تعارض ولم تعلق على كلامه الا ان بعد انتهائه استوعبت شيئًا واحدًا وهو أن ياقوت أدلت بشهادتها ضد ساري زورًا وهي تعيش برفقته في نفس المنزل وفي نفس الغرفة! فبرعب هتفت:
– قسورة ياقوت رباه! ذلك المجنون لن يرحمها بعد ما فعلته!
- والله يا خنساء لقد قالت ياقوت كلامًا كبيرًا ولكن كلنا نعذرها.. ولو كنت اقدر لكنت منذ فترة طويلة جعلت ساري يطلقها ولكن ساري أراه متمسكًا بها بطريقة غريبة.. كانت تبدو صدقًا مقهورة ومتألمة لموت احمد لدرجة أنها لم تبالي للكلمات التي نطقتها أمام كل الرجال وهي تدلي بشهادتها.
قال قسورة ببؤس لتضع خنساء يدها على فمها وهي تهز رأسها مصدومة خائفة على ياقوت: - يا رب رحمتك! قسورة ارجوك خذني إليها الان.. يجب أن اطمئن عليها.. المسكينة لا بد أن وضعها مزري.. هي رغم كل شي تعشق احمد.. وساري الحقير لا بد أنه سيقتلها بعد الذي قالته!
قال قسورة بجدية:
– اهدأي يا خنساء.. لن يفعل لها أي شيء.. وغدًا أن شاء الله سوف أخذك إليها.
وثبت خنساء عن الأريكة وهي تصيح بذعر وجنون:
– والله لن يرحمها اذا عاد إليها.. لن اسمح له أن يؤذيها.. لن اسمح لهم أن يقضوا عليها أكثر.. لن اسمح بخسارتها هي الأخرى بعد أن خسرت شقيقي.. لو انكم اعدتموها معكم.. رباه كيف تتركونها هناك؟! الا يوجد بقلبكم رحمة لتتركوها وسط جحيم لا بد منه ومصير أسوأ من الجحيم نفسه!
نهض قسورة هو الأخر محاولًا تهدئتها لتدفعه عنها بغضب شرس وبكاء حاد:
– ابتعد عني.. لا تلمسني! لو انكم منذ البداية لم تتركوها وسطهم وقتلتوا ذلك النذل ساري ما كان احمد سيموت وما كانت ياقوت الآن تعاني أسوأ ايام يمكن أن يمر بها الشخص! ولكن جميعكم اوغاد لا تأبهون غير بالعادات والتقاليد المثيرة للاشمئزاز.. اكرهكم كلكم.. والله لو أصابها مكروهًا سأجعلكم تندمون جميعكم.. هل تفهم؟
بعصبية شديدة امسك قسورة يدها وصاح بها بعنف:
– خنساء انتبهي لكلامك.. لا تدعيني اريكِ تصرفًا يجعلك تبكين لسببٍ آخر!
ضربته خنساء على صدره وهي تحاول دفعه بعيدًا عنها بينما تزمجر:
– ماذا ستفعل؟ انت لا تختلف عنه! ظننت أن هناك بقلبك رحمة! ولكنك تركتها له وانت تدري ان لو انت كنت مكان ساري لكنت قتلتها دون تردد.. فما بالك بذلك الحقير الذي لم يرحمها منذ اليوم الذي اختطفها به؟ لماذا هكذا انتم؟ لماذا؟
هزت رأسها بعنف وهي تسترسل هادرة بجنون:
– كيف تفعل ذلك بها؟ كيف تقوم بتبرئة ساري وتدعه يعود ليمارس طقوس تخلفه وقسوته على ابنة عمك؟ كيف؟ يا الله! انا اكرهكم كلكم! أكره هذه القبائل التي ولدت بها! انا اكرهك قسورة!
فاض الكيل به فلم يتردد وهو يرفع يده ويهوي بها على صفحة وجهها بغضب بينما يهتف بصوت حاد مرعب:
– انت تدرين جيدًا أن لصبري حدود.. والكلام الكبير الذي تفوهتِ به الآن اعدك جيدًا يا خنساء انني سأعاقبك عليه حرفًا حرفًا! على ما يبدو انني سمحت لك بتجاوز حدودك اكثر مما يجب وانا اغدقك بهذه التفاهة التي لا تستحقينها أبدًا!
طالعته خنساء بحقدٍ وهي تضع يدها على وجهها مكان صفعته.. ثم بقهر غمغمت:
– تفاهة! كيف يا قسورة؟ هل ستمارس انت ايضًا تخلفكم الذكوري عليّ تمامًا كما فعلت في ايامنا قبل الزفاف!
إقترب قسورة منها بعصبية ثم قبض على ذراعها بخشونة وهتف وهو يصر على أسنانه:
– واكثر! انتبهي جيدًا مرة أخرى للكلمات التي تتفوهين بها.. وعندما نعود سنتفاهم يا خنساء على وقاحتك هذه!
جلست ياقوت على أحد المقاعد في المطبخ، تنتظر معرفة الحكم على ساري..
كانت لا تزال كلمات والدته تتردد في اذنيها مخلفة طنينًا مرعبًا لأفكار سوداء في عقلها..
اختارت الهروب منهم جميعًا حينما صعدت إلى جناحها الذي يحمل أسوأ ذكريات حياتها.. شعرت وكأن الكون يضيق بها وهي موجودة داخل المكان الذي يشهد على اقسى لحظاتها برفقة ساري.. المكان الذي يشعرها انها رهينة لشخص اناني قاسي.. فإختارت الابتعاد عن هذا المكان لأنه إذا عاد اول ما سيفعله هو التوجه إلى جناحهما ليعاقبها.. وهي تخشى عقابه.. تخشى جبروته وقسوته.. ولا يحق لأحد أن يلومها..
كانت خائفة أن يعود بقدر ما هي خائفة أن لا يعود ويموت بسبب شهادتها التي أدلت بها زورًا.. تفكر بالعديد وهذه الأفكار تأخذها يمينًا ويسارًا وتفعل الويل بعقلها المرهق من كل شيء..
أرادت حقًا أن تفعل أي شيء يريحها من هذه الدنيا ومرارتها.. أرادت أن ترتاح.. ترجو الراحة في كل بقاع الأرض ولا تجدها في اي منها..
لقد ضاقت بها الدنيا ولم تعد تحتمل أكثر.. لقد تعبت.. ووهنت عظامها وروحها تناجيها أن ترحمها..
تنهدت ياقوت بحرارة وعينيها الذابلتين التي تغلقهما تارةً وتفتحهما تارًا أخرى بيأس وضياع تحكيان الف أسطورة وجع.. ثم بخطوات مترنحة نهضت عن مقعدها ووقفت قليلًا بجانب نافذة المطبخ وهي لا تزال تفكر وتفكر..
وبعد دقائق قصيرة استدارت والتردد يسبح في بحر عينيها الزرقاوين..
بيد مرتجفة تناولت سكينة كبيرة من خزائن المطبخ وتأملتها بينما لهاثها يعلو ويعلو.. أغمضت عينيها بألمٍ تزداد وطأته في قلبها وهي ترفع السكينة وتضعها على عنقها بينما تهمس بصوت مرتجف ودموعها تنهمر مدرار على خدّيها الشاحبين:
– يا الله سامحني.. والله تعبت.. اذا عاد هو لن يرحمني وإذا لم يفعل لن يرحمني أحدهم وانا سأبقى اعاني طيلة حياتي مرارًا وتكرارًا.. استغفرك يا الله!
لم تلحق أن تجرح عنقها جرحًا خفيفًا الا وغزالة تصيح بها:
– إياكِ يا ياقوت!
طالعتها ياقوت بذعر وهي تتراجع إلى الخلف والسكينة التي في يدها ترتعش مع ارتعاش يدها:
– سأموت في كل الأحوال أو منه أو منهم.. على الأقل هذا الشيء الوحيد الذي سأفعله بنفسي!
اندفعت غزالة نحوها وهي تأمرها بصوت غاضب حاد:
– اعطيني السكينة وحالًا! هل انت مجنونة؟ تريدين أن تموتي كافرة! اين ستجدين الراحة في انتحارك! الله وحده من يقرر متى ستحين ساعة موتك يا ياقوت.
سحبت منها السكينة بسرعة بينما تزجرها بسخط:
– الدنيا فانية يا ياقوت.. لا تستحق أن تجعلي الله يغضب عليكِ بسببها.. يجب أن تسعي لدخول الجنة وليس جهنم يا ياقوت.. أنتِ تستحقين الافضل!
حاولت ياقوت أن تبث بنفسها الطمأنينة وهي تحتضن نفسها كالأطفال بينما تغمغم ببكاء وكل جسدها يرتجف دون هوادة:
– اشعر بالخوف الشديد.. ذلك الخوف المرير.. اخاف من هذا الخوف.. اخاف من الخوف نفسه جدًا.. اشعر ان الدنيا سوداءٌ ليس بها نقطة بيضاء واحدة.. اريد ان ارتاح.. اين اذهب؟ ماذا افعل لأرتاح من الخوف والألم والقهر! ماذا؟!
تصببت عبرات غزالة بألم وهي تجذبها الى صدرها بقوةٍ، تضمها بعنف وكأنها تريد أن تدخلها في ثنايا صدرها.. كلمات ياقوت كالعلقم اخذت تسري في دمائها.. رباه كم اوجعتها كلماتها..
كانت تراقبها منذ أن خرجت من جناحها وتوجهت إلى المطبخ.. كانت تبدو في حالة تيه مؤلم منذ أن ادلت بشهادتها زورًا ولوم والدتها لها فاقم من حدة ضياعها.. كانت تدري انها ستفعل شيئًا لا يسر.. فهي قد سبق ومرت بحالة تشبه حالة ياقوت.. حينما تتشعشع مرارة القهر في القلب وتغيم السماء في العيون وتصبح كلها سوداءًا.. ولكن رغم كل شيء لم تتوقع أن تنتحر.. أجل توقعت أن تفعل أي شيء.. ولكن ليس الانتحار يا الله!
شاهدتها بعينيها وهي تُخرج السكينة ولكن لم تتوقع أن تضعها إطلاقها على عنقها وتفعلها.. محال أن تقدر على نسيان هذا المشهد طيلة حياتها!
ارتجف جسدها رغمًا عنها بسبب جسد ياقوت الذي يرتجف بشدة..
كانت ياقوت لا تزال تهذي وتتمتم بكلمات مزقت نياط روحها بينما تتشبث بغزالة وكأنها أخيرًا وجدت ملاذًا يضمها.. كانت يائسة تعيسة لأقصى درجة.. تبكي بطريقة افتكت بهما الاثنتين..
لدقائق طويلة بقيتا على هذا الحال دون أن تتفوه غزالة بحرف.. فقط تمنحها ما كانت هي تحتاجه يومًا ما..
- لا اريد تكرار نفس تجربة قبل عدة أيام إذا عاد! اين اختبئ منه وارتاح! اين؟ وإذا لم يعود.. اين سأختبئ من عائلتك؟
همست ياقوت بنبرة مرتعبة باكية تائهة لتبتعد عنها غزالة وتقول بجدية بينما تزيل دموعها بيديها: - انتظريني قليلًا.. لا تتحركي من مكانك.
لم تهبها ياقوت اي رد وهي لا تزال مستمرة بكلماتها الغير واعية لها أبدًا.. استدارت فجأة بينما تهمس:
– انا.. انا يجب أن اهرب.. يجب أن افعل بسرعة!
تحركت بسرعة بخطواتها إلى خارج المطبخ وتوجهت نحو الباب الخلفي للمنزل دون أن تنتبه لكونها أساسًا دون حجابها!
حينما امتدت يدها لتفتح الباب أوقفها صوت غزالة:
– انتظري ياقوت! لا تفعلي! انتظري!
لم تنظر لها ياقوت وهي تحاول بخوف أن تفتح الباب بيدها المرتجفة..
– على الأقل ارتدي حجابك!
هتفت غزالة حينما ادركتها لتطالعها ياقوت فتتسع عيناها بتعجب وهي ترى غزالة مرتدية ملابسها بإستعداد تام للخروج..
ابتسمت لها غزالة بحنو:
– ذهبت لأحضر لك شيئًا تسترين نفسك وتغطين وجهك به.. سأخرجكِ من القبيلة! انت تريدين الهروب وانا سأساعدك بالابتعاد عن كل ما يؤذيك!.
- اقسمي لي انك تقولين الصدق!
غمغمت ياقوت ببكاء لتضمها غزالة الى صدرها وتقبلها اعلى رأسها بآسى وشجن: - قسمًا بالله اقول الصدق.. سأخذك الى مكان لن يشك به اي احد.. الستِ تريدين الراحة والابتعاد؟ إذًا سوف تحصلين على ما تريدين.. ولكن هيّا خذي ما بيدي وغطي اهم شيء وجهك!
بعد أن أخفت غزالة ياقوت في مكان مستحيل أن يشك به ساري أو أن يفكر انها قد تكون به وأن هي نفسها من ساعدتها على الهروب عادت إلى منزل أهلها وكلها ثقة أن ساري سيعود..
كانت الوحيدة التي تعرف بهروب ياقوت هي عائشة التي اخبرتها ما حدث فور أن عادت والتي وافقتها بشدة وايّدت ما فعلته.. فياقوت بحاجة حقًا أن تبتعد عن ساري ولو لفترة معينة.. وإذا لم يحصل ستموت بسبب أفعال شقيقها بها أو أنها ستحاول قتل نفسها والانتحار كما فعلت اليوم..
حمدتا الله الاثنتان أن لم يعود احد قبل أن تعود غزالة فهي لا تريد أن تكون موضع شك.. وهذه المرة التمثيل سيكون متقنًا من قبلهما حتى لا يصل ساري الى ياقوت أبدًا..
تصرفت غزالة بطبيعة شديدة وهي تسمع امها تقول:
– ها هم.. هذا صوت الرجال.. لا بد أنهم عادوا حمدًا لله! حمدًا لله!
وقفت غزالة بسرعة حينما دخل ساري وبقية رجال العائلة يرافقهم قاضي القبائل وابنه فؤاد ثم اقتربت من فؤاد الذي قبل جبينها بحب شديد وهمس لها:
– الم اخبركِ أنه سيعود غزالتي؟!
ابتسمت له غزالة بخجل ثم تطلعت الى والدتها التي أرتمت على صدر ساري تغدقه بالقبلات وهي تبكي..
– حمدًا لله.. اشكرك يا الله انك أعدته الي سالمًا!
عانقته غزالة هي الأخرى كما فعلت عائشة وحليمة وهن يحمدن الله على سلامته..
نظر ساري بينهن يستقصي عنها.. اعتقد انها على الأقل ستجلس برفقتهن تنتظر اذا كان سيعود ام لا..
أراد فقط أن يبتعد عن الجميع ويصعد لها.. لزوجته.. لياقوته.. فلن يرتاح أبدًا قبل أن يراها ويخبرها أن ها هي محاولتها حتى بالتخلص منه ذهبت هباءًا.. لا شيء سيبعده عنها..
بعد ما يقارب النصف ساعة كانوا يتحدثون بها عما حدث وكيف نفى التهمة عنه نهض فؤاد ووالده قائلًا أنهما سيغادران ثم أخبر غزالة أن تجهز نفسها لتعود معهما..
إمتثلت غزالة سريعًا لطلبه وقبل أن تغادر نادت ساري وهمست له بجدية:
– لا تقسو عليها يا ساري.. فيكفيها ما مرت به! اريدك ان تعدني انك لن تؤذيها!
- لن افعل.. لن اؤذيها.. غادري يا غزالة الان برفقة زوجك.
قال ساري بهدوء لتبتسم غزالة وتتطلع الى عينه بحزم رقيق وتغمغم: - لقد وعدتني.. لا تنسى ذلك!
بادلها ساري الابتسامة قبل أن يراها تغادر برفقة زوجها ووالده.. ثم بهدوء ولهفة صعد ساري الى جناحهما.. استغرب عدم وجودها وهو يرفض مجرد التفكير بكونها قد هربت منه..
بحث في الجناح بأكمله إلا أنه حتى طيفها لم يشاهد! بخطوات سريعة وقلب يخفق برعبٍ نزل إلى الاسفل وصاح:
– أم.. عائشة.. اين هي؟
نظرت والدته إليه بعدم فهم:
– من؟ ياقوت؟
- اجل.. هي ليست في الغرفة.. اين هي؟
هدر بغضب اسود وخوف رهيب لتقول حليمة: - في جناحكما.. اين ستكون؟ اخر مرة رأيناها كانت بعد أن غادرت انت وصعدت هي الى جناحكما.. وبعد ذلك لم يراها أحدنا!
شتم ساري بعصبية شديدة وهو يأمر شقيقتيه بجنون:
– إبحثا عنها في المنزل وانا سأخرج لاراها اذا كانت في الخارج.. لن يرحمها مني احد اذا تجرأت وهربت.. لن اسمح لها!.. مستحيل أن اسمح لها بالهروب مني! مستحيل!
يتبع..
رأيكم بالفصل؟
وتوقعاتكم؟
– ساري وياقوت؟
– قسورة وخنساء؟
– وغيرهم…
قراءة ممتعة..
مع حبي:
اسيل الباش