رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش

الفصل الحادي وعشرون
اذا قادني العشق الى عينيكَ
لا ترفضني وعانقني ودعني
اعيش بوهمي انك تنتظرني..
اذا أتيتُ اشكو اليك حبي
ابتسم وأخبرني انك ستبدل كل
ما بوسعك لتجعلني ارضى ببلائي..
لا تغلق بابك بوجهي وتنكرني..
ولا تخبرني هذا نصيبك فتحملني..
افعل المستحيل لآجلي واحبني..
ودعني احبك اكثر مما احبك..
اكثر واكثر حتى اعشقك..


كانت قد اقسمت خنساء أن تتغلغل في قلب قسورة وعقله كما تتغلغل الشعرة الشقراء في العجين.. دون أي مخرج.. لا طريق لأي مخرج.. كوشم سرمدي لا يتم حذفه ولو تم حرقه.. وفعلت.. هي تدري انها نجحت.. ولكنها قلقة من عقل زوجها الذي يتحمل مسؤولية الأمور وكأنه هو سببها.. كل كافة شؤون القبيلة على عاتقه وهي التي في النهاية تعاني.. وخاصة بعد كلام المجنون ساري معه.. يجب أن تجعله يمحو أي فكرة زواج من غيرها من رأسه والا ستقتل العديد من الأشخاص دون أي رحمة بمخالبها الضارية..

ابتسمت خنساء بمكر وهي تجذب قسورة من يده ليجلس بجانبها على السرير وهمست:
– كيف كان عملك اليوم حبيبي؟.. تبدو مرهقًا!

حك قسورة رأسه بطرف يده وغمغم بتعب واضح:
– جدًا يا خنساء.. صحة جدي تتدهور يومًا بعد يوم.. وأصبحت كل شؤون القبيلة الداخلية والخارجية ملقاة على عاتقي انا.. والمشكلة أن لا أحد من العائلة مهتم وخاصةً بعد إعلان جدي انني سأتولى منصبه.

رفعت خنساء ظهرها قليلًا واسندته على ظهر السرير ثم بنعومة جذبت رأسه الى صدرها وغمغمت بحنو:
– ارفع قدميك على السرير واغمض عينيك.

نفذ قسورة برضى ما طلبته وهو يتنشق عبيرها الرائع.. شيء ما بها غريب.. مختلف.. ساحر..
شعر بيديها تُنزل رأسه قليلًا وتضعه في حجرها.. وهذا لم يرضيه! ان يكون رأسه على صدرها فتصل رائحتها الذكية الى انفه بسخاء وتستوطن أذنه مركز خفقاتها يختلف تمامًا عن أن يبقى رأسه ساكن في حجرها.. ولكن لذلك أيضًا فوائد.. فخناس تجيد بمهارة استخدام أصابعها بتدليك رأسه.. وشعرها الطويل شديد السواد يدغدغ وجهه واصابعه الراقدة على صدره..

اغمض قسورة عينيه بتعب بينما خنساء تسترسل بما تفعله بمهارة وهي تقبله بين الحين والحين.. تارةً على شفتيه وأنفه وتارة أخرى على جبينه ووجنتيه بطريقة تفقده صوابه..
خلال لحظات معدودة فقط كانت هي تحته وهو فوقها بعد أن بلغ صبره منتهاه.. قبّلها بطريقة مجنونة لا تناسب الا جنون زوجته الشرسة.. ما اغاظه حقًا انها تضحك وسط قبلاتهما باستمتاع بينما هو مرهق حد النخاع بسبب يومه الطويل..
– هذا ما تسعين إليه.. اليس كذلك يا خناس؟

أطلقت خنساء العنان لضحكاتها المغرية وردت بغرور:
– ليس ذنبي يا حبيبي إذ كنت لا أُقاوَم.. انا في النهاية خنساء ومعروفة بجمالي وجاذبيتي.

رفع قسورة حاجبه الأيمن بخبث:
– بما انك زوجة قسورة فبالتأكيد ستكونين معروفة حبيبتي بكل شي.

تأففت خنساء ثم سألته بجدية:
– ماذا ستفعل مع وسيم وما طلبه منك؟

لم يرد عليها قسورة بينما ثغره يعيث الفساد ببشرة وجهها وعنقها.. اعترضت خنساء بدلال وهي تهتف باصرار بينما تحاول دفع وجهه بعيدًا عنها:
– قسورة اجبني.. اريد ان اعرف اذا يجب أن أتدخل بهذه المسألة ام لا.

بحدة ابتعد قسورة عنها وهو يقول بتهديد:
– حاولي فقط يا خنساء أن تتدخلي وأعدك أن رد فعلي لن يسرّك أبدًا!

طمست خنساء ردها اللاذع بصعوبة قبل أن تقرر مبادلته جنونه وتنفث عن غضبها به كما يفعل هو تمامًا معها..


طيلة ساعات النهار وهي تفكر بكلام خنساء.. تفكر كيف تجعل ساري خاتمًا في بنصرها.. ولكن كيف ذلك وهي لا تطيقه ولا تريد الا بعده!.. الاختلاف بينها وبين خنساء شاسع.. بل الاختلاف الحقيقي هو وضعهما فخنساء تحب قسورة بينما هي لا تحب ساري.. ولا تعتقد أنها ستفعل في يوم من الايام.. ما تكنه تجاه ساري فقط رغبة عاتية بالانتقام للمعاناة التي تعرضت لها منه وبسببه..

لا تنكر أن معاملته لها باتت افضل.. ولكن هل ستنسى في يوم من الايام ان هذا الرجل قد خطفها يومًا وقام بقتل كل أحلامها! ثم ماذا عن احمد؟! ما هو شعورها نحوه؟ هي صدقًا لا تعرف.. فقط تريد أن تحذف اسم اي رجل من حياتها.. حقًا لا يوجد اي رجل قد عرفته وكان يستحق مشاعرها.. سواء احترام أو حب او حتى صداقة..

جاهدت ياقوت أن تخفي ارتعاش يديها وهي تحدق بساري الذي خرج لتوه من الحمام.. كان قد عاد قبل ساعة من الخارج.. لا شيء جديد سوى نظراته التي تومض بعبثٍ محبب ولكن لها لم يكن.. هي تكره هذه النظرات.. تحب الوضوح فقط حتى تجهز نفسها لاي شيء سيحدث.. لا تحب البقاء متحفزة وهي غير متوقعة الحركة القادمة متى وماذا ستكون..

ابتسمت ياقوت له بثقة مخادعة حالما همس لها:
– تبدين معجبة بصدري العاري!

بشق الأنفس كتمت خجلها وردت ببساطة اتقنتها من حديث خنساء معها اليوم:
– بالتأكيد.. الستَ زوجي؟

ابتسم ساري، مدركًا لخطط خنساء الفهدي.. فحالما عاد من الخارج لم تتحدث ياقوت معه إلا بوقاحة كانت على وشك جعله يفتك بها..
اذًا التلوّن؟.. هذه البداية! ثم ماذا بعد من خطط خنساء الفهدي؟.. هل تود أن تجعل ياقوت نسخة منها تفقده صوابه؟ لا بأس اذًا..
لدهشته دنت ياقوت منه وأحاطت عنقه بذراعيها بينما تغمغم برقة مخادعة فعلًا كادت أن توقعه في فخها:
– انت زوجي يا ساري.. وطبيعي أن تعجب الزوجة بكل ما يتعلق بزوجها.. تمامًا كما انا اعجبك.. حبيبي!

كم كانت ثقيلة هذه الكلمة وهي تنطقها.. حبيبي! كجليد قاتل وثب فيه قلبها.. كآهة شهيد على فراش الموت يشاهد موت شهداء غيره..
ارتجف قلبها نفورًا واعتراضًا ولكنها قاومت.. فلا زالت في بداية الطريق.. ساري العرابي سيصبح لعبة في يدها.. هي ملكته وهو خادمها.. ستحقق مبتغاها لا بد قبل أن تجعله مجنون..

  • بالتأكيد تعجبينني.
    همس ساري بثبات كادت تلكمه بسببه بينما يديه تستقران على ظهرها.. إزدردت ريقها بوضوح لعينيه الحادتتين بينما يواصل:
  • كلك تعجبينني.. من اشهق رأسك حتى أخمص قدميك.. وخاصة عينيك الزرقاوين وشعرك الطويل.

ختم ساري ما قاله بإمساكه لخصلة من خصلات شعرها ليتنشق رائحتها بتلذذ! ثم بعد ذلك مال ليقبلها ولكنها كانت أكثر حذقًا منه فقامت بالابتعاد عنه في اللحظة الحاسمة وهي تقول بابتسامة ماكرة اجادت صنعها بمهارة:
– لا زال الوقت باكرًا يا ساري.. لقد وعدت والدتك أن أرحب بالضيوف الذين سيتأتون ليباركوا لنا زواج غزالة بدلًا عنها.. ولكن لاحقًا يا ابا كليم.

وساري كان يدري أن لا يوجد لاحقًا كما ياقوت تدري جيدًا.. اذًا لعبة جديدة اخرى علمتها خنساء لزوجته.. جنون الانتظار! وخاصةً حينما تنسحب في الوقت القاتل..
“تبًا لك يا خنساء.. ما الذي اوقعني في طريقك؟”
تمتم ساري بصمت يناقض الثوران داخله وهو يشاهد زوجته تخرج من جناحهما بخطوات ناعمة مستفزة جدًا تعكس استمتاعها بما يحدث..

  • لا زال امامك الكثير يا ساري العرابي.. انها البداية فقط.. لن يكون اسمي ياقوت الفهدي اذا لم اجعلك تردد اسمي ليلًا ونهارًا قبل أن افعل بك ما فعلته بي.. سأقضي على احلامك كما قضيت علي!
    همست ياقوت بحقد لا إرادي قبل أن تتذكر حديث غزالة معها.. لا تود ان تندم.. هل ستندم حقًا اذا انتقمت بهذه الطريقة العمياء؟ ولكن انتقامها حاليًا ليس مجنونًا بل مدروسًا من فتاة مجنونة اكثر من ساري نفسه! ولكن خنساء طيبة القلب بعد كل شيء فعلى الرغم من كرهها لساري لما قاله وفعله معها الا أنها اخبرتها بجدية انه يحبها وبإمكانها أن تلهو به كما تشاء ولكن دون ان تدمر علاقتهما الزوجية..

لم تفهم الكثير من كلام خنساء ولكن المجنونة خنساء ذات القلب الطيب حقًا أعطتها خنجرًا مميزًا لتقتل ساري اذا جرب أن يقهرها او يضايقها بعد الان.. في النهاية هي طيبة القلب! اليس ذلك؟ بعد ما فعله كان درسها الشرير لها عن ساري ناعم بالنسبة لجنونها.. ما اضحكها حقًا ان خنساء كتبت قصيدة لساري كلها كره وشتائم وتهديد بالويل الاحمر!.. قصيدة وخنجر حفرت عليه خنساء بنفسها “موتك على يد سيدتك!”


لا تزال جالسة تفكر في الحلم الغريب بل الكابوس المرعب.. كابوس جعلها تستيقظ قبل اذان الفجر بدقائق معدودة تشهق وقلبها يخفق بعنف بينما هو نائم بهدوء وسكينة بجوارها.. من شدة رعبها دموعها اخذت تتصبب على خدًيها دون أن تتمهل ولو لحظة فيستيقظ احمد على صوت شهقاتها ويسألها عن سبب بكائها بصوت قلق وهو يضمها الى صدره ليهدئ من روعها..
لدقائق طويلة اخذت تشهق وتبكي فقط إلى أن سمعت أخيرًا صوت اذان الفجر يتصاعد ليبث الطمأنينة في النفوس.. وبهدوء يناقض ما كانت عليه قبل ثوان معدودة طلبت منه الذهاب الى الجامع ليصلي ريثما تصلي هي الأخرى وتعد الفطور..
رآت التردد وبعض الخوف يومضان في عينيه فأصرّت على موقفها وهي تطمئنه بابتسامة بسيطة انها بخير وليست هناك أي حاجة تجعله يفوت صلاة الفجر..
انصاع لكلماتها مترددًا متوجسًا بينما اخذت هي تبكي بينما تقضي فريضتها.. الرعب الذي تعيشه حاليًا يكاد يقتلها.. مهمومة ومرعوبة وهي تكره كوابيسها.. تكرهها لان عادة ما تدل على شيء سيء سيحدث..

بعد أن أنهت ما عليها عادت إلى النوم وكأن شيئًا لم يكن فيحاول احمد أن يوقظها ليفهم منها ما حدث حتى تنهار هكذا فجأة الا انها تأبى الانصياع لطلبه بينما تنكمش على نفسها بطريقة تثير الشفقة..
كلماته ولمساته كانت تدل على شفقته وحزنه على ما آل إليه حالها ولكن ذلك لم يكن يزيد الا من حزنها ومعاناتها.. بقيت مكانها إلى أن غادر أخيرًا الى عمله بعد أن اوهمته انها نامت..
وما أن غادر فقط حتى نهضت عن السرير وهي تجفف دموعها لتجلس تفكر بهذا الكابوس المشؤوم..

كانت في مقبرة لوحدها في منتصف الليل بينما الضباب يشوّش رؤيتها.. ترتدي فستانًا ابيض اللون بينما من طرف شفتيها يسيل خط رفيع طويل من الدم..
تحاول أن تصرخ من الم عظامها المريع ولكن صوتها لا يخرج إلا نشيجًا.. احساس مفظع بالعجز وكأن هناك من يقودها نحو اللا مجهول.. إلى أن أخيرًا توقفت أمام قبرًا فارغًا بينما تسمع أصوات تكاد تصم اذنيها من شدة صخبها وخشونتها.. استمر هذا الجنون حتى أخيرًا رآته نصف وجهه مشوّه بطريقة مرعبة.. بينما اثار حريق تغطي جسده..
أخذ جسدها ينتفض وهو يقترب منها بينما عظامها تشعر بها تتحرك داخل جسدها مسببة لها اوجاعًا لا تُحتمل.. ثم كل شيء يختفي حينما يدفعها احمد الى داخل القبر ويقع بجانبها ليعيق محاولتها للفرار بجسده الضخم..

اختنقت عائشة مرة أخرى بدموعها وخوفها وهي تقرأ المعوذات وبعض الدعاء الذي يهدئها.. تفكر أن تستفسر عن معنى هذا الكابوس الغريب ولكنها خائفة.. مرعوبة من معناه.. وخاصةً أن دائمًا كوابيسها نذر شؤم..
حاولت أن تهدئ من روعها طيلة اليوم بالصلاة وقراءة القرآن وحينما يعود احمد ستخبره عن كابوسها لعله يحترس وينتبه على نفسه..


خرجت وهج مفزوعة من غرفة الطفلين بينما يصلها رائحة شيئًا ما يحترق.. ثم ارتعبت وهي ترى أن الحريق قادم من قماش يشتعل نارًا تم القاؤه على الفراش الأرضي المتوسط ساحة منزلها ليحترق هو الآخر وتبدأ النيران بالانتشار والتصاعد..
ارتعبت بطريقة غير عادية خاصةً كونها حامل وكون الطفلين برفقتها فأخذت تصرخ برعب وهي تدخل الى غرفة الطفلين المرتعدين من صراخها فتضع حجابها كيفما اتفق ثم تمسك يديهما وتخرج راكضة بصراخ وبكاء بينما ترى منزلها كله يكاد يحترق..
فتحت الباب لبعض رجال القبيلة الذين كانوا يطرقون الباب وسمحت لهم بالدخول بينما تعانق الطفلين بخوف شديد..

جذبتها إحدى النساء إلى بيتها مع الطفلين بينما تكفل الرجال بإطفاء الحريق وارسال خبر ما حدث الى قسورة الذي أصبح زعيم القبيلة والى صفوان الذي كاد ان يفقد عقله رعبًا على عائلته وهو يركض الى بيته..
بعد أن اطمئن أن زوجته وطفليه بخير وعرف مكانهم شكر الرجال الذين انقذوا بقية منزله من النار وعاد إدراكه الى عائلته ليهدئ من روعهم..
وفي نفس الوقت وقبل أن يرتاح الرجال لأنهم اخمدوا الحريق وصلهم خبر أن منزل آخر في القبيلة يحترق..

  • لا حول ولا قوة الا بالله! ما الذي يحدث؟!
    هتف أيهم بعصبية وحيرة ليمرر قسورة يده على رأسه بتيه وغضب اسود.. الأمر تعدى كون من يحرق البيوت هو وسيم فقط أو عزيز وشقيقته أو حتى ساري العرابي.. هناك أحد آخر يعبث بقبيلته وعليه أن يعرف من هذا الحقير بأسرع وقت ممكن..

توجه قسورة الى جده ليتحدث معه حول ما يحدث ويتفاهم معه ولكن جده نادى بصوت عالٍ على شقيقه الصغير عمران.. وما أن دخل حتى هتف كريم بجدية تامة، موجهًا كلامه لقسورة:
– هذه مشكلتك لوحدك يا زعيم وشيخ القبيلة.. انت من يجب أن تجد حلًا لهذه المصيبة.. قرارات وشؤون القبيلة كلها تحت يدك يا قسورة.. وإذا لم تكن قادرًا على تحمل ما يحدث من البداية ولوحدك ستجعلني أندم حقًا على اختيارك انت من بين كل الرجال لتكون زعيم القبيلة.

سكت قسورة مرغمًا وهو يرى جده ينهض ويتكئ على شقيقه الصغير، تاركًا إياه لوحده يفكر.. كل ما أراده أن يشاركه أفكاره كما اعتاد أن يفعل منذ صغره ولكن جده تغير منذ أن صار هو الزعيم.. تغير بشكل جذري.. أي كلمة تخص القبيلة يخبره أنه لا يريد أن يسمع وان هذه مشكلته لوحده وهو من عليه حلها.. والان هو كان حقًا بحاجته وها قد تركه وسط هذه المصيبة ليتعامل معها لوحده..

خرج قسورة متوجهًا الى منزل صفوان ليتحدث معه ويتفقد مدى الضرر الذي أُلحق بمنزله.. ويحاول أن يفك الخيوط المتصلة ببعضها عسى أن يصل إلى المجرم فينهك روحه..


على الرغم من معرفته بمكر هذه الصغيرة الحاقدة إلا أنه كان راضيًا يستمتع بتصرفاتها ولو كانت ستقهره لاحقًا.. ولكن إذا كان هذا سيخفف من قهرها وحقدها فتفعل ولكن الأهم أن تبقى قربه.. لتنتقم كما تشاء قربه.. لتقتله بقسوتها وقوتها فما دامت قربه كله رضى..
رائحة البخور حينما دخل جناحهما أسرته.. ابتسامتها التي تشع اغراءًا قتلته.. وخاصة نظرة عينيها العابثة المستمتعة وان كانت تواري الكثير خلفها..
سارت بدلال مدروس نحوه وبرقة ساعدته ليقلع سترته وهي تهمس:
– الا تظن أنك تأخرت حبيبي؟ منذ أيام وانت تتأخر.. ثم اين المفاجأة التي وعدتني بها.

قلبه اخذ يذوب بلمساتها وهمساتها.. حرارة مهلكة تضطرم بجسده.. يقسم أنه يدري انها تعبث به.. ولكنه لا يقدر الا ان يستجيب.. ليس غرًّا ولكنها ياقوت.. هذه ياقوت حلمه التي تعامله بهذه الطريقة.. لو كانت امرأة غيرها لما كان سيستجيب لها..
زفر بإرهاق وهو يراها تقف على اصابع قدميها حتى ترفع جسدها وتقوم بتقبيل عنقه ثم تبتعد وكأنها لم تفعل شيئًا.. وكأنها لم تقتله وهي تقترب كل مرة بارادتها ثم تبتعد وكأنها لم تدنو منه وتشعل كيانه..

منذ أيام وهي ترهقه تقترب بإرادتها ثم تتركه وتغادر للنوم قبل أن يدركها.. وحينما يحاول أن يوقظها تبدأ نوبة بكائها فيضطر ان يبتعد عنها.. ليس لشيء وانما فقط لأجلها ولاجل رضائها..
قبل أن تبتعد مرة أخرى أكثر مما يجب كان يمسك يدها ويجذبها الى صدره بينما يهمس بصوت اجش:
– المفاجأة لا زالت قائمة يا ام كليم.. ولكن اصبري حتى نهاية هذا الأسبوع.

اومأت بابتسامة ناعمة جعلته يغمض عينيه ويستغفر الله.. وما أن فتح عينيه رأى النظرة الماكرة التي تومض بها عيناها فإبتسم هو الآخر ومال ليقبلها وهو عازم هذه المرة ان لا يتركها مهما حدث.. صبره بلغ منتهاه من شوقه لها وهي.. وهي تقضي عليه بدلالها ومكرها.. رباه ما الذي يحدث معه؟!

طالت القبلة وطالت ويداه تعبث بخريطة جسدها بشغف ولهفةً.. وكأنه لم يلمسها قبلًا.. واستجابتها له على نقيض ما توقع أفقدته اخر ذرة تعقل كانت موجودة في عقله.. كانت تبادله حقًا ما يفعله.. تريد أن تتغلغل روحه وقلبه فلا يجد منفذًا أو مخرجًا يحرره من لعنتها.. لن يكفيها حبه وعشقه لها.. تريده مجنون بها.. حد الهوس..

لم تبتعد عن صدره في صباح اليوم التالي.. بل بقيت متوسدة إياه.. راضية بما تفعله وهي ترى ضعفه بين ذراعيها.. راضية بخضوعه.. يرضيها ويسعدها ما يحدث على الرغم من حقدها عليه.. ولكن هذا السبيل الوحيد لانتقامها منه.. لقد أقسمت أن تحرق قلبه.. وهي ستفعل.. بالتأكيد ستفعل..

شعرت بيده التي تخللت خصلات شعرها فإبتسمت ورفعت رأسها لتطالعه:
– صباح الخير.

مال بشفتيه ليلثم ثغرها وهمس:
– صباح الياقوت والمرجان.

إتسعت ابتسامتها الساحرة وقالت:
– ماذا سنفعل اليوم؟ انا حقًا ارغب بقضاء يومي كله برفقتك ولوحدنا.

تنهد ساري بمشاعر عديدة تضعفه اكثر مما يجب:
– سأغادر الان لانهي بعض الأعمال ثم سأعود اليك لأخذك الى مكان سيعجبك.. اتفقنا يا صغيرة؟

هزت رأسها موافقة قبل أن تقبله وتنهض لتتجه إلى الحمام الذي في جناحهما..
تمتم ساري بسخطٍ:
– لعنك الله يا خنساء الفهدي.. سأُصاب بجلطة قلبية من فرط مشاعري نحوها ومن جنون ما تفعله بي.. امرأتي الجميلة!


مستغرب حالها.. لا يعقل أن يزرع كابوس كل هذا الرعب في قلبها.. وضعها من سيء الى اسوأ.. عيناها منتفختان من أثر البكاء.. وجهها شاحب وكأنها تنازع الموت.. الضياع تحكيه نظراتها.. ما الذي غيّر أحوالها؟.. ما يحدث لها غير طبيعيا.. اطلاقا!
اقترب منها بخطوات هادئة ثم جلس بجانبها وتساءل بحيرة:
– ما الذي يؤرق مضجعك يا عائشة؟ ارحمي نفسك واخبريني.. انا لستُ راضيًا عن حالك هذا؟ منذ يومين وانتِ على هذا الحال!

تطلعت عائشة إليه بمقلتين رقراقتين ثم أسندت رأسها على كتفه فتمتد ذراعه لتقرّبها اكثر الى صدره بينما تهمس بصوت مخنوق:
– اريد أمي.. بالله عليك خذني إليها.

هتف احمد بجدية:
– حسنٌ يا عائشة، سأفعل.. ولكن دعيني اولًا أن أعرف سبب بكائك ورعبك هذا منذ أن استيقظتِ مفزوعة بسبب كابوس لا يعني اي شيء.

هزت عائشة رأسها عدة مرات بنفي ودموعها تنهمر على وجنتيها:
– هذا الكابوس يعني الكثير يا احمد.. انا اعرف ماذا اقول.. كوابيسي هذه دومًا ما ترتبط بالواقع بطريقة ما.. وكأنها رؤية.. انت لا تفهمني.. لا تعرف!

ثبّت رأسها بيده وقال بإصرار:
– ماذا كان الكابوس؟ اخبريني.

افترقت شفتيها عن بعضها وكأنها على وشك البوح بما يجوف من رعب في عقلها وقلبها الا انها لم تفعل.. اكتفت بتنهيدة حارة كوت قلبه وجعًا وشفقةً عليها قبل أن يتفاجأ بها ترفع رأسها لتقبله بإرادتها التامة!..
للحظات تسمر مكانه بتفاجؤ قبل أن يشعر بدموعها تختلط بمذاق شفتيها فيرفع يده ليغلغلها بين طيات شعرها ويبادلها قبلتها التي تدل على حاجتها للشعور بالامان..
ابتعدت عنه بارادتها تمامًا كما اقتربت بإرادتها ثم همست بصوت مضطرب:
– اسفة نيابة عن الجميع يا احمد.. اعتذر عن كل ما قلته لك سابقًا وعن كل ما فعله ساري بحقك.. سامحنا!

تمزق نياط قلبه وهو يراها تعتذر على ذنب ليس لها يد به.. كيف تعتذر وهم جميعهم عليهم الاعتذار منها والهفو لنيل رضاها؟
أسند رأسها على صدره بينما يضغط بشدة على جسدها النحيل بذراعيه حتى كاد أن يسحق عظامها فلا تعد قادرة حتى على التنفس..
– لا اريد ان اسمع هذا الهراء يا عائشة.. انت لا ذنب لك.. ارجوك لا تزيدي من ذنبي بكلامك هذا الذي يمزقني.. لا تفعلي وارحمي حالك وحالي.

  • لا تخرج اليوم.. ابقَ معي.. وانا أيضًا لا اريد ان ازور أمي اليوم.. سأفعل غدًا.
    غمغمت وهي تتنشق رائحته القوية فإبتسم قبل أن يحملها ويتوجه الى غرفتهما..
    تشبثت عائشة به أكثر وكلها رضى عن ما يحدث وعن ما سيحدث بينهما..
    وضعها أحمد برفق على السرير لتأبى عائشة أن تحرره من قيد ذراعيها فيقهقه رغمًا عنه وينحني ليقبلها قبلة طويلة شغوفة جعلتها تنسى رغمًا عنها خوفها من كابوسها المرعب..

بادلته قبلاته.. وشاركته كلماته.. وامطرته بالكلمات العاطفية التي ألهبت أحاسيسه ولأول مرة معها هي.. طالت ليلتهما وطالت وهي تبادله مشاعره بشغف واستسلمت لما يفعله بجسدها بكامل إرادتها وبرضى لم يكن يومًا بها..


تطلعت ياقوت حولها برضى.. لقد وفى بوعده وأخذها الى مكانٍ لم تتوقع أن تراه يومًا ما.. ليس بقليل ساري العرّابي.. يجيد اختيار الاماكن التي تُغلغل الراحة والطمأنينة قسرًا في النفوس..
الطريق كان طويلًا بعض الشيء.. من القبيلة إلى الجبل.. ثم إلى شبه غابة.. إلى أن توقف أخيرًا بحصانه بجانب كوخ يطل على بحيرة صغيرة..
اسعدتها الطبيعة المحيطة بها.. حتى الحيوانات المتواجدة هنا ابهجتها.. صوت الأشجار بسبب الهواء كان ينعشها بطريقة غير عادية.. وما اسعدها اكثر أن لم يكن هناك غيرهما من البشر..

كان الكوخ من الداخل ذو طراز عجيب.. لم تكن تعرف كيف تصفه.. فعلى الرغم من صغره إلا أنه فريد من نوعه.. هناك على الارض فراش ثقيل تتفاوت ألوانه بين الاحمر والاسود.. ووسائد عديدة تحيط به بطريقة حميمية.. وفوق الفراش هناك نافذة مفتوحة.. وبجانب الفراش هناك أرجوحة من القش وعليها أيضًا وسادتين وبطانية.. اما المطبخ الصغير كان مكشوفًا على الواجهة.. بينما خارج الكوخ كان هناك مرحاض صغير..

وقفت ياقوت أمام البحيرة واغمضت عينيها لتترك الهواء يعبث بشعرها المنسدل على ظهرها بحرية.. بينما اكتفى ساري بمشاهدتها بابتسامة عاشقة قبل أن يقرر الاقتراب منها بخفة..
توقف خلفها للحظات ثم أحاط خصرها بكفيه واسند ذقنه على رأسها بينما يهمس بنبرة هادئة:
– تبدين سعيدة.. هل اعجبك المكان؟

وضعت ياقوت يديها الناعمتين على يديه بينما ترد بصدق:
– جدًا يا ساري.. انا اعشق هذه الأماكن.

أدارها إليه برقة وتساءل وهو يمرر ابهامه على خدها وشفتيها:
– ممم.. واليس لي نصيب من هذا العشق؟

لثوان معدودة رأى ملامحها تتجمد قبل أن ترسم ابتسامة ساحرة على ثغرها وتجيب بمكر وهي تهز كتفها الأيسر بدلال:
– ربما قريبًا يا روحي.. الستَ زوجي؟!

ضحك ساري ملئ شدقيه باستمتاع ثم مال بشفتيه ليقبلها بعاطفة شغوفة لا يظن أنها ستختفي أو تقل يومًا ما..
– آه كم اعشق هذا الثغر الذي صار يجيد أبجدية الحديث! آه منك يا ياقوت!

ابتسمت ياقوت بدلع وأحاطت عنقه بذراعيها، مغمغمة ببراءة مخادعة بينما ترفرف برموشها:
– سنقضي هنا عدة أيام أخرى.. اليس كذلك يا ابا كليم؟

  • صحيح يا روحه.. سنقضي إن اردتِ شهرًا هنا.
    رد ساري بابتسامة لتهز ياقوت رأسها وتهمس:
  • لا حبيبي.. بعض ايام تكفيني.. ولكن الآن أخبرني ماذا سنأكل؟

اجاب ساري وهو ينحني ليحملها حتى يعود بها إلى الكوخ:
– سأقوم باصطياد السمك لك حتى اشويه لك.. الستِ تحبينه؟

  • بلى احبه، وكثيرًا أيضًا.. اريد ان اصطاد معك السمك فلذلك هيا عد ادراجك ولنفعل الان.
    قالت ياقوت بجدية فتوقف ساري مكانه وسألها باستنكار:
  • هل انت جادة؟

  • آجل ساري.. هيا انا جائعة.
    هتفت بحزم ليضحك ساري ويهز رأسه موافقًا:

  • ليست بعيدة أبدًا النوبة القلبية!

نظر احمد الى يوسف بجمود بعد السؤال الذي طرحه والذي وقع على أذنيه كقنابل انفجرت داخل قلبه.. مجرد ذكر اسمها فعل الويل به.. ذنبه وعشقه.. من تخلى عنها بكامل إرادته بسبب معتقدات سخيفة اعمت بصيرته للحظة..
“هل نسيتَ ياقوت؟”
هل فعل؟ هل نساها؟ حبه الوحيد.. عشقه الذي بيده خسره والذي سيبقى يحاسب نفسه عليه الى الابد.. آه من وجع قلبه ومن مرارة خسارته لياقوت روحه..

لم يتجرأ أن يرد ويوسف يطرح سؤاله الثاني عن الفتاة التي أُقحمت بهذه المأساة والتي ظُلمت من قبله ومن قبل الجميع.. عائشة.. المظلومة الحزينة.. البريئة النقية.. المنفية وكأنها في غربة.. المرأة التي اقترن اسمه بأسمها وصارت سيدة منزله.. الطفلة المركونة على ناصية الرصيف والتي تنتظر أن يبالي أحد بها كما هي تفعل مع الجميع..
“هل بدأت مشاعرك تميل إلى شقيقة ساري؟”
هو يحترمها.. يقدّرها.. وكيف لا يفعل وهي المعنى الحقيقي للبراءة والنقاء؟
هذه الصغيرة الحزينة منذ أيام.. التي لا تنفك دموعها تبرح مقلتيها.. رباه حزنها كم أثّر به وقلقها العجيب عليه كم مسّ قلبه.. اعانه الله على حسرتين في قلبه حتى الممات والى الأبد.. وجع أشد من الاخر.. داء وليس له دواء.. ياقوت وعائشة..

تنهد بحسرة وصمت للحظات طالت بعض الشيء قبل أن يهمس بنبرة أثارت شفقة يوسف على حاله:
– كيف بالله عليك انسى حبًّا استوطن عروقي وتغلغل عظامي؟ وكيف لا أحب طفلة ارق من النسيم؟ كيف يا يوسف؟ انت تسألني عن ما يفاقم من وجعي.. لا تسألني يا يوسف.. لا تفعل.

ربت يوسف بخفة على كتفه وقال بهدوء:
– أن شاء الله ستتجاوز هذه المحنة يا احمد.. نصيبك عائشة وليس ياقوت.. هذا قدرك وقل الحمدلله على كل حال.

ابتسم احمد بسخرية:
– تبدو مرتاحًا وكأنك اعتدتَ فكرة كون شقيقتك صارت امرأة ساري العرابي!

  • ليس كذلك.. ولكن ما عاد ينفع أن أغيّر اي شي.. ياقوت زوجته امام الله وامام العالم أجمع.. وانت كذلك الأمر مع عائشة.. الحديث حول الماضي لن يزيد الا من لوعتك.. انسى ياقوت وعش حياتك مع زوجتك.. فمحال أن تعود ياقوت اليك.
    رد يوسف بجدية بينما ينظر إلى الطريق الذي يسيران به.. فلم يعقب احمد على رد يوسف بل بقي صامتًا قبل أن يقرر تغيير الموضوع..
  • هل عرفت الى أين بدأت الحرائق بالوصول؟

تجهمت ملامح يوسف وهو يرد بغضب مكبوت:
– أجل عرفت.. وقسورة يكاد يفقد عقله.. لم يعد أحد من رجال القبيلة ينام خوفًا على عائلته وبيته.. حتى أن قسورة بنفسه صار يتولى أمر الحراسة الليلية.. ما يثير جنوننا أن الحرائق تحدث خلال النهار وليس خلال الليل.. اي أن من يفتعل الحرائق شخص لا بد أنه من القبيلة ولا احد يشك به.. وهو يدري أنه ليس موضع شك.

مرر احمد يده على وجهه بتفكير قبل أن يقول:
– اعتقد انه من القبيلة ربما وليس من خارج… آه…
سهم اصاب قلبه ابتلع بقية كلماته واجبره أن يصمت ويتأوه بينما يميل بجسده على يوسف.. الرؤية بدأت تتشوش.. والم لا يطاق انتشر في كامل جسده.. دماءه تسيل وانفاسه صارت ثقيلة..

حاول أن يتحدث بينما يسمع صراخ يوسف بأسمه ليبقى مستيقظًا مع أنه يدري أن إمكانية نجاته مستحيلة فالسهم اصاب قلبه.. وهما وسط الجبل وخارج القبيلة.. تطلع يوسف حوله عسى أن يلمح القاتل.. ورآه ملثم بالاسود بينما يفر هاربًا.. يا ليته قادرًا على ترك احمد والركض وراء ذلك المجرم القاتل اللعين ليزهق روحه.. ولكن احمد؟! لا يقدر أن يتركه وشأنه..

سمعه يتحدث بصعوبة.. وكأنه يجاهد على قول وصيته قبل أن يضمه الموت إليه:
– عا.. عائشة.. لا.. ت.. تظ..لموها.. من.. بعدي.

غمغم يوسف ودمعته رغمًا عنه تسيل على خده.. فهذا احمد.. صديق العمر ورفيق الحياة:
– لن نفعل.. ولكن ارجوك دعني…
لم يكمل يوسف كلامه وهو يشاهد احمد ينطق الشهادتين بصعوبة قبل أن تغادر روحه جسده!..

error: