رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش

رواية عشق ليس ضمن التقاليد الفصل التانى
أبحرتُ بين الميناء والميناء
سفرًا الى عينيك.. تائقًا..
قاومتُ أمواج السحر
كي لا تغتالني.. قسرًا..
كنتُ ولا زلتُ
في محرابك.. متعبدًا..
شتان عظيم بين سحرك
ومكرك، فحتى الشهيد
يصير مرة اخرى.. شهيدًا..
————————–
بعد كلماته المرعبة صارت تصرخ بجنون.. تبكي وتدفعه بعيدًا عنها بصورة هستيرية.. خائفة منه حد اليأس.. تكرهه.. تكرهه بجنون.. كل خلاياها ترتجف بارهاق.. بخورٍ خدش قلبها المسكين والمرعوب..
لا احد يعرف ماهيّة شعورها في هذه اللحظة.. بدلًا ان تصبح زوجة لأحمد.. لحبيبها وحلمها منذ الأزل صارت زوجة لعدو قبيلتهم.. زوجة لرجل أقسى منه لم ترى قط..أحست بشفتيه تدنو من وجهها وتلوّث بشرة وجهها بقبلاتها التي كانت وكأنها كمّاشة تخنق قلبها وتمنعها من التنفس كما يجب.. هزّت رأسها بنفي وهي تجاهد على ابعاده عنها..
يا رب.. هدرت ياقوت بنحيب وهي تضربه على صدره.. واستقبل ساري ضرباتها بهدوء واكتفت يداه بالقبض على ذراعيها بخشونة مؤلمة بعض الشيء.. وثغره أحرق وجهها بقبلاته التي اثارت اشمئزازها.. تنفر منه.. تكرهه.. لا تريده.. لن تقدر على التحمل أكثر.. ستنهار وستصعد روحها منهكة الى السماء..– لا تفعل أرجوك.. ليس بهذه الطريقة!
صرخت ياقوت ببكاء حينما القاها ساري بعنف على السرير.. لا تريد ان يتغلغل جسدها الذل اكثر ويغترف من روحها المقهورة.. ستموت من قهرها وهي ترثي نفسها..أحسّت بأنفاسه تلفح عنقها وكأنها نار.. حارّة كالجحيم ومخيفة حدّ الموت.. لم تتجرأ ان تفتح عينيها.. لم تتجرأ أبدًا وهمسه يصلها خشنًا ملتهبًا:
– كيف تخرجين دون حجاب؟ كيف تجرأتِ يا امرأة؟لم ترد على سؤاله ودموعها تتدفق بجنون.. تجاهلت سؤاله وغمغمت برجاء باكٍ يقطع الأفئدة:
– ليس غصبًا يا ساري.. لستُ جاهزة.. لستُ جاهزة لأكون زوجتك فعلًا.. سأموت!– انتِ زوجتي فعلًا.
هدر ساري بقوة وهو يلثم خدّها بخشونة فحاولت ياقوت دفعه عنها وهي تهدر بارهاق نفسي:
– صحيح زوجتك.. ولكن.. ولكن لا…

لم تعرف كيف توصل المعنى له.. متخبطة بخوفها وخجلها.. مذعورة اذا صحّ التعبير..
لم يبالي ساري بتعابير وجهها ولا انفاسها المضطربة بل هتف بهدوء غريب:
– يجب ان نتأكد من كونك عذراء! النساء ستدخل لتتأكد من عذريتك!

شحب وجهها وتوسعت حدقتاها ودون ان تعي كانت تحتد مقاومتها له.. تضربه بكل قوة وتشتمه بجنون.. كانت في حالة دفاع عن نفسها.. عن كيانها.. هشمت له وجهه وهو جامد كالصخر.. ينتظر نوبة جنونها ان تهدأ.. أنفاسها تكاد ان تنقطع عكسه تمامًا.. لم يتحرك ولو لبرهة بينما ضرباتها تنزل على صدره بعنف فهداويات اصيلات.. أظافيرها انغرست بعنقه ووجهه بقساوة حتى سال بعض الدماء..

وعندما رأى انها لن تهدأ سوى بطريقة واحدة مال عليها وقيّد قبضتيها بيدٍ واحدة وسرق قبلتها الأولى.. كان مسيطرًا ولكنه هادئًا على خلافها هائجة ومُسيطر عليها..

استسلمت لشفتيه بانهاك.. بضعف.. لم يعد هناك أي مقاومة قادرة على ابعاده عنها.. وهي ليست قادرة لتقاوم بل فعلت ما كان مستحيلًا فعله وطوّقت يداها عنقه بقوة وهمست:
– أقسم لك انني عذراء.. لم يمسني رجل من قبلك!

– أعرف ذلك جيدًا.. ولكن هذه هي عادات القبائل والتي انتِ تعرفينها أيضًا.
اردف وهو يطالعها بنظرات غريبة لتهز رأسها نافية وتدمدم:
– عادات متخلفة.. انا زوجتك انت وليس هم!

زفر ساري باحتدام وابعد يديها عنه ونهض، قائلًا:
– يكفيكِ ما حدث معك اليوم.. لن تتحملي أكثر من هذه الضغوطات فنامي قبل أن أغيّر قراري.. حقي سأخذه عاجلًا أم آجلًا!

لا تصدّق.. محال! لقد أطلق سراحها فعلًا.. لم تحاول ان تفكر اكثر من مرة وهي تُجبر نفسها على النوم قبل ان يغير رأيه.. فهو محق.. لن تقدر على التحمل اكثر مما حدث معها.. ستموت..

أغمضت ياقوت عينيها وهي تتعهد ان تكون أقوى أمامهم.. واذا لم تقدر عليهم ستهرب.. لن تبقى أبدًا زوجة ساري الذي اختطفها واختطف كل احلامها وكأنها لم تكن!
كانت تهذي ودموعها تسيل على خدّيها بقهرٍ وخوف من القادم.. اعتقدت انه غادر فيكفيها أنه ابتعد عنها وحرّرها ولكنه لم يغادر بل كان واقفًا بجانب النافذة الخشبية يتأملها بين الحين والحين..

بعد أن تأكد انها غفت خرج من جناحهما وسار الى الأسفل فيقابله وجه جده القاسي الذي يقف بجانب باب المنزل الرئيسي:
– هل الفتاة عذراء؟ ستصعد النساء للتأكد.

– ياقوت عذراء ولن يراها أيّ احد.
هتف ساري بجمود ليسأله فواز بتوجس:
– لماذا لا تريدهن أن يدخلن اليها؟

تطلع ساري الى جده بنظرات باردة ثم اتكأ بظهره على الجدار ورد بنبرة لم تعجب جده ابدًا:
– ياقوت زوجتي أنا.. ويكفيني ان اعرف أنا انها عذراء.. والفتاة صارت زوجتي فلن أسمح لأي احد بالتدخل بشؤوني الزوجية.

ثم أمسك ساري يد جده وقبّلها وتابع بنبرة هادئة:
– وعليك أن تعرف يا جدي لو أنها لم تكن عذراء لكانت الآن ستخرج للدفن!

ابتسم فواز برضى وغمغم:
– أثق بكَ أكثر من أيّ شخص وانت تعرف.. انا فقط في انتظار ابنك الذي باذن الله سيكون مثلك انت.. عرّابي أصيل!

قهقه ساري ثم قال:
– لا تقلق ستملّ من كثرة الأولاد التي ستنجبهم زوجتي.

ربت فواز على كتفه ثم هتف:
– انا سأغادر لأخذ قسطًا من الراحة الان فالمواجهة مع قبيلة الفهدي لم تكن سهلة ابدًا.

اومأ ساري بهدوء قبل أن يصعد مرة اخرى الى جناحه.. فياقوت يجب أن تدرك وتستوعب فكرة انها صارت زوجته هو..

*****************
كاد أن يُغمى عليعا بعد ان عرفت ما حدث مع ابنة عمها ياقوت.. خطيبة شقيقها أحمد.. تكردست الدموع في عينيها غضبًا وقهرًا وهي ترى حال شقيقها الذي مزّق قلبها.. في لمح البصر تغيّر القدر وصارت ياقوت زوجة لرجل اخر.. من كان يعتقد ان بعد كل هذه السنوات وقبل عقد القرآن بأيام قليلة جدًا ستصبح ياقوت من نصيب رجل اخر غير شقيقها؟!

تأملت شقيقها القاعد على سطح المنزل يفكر ويبدو عليه الاختناق.. الغضب.. الانفعال..
أغلقت نافذة غرفتها ثم نزلت الى الأسفل لتجد والدتها مرتدية عباءتها وحجابها وكأنها على استعداد لتخرج فسألتها خنساء:
– الى أين أمي؟

– الى منزل جدك.. ارتدي عباءتك وتعالي معي.. زوجك هناك.
هتفت والدتها بسرعة لتومئ خنساء بغيظ وتنفذ ما قالته والدتها..
بعد فترة قصيرة كانت تدلف الى منزل جدها فيصلها صوت صراخ الرجل الذي تبغض.. ولكن على من يصرّخ فهي لا تدري.. ألقت خنساء تحية السلام ثم جلست بجانب جدها الذي كان منهارًا بعد المصيبة التي وقعت على رؤوسهم..
وقبل ان تتكلم مع جدها لتخفف عنه كان يلقي عليه الصاعقة الكبرى!

قال كريم وهو يتطلع الى حفيده قسورة بارهاق:
– من الجيد ان خنساء اتت.. خذ زوجتك الى منزلك يا قسورة! بعد الان خنساء لن تنام الا في منزلك الذي صار منزلها ايضًا.. والزفاف سيتم بأسرع ما يمكن!

– ماذا؟!
صاحت خنساء باستنكار وهي توثب عن مقعدها ثم تابعت وهي ترفع أصبعها تجاه قسورة بعصبية:
– هل تريدني يا جدي ان أدخل منزله دون ان يتم الزفاف؟! قسمًا بالله لن أفعل حتى لو تمّ قتلي وضربي!

حدجها قسورة بنظرة مرعبة قبل ان يزلف منها بخطوات سريعة ويهدر بغضب أشوس:
– صوتك يا امرأة قبل ان اقتلك فعلًا.
ثم نظر الى عمه – والد خنساء:
– سأخذها الان يا عمي لأعيد تربيتها فليست زوجة قسورة من ترفع صوتها على شيخ وزعيم القبيلة.

– هذه زوجتك.. إفعل بها ما شئتَ.
دمدم والدها بهدوء لترمقه خنساء بنظرات ساخطة وتدافع عن نفسها:
– لم أصرخ على جدي.. لا تتهمني زورًا لتخرج غضبك علي لأنك لا تقدر ان تُعيد ياقوت من قبيلة العرّابي.

– خنساء!
صاح شقيقها الأكبر فهد وهو ينهض كي يعاقبها على لسانها السليط فيردعه قسورة بصوته القوي:
– عُد الى مكانك يا فهد.. زوجتي تخصني.. ولديها زوجًا يعاقبها عندما تخطئ.

استفزها كلامهما عنها فقالت بتحدي وغيظ شديد:
– بدلًا ان تتفقا من سيعاقبني منكما لأنني رفعت صوتي حاولا ان تجدا حلًا للمصيبة التي حدثت باختطاف ياقوت.. أحمد سيفقد عقله وهما يريدان ان يعاقبانني يا الله!

ضحك الجد رغمًا عنه بينما رشقها قسورة بنظرات تشع شررًا قبل ان يقبض على ذراعها بخشونة ويخرجها من منزل جده ليتوجه بها الى منزله.. عقدت خنساء حاجبيها بتوجس فلن يهتم لها اي شخص اذا قام قسورة بضربها بعد ان تواقحت أمام الجميع وخاصةً في هذا الوضع الموتر للأعصاب..

دفعها قسورة على الجدار بخشونة بعد أن أغلق الباب لتهتف خنساء بعنفوان:
– اذا رفعت يدك عليّ الان لن أتزوجك وسأدعهم يؤجلون الزفاف او يلغونه!

– اخبريني كيف؟
غمغم قسورة وهو يقترب منها لتبتلع ريقها بخوف تجاهد على دثره ثم قالت بتحدي:
– سأهرب مرة اخرى!

توقعت ان يضربها او يهينها بكلماته ولكنها تفاجأت بضحكته التي تكرهها كما تكرهه تمامًا.. ضحكة لا تناسب غيره.. ضحكة شيطانية مقرفة..
زمّت خنساء شفتيها بكرهٍ ليردف قسورة:
– ربما نسيتِ زوجة من انتِ.. وعلي ان أُذكرك كالمرة الماضية.

تراجعت خنساء الى الخلف برعب لا ارادي وهي تقول بتوتر:
– هل تريد أن يكون وجهي بيوم عرسي متورمًا مشوّهًا بسببك؟ ستشوّه سمعتك!

كادت ان تهرب وهو يقترب منها الى حدٍّ خطير الا انها قاومت فهي ارادت ان تدافع عن نفسها بقوة.. فحينما تصبح في منزله لن ينقذها اي احد منه.. ابدًا!..
احسّت بيده تستولي على ذراعها فرمقته بنظرات متوترة قبل ان تغمض عينيها بذعر حالما رفع يده وكأنه سيصفعها..

همس قسورة بأذنها بهسيس مرعبٍ بينما يده تزيل حجابها عن رأسها:
– تجنبي غضبي يا امرأة.. لن تقدري على تحمل قسوتي.. ما يشفع لكِ في هذه اللحظة هو ان قهرك واضح على ياقوت واحمد والا صدّقيني لن أخرجك من منزلي الا كما اخرجتك بالليلة التي حاولتِ بها الفرار من القبيلة! وانتِ تذكرين جيدًا كيف خرجتِ.

اومأت خنساء بحنق ثم أبعدته عنها وهتفت باستهزاء بينما أصابعها تعمل على ترتيب شعرها الذي سدله قسورة بطريقة مبعثرة:
– ما شاء الله زوج رؤوف!

– خنساء!
هدر بتهديد لتتبرطم بغيظ وتعقد ذراعيها على صدرها:
– ماذا فعلتُ الآن؟ قُل انك تريد ان تضايقني فقط لتنتقم مني.

رفع قسورة حاجبه الأيمن بعدم رضى ثم قال بنبرة صارمة قاسية:
– انتقامي منك لن يكون الان.. واحمدي الله انك الى الان لا زلتِ تتنفسين.. ولكن لا بأس.. ترويضك سيكون بعد ان تصبحي في منزلي.. ايام معدودات فقط وستكونين تحت عيني التي ستراقبك ليلًا ونهارًا!

تأففت خنساء محاولة ان تخفي خوفها منه ليلقي عليها نظرة غاضبة فتزدرد ريقها وتهمس برجاء:
– لا اريد أن تنفذ ما قاله جدي.. أريد الاطمئنان على احمد والبقاء معه.. ارجوك! وانت إستغل هذا الوقت لتعيد ياقوت.

– ياقوت لن تعود.. صارت امرأة متزوجة.. وانتِ تعرفين قوانين القبائل.. ما دام الزوج يريد زوجته فلا احد يقدر ان يجبره على الطلاق.. والطلاق كان سيحدث لو انها لم تصبح فعلًا امرأة ساري العرّابي.. تفهمين قصدي.
اردف قسورة بهدوء لتحمر وجنتيها خجلًا وتوترًا وتغمغم بارتباك:
– فهمت.. أعدني الى منزلي اذا سمحتَ.. و.. وإجلس مع أحمد قليلًا.. أشعر أنه يخطط لشيء ما.

– لا تقلقي.
ردّ قسورة ببرود ثم قال بخشونة:
– واحذري ان ترفعي صوتك مرة أخرى.. لن أسكت دائمًا يا خنساء!

*****************
كظم غيظه بصعوبة وهو يراها مرة اخرى دون حجاب وفي غرفة زوجته النائمة.. حمحم بخفوت وهو يغض بصره عنها فتوترت وهج وبسرعة رفعت الوشاح الأسود المستريح على كتفيها وغطّت شعرها..

– أسفة.. لم أسمع صوت الباب الخارجي حينما فُتح.
همست بارتباك ليهتف صفوان بغلاظة:
– هذه المرة الثانية يا وهج التي لا تنتبهين بها انك دون حجاب.. عليك أن تفهمي انك لم تصبحي بعد زوجتي!

عضّت وهج شفتها السفلى بخجل وضيق ثم غمغمت:
– لم أنتبه.. وأنا أعرف انني لم أصبح بعد زوجتك.

– بامكانك الخروج.
قال بتسلّط لتتجمهر الدموع في مآقيها بضيق شديد وتهمس بصوت مغتاظ قبل ان تسير خارجة من الغرفة:
– إعرف يا صفوان انني لست ملهوفة لأصبح زوجتك.. زواجي منك هو لأجل آيات والاطفال فقط!

رفع صفوان حاجبيه ثم خرج وراءها ليستوقفها بصوته:
– توقفي لحظة يا وهج.

استدارت لتواجهه بتردد فهتف بنبرة لاذعة:
– أنا لا يهمني الزواج سيتم لاجل من بالنسبة لكِ ولغيرك.. ما يهمني فقط لاجل من الزواج سيتم بالنسبة لي.. أما اذا كنتِ ملهوفة أم لا ليرتبط اسمك بأسمي فهذا الأمر يعود اليك ولن اسأل عنه لأنه لا يهمني البتّة.

اكتفت بالنظر اليه بجمود.. دون ان تنبس ببنت شفة وان أحسّت بالقهر بسبب كلامه.. وكأنه يهمها ليتحدث معها بهذه الطريقة! جلّ ما يهمها هو آيات والأطفال فقط.. لم تأبه بنظراته الغير راضية وحكّت طرف شفتيها بحركة استفزازية فعلتها قصدًا ليعرف ان اخر اهتمامها في الكون كله سيكون هو..

وبالفعل استفزته حركتها اللامبالية فقال صفوان بعصبية:
– هل فهمتِ كلامي يا بنت؟

– اجل.
ردت بنبرة بسيطة قبل ان تغمغم:
– سأذهب لأتفقد الطفلين قبل أن أغادر.

– عقد القرآن سيكون قريبًا جدًا.
هتف صفوان قبل ان تتحرك خطوة واحدة فنظرت اليه بتفاجؤ وتساءلت بحيرة:
– هل تحدثت مع أبي؟

– اجل.. الوضع في القبيلة صار خطيرًا بعد اختطاف ياقوت ولذلك اتفقنا ان يتم الزواج بأسرع ما يمكن كي لا تخرجين كثيرًا من المنزل وتكونين معرّضة الى الخطر انتِ ايضًا.
اردف بجدية لتهز رأسها بدمعة حزينة سالت من بين الرموش على خدّها شفقةً على ياقوت.. ثم همست بدعاءٍ نابع من القلب:
– الله يحفظها من كل سوء أينما كانت.

تفرّست حدقتاه النظر بها لوهلة وهو يفكر بطيبة قلبها التي بسببها وافقت على الزواج به.. نفض أفكاره هذه وهتف بخشونة:
– أمين.. تفقدي الأولاد وسأعيدك بنفسي الى المنزل.

– ولكنه ليس بعيدًا.
علّقنت سريعًا فقال بنبرة لا تقبل الجدال:
– وان كان.. لن تعودي الى المنزل لوحدك.

– ان شاء الله.. انتظر دقيقة فقط.
قالت وهي تسير تجاه غرفة طفليه لتتأكد من كونهما نائمان..

*****************
ابتسمت له بحبٍ وهو يُدخل الخاتم الذي يحمل أسمه في بنصرها.. تأملت الخاتم بنظرات عاشقة ثم رفعت رأسها لتتطلع اليه فتسمع صوته الحبيب لقلبها:
– مبارك لي بك حبيبتي.

احمرّت وجنتيها خجلًا وهمست:
– انا محظوظة بك احمد.. محظوظة كثيرًا.

انتبهت اليه يتأملها بنظرات غريبة قبل ان يغمغم بتنهيدة سلبت قواها وبعثرت كيانها بقسوة:
– انا أحبك ياقوت.. أحبك اكثر مما تتصورين.. سأحبك دائمًا وأبدًا.

أمسك أحمد يدها اليسرى التي تحمل خاتمه ثم قبّلها بنعومة فقالت بحبٍّ:
– وأنا أحبك ايضًا.. رجلي وحلمي الوحيد.. تاج رأسي حبيبي.

وفجأة دوت طلقات نارية مرعبة واختفى أحمد وصارت تهذي بجنون ما بين الواقع والخيال.. صارت تصرّخ بأسمه بضياع وخوف.. تناجيه بذعر:
– احمد.. احمد.. اين انت؟ احمد..

شهقت فجأة وهي تهنض مفزوعة بسبب يد رفعتها بقوة عن السرير.. تطلعت الى ساري برعب ودموعها تنهمر بغزارة.. لم تستوعب ما يحدث للوهلة الأولى.. تطلعت حولها بتشتت وصوت شهقاتها يرتفع تدريجيًا.. وتلقائيًا اخذت تتذكر ما حدث معها البارحة وادركت ان الحلم انتهى وحانت بداية الكوابيس..

اجهشت ياقوت بالبكاء وهي تضرب ساري على صدره بانفعال.. تضربه بغضب وقهر.. بحقد ورعب..
– اكرهك.. اكرهك.. أعدني الى قبيلتي.. أعدني.. لا اريدك.. انا لا اريدك.

– أخرسي!
صاح ساري بغضب وهو يرميها على السرير بعنف فصرخت بانهيار:
– لقد حطمتني.. حطمت أحلامي.. الله ينتقم منك.. حقير.. يا الله.. يا الله.. ماذا فعلتَ بي يا ساري؟ لماذا انا؟ لماذا؟

– قسمًا بربي اذا لم تهدأي سأضربك ولن يخلصك أي شخص من قبضتي!
زمجر ساري وهو يمسكها من شعرها ليرفعها فطأطأت ودمدمت بنبرة مخنوقة:
– طلّقني.. أرجوك طلّقني وأعدني الى عائلتي!

– انسي ذلك.. لن أطلقك ما دام في صدري نفسًا.. انسي اي فكرة تبعدك عني لأني لن أسمح لك بالابتعاد يا ياقوت.. مستحيل!
قال ساري بقساوة ثم أفلتَ شعرها وووثب عن السرير واستأنف:
– عائشة أحضرت لك بعض الثياب.. انهضي لتغيري ثيابك كي تنزلين الى الأسفل لتقومي بواجباتك كأي زوجة محترمة.

حدجته ياقوت بنظرات كارهة غاضبة فجذبها بخشونة وثبّتها أمامه ثم هتف بتهديد:
– هذه النظرة لا اريد ان اراها مرة أخرى والا…

قاطعته بشراسة وهي تدفع يده:
– فهمت.. فكِّف عن تهديداتك هذه.

– اتأمل ذلك واذا لم تفهمي انا اعرف كيف أدعك تفهمين.
همس بخشونة ثم قرّبها منه رغمًا عنها وقبّل جبينها ودمدم بأغلظ نبرة قد تسمعها يومًا:
– أهلًا بكِ في عائلة العرّابي.

تملصت من بين قبضته وهرولت هاربة الى الحمام.. وبكت في الحمام شوقًا لا زال في بدايته وألمًا لا زال في أول طريقه..

——
في الأسفل..
ازدادت خفقات قلبها بخوفٍ لا ارادي وهي ترى عدد الرجال والنساء الذين ينتظرونها.. كيف ستقدر عليهم وهي لوحدها فقط.. ليس معها احدًا تحتمي به؟ لم تتجرأ لتقترب من احدهم.. بقيت واقفة بجانب المدخل الذي يؤدي الى المجلس.. متوترة ومرتعبة..

أحسّت ياقوت فجأة بيد ساري تحيط خصرها وتقدّمها معه الى الامام لتتكدّس الغصّة القاسية في حلقها وتعبث بأوتارها الصوتية بقوة..
أوقفها ساري قبالة جده الذي رمقها بنظرات متشفية ثم بتكبر رفع يده فعرفت انه ينتظر منها ان تقبل يده..

أحسّت بالاختناق.. تشعشع القهر في كل حنايا جسدها.. لم تهون عليها نفسها وتقبّل يده.. هذا عدوها.. عدو جدها وقبيلتها.. كيف تقبل يده؟!
سمعت صوت الجدة تهتف بغيظ:
– ماذا تنتظرين يا امرأة؟ قبّلي يد جدك.

تطلعت ياقوت الى ساري فينظر لها ثم ليد جده باشارة واضحة لتقبل يده.. ابتعلت ريقها ثم بانصياع استجابت لنظرته وقبّلت يده ليقول فواز:
– رضى حفيدي هو ما يهمني.. اهتمي برضاه كي لا نرضيه نحن بقتلك!

كتمت ردها بصعوبة شديدة.. وأساسًا ساري لم يسمح لها بالرد عليه وهو يجذبها خلفه لتقبل يد جدته ايضًا.. إحساس مفعم بالذل.. مجبورة أن تنصاع لهم..
“ستهربين.. ستهربين.. لن يدوم هذا الذل طويلًا.. لن يدوم يا ياقوت”
همست لنفسها.. لقلبها.. لروحها.. تطمئنهم انها لن تخضع دائمًا.. ستهرب بكل تأكيد.. لن ترضى لذاتها أن تموت قهرًا..

أجلسها ساري بجانبه ثم قال بصوت ضخم مخيف:
– ياقوت صارت رسميًا زوجتي.. أي مشكلة تتسبب بها انا المسؤول عنها.. الشكوى لي وحدي وانا سأتصرف بنفسي.. وبالمقابل لا يحق لأي احد ان يهينها او يذلها لأن أصولها كانت فهداوية سابقًا أو لأي سبب كان.. ياقوت زوجتي ولن أسمح لغيري بالتدخل بها.

– أصولي لا زالت فهداوية.. لن أنكر أصلي أبدًا!
همست بتحدي وان كان صوتها يرتجف كحال قلبها المذعور.. سمعت تمتمتهم واستنكارهم الغاضب ولم تهتم لهم.. فاليد التي ضغطت على ذراعها بقوة مؤذية كانت كفيلة لتلهيها عن ما يقولون وتركز على الألم الذي سبّبته لها يد ساري..
وخلال ثوانٍ كان يتغلغل صوته المرعب الى اذنيها:
– لا تلقي نفسك بجحيمي وأصمتي عندما أتكلم.. لا تدعيني أهينك أمامهم!

– ساري.. خذ زوجتك من هنا وعلّمها كيف تتحدث.
هدر والده بغضب لتقول عائشة بخوفٍ على ياقوت:
– أبي ياقوت بالتأكيد لا تقصد.. دعوها هنا.

– اخرسي انتِ.
هدرت الجدة بحدة فتطلعت عائشة الى ياقوت بشفقة وغمغمت:
– ساري دعها تخرج معي.

رشقها ساري بنظرة حادة وهتف:
– إجلسي مكانك بصمت.
ثم نظر الى ياقوت وهتف بصوتٍ عالٍ:
– انت الان تنتمين لي ولقبيلة العرّابي.. وخلال الوقت ستفهمين معنى أن تكوني احدى نساء قبيلة العرّابي.

– لن تعرف قبل أن تنجب ولدًا يحمل أسمك.
قالت العمة رجاء فرد ساري بجمود:
– ستنجب ياقوت لي أولادًا وليس ولدًا واحدًا.. فلا تقلقي يا عمتي عمتي.

– لن نقلق ما دمت موجودًا.
غمغم جده بفخر لتقضم ياقوت شفتها السفلى بغضب وهي تتوعدهم جميعًا بالثأر لنفسها.. تتوعدهم اشد انتقام.. اذا لم يكن اليوم فالغد قادم.. لن تبقى أسيرة بين أيديهم ابدًا.. بالتأكيد لن تبقى..

****************
بعد ثلاثة أيام..
لا تصدق انها الان واقفة في منزله هو.. بين يديه وتحت انظاره.. لقد صارت رسميًا سبية لتسلّط افكاره.. زوجة يفرغ بها كل شحنات جنونه التي كلها سالبة..
لا زالت طرحتها الثقيلة مرتبطة بشعرها المرفوع الى الاعلى بتسريحة ضخمة بعد ان ازالت الوشاح الذي كان يغطي شعرها خلال طريقها من مجلس النساء الى المنزل..

قعدت على احدى الارائك الخشبية بفستانها الابيض الثقيل المزخرش بنقوش ذهبية.. كانت القطع الذهبية التي عُلِّقت عليه من قبل عائلتهما تغطي معظم القسم العلوي منه تقريبًا..

انتبهت الى صوت الباب الذي أُغلق لتدرك انه اخيرًا ودّع بعض رجال عائلتهما الذين رافقوهما حتى مدخل منزلهما.. ابتلعت خنساء ريقها ثم نهضت بارتباك وصوته الذي تبغض يصلها خشنًا كما تعرفه:
– مبارك لي بكِ.

احتدت خفقاتها وثبًا بينما ترفع حدقتيها السوداوين لتطالعه بنظرات حادّة لم تؤثر به.. تجاهلت كلماته ثم هتفت:
– سأدخل الى الحمام لأغيّر فستاني.

اومأ ببرود وهو يبعد الكوفية الفلسطينية عن قميصه الأسود ذو الخطوط الذهبية لتحدجه خنساء بنظرة اخيرة ثم تدلف الى الحمام لتتطلع حولها فتجد خابية الماء في اقصى الحمام.. تقدمت خنساء منها بتنهيدة بعد ان انتبهت الى طقم ليلة الزفاف الذي حضّرته زوجة عمها ووالدتها..

بعد فترة قصيرة خرجت من الحمام بوجهٍ احمر وعينين زائغتين.. متوترة.. متوجسة.. خائفة.. تهديده لها بعدم ممارسة موهبتها لا زال يرعد اوصالها..
سحبت اسدال الصلاة ثم همست بخجل:
– هل توضأت؟

هز رأسه بنعم، يخفي تعبيرًا ساخرًا بخجلها.. خنساء المتهورة ذات اللسان السليط تخجل وترتبك!
اقترب منها لتُجبر قدميها على عدم التزحزح والصمود امام جبروته.. شمخت برأسها بعد ان تلبث امامها، لا يفصلها عنه الا خطوتين..
ابتسم قسورة بمكرٍ واصابعه تمتد لتتحسس وجنتيها فتتوسع جفونها بارتباك وتبتعد الى الوراء..

– لنصلي يا ابنة عمي.
قال لتهز رأسها سريعًا وتبتعد اكثر عنه.. بقدر ما يمكنها ان تبتعد!..
بعد ان انهيا صلاتهما وردّد دعاء ليلة الزواج غمغمت خنساء بتلعثم:
– انا.. انا..

– شش..
همس قسورة بصوت اجش لتزدرم ريقها وتهتف:
– اود ان انام.

– سننام.
صحّحها بغلاظة لتهدر بتحدي:
– لا اريدك ان تنام بجانبي.

– انا لا اسألك.. انا اخبرك فقط.
هتف بجدية قبل ان يضيف بنبرة كرهتها:
– لا تنسي ان صباح الغد ستأتي والدتي ووالدتك ليباركوا لك بدليل طهارتك وعذريتك.

اختنق وجهها بحمرة الخجل والحنق ليقهقه قسورة ويهتف بينما يدنو منها:
– لم اتغزل بك كأي عروس.. فدعيني افعل.

– لا تفعل.. لانك لن تعرف كيف تتغزل بجمالي.
تمتمت متبرمة ليبتسم ثم يلثم جبينها بقبلة وتّرتها.. بعثرت كلماتها.. عبثت بصمودها.. وليلهو اكثر بأعصابها همس بصوت ناعم:
– كيف لا اتغزل بك ومنك يُولد الغزل ويُخلق الشعر وتُكتب الكلمات؟

طمس ابتسامة مستمتعة كادت ان ترتسم على شفتيه وهو يسمع ردها المغتاظ:
– هل رأيتَ اشعاري التي اكتبها وجمّعتَ هذه الكلمات منها؟

ضحك قسورة بمرحٍ ثم قال:
– لا، لا زلتُ لم اسرق منكِ شيئًا الى الان.. سأترك كل الى وقته اللازم.

– لن تمنعني عن تحقيق حلمي.. لن تفعل، اليس كذلك قسورة؟
هتفت خنساء، مستغلة مزاجه الهادئ وشخصيته العابثة التي تراها للمرة الاولى في حياتها.. فقسورة ذو الوجه الخشن الغليظ هي من رأته بحق قبلًا وجسدها هي من حمل بصمات عنفه..
تغاضى قسورة عن سؤالها وهو يلصق جسدها بجسده.. يحتضنها بنوعٍ من القوة.. لا يود ان يتذكر ما فعلته سابقًا.. فهو اجبر نفسه بصعوبة شديدة ان يتناسى فعلتها الشنيعة هذه الليلة على الاقل وأجّل عقابه لها لوقتٍ لاحقٍ لأنه لا يرغب بجعل ذكرى ليلة زفافهما ذكرى سيئة قاسية..

———————-

error: