رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش

الفصل السابع..
دعني أداوي جروح
قسوتك ببعض اللمسات…
دعني أمحو فداحة
اخطاءك ببعض الهمسات..
دعني أحرّر الماضي من
حاضرك لأهفو اليك
وانغمس بصدرك..
لا تدع مرارتك تلعق
روحي فتُفتّتها..
ولا تدع دفئك يهجرني
فيجرشني بردًا..
كُن اليّ حبيبي الذي
يُسلطن عقلي وقلبي..
ودعني اكون اليك كل
ما تعشق وتهوى..
——————–
زمّت حسناء شفتيها بتعجب وضيق لا تدري سببه وهي تشعر بتغير بطريقة تعامل أيهم لها.. فبعد ان كان يغدقها بكلمات الغزل والدلال طيلة الايام السابقة استيقظ صباح هذا اليوم معاملًا اياها برود وجفاء أثارا حنقها!انتفخت أوداجها ضيقًا وهي تراه ينهض عن المائدة بعد أن اكل بضع لقيمات لا تُحصى دون ان يقبّل جبينها ويدها كما اعتادت ان يفعل بعد ان يأكل شيئًا هي تعدّه له.. لم تدري ماذا فعلت له حتى ينام وهو يغرقها بأمواج عاتية من العشق والغزل ويستيقظ بهذا الوجه المكفهر البارد!أحست بتأنيب ضمير شديد نحوه ونحو زوجها الأول المرحوم.. فهي لا تمنح ايهم ولو القليل مما يمنحه لها مهما حاولت.. وتحسّ بحرج وخجل من زوجها الراحل وهي تخطط للبدئ بحياة جديدة مع أيهم! حائرة وتائهة بين المنطق والوهم! عقلها يخبرها ان تنسى الماضي وتستهل بمنح أيهم ما يريده منها وأكثر.. حتى بتفكيرها وخفقاتها… بينما قلبها الذي لا زال عاشقًا لأمين يمنعها من الخفقان لرجل غيره! فهو يأمرها بالاخلاص له وعدم الاستجابة لمحاولات أيهم بجعلها تحبه..

“وهل كان قلب أمين سيخلص لك لو انك انتِ من توفيتِ؟”
داهم هذا السؤال عقلها بغتةً وهي تدري جيدًا الاجابة فما من رجل في زمنها هذا، خاصةً وان كان شابًا كأمين سيبقى أعزب لأكثر من عدة أشهر.. بالتأكيد كان سيسارع للزواج بأخرى وسينساها ويبدأ حياة جديدة مع امرأة غيرها..

هزت رأسها تنفض هذه الأفكار الكئيبة بعيدًا.. فكيف لها ان تفكر بهذه الطريقة برجل يرقد تحت التراب الآن؟.. وقفت حسناء لتوضب الفطور عن الطاولة دون ان تلقي ولو نظرة بسيطة على أمين فقد استحكمت الغصة الحارقة حلقها وأخذت تستشرس بقوة لتترقرق الدموع في مقلتيها بإختناق وضيق شديد..

بعد ان انتهت من التنظيف دخلت الى صالة الضيوف حيث يقعد أيهم يتلو التسابيح واختارت مكانًا بعيدًا عنه دون ان تنبس ببنت شفّة فهي من الأساس لا تعرف ماذا تقول.. انتظرته ان يتكلم.. ان ينظر اليها على الأقل.. ولكنه لم يفعل.. وكأن تم تحريم أي شيء تابع لها عنه!.

عضّت حسناء شفتها السفلى حينما نهض بعد نصف ساعة كانا صامتين خلالها فوقفت هي الأخرى وسألته بجدية:
– الى أين ستذهب يا أيهم؟

– هل تعتقدين انني سأبقى طيلة الوقت في المنزل كالأيام السابقة؟ سأخرج للعمل كما يفعل أي زوج يا حسناء.
رد ببرود فاحتقن وجهها بخجل واحراج وهي تهمس:
– انا لم اقصد ما فهمته!

– انتِ لا تقصدين الكثير!
قال بنبرة مبهمة فعقدت حاجبيها ودنت منه بينما تسأله:
– هل انت غاضب مني؟

– على ماذا سأغضب تحديدًا؟
رد بسؤال ذو معنى مبطن وهو يحدق بها بنظرات غاضبة عجزت عن تفسير سببها فأمسكت حسناء يده وغمغمت:
– لا أعرف.. ولكنك تبدو غريبًا اليوم.. لستَ أيهم الذي أعتدت عليه خلال الأيام السابقة!

ابتسم أيهم بسخرية مريرة:
– اعذريني يا بنت العم لأنني غيّرت معاملتي لك!

– لماذا تتحدث معي بهذا الأسلوب؟!
تساءلت حسناء بضيق فأبعد يدها عنه وهتف بجمود:
– مزاجي متقلب كثيرًا فحاولي ان تعتادي عليه!

ثم غادر دون أي كلمة أخرى يراضيها بها او على الاقل كلمة تدعها تفهم ما الذي فعلته حتى تتحول معاملته لها التي كانت تجعلها ترفرف بجناحيها فوق العالم أجمعه ليهبط بها الى قاع الأرض بهذا الجمود والبرود المفاجئ!

***************
فتحت خنساء عينيها وهي تتطلع حولها باستغراب.. فوفقًا لما تتذكره انها نامت في الأسفل على الفراش الأرضي لا بغرفتها هي وقسورة.. نظرت الى الجانب الأيسر من السرير حيث ينام قسورة فوجدته فارغًا لتزفر قبل ان تنهض عن السرير وتنزل الى الأسفل لتبحث عنه..

– انا هنا.
سمعت صوته من خلفها فاستدارت لتجده جالسًا حيث كانت نائمة البارحة.. اقتربت منه خنساء ثم قعدت بجواره وهمست:
– صباح الخير.. هل قضيتَ الليل نائمًا هنا؟

– اجل.
رد قسورة ببرود فعقدت خنساء حاجبيها وهي تسأله بضيق:
– لماذا يا قسورة؟ هل بسبب أمينة؟ أعتقد انك لا يجب ان تجافيني بسبب ما فعلته أمينة وشقيقها.. فأنت تعرف ان هذا ليس ذنبي لأنني لم اكن ادري انها انسانة خبيثة كالعقرب وتريد ان تدمرني!

رمقها قسورة بلا مبالاة ظاهرية فكادت خنساء ان تتابع لو انهما لم يسمعا باب المنزل يُطرق..
نهض قسورة ثم امرها بخشونة:
– غطّي شعرك بينما ارى من الذي يطرق الباب.

اومأت خنساء بضيق فسار قسورة ناحية الباب ليفتحه فيجد الزائر شقيقه الصغير عمران.. تطلع قسورة اليه ثم نزل بنظره الى الكيس الورقي الذي يحمله ويحوي على حبوب من الرمان ففسح المجال له ليدخل بعد ان رحّب به ثم قال بصوتٍ عالٍ:
– خنساء عمران سيدخل.

ولجا الى الداخل فرحبت خنساء بعمران الذي ابتسم لها بود وهمس وهو يسير بجانبها تاركًا قسورة ينظر اليهما بتجهم وغيظ على الرغم من كون شقيقه صغيرًا مراهقًا!
– أحضرت لك الرمان كما وعدتك.
ضحكت خنساء بمرح وهي تأخذ الكيس الورقي من يديه ثم قالت:
– تفضل يا عمران واجلس.

– خنساء اذهبي واعدي الفطور لي ولعمران.
هتف قسورة وهو يقعد قبالة شقيقه في صالة الضيوف فاومأت خنساء وغادرت لتنفذ ما طلبه منها قسورة..

– ما الذي احضرك بكيس الرمان؟
سأل قسورة عمران بينما ينظر اليه بحاجبين مرفوعين فاجابه عمران بابتسامة:
– خنساء طلبت مني البارحة ان أحضر لها الرمان وانا نفذت طلبها.

– واين رأيت خنساء البارحة يا عمران؟
اردف قسورة بشك فرد عمران بعفوية:
– في منزل جدي.. وانا من أوصلتها هي وخالتي خديجة من منزل جدي الى منزلك.. وخلال الطريق طلبت مني.

– هل خنساء زارت جدي البارحة؟
هدر قسورة بعصبية بالكاد يتحكم بها فعبس عمران:
– ما خطبك يا قسورة تتكلم وكأنك لا تعرف؟

– بالتأكيد أعرف ولكنني نسيت بسبب الضغوطات!
هتف قسورة وهو يكزّ على اسنانه ثم ثبّت نظراته الغاضبة على شقيقته واستطرد:
– اسمع يا عمران.. لا اريدك ان تتحدث كثيرًا مع زوجتي حتى لو كنتَ تعتبرها كشقيقة لك.. هل فهمت؟

– ولكن خنساء صديقتي ايضًا.
اعترض عمران بضيق فقال قسورة بغضب:
– نفذ ما امرتك به يا عمران ولا تجادلني.

– حاضر اخي.
تمتم عمران بخنوع ثم وقف وتابع:
– انا سأغادر الآن فجدتي اخبرتني انها تريدني ان اساعدها ببعض الأمور.

– مع السلامة.
تمتم قسورة ثم سار برفقته الى باب المنزل وودعه قبل ان يعود الى المطبخ تحديدًا بينما يصيح بأسم خنساء التي انتفضت مرتعبة ليسقط منها الوعاء الخشبي..
كانت ثوان معدودة فقط قبل ان تحس بكتفيها سينكسران بسبب يدان كالفولاذ قبضتا عليهما تهزّانها بعنف بينما قسورة يزمجر:
– هل خرجتِ البارحة دون اذني؟ هل تجرأت وفعلتِ دون ان تستأذينني؟ ردي يا خنساء!

ابتلعت خنساء ريقها برعب حقيقي وهي تلعن نفسها وتلعن عمران الغبي الذي اخبر قسورة بخروجها.. أغمضت عينيها بوجع وقسورة يضغط اكثر على كتفيها ويهزها بعنف اقوى بينما يكرّر سؤاله والنيران تكاد تخرج من عينيه:
– اجيبيني.. هل خرجت البارحة دون اذني وكأنك متزوجة من رجل كرسي؟! اجيبي يا قليلة الاصل!

هزت خنساء رأسها بنفي وهي تحس برعب حقيقي يتشعشع في اوصالها، رادعًا اياها من قول كلمة واحدة حتى ترد بها على هذا الثور الذي هاج بطريقة عنيفة قد تودي بحياتها!
جنّ جنون قسورة وهي ترد بنفي كاذب ليصرخ بصوت أجفلها:
– لا تكذبي! اياكِ والكذب!

– انا لم أخرج.. اسأل أمي!
غمغمت خنساء بنبرة مرتعبة ليرفع قسورة يده ويهوي بصفعة قاسية على وجنتها فأطلقت خنساء صرخة موجوعة وانهمرت دموعها بغضب وألم على خديها..
– ألم أخبرك ان لا تكذبي؟ ألم احذّرك للمرة الألف وأقول لك انني اكره الكذب؟! متى ستعقلين؟ متى؟

– لم اذهب سوى لنصف ساعة!
ردت خنساء ببكاء فصاح بعصبية:
– ولو لدقيقة واحدة.. كيف تخرجين دون اذني؟

– لم أرتكب جريمة لتتصرف بهذا التخلف!
هتفت خنساء بغضب وبكاء وهي تحاول ان تحرّر ذراعها من قبضته القاسية فمرّر قسورة يده الحرة على وجهه، محاولًا قدر الامكان ان يتمالك اعصابه حتى لا يضربها اكثر ولكن هذه اللبؤة لا تتنازل بسهولة ولا تعرف حتى كيف تصمت وهو في أوج لحظات غضبه..

– الا تعرفين كيف تصمتين وتعتذرين عن تصرفك الأحمق؟
هدر قسورة وهو يقبض على فكّها بخشونة ففاضت عيناها شراسةً وهي تقول:
– لن أعتذر بعد ان ضربتني.. ابدًا!

همهم قسورة وهو يهز رأسه بانفعال ثم بعنف جذبها وراءه الى غرفتهما بينما هي تضربه محاولة التحرر منه.. وبعد ان ادخلها قسورة غرفتهما القاها على السرير واقترب منها وهو يهتف بحدة:
– سأربيك يا خنساء! وبعد ان تكوني زوجة مطيعة سأفكر اذا أغير معاملتي لك أم لا.

أحست خنساء انها على وشك التقيؤ فلم ترد على كلام قسورة واكتفت بوضع يدها على معدتها بضيق ولكن ما ان اقترب قسورة منها لم تقدر ان تتحكم بنفسها فتقيأت على يده التي امتدت لترفع وجهها اليه!

كان شعورها بعد ان تقيأت على يده ما بين التشفي والخجل الشديد! فلم تقدر حتى ان تنظر اليه بسبب اعياءها المفاجئ وشعورها بالألم في معدتها فقررت خنساء انتهاز الفرصة لتهرول راكضة الى الحمام تغسل وجهها وهي تبتسم بتعب! فقد صمت قسورة وبدا واضحًا لها انه مصدوم بما حدث.. وتخيلت ملامح وجهه المشمئزة بسبب ما فعلته على يده!..

وبعد اقل من دقيقتين كان قسورة يدلف الى الحمام ليغسل يده هو الاخر بينما يسألها بنبرة باردة اذ كانت بخير فلم ترد وانتهزت خنساء الفرصة مرة اخرى بمكر وخبث لتشرع بالبكاء وهي تضع يدها على بطنها.. فزفر قسورة ثم اقترب منها وربت على ظهرها برفق، هامسًا بنبرة ناعمة:
– لا تقلقي يا خنساء.. ستكونين بخير.

– أود ان استحم.. رائحتي تخنقني.. وهذا كله بسببك!
همست خنساء بلوم وخبث وهي تبعده عنها بغضب فامتعضت ملامحه وقال:
– كفي عن جنونك يا خنساء.. كيف اكون انا السبب؟ ربما أكلتِ شيئًا ليس صحيًّا أو ربما تكون هذه أعراض الحمل!

ووعى على نفسه بالكلمة الاخيرة التي نطقتها لينظر اليها للحظة فيما ارتجف قلب خنساء من فكرة انها تحمل ابن هذا الرجل الذي يكون زوجها! فهزت رأسها باستنكار وغمغمت بوهن:
– لا بد انك تمزح! كيف سأحمل بهذه السرعة؟!

– لا أعرف.
رد قسورة بجفاء ثم بخشونة ساعدها على التجرّد من ثيابها لتمنعه بخجل وضيق:
– اتركني وأخرج.. انا لا أطيقك في هذه اللحظة يا قسورة!

أجبر قسورة نفسه بقوة ان يهدأ حتى لا يعنّفها وهي بهذا الوضع الصحي السيء فقال بعصبية واضحة:
– سأحضر لك أمي لتبقى معك وبعد أن أعود سأكمل الحساب بيننا فهو لم ينتهي بعد.

تبرطمت خنساء وهي تهمس بغيظ بعد ان خرج من الحمام:
– ليتك تذهب ولا تعود!

ثم سريعًا سحبت دعوتها وهي تردف:
– لا يا الله أعده اليّ سالمًا فأنا أريد أن أنتقم منه لأنه ضربني!

***************
ارتعشت شفتا ياقوت حينما القى ساري رأسه باهمال على ساقيها بعد ان دخل جناحهما وقال بصوت اجش:
– دلّكي لي رأسي.

– لا ارغب!
ردت بقوة مصطنعة وهي تحاول ان تدفع رأسه بعيدًا عنها الا انه ثبّته بقوة ورفع يده ليحيط مؤخرة رأسها قبل ان يجذبه اليه بخشونة فتلفحه انفاسها وينسدل شعرها حولهما كغمامة تحجبهما عن العالم كله..
أخذ صدرها يعلو ويهبط بانفعال متوجس بينما ساري ينظر الى عينيها بنظرات قوية مشتعلة وكأنه سيولج الى اعماق روحها! ثم قرّب رأسها اليه اكثر فيتلامس انفه مع انفها ليغمض عينيه لثانية واحدة فقط ويهمس باصرار:
– افعلي ما امرتك به يا ياقوت.. أشعر ان رأسي سينفجر!

كتمت ياقوت بصعوبة ردها الذي كان سيغضبه وغمغمت وهي تحاول الابتعاد بل الفرار من نظراته وانفاسه!
– ابعد يدك عن رأسي لأتمكن من فعل ما تشاء.

بخبث شديد أوهمها ساري انه سيحرّرها فما ان رفعت ياقوت رأسها وفتحت فمها لتلتقط بعض ذرات الاوكسجين كان ساري يعيدها اليه بحركة مباغتة ويقبلها بخشونة رقيقة! قبلة هزت أوصالها خشيةً ان يتمادى اكثر.. فحاولت ان تبعده عنها ولكنه كبّل يديها الاثنتين اللتين تقاومانه بيده الحرة خلف ظهرها ويده الأخرى بقيت على وضعيتها تمسكها من مؤخرة رأسها ليقرّبها منه كما يشاء وكيفما يشاء!

بعد دقائق ابتعد ساري عنها واطلق سراح يديها وشفتيها لتشهق ياقوت بحاجة ملحة الى الهواء بينما خفقات فؤادها الخائفة والخجول ترتجف بعنف.. انتفض جسدها وهو يرمقها بنظرات عابثة وبابتسامة مستفزة بينما يده ترتفع مرة اخرى لتتحسس وجنتها المشتعلة بحمرة قانية..
زمجرت ياقوت بنبرة واهنة من بين شفتين مرتجفتين:
– ابتعد عني يا ساري.. كليًّا!

وثب ساري عن الفراش فوقفت ياقوت هي الاخرى بينما تحدج ساري بنظرات غاضبة يطغي عليها خوفها فابتسم ساري بقسوة وقال:
– لا داعي لكل هذا الغضب من مجرد قبلة فأنتِ زوجتي!
وتابع بوقاحة دون ان يأبه بخجلها وبتورد خدّاهاة
– انتِ لا تعرفين كم ارتاح عندما أقبلك وانت بين ذراعي!

– أصمت!
هدرت ياقوت بحدة فقهقه ساري:
– لم يعد رأسي يؤلمني.. اغاظتك تريحني جدًا!

– انت انسان مختل عقليًا!
تمتمت ياقوت بحقد فمال ساري عليها ليمرّر يده على شعرها وهو يقول بنبرة مبطنة:
– بعد ان اعود سأخبرك جيدًا من هو المختل عقليًا ولكن حاليًا لا أملك الكثير من الوقت فسوف اذهب لأجد أختي!

واستأنف وهو يرّسخ حدقتاه بحدقتيها المغرورتين:
– ولا اريدك ان تخرجي من الجناح.. ستبقين هنا الى ان اعود.. هل فهمتِ؟

– انا احاول ان افهم ولكن ذلك يبدو صعبًا!
ردت ياقوت باستفزاز فابتسم ساري ابتسامة قاسية:
– وبالتأكيد يسرّني ان تتصرفي بغباء لأدعك تفهمين بعد ان أعود بطرق ستحبينها جدًا يا ياقوت!

شمخت ياقوت برأسها بتحدي سافر يناقض نوافذ قلبها التي تتخبط ببعضها خوفًا من تهديده الواضح ثم باستهزاء قالت:
– غادر يا قوي وانتبه ان تقع في طريق عودتك اليّ!

ضحك ساري ثم زلف منها ليلثم خدّها بقبلة ناعمة بينما بقيت هي متيبسة بمكانها دون ان تتنفس حتى!
ربت ساري على شعرها وبعثره بخفة ثم غادر تاركًا اياها مبهوتة قلقة.. وفقط بعد ان سمعت باب الجناح يُغلق اطلقت زفيرًا مرتاحًا..

*****************
احساس مرير مشبع بالذل تقمص روحها وهي ترفع رأسها لتطالع الجد كريم بعينين باكيتين مقهورتين.. ارتعشت شفتاها بقهر عظيم حينما أوقفها الجد كريم برفق بينما يحدج حفيديه بنظرات غاضبة ساخطة قبل ان يهدر بغضب:
– لم أتوقع فعلتكما هذه يأ أحمد ويوسف! اذا بقي كل واحد من الرجال يتصرف هكذا فسنستمر بالتضحية ببناتنا.

ادلهمت عينا أحمد بسواد غاضب مقهور وهو يزمجر:
– بالتأكيد لم تنتظر منا الصمت يا جدي! هل نسيتَ من تكون ياقوت؟!

– جدي ارجوك أعدني الى أمي.
غمغمت عائشة ببكاء وهي تتشبث بعباءة الجد كريم فاستغفر كريم بضيق وهو يسمع رد يوسف الصارخ عليها:
– باحلامك ان تعودي الى قبيلتك قبل ان تعود ياقوت!

– ياقوت صارت زوجة ساري فكيف ستعود اليكما؟
تمتمت عائشة بصوت مخنوق ثم نظرت الى أحمد وتابعت بنبرة باكية الا انها جادّة:
– وهل انت سترضى ان تكون لك بعد ان اصبحت زوجة شقيقي وقد تكون حاملًا بابنه؟!

هاجت أعصابه كعاصفة تهدد بسحق كل ما هو امامها وهي تواجهه بالواقع والمنطق.. بأقسى شعور وبأقسى كلمات قد تجلد بها قلبه العاشق.. أراد خنقها والانتقام من ساري بها فكاد ان يتهجم عليها وهو يصرّخ لو ان الجد لم يضع عائشة وراء ظهره ليحميها من غضب هذا الرجل العاشق المقهور:
– اخرسي يا لعينة!!! اخرسي قبل ان اقتلك!! اخرسي!!!!!

ارتجف جسدها برعب والجد كريم يصرّخ عليه بحدة:
– اهدأ يا أحمد.. ماذا كنت تتوقع؟ ها ماذا كنت تتوقع بعد ان تزوجها ساري العرّابي؟!

– اللعنة!
صاح أحمد وهو يمسك منضدة حديدية كانت موضوعة على الطاولة كزينة اثرية ثم رماها على الارض ليقيده يوسف بيديه ويهدر من بين شفتين مطبقتين:
– اهدأ يا أحمد.. اهدأ واحترم وجود جدي!

اخذ احمد يلهث انفاسه وهو يرشق تلك الصغيرة المرتعبة بنظرات حادة مخيفة.. يكاد يئن المًا وقهرًا.. لو ان شقيقها لم يخطف خطيبته لكانت ياقوت له الآن.. نار قائظة استحكمت روحه وتشعشعت بسائر خلايا جسده..

ولم يكن هناك حاجة ليقترب أحمد منها ليخيفها بل كانت عيناه كافية لترسل رجفة الرعب الى اطراف جسدها والى قلبها الخافق بجنون.. فالتزمت عائشة الصمت دون ان تتفوه بحرفٍ واحد بينما يأمر الجد كريم يوسف ان يأخذ أحمد ويغادرا ولكن قبل ان يتحركا من مكانهما كان عمران يدخل راكضًا الى المجلس وهو يهتف:
– جدي.. جدي قاضي القبائل وشيخنا قادمان مع بعض الرجال من قبيلة العرّابي وزعيمهم فواز!

ضرب الجد بعصاه على الأرض وهو يأمره بصوت صارم منفعل:
– إذهب واخبر رجال القبيلة ان يأتوا اليّ حالًا ويتجمعون في المجلس.. ولا تنسى ان تخبر قسورة ومعتصم.

– حاضر!
قال عمران ثم خرج راكضًا لينفذ امر جده فتطلع كريم الى حفيديه واردف:
– يا للعار الذي ستجلبانه لي! تفضلا واجلسا لأحل المصائب التي تقع على رأسي من كل صوب.

ثم نظر الى عائشة وقال لها بحنو:
– تعالي معي لتجلسي في الداخل الى ان اتحدث مع الرجال.

**************
جلس الرجال في المجلس يتطلعون الى بعضهم بكراهية وعداء.. جميعهم ينتظرون ان يبدأ قاضي العشائر في حديثه ولم يتأخر ودخل بسرعة الى صلب الموضوع وهو ينظر الى الجد كريم الذي عرف منه بعض التفاصيل قبل ان يدخل الى المجلس:
– يا شيخ كريم قبيلة العرّابي تقول انكم خطفتم ابنتهم عائشة وانها حاليًا هنا وهم يريدون ان يسترجعونها.

– ليس قبل ان تعود أختي الذي خطفها ابنهم ساري وتزوجها رغمًا عنها مع انها كانت مخطوبة لابن عمي أحمد.
هتف يوسف باصرار فعقد قاضي العشائر حاجبيه وهو ينظر الى فواز:
– ما الذي يقوله هذا الرجل يا شيخ فواز؟! هل اتيت لتتهمهم وانت وابن ابنك السبب وراء ما يحدث؟ منذ متى تُقحم النساء بانتقامات القبائل من بعضها البعض؟

– وهل نسيت ما فعلوه بشقيقتي قبل عدة سنوات يا كبيرنا؟
هدر ساري بغضب مبهم فرمقه قاضي العشائر بنظرات حادة وهتف:
– فتقوم وتخطف البنت وتتزوجها بالاجبار يا ساري؟! تخطفها وهي مخطوبة يا ولد! أين الدين والعادات والتقاليد من كل هذا! الا تعرف ان زواجكما باطل لأنه تم بالاجبار ودون موافقة ولي أمر البنت؟

– لقد نطقت بلسانها انها موافقة على هذا الزواج.
رد ساري بهدوء فقال قسورة بصوت قوي:
– نحن نريد الحل يا كبيرنا.. إما ان ترجع ياقوت الى قبيلتنا ويحرّرها ساري واما…

– مستحيل!.. قسمًا برب العباد لن اترك ياقوت ما دام في صدري نفسًا.. ياقوت صارت زوجتي فعليًا يا شيخنا وانا لن أتركها مهما حدث!
صدح صوت ساري منفعل متملك فكاد أحمد ان ينهض ويحطم وجهه لو ان يد يوسف لم تمسكه وتمنعه.. فزفر قاضي العشائر برزانة وقال بجدية:
– البنت يجب ان تعود الى قبيلتها ما دام الرباط الذي بينكما رباط غير شرعي ولا تنسى يا ساري ان بجريمك هذه من الممكن ان تُنفى من قبيلتك وان يُحرّم عليك الدخول اليها لسنوات!

ابتسم ساري بتهكم ثم قال بنبرة أخرست الهمسات التي بدأت تتصاعد:
– وماذا فعلت يا كبيرنا لمعتصم بعد ان ارتكب جرائمه بحق أختي؟ أحلال عليه لان الرباط الذي جمعهما كان شرعيًا ولأنك كنت الشاهد عليه بنيّة انهاء العداوة والثأر بين القبيلتين وحرام عليّ أنا؟

دام الصمت للحظات قليلة قبل ان يزمجر معتصم بكرهٍ:
– بالضبط انا استغليت الشرع لأنتقم منكم بشقيقتك.. ارتباطي بأختك شيء لا يشرّفني ابدًا! نسب القبائل بيننا لا يشرّفني!

نهض ساري برغبة حقيقية في القتل ولكن صوت قاضي العشائر هو فقط من منعه:
– اهدأ يا ساري واجلس مكانك!

– والله العظيم سأقتلك بيدي لو تكلمت عن شقيقتي بسوءٍ مرة اخرى!
جهر ساري بعنفوان فتنهد الجد كريم وقال موجهًا كلامه الى قاضي العشائر:
– ماذا تأمرنا ان نفعل؟

صمت القاضي للحظات ثم تساءل:
– اين خطيب الفتاة؟

– انا كنت خطيبها.
ردّ احمد بتجهم فسأله الجد بتمعن:
– هل سترتبط بها بعد ان صارت فعلًا زوجة رجل غيرك؟!

سؤاله كان في مكانه الصحيح وعلى وتره الحسّاس بالضبط فهو نفسه لا يعرف الاجابة! هل سيقدر على الزواج بياقوت بعد ان صارت زوجة غيره بكل ما للكلمة من معنى والأدهى انها قد تكون كما يقولون حاملًا بابنة عدوه!
التزم الصمت بعجز وردّ نيابة عنه ساري:
– أخبرتك يا شيخنا انني لن اتركها.. ابدًا!

لم يعيره قاضي العشائر ايّ اهتمام وقد وصله رد احمد من خلال صمته فنظر الى احد الشيوخ الذين اتوا معه وقال:
– ماذا تقترح انت يا شيخ فضل؟

– انا اقترح ان تتزوج ابنة العرّابي من احد اخوة ياقوت.. وفي المقابل ان تعاد مراسم زواج ساري وياقوت مرة اخرى على سنة الله ورسوله ووفقًا لعاداتنا وتقاليدنا.

– هل تريدون ان أسلّم اختي لهم ليكرروا ما فعلوه مع اختي غزالة؟
قال ساري باستنكار غاضب فرد الشيخ فضل بتريث:
– هذا هو الحل الوحيد الذي امامك.. فياقوت ما دامت زوجتك فعلًا لا تصلح لأحد غيرك وخاصةً ان ما تمّ بينكما لا يعتبر حلال وبالمقابل عليك ان تزوّج شقيقتك من هذه القبيلة فالعين بالعين والسن بالسن يا ساري.

واضاف قاضي العشائر:
– يا ساري احمد الله ان الأمور وصلت الى هذا الحد فقط فلو انني لا أقدّر رغبتك بالانتقام والثأر لشقيقتك لما بقيت حتى هذه اللحظة على ارض هذه القبيلة وخاصةً ان جدك آتى وقدّم شكوى وهو مذنب اكثر منك!

زمّ فواز شفتيه بينما يسمع حفيده يقول:
– انا اريد ان ارى اختي.. يجب ان اتأكد من كونها بخير.

– ستراها وستأخذها معك وستعيد انت زوجتك الى اهلها وسيتم الزواج كما يجب! وزواجك انت وشقيقتك سيتم عندي في منزلي.. وانا سأتكفل بكل هذه الأمور.
اردف قاضي العشائر بهدوء قبل ان يسمع معتصم يهتف باستهزاء:
– ومن الذي سيرضى من قبيلتنا ان يتزوج واحدة من اناث قبيلة العرّابي؟

اجاب الشيخ فضل:
– بما ان ساري تزوج شقيقتك بعد ان خطفها فعلى يوسف شقيقك ان يتزوجها لأنه هو من اختطفها.

– مستحيل ان أنزوجها! انا مثل معتصم لا يشرّفني الزواج من نساء قبيلة العرّابي!
صدح رد يوسف مهينًا مستحقرًا فاستشاط ساري غضبًا عنيفًا يهدّد بحرق الكون اجمعه وهمّ ان ينهض حقًا ويفتك بهذا الكائن الحقير ولكن قاضي العشائر الذي نهض بنفسه وأمسك بيده هو فقط من منعه!..

زفر ساري انفاسًا مضطرمة بينما يسمع همس قاضي العشائر له:
– اهدأ يا ساري ودعنا نحل هذه المعضلة اذا كنتَ تريد حقًا ان تكون ياقوت لك!
فهدأ ساري لينظر قاضي العشائر الى الجد كريم بنظرة ذات مغزى فوقف كريم وقال:
– اذا كنتَ لا تريد الزواج بها يا يوسف فبأي حق خطفتها؟

– والله لن اتزوجها يا جدي! لن اقدر.. ربما اقتلها ما ان اراها بشكل فوري!
هتف يوسف بعنفوان فسأله الجد بغضب:
– هل جننت يا يوسف؟ من الذي سيتزوج اذًا الفتاة الذي خطفتها؟

– انا سأتزوجها!
كان هذا صوت أحمد الذي صدح حازمًا عازمًا فتوجهت الانظار لتُحط عليه باستنكار وذهول تام!

– جيد جدًا.
علّق الشيخ فضل ثم تابع:
– أمام الموجودين تقدّم يا أحمد وأطلب يد عائشة لك من والدها وافعل انت المثل يا ساري.

وتمّ بالفعل ما قاله الشيخ فضل وأُتفق ان يُحدّد المهر مساء هذا اليوم في منزل قاضي العشائر.. وأُتفق على الرغم من اعتراض ساري ان تعود كلا من عائشة وياقوت الى قبيلتها لتتم مراسم الزواج كما يجب..

***************
ولج ساري الى منزله ليقابله وجه والدته الباكي فتنهد بارهاق ثم سار نحوها لتسأله:
– هل حقًا سيتم ما اخبرني به والدك؟ ابنتي عائشة ستتزوج من خطيب ياقوت السابق!

– اجل أمي ولكن لا تقلقي فلن تتكرر المأساة التي حصلت مع غزالة مرة أخرى بعائشة فياقوت بقبضتي انا.
قال ساري بهدوء ثم تابع:
– كما وانك ستستطيعين رؤيتها متى شئتِ وانت بنفسك من ستجهزينها.. وان شاء الله سأعيدها في المساء وستبقى هنا الى ان تنتهتي مراسم الزواج.

– وماذا عن ياقوت؟
سألته هدية بحيرة فأجاب:
– كذلك الأمر.. سأعيدها لهم لثلاثة أيام فقط.

اومأت هدية بحزن ثم قالت:
– إصعد واخبرها فأنا لم اراها منذ البارحة.

– سأصعد الان.
غمغم ساري ثم صعد الى جناحهما ليتفاجأ بالاغراض المبعثرة على الأرض.. جالت عيناه تتقصى عنها فوجدها جالسة على الأرض وتقوم بطي الملابس!
اقترب منها بينما يسأل باستغراب:
– ماذا تفعلين يا ياقوت؟

رفعت رأسها اليه ثم ابتسمت بتهكم:
– أنظف الجناك لأنام قريرة العين!

رفع ساري حاجبه ثم قال ببرود:
– اتركي ما بيدك وتعالي وأجلسي بجانبي فهناك ما سأقوله لك.

نهضت على مضض ثم جلست بجانبه ليردف وهو يتفرس وجهها بحدقتيه:
– كنت اليوم في قبيلتك.. أحمد وشقيقك يوسف هما من خطفا عائشة.

– وما الذي حدث؟
تساءلت ياقوت بنبرة باردة لم يتوقعها منها ابدًا فأجاب:
– ستعودين الى قبيلتك.

كان يعرف انه يتصرف بلؤم فالفرحة التي نطقت بها عيناها لم يسمح لها ان تدوم أبدًا.. تركها تبتسم وتعبّر عن فرحها بالكلمات قبل ان يُفجّر قنبلته بوجهها لتتحطم كل امالها وأفراحها:
– ستعودين لثلاثة أيام فقط اليهم ثم سترجعين اليّ.. فزواجنا سيتم مرة أخرى بموافقة عائلتك وقبيلتك وبموافقة قاضي العشائر وكل الشيوخ!

– ماذا؟
تمتمت بصدمة فابتسم ساري بقسوة واسترسل:
– وعائشة ايضًا ستعود الينا لثلاثة ايام فقط وستتزوج.. هل تعرفين من الذي يريد الزواج بها؟

– من؟ يوسف؟
تساءلت بحيرة فاتسعت ابتسامته وهو يرد بنبرة كالفحيح:
– لا.. ليس يوسف بل أحمد! هو من طلب الزواج بها بارادته يا ياقوت!

– انت تكذب!
همست ياقوت بألم وهي تهز رأسها بعدم تصديق فأمسك ساري فكها بنعوم ليرفع وجهها اليه ويغمغم بابتسامة لئيمة:
– لا اكذب يا ياقوت! زواجنا سيتم بنفس اليوم وبمنزل قاضي العشائر!

– لا! أحمد لن يفعلها!
صرخت ياقوت بقهر وهي تضربه على صدره.. تحترق.. تتحطم.. بل تموت!.. لا يعقل ان يتخلى عنها أحمد بهذه السهولة! لا يعقل ابدًا! سالت دموعها على خدّيها بعجز ووجع عميق عندما كبّل ساري ذراعيها وقرّب وجهه من وجهها ليهمس بأذنها بقسوة:
– انسيه.. انسيه يا ياقوت.. انسيه فأنتِ لي.. لي انا فقط! بعد هذه اللحظة لن أسمح لك بالتفكير بغيري.. انتِ كلّك لي.. وبعد ثلاثة أيام فقط سأدعك تعرفين كيف تنتمين لي!

– أكرهك يا ساري! أكرهك!
هدرت ياقوت وهي تتحرك بجنون.. تتخبط.. تركل.. المهم أن تبتعد عنه فلم يخرسها الا شفتاه التي أخذت تقبّلها بتملك كي لا تفكر بغيره! قبلة أودع بها فراقها عنه لثلاثة أيام قادمة.. أودع بها غيظه من ذاك الرجل المسمى بأحمد.. أودع بها انانيته بامتلاكها واجباره بالتخلي عن عائشة لتتزوج أحمد.. أودع الكثير بها حتى وهنت مقاومتها وما عاد لها أي وجود!..

 

error: