رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش

الفصل السادس (الجزء الثاني)
كنتُ لكَ قربانًا، يداوي
جراحك ويبلسمها بدمعة
أو آهة كما توهمت..
كنتُ لكَ بسمة، تمرّ
للحظة وتستقر على ثغرك
فتنسيك نفسك وما تبغى..
كنتُ لكَ مستقرًا
أبديًا تبجس خواطرك
المتبعثرة والمشتتة فيه..
كنتُ لكَ يا خفقة
مؤلمة وما كنتَ لي!..
——————-
رفرفت برموشها غير قادرة على استيعاب ما تفوهت به هذه الكائنة التي تضمها بحنان غريب! معتصم لم يفعل بالتأكيد ما قالته.. متى كان هذا الكلام؟ كيف لا تدري؟ كيف؟!! تكاد تجن من نوبة انفعال افكارها.. ما هذا الظلم؟ ما هذه الحياة التي تحياها اناث هذه القبائل؟!ابتعدت ياقوت عن هدية وحدجتها بنظرات مذهولة مصدومة ودموعها كانت كافية لتحكي عن مرارة ما تعانيه في هذه اللحظة فتنهدت هدية وهمست بحزن:
– لا تذكرين.. أليس كذلك؟ كنتِ صغيرة بالتأكيد حينها.. هذه الحادثة كانت قبل ستة سنوات.. كنتِ صغيرة يا ياقوت.. طفلة!غمغمت ياقوت بعذاب:
– معتصم متزوج الآن! هو متزوج بعد ان..
صمتت غير قادرة على التفوه بالمزيد.. أيّ حروف ستعبّر عن الألم الذي يجوش في صدرها ويحرق قلبها؟!

– أين هي؟ غزالة.. أين.. أين هي؟
سألتها ياقوت بحيرة موجعت ثم تابعت بتساؤل خائف:
– هل.. هل ماتت؟

– لا!
ردت هدية لترحمها من الأفكار التي تراود عقلها فتنفست ياقوت الصعداء وأمسكت يد هدية وقالت بلهفة:
– اذًا اين هي خالتي؟ كيف لم اراها؟

ابتسمت هدية بآسى وشوق لابنتها التي لم تراها منذ فترة طويلة:
– ليست هنا.. بعد ما حدث بسنة أرسلها زوجي لتعيش بقبيلة ثانية عند شقيقتي.. كان يجب ان تنتقل أو ان تهرب اذا صحّ التعبير من هذه الأجواء التي كانت تؤثر عليها.. كلام الناس.. موت طفلها.. طلاق شقيقك لها والمشاكل التي حدثت.. لقد تأثرت كثيرًا وكدت أخسرها فاقترحت أمي رحمها الله ان نبعدها عن القبيلة.. ما حدث لها لا يُغتفر يا ياقوت!

هزّت ياقوت رأسها بنفس وهي تتمتم بجنون:
– وما ذنبي انا ان أتحمل اخطاء غيري؟! لقد كنتُ صغيرة جدًا حينها.. كنتُ طفلة ألعب في الطرقات ولا أفقه أيّ مما يحدث! هذا ظلم! انه لظلم مؤلم!

تطلعت فجأة الى هدية وهدرت بعصبية مقهورة:
– لماذا فعل معتصم هذا الشيء الشنيع بها؟ لماذا؟ ماذا فعلتم لنا ليكون بلا رحمة بهذه الطريقة؟ ما هو السبب لتستمر النساء بتحمل اخطاء الرجال وتعاني؟ ما هو ذنبي وما هو ذنبها؟!

– اهدأي يا ياقوت!
هتفت هدية بحزم فصرّخت ياقوت بغضب:
– أيّ هدوء هذا الذي تطالبيني به؟ وكأنك قلتِ لي ما فعله معتصم بغزالة لتزيدي من قهري والمي! لن أسامح ابنك بعد الذي عرفته.. لن اسامحه ابدًا! كيف أسامحه وأتقبل كوني الضحية الذي يثأر بها لشقيقته؟ كيف أتقبل يا الله؟ سأفقد عقلي!

ابتعدت هدية عنها ثم وقفت وقالت بهدوء رغم تأثرها ببكاء ياقوت وصراخها:
– ما حدث قد حدث.. لن نقدر على تغيير الماضي ولا الحاضر!

– بل سيتغير كل شيء.. مصيري سيتغير.. لن ابقى زوجة لأبنك!
صاحت ياقوت ببكاء فزفرت هدية بوهن وهمست بجدية:
– لا تغضبيه يا ياقوت.. لن يسمع ساري كلمتي في كل مرة.. خافي على نفسك منه خاصةً بهذه الفترة!

لم تبالي بالرد على كلامها بل دفنت رأسها بحجرها وبكت بشدة.. بنحيب يجفل القلوب..
رمقتها هدية بنظرة حزينة ثم خرجت، تاركة عين تبكي، قلب ينزف وروح تناجي..

***************
ابتسم بنعومة وهو يتفرسها بحدقتين ماكرتين.. تتحرك هنا وهناك في المنزل.. تتظف وترتب عبثًا فالمنزل يبرق برقًا من شدة نظافته!
منذ عدة أيام وهو يلاحقها.. لا يتركها ولا يخرج من المنزل الا عند الضرورة ليقضي معظم وقته يتأمل حسن جمال وجهها.. يلتصق بها كظلها تمامًا..

نهض أيهم فجأة بعد ان انتبه الى شرودها.. لن يدعها تشرد ابدًا بعد الان.. لقد اقسم انه سيجعل تفكيرها به هو شاغلها الوحيد.. وحينما يكون موجودًا كل حواسها يجب ان تكون له وحده.. يجب ان تكون بكل ما فيها معه..
اقترب منها بخطوات هادئة خفيفة للغاية ثم بمكرٍ كان يضم جسدها ويدفن وجهه في عنقها متنشقًا عبيرها العذب..

تنهدت حسناء بتعب وكمان فؤادها تعزف الحانها بنعومة ورقّة تشبه لمساته لها.. يكبّلها بمحاصرته واهتمامه بها اكثر مما يجب.. يهتم بها بطريقة تجعلها تشعر انها ملكة الاناث.. ملكة الدلال.. و… وملكة قلبه..
أغمضت عينيها تتذكر لحظاتهما معًا وهي بين يديه.. حتى وهي بين يديه يجعلها أيهم تفكر بأفعاله..

ابتسمت فجأة بحسرة وهي تتذكر غيرته من رجل تحت التراب لأنها تزوجته قبله.. لقد قال لها بصريح العبارة وبانفعال قلب عاشق هي عالمة بجنونه انه يكاد يموت من شدة غيرته عليها لأنها كانت لغيره قبل أن تكون له.. ولكنها كالعادة تتلقى كلماته ببرود ووجه عابس.. فمهما مرّت من أيام لن تنسى زوجها الأول بسهولة.. أمين لا يستحق أن يُنسى بهذه السهولة!

أدارها أيهم اليه ليخرجها من دوامة افكارها ثم بحب قبّل خدها وهمس:
– لا تفكري وانت معي يا حسناء.. حتى بي لا تفكري وانت بين ذراعي.. فقط عيشي اللحظة وانسي اي شيء اخر.

لم تهبه أيّ رد وهو لم ينتظر اي رد منها.. يكفيه انها معه.. مستسلمة له حتى ولو كانت لا تبادر كما هو يفعل.. انحنى يروي عطشه من منبع شفتيها وهو يقرّبها منه فسالت دمعة حارّة على خدّها ليمسحها بطرف ابهامه ثم ضمها اليه وكأنه على وشك ان يدخلها في ثنايا عظامه..
قال أيهم لها بنعومة رقيقة.. نعومة تجعل أيّ أنثى تشعر انها أغلى الاناث وأجملهن.. بنبرة عاشقة لا تخطأها فهي جرّبت العشق وغاصت في بحره لسنوات:
– انتِ جميلة حسناء.. رقيقة.. ناعمة كنسيم الرابع.. محظوظ انا بكِ.

ازدرمت حسناء ريقها وهي ترفع رأسها لتتطلع اليه فابتسم أيهم بعذوبة وغمغم:
– أحبك حينما تنظرين اليّ بهذه النظرة.. وكأنك تائهة حائرة في ضواحي شروق العشق!

رمشت حسناء من صراحة غزله وجماله.. أمين لم يكن يدللها هكذا بكلماته.. كان حبه لها ومعاملته تختلف كليًا عن معاملة أيهم لها.. لم تتوقع أبدًا ان تسمع غزلًا كهذا من أيهم.. أيهم شقيق قسورة!
رقّ قلبها لحاله فاستجابت له بابتسامة خجول كان ينتظرها منذ فترة طويلة لتتوسع ابتسامته ويعيدها الى صدره بقوة..

همست حسناء بتوتر وهي تحس بنبضات قلبه الخافقة بجنون تحت يدها الموضوعة على صدره:
– سأحاول.. سأحاول ان اتأقلم على حياتي معك!

ابتسم أيهم وقال بينما يمرّر اصابعه بين خصلات شعرها شديد النعومة:
– محاولتك ستسعدني يا حسناء.. وستعتادين عليّ وعلى وجودي بجانبك أكثر من مجرّد زوج يا عسلي.

تنفست حسناء بعمقٍ.. بدأت تسترد قواها وثقتها بجمالها وهي في منزله.. كلماته العاشقة الحانية تؤثر بها بعنف.. وكم تخشى ان تعتاد على هذا الغزل وهذه الحياة المفعمة بالرومانسية فتفقدهما بيوم من الأيام!
تخشى ومع ذلك ستحاول فما مضى لم يعد له وجود.. يكفيها حزنًا.. لعام كامل بكت وتألمت ولا تزال.. ولكن بزواجها بأيهم بدأت تنسى أو تتناسى ماضيها الحزين.. ستحاول فهو بجانبها ويعشقها بشغف لم ترى له مثيل..

**************
ابتسمت خنساء بحب لجدها الذي يضمها الى صدره بينما يؤنبها بمزاح على أفعالها بقسورة.. سردت عليه كل أفعالها الماكرة وشكت اليه تسلط قسورة فضحك الجد كريم وهو ينظر اليها والى والدتها المتبرطمة ثم قال:
– لا تتدللي أكثر مما يجب يا خنساء فحفيدي لن يصبر كثيرًا.

زمت خنساء شفتيها بحنق وهتفت بضيق:
– حفيدك يا جدي مغرور وبارد وامي دائما تقف بجانبه.. هل رأيت حماة تفضل صهرها على ابنتها؟

ضحك كريم واجاب:
– لا بأس يا صغيرة.. انا بجانبك وقوتي أكبر من قوتهما.

ابتسمت خنساء ثم نظرت الى والدتها وقالت بابتسامة دافئة:
– لا تهون عليّ والدتي.. فلو غضبت منها سأقف بجانبها دائمًا.

ضحكت خديجة بحنو وعلّقت بعبث:
– والله انا مصدومة بكلماتك! ما رأيك يا عمي؟

قهقه كريم وقال:
– هذا تأثير قسورة عليها يا خديجة.

– على ما يبدو؟..
ردّت خديجة ضاحكة فعقدت خنساء حاجبيها بغيظ:
– تأثير سلبي للغاية!

ضحك كريم وخديجة لتبتسم خنساء بمرح وتكاد ان تقول شيئًا ولكنها صمتت تمامًا وارتبكت حينما سألتها والدتها بشك:
– خنساء.. هل حقًا وافق قسورة أن تخرجي دونه من المنزل؟

أتى الرد من كريم الذي يعرف عقلية حفيده جيدًا:
– محال ان يوافق قسورة! لقد ظننت انه هو من احضركما!
ثم نظر الى خنساء وهدر بحدة:
– هذا اكثر شيء يغضب قسورة يا خنساء.. كيف تأتين اليّ دون ان تخبريه؟

– ما كان ليرضى ان اخرج من المنزل.. وأنا اشقت لك جدي.
ردت خنساء ببعض الخوف فزفر كريم وقال:
– ستعودين الى منزلك قبل أن يعود ويعرف بخروجك.. سأرى أحد الرجال الان.

– لا اريد ان اعود الان يا جدي.. لا زلت لم اشبع منك بعد.
غمغمت خنساء محاولة ان تستعطفه فتنهد كريم بضيق وقال:
– حينما يكسر لك رأسك اخبريني انك لا تريدين العودة الى منزله!

– جدي!
تمتمت خنساء فهتفت والدتها بعصبية:
– انهضي واسمعي كلمة جدك.. يجب ان تعودي الى المنزل.

تطلعت خنساء اليهما بخوف الا انها قالت بشجاعة:
– قسورة يعود دائمًا الى المنزل بعد العصر.. سأبقى قليلًا ثم نغادر.

– خنساء!
هتف كريم بحدة فابتسمت خنساء له ببراءة ثم عانقته وهمست بنبرة حزينة ماكرة:
– جدي انا مشتاقة اليك.. أريد ان أبقى معك قليلًا.. وقسورة يسمع كلمتك ويحترمك جدًا فلن يغضب اذا عرف انني اتيت اليك أو خرجت دون اذنه لأنك ستقف بجانبي.. أليس كذلك حبيبي؟

– لا!
ردّ كريم ببرود فابتعدت خنساء عنه بعدم تصديق:
– لا!! لا يا جدي؟!!

هزّ كريم رأسه ببرود:
– اجل يا خنساء، لا لا! هذه المرة لن أتدخل بما سيفعله قسورة بك حينما يعرف.

تبرطمت خنساء وكأنها على وشك البكاء فقالت خديجة بتجهم:
– هيّا انهضي ولا تثيري جنوني عليك كي لا اخبر والدك ان يتصرف هو معك.

وقفت خنساء ثم زمجرت بحدة:
– تجعلاني شعر انني سافرت دون اذنه بكلامكما هذا!

تجاهلاها كلا من جدها ووالدها.. ثم بصوتٍ عالٍ نادى كريم على شقيق قسورة الصغير الذي يجلس مع جدته يعصر الرمان فأتى مسرعًا ليهتف كريم:
– اذهب يا عمران مع زوجة شقيقك الى بيتها وخذ خالتك خديجة الى منزلها.

اومأ عمران بموافقته فتنهدت خنساء ثم انحنت تقبّل يد جدها وقالت:
– اسفة جدي.. لن أكرر ما فعلته ولكن لا تغضب مني.

– ان شاء الله.. الأهم الان ان يغفر لك زوجك فعلتك هذه لا انا يا خنساء.
غمغم الجد كريم فاومأت خنساء بنعومة وهمست:
– قسورة دومًا يسامحني يا كريموش فلا تقلق.

ابتسم كريم رغمًا عنه ثم هتف بصرامة:
– هيّا غادري يا لبؤة.

بعد أن اوصلها شقيق قسورة عمران دلفت الى المنزل وهي تدعو الله ان لا يكون قسورة قد عاد فليست لديها أي رغبة بالتشاجر معه..
تفقدت المنزل جيدًا لتتأكد من عدم وجوده ثم صعدت الى غرفتهما لتأخذ قسطًا من الراحة..

ولكن ما ان همّت بالنوم واغلاق عينيها بعد ان غيّرت ثيابها أفزعها صوت باب المنزل الذي أُغلق بقوة لتغمض عينيها سريعًا حتى لا تضطر الى سماع صراخه.. وفجأة كان يقف فوقها لتتململ وكأنها نائمة وتقلب وجهها الى الجهة الاخرى فيصرخ قسورة بها بصوت ارعبها:
– انهضي يا خنساء.. اعرف انك لستِ نائمة!

اعتدلت خنساء بجلستها وابتسمت له بتوتر ثم سألته بتوجس:
– لماذا انت غاضب يا قسورة؟

– حدثت مشكلة لا شأن لك بها.. انهضي سأسألك عن شيء ما.
هتف قسورة بفظاظة لتتنفس خنساء الصعداء فهو لم يعرف بعد.. لا تصدق انها نجت! تطلعت اليه خنساء بتأمل ثم همست:
– اجلس بجانبي.

قعد قسورة بجانبها على طرف السرير ثم سألها بعد تفكير بسيط:
– اين والدتك؟

– غادرت قبل قليل.
اجابت خنساء بهدوء تواري خلفه توترها فقال بغيظ:
– ألم اخبرك ان لا تدعيها تغادر قبل عودتي؟ ألأ تعرفين كيف تسمعين الكلمة؟

تبرطمت خنساء دون ان ترد فاستطرد قسورة بجدية:
– المهم الآن.. انا أود ان اسألك عن صداقتك بابنة عمي حسن.. هل كانت تزورك كثيرًا قبل ان نتزوج؟

هزت خنساء رأسها باستغراب:
– اجل.. لماذا تسألني عنها؟

زمجر قسورة بغضب أشوس ثم تابع بتحقيقه:
– وهل كنتِ تهديها أشعارًا من ألأشعار التي تكتبينها؟

– قالت لي ذات مرة انها تخرج من القبيلة كثيرًا وانها تعرف امرأة من قبيلة والدتها تهتم بأناس تكتب الشعر فتلهفت وحينما طلبت مني ان اعطيها جزء من كتاباتي لتعرضها عليها وافقت.
قالت خنساء بتعجب وقد بدأ يراودها الشك من تحقيق قسورة لها.. وسرعان ما كانت تنتفض عندما ضرب قسورة بقبضته الفراش وهتف:
– اللعنة يا خنساء! أين عقلك كان لتصدّقي كلامها؟

– لم أفهم يا قسورة.. ما الذي حدث؟
غمغمت خنساء بحيرة شديدة فأمسك قسورة فكها بقسوة وصاح:
– المشكلة هي ان أشعارك الآن بين يدي الرجال يتكلمون عنك! المشكلة أن هذه المجنونة اتي سأبتلي بها وبشقيقها كانت تأخذ منك الاشعار وتعطيهم لشقيقها وتخبره انها منك له! هل فهمت ما الذي حدث الآن؟

توسعت عيناها بجزع ثم سارعت لتبرّر ببكاء:
– أقسم بالله انني لا اعرف انها تعطي الاشعار لشقيقها وتفعل بأشعاري هذه الأشياء الشنيعة! أقسم لك يا قسورة!

– أنا أعرف.. ولو انني لا أثق بالمرأة التي تزوجها لكنت قتلتك قبل أن آتي وأستجوبك يا خنساء!
قال قسورة بجمود فزفرت خنساء ثم ابتسمت براحة شديدة ولفّت ذراعيها بقوة حول عنقه تعانقه بانفعال مبالغ به بعض الشيء.. فتركها قسورة تعانقه بهذه القوة وهو يربت على شعرها بأعصاب باردة ولكن نافرة!

ابتعدت عنه خنساء بعد لحظات طويلة ثم تساءلت:
– كيف عرفتَ يا قسورة وكيف وصلت أشعاري الى أيدي الرجال؟

– سأخبرك لاحقًا.. الآن يجب ان اغادر.
قال قسورة وهو ينهض فقاطعته خنساء سريعًا وهي تسأله:
– ألن تأكل على الأقل؟

– لا.
اجاب قسورة ثم قبّل جبينها وغادر تاركًا اياها تفكر بما فعلته ابنة عمها وتفكر بما سيحدث لو عرف قسورة انها خرجت دون اذنه.. فعلى الرغم من بروده في الكثير من الأحيان الا ان دمه حار وبسرعة يفور ويهوج الى حدّ مرعب.. وهي تدري لو انها ليست ماكرة لكانت سترتعب دومًا منه حتى ولو اشعرها ببعض الأحيان بحنانه الفتّاك الذي يزيده رجولةً..

***************
في المساء..
أخذت وهج نفسًا عميقًا قبل أن تدخل الى الغرفة التي ستتشاركها مع صفوان لأول مرة.. ترددت كثيرًا قبل ان تقدم على هذه الخطوة وكانت تعرف جيدًا انه لن ينادي عليها ابدًا بل سينتظرها ان تأتي هي اليه.. بارادتها التامة كما اتفقا..
انتظرت الى ان نام الطفلان ثم حسمت امرها لينتهي بها الأمر واقفة على باب الغرفة بتردد وبعض الخوف..

بعد ان دخلت نظرت حولها دون ان تدع نظراتهما تتقابل ولو بشكل عفوي! وبهمس ألقت التحية واتجهت الى الخزانة الخشبية لتُخرج فستانًا طويلًا لها مريح للنوم ثنم اختفت خلف باب الحمام تفكر بينما تتنفس بصعوبة.. تحس بشيء غريب يراودها ويشعرها بالخجل والاحراج.. ستكون حقًا زوجة الرجل الذي كان زوج قريبتها وصديقتها؟!.. ستحتل مكان آيات! يا لقساوة ضميرها الذي يؤنبها..

“هذا ما يجب أن يحدث”
همست وهج لنفسها بتشجيع ثم خرجت من الحمام وبخطوات بطيئة اقتربت من السرير وجلست على الطرف الأيمن بينما صفوان المتوسد السرير من الطرف الأيسر يتابع حركاتها بتركيز عميق ليحاول أن يعرف بماذا تشعر وبماذا تفكر..

مدّ صفوان يده ووضعها على كتفها لترتجف وهج دون ارادة منها فابتسم رأفةً بخجلها وارتباكها وقال بهدوء شديد:
– نامي يا وهج.. حالتنا هذه الفترة لا تسمح لي بالتفكير بحقوقي بك.. كما أنني لست نذلًا الى هذه الدرجة حتى أنسى أن زوجتي آيات توفت قبل أيام وأركض للبدء بحياة جديدة مع امرأة غيرها!

اومأت وهج بصمت ثم رفعت غطاء السرير وتدثرت به دون أن تنظر اليه.. ثوانٍ معدودة أغمضت بها عينيها قبل أن ترتجف مرة أخرى حينما شعرت بيد صفوان فوق شعرها بينما يسألها بحيرة:
– هل انت بخير يا وهج؟

– اجل، أنا بخير.
ردت وهج بصوت مهزوز فأولاها صفوان ظهره وهمس:
– تصبحين على خير يا وهج.. نامي فكما قلتُ لكِ لن يحدث بيننا أيّ شيء.. يكفيني وجودك كأم لطفلاي!

***************
وضعت ياقوت يدها على فمها حتى لا تصدر صوتًا فيعرفون انها تتنصت عليهم محاولة ان تعرف حول ماذا يتحدثون!
لم تود ان تدخل وتجلس معهم في المجلس.. تكره الجلوس مع افراد هذه العائلة فهي لا تطيقهم وتكرههم وهم يكرهونها ولذلك فضّلت الوقوف بجانب المدخل لتسمعهم بهدوء دون أن تتوتر اعصابها وتشتد أمامهم..

تحفزّت اذناها لسماع ما سيقولونه بعد أن تطرقوا لتلك المواضيع السخيقة بنظرها.. أغمضت عينيها بحزنٍ وهي تسمع هدير هدية المقهور التي قاطعتهم عن اكمال حديثهم الغير مهم ابدًا:
– ماذا حدث مع ابنتي؟ بدلًا ان تتكلموا بهذه المواضيع اخبروني ما حدث مع انتي.. اخبروني على الاقل هل هي على قيد الحياة؟ دعوني أفهم ان ابنتي بخير وابتعدوا عن الانانية هذه!

– ما خطبك يا هدية؟ رجال القبيلة يبحثون عنها!
تمتمت الجدة بحدة فهتفت هدية بجنون:
– كيف يبحثون عنها؟ كيف وزوجك يشغلهم بمصالحه الخاصة طيلة الوقت؟!

– هدية.. اهدأي واحترمي الموجودين!
زجرها زوجها مالك بعصبية فصاحت هدية بانفعال:
– كيف اهدأ بالله عليك وكيف أحترم وابنتي ضاعت من يدي.. لا اعرف اذ كانت بخير ام لا؟! كيف تنتظرون مني أن اتصرف بتعقل وانا اكاد اموت من شدة خوفي عليها؟!

– سنعيدها لا شك.. ساري يبحث عنها مع مجموعة من الرجال.. واذا لم نجدها حتى الغد سنتوجه الى قاضي القبائل ليساعدنا.
قال فواز بهدوء فرشقته هدية بنظرة غاضبة كما اشتعلت تمامًا نظرات ياقوت الكارهة له ولكلامه البغيض..

لم تستطيع ياقوا أن تركز وتسمع المزيد مما يقال بسبب اليد التي وُضعت على فمها وجذبتها معها دون ان تعرف من صاحب هذه اليد.. اخذت ياقوت تتخبط بجنون.. برعب.. وهي تفكر ان ليس من المنطق ان تُخطف مرة ثاتية وهي في منزل خاطفها! هذا ليس منطقيًا اطلاقًا!

شهقت ياقوت شهقة ارتياح وغيظ بعد ان خرمشت اليد التي تكمّم فمها وعرفت من صاحب هذه اليد الغليظة من الخاتم المميز الذي يلتف حول بنصره الأيسر..
دفعها ساري فجأة بعد أن ادخلها جناحهما فتطلعت اليه ياقوت بعينين تتلاطم بهما أمواج البحر في ساعة الغروب بينما تلهث أنفاسها وكأنها كانت تعدو لساعات طويلة!..

– من العيب أن تقفي بجانب الباب تتنصتين على كلام الغير!
قال ساري بهدوء فابتسمت ياقوت بتهكم وسألته بفظاظة:
– أين كنت طوال اليوم يا حضرة الأمير ساري؟

رمقها بنظرة مذهولة الا انه غلفها ببعض الازدرداء وهتف:
– أينما اكون لا يخصك.. هذه التحقيقات لا تتم معي يا امرأة!

– اذًا لا تحقق معي انا ايضًا يا.. يا رجل!
تمتمت خنساء باستهزاء يثير الغضب الا انه لم يغضب ابدًا بل ارتفع طرف ثغره بشبه ابتسامة قاسية للغاية وهمس بينما يدنو منها:
– أتعملين؟.. لقد أوشكت على معرفة الشخص الذي خطف عائشة.. هل لديك فكرة مَن مِن الممكن أن يكون؟

رفعت ياقوت ذراعها تمنعه من الاقتراب اكثر ثم ردت بجمود:
– وكيف أعرف يا ساري؟ ماذا تعتقدني؟

ابتسم ساري بلؤم وأنزل ذراعها ببعض العنف فتأوهت ياقوت ليزمجر باحتدام:
– ولكن أنا بدأت أعرف من.. وبحدود الغد سوف أتاكد.

– بمن تشك؟
سألته ياقوت بتوجس فضغط ساري على ذراعها وقال بغضب:
– بشقيقك وباللعين السابق أحمد! الاثنان مختفيان ولم يعودا الى قبيلتهما منذ عدة ايام.. فلا بد انهما الفاعلان!

– هل جننت لتتهمهما؟ احمد..
أسكت ساري صراخها بيده التي ضغط بها على فمها فتوسعت عيناها برعب من عصبيته المخيفة وصوته الحاد المميت:
– ايّاك! ايّاك يا ياقوت ان تستفزيني! لا تستفزيني كي لا أجعل يومك هذا أسود.

صمتت ياقوت تناظره بخوف فأفلتها ساري بحدة لتتنفس بصعوبة وكأن قبضة فولاذية تضغط على قلبها وتمنع انفاسها من الخروج بشكل سليم..
غمغمت ياقوت بألم بعد لحظات طويلة:
– اذا تأذت اختك قليلا تغضب وتثور واذا تأذيت انا تصمت وتؤذيني اكثر! لماذا يا ساري؟

– لأن ليس منطقيًا أن اخطفك لأدللك.. ليس منطقيًا ان انتقم لوجع شقيقتي باحتضاني لك.. انا فيكِ يا ياقوت أنتقم وأثأر لوجعها ولقهري!
هتف ساري بجمود فاقتربت منه وأمسكت طرف قميصه تشده بأظافيرها وهي تدمدم بمرارة:
– وما هو ذنبي ان يكون معتصم شقيقي؟ ما هو ذنبي لتظلمني الى هذا الحدّ يا ساري؟!

ثبّث ساري يديها على صدره وقال بنبرة قاسية:
– ذنبك كذنب غزالة وعائشة! تدفعن ثمن الجرائم التي يقوم بها الرجل! انتِ لستِ بأفضل منهن لتنعمي بحياة جميلة جدًا بينما أختي غزالة لا تزال تعاني الى الآن واختي الصغيرة عائشة اختفت فجأة وواضح لي ان اختفاءها بسببك.. اذ كانت العداوة ستستمر والثأر سيقى هكذا فالنساء هنّ من سيخسرن ويتضررن فقط ولذلك يجب انتهاج نظام جديد وهو القتل!

هزّت ياقوت رأسها وهي تصرخ بجزع:
– ماذا؟! كيف؟! القتل؟! هل ستقتل احدًا من افراد قبيلتي يا ساري؟

– غدًا ستُحسم كل القرارات المصيرية.
تمتم ساري ثم تطلع اليها بتمعن وسألها بنبرة بدت لها غريبة جدًا:
– هل انتِ راضية بزواجك بي؟

– لا!
ردّت ياقوت بصراحة ودون خوف فابتسم ساري بغموض وقال:
– سترضين يا ياقوت.. قريبًا جدًا سترضين!

أدارت ياقوت وجهها برفض ثم حرّكت أصابعها بضيق على صدرها فحرّرها وتابع بتهديد مخيف:
– لا تديري وجهك عني وانا أتحدث معك.. أكثر ما يغضبني ان ارى النفور يرتسم على ملامح وجهك عندما اقترب منك.. وغضبي انتِ لا تحبينه يا ياقوت.. بالتأكيد لا تحبينه!

– صحيح.. لا احبه!
ردت ياقوت باختناق ثم ولجت الى الحمام لتبكي ضيقها وخوفها من كل شيء.. من كل ما عرفته وما ستعرفه لاحقًا.. تبكي بسبب ساري وقسوته.. تبكي قسوة شقيقها على غزالة.. تبكي فراق عائشة.. تبكي وتنهمر دموعها بغزارة على وجهها وتتصاعد شهقاتها بعنف فوصلت الى ساري الذي وقف خلف باب الحمام يستمع الى شهقاتها بملامح خالية من التعابير!

**************
في اليوم التالي في داخل قبيلة الفهدي..
عاد يوسف الى القبيلة وسار مباشرة الى منزل جده الذي تهلّل وجهه بعودته.. قبّل يوسف يد جده باحترام شديد ليسأله كريم عن حاله وعن حال أحمد فيجيبه يوسف بغموض انهما بخير تمامًا..

دقائق قصيرة تبادلا بها الحوار قبل ان يدلف احمد وبقبضته عائشة التي سرعان ما رماها على الارض تحت قدمين جده وهو يقول:
– لقد تمّ الثأر يا جدي.. ها هي ابنة قبيلة العرّابي بين يديك افعل بها ما شئت.

– ولكن اياك ان تعيدها لهم الا في حال عادت ياقوت!
اضاف يوسف وهو يرشق عائشة بنظرات أشد قسوة من حجارة الصوان فضرب كريم يده على رأسه وصاح بهما بانفعال:
– ما هذا الجنون الذي قمتما بفعله؟ انتما من خطف اخت ساري؟!

– اجل نحن.. من يتجرأ ويلعب مع قبيلة الفهدي يجب ان يبكي ندمًا ويتلقى عقابًا شديدًا.
ردّ يوسف بحقد فتابع احمد بقهر:
– لقد خطفوا خطيبتي مني يا جدي.. خطفوا ياقوت فخطفنا ابنتهم ليشعروا بنا ويجربوا الشعور بالعجز التام! وخاصةً شعوري انا!!

 

error: