رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش

رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش

كل الحقوق محفوظة للكاتبة أسيل الباش

المقدمة..
لم تفكر مرتين وهي تخرج كاللصوص من منزلها.. تتلفت حولها ونبضات قلبها يحتد وثبها بصورة غير طبيعية.. يداها تتعرق اكثر وهي تتمسك بطرف الباب الخشبي.. تتطلع هنا وهناك لتتأكد من كونها ستخرج سالمة..
تسلّلت بقرب الجدار البني الخارجي الذي يفصلها عن منزلها.. لا يمكنها ان تتراجع الان.. ليس بعد تفكير دام لأسابيع وتخطيطات نسجتها بعقلها.. السماء الحالكة بسوادها تبعث ذبذبات من القشعريرة في حنايا جسدها لترتجف بخوف..
بعد ساعتين سيتصاعد آذان الفجر وسيستيقظ رجال قبيلتها ليقبلوا الى صلاتهم في المسجد القريب من قبيلتهم.. اما النساء فهن سيقضون فريضتهن في منزلهن.. وامها؟.. رباه امها ستولج الى جناحها الصغير لتوقظها حتى تُصلي معها جماعة.. وبعد ذلك تعدّان الافطار لوالدها وشقيقيها الاعزبان.. ولكن ان اكتشفت والدتها امر اختفائها فيا لها من مصيبة ستُقام في القبيلة كلها!
“تراجعي يا خنساء! لآجل والدتك التي سيقع كل اللوم عليها!”
زمجرت مخاوفها بين زوبعة افكارها وهي تعبر الجسر الطويل القائم بين الأشجار لتصل الى السور.. ولكنها لا تقدر ان تتراجع.. حلمها ستموت ان لم تحققه.. وبذات الوقت سينشطر فؤادها الى اشلاء اذا هربت هكذا واحنت رأس والدها المرفوع دائما وادمت قلب والدتها الحنون..توقفت قبالة السور الشاهق تلهث انفاسها المضطرمة تخفرًا وذعرًا.. كانت ميقنة انه طويل ولذلك تأزرت تحت عباءتها السوداء سروالاً كحليًا واسعًا لتتمكن من التسلق كما يجب.. ولكن نقابها مشكلة! لا تستطيع ان ترفعه عن وجهها والا في حال كُشفت ستُعرف انها هذه هي “خنساء الفهدي” من تجرأت على تفجير القنابل في دماء رجال قبيلتها لتُبتَر الرقاب وتُقام الجنائز!..

اوغلت يدها عبر النقاب لتمسح قطرات العرق التي تتصبب من وجهها الشاحب.. ثم شدّت من ربطة الحقيبة النبيذية التي على ظهرها وبارتباك وضعت قدمها على حجر من السور بينما اليد الاخرى تتشبث بحجر اخر حتى تتمكن من الصعود بتريث..

ولكن.. صوت الاقدام التي تنبع من الخيول التي تقترب فاقم من حدة توترها وبعثر تركيزها على الرمال التي تحتها لترفع رأسها الى السماء برعب حقيقي ثم تحدودب برأسها الى الارض لتُقدّر البعد الذي يفصل بينها وبين الارض.. وطبلة فؤادها التي تتفنن بطرقها العنيف تصمّ اذنيها فلا هي قادرة على التحديد من اين الصوت تمامًا ولا حتى على متابعة الصعود لتهرب بنجاح!.. او حتى العودة ركضًا الى منزلها الاقرب الى هذا السور..

“يا رب احميني ولا تدعهم يكشفونني!”
همست بارتجاف وهي تحث نفسها على الصعود ولو خطوة واحدة ولكن.. ولكن اليد الخشنة التي اسكتت دعائها والاخرى التي طوّقت بطنها وسحبتها بعنف لتقع على صدر اشبه بالسور الذي كانت تعتليه اججّ من رعبها.. ودون ادراك منها تدحرجت عبراتها المذعورة على وجهها بينما تقاوم اليد التي تكبّلها بضراوة صامتة.. دون ان تتجرأ على النبس ببنت شفة.. اولاً لأن ثغرها مُقيد بيد قاسية.. وثانيًا خوفًا من ان يعرفها الذي قبض عليها فوداعًا لروحها الحالمة..

غرست اظافيرها بالذراع التي تجذبها من بطنها الى منزل تعرفه جيدًا.. وبسببه عرفت من هو الذي قبض عليها ليزهق روحها وجعًا بكل تأكيد.. تخبطت بجنون بين ذراعيه وهو يسحبها بعنف اقوى انّت له معدتها حتى كادت ان تتقيأ من شدة المها واختناقها..

لم تؤثر به الدماء التي ابجستها اظافير تلك اللبؤة المتأكد انها زوجته من يده.. فمن غيرها يتجرأ على مخالفة اوامر قبيلتهم واوامر جده (زعيم وقائد القبيلة كلها).. جده دومًا كان يحذّره بكونها اصعب مما يظن ولذلك لم يوافق على كل من طلب يدها للزواج من ابناء عمومته واخواله وغيرهم.. هي لبؤة جامحة يتحدث عنها عمومته.. ولذلك تمّ فقط زواجها منه هو..

كان عائدًا من البحر هو وشقيقه وابن عمه بعد ان باع ثلاثة سفن لقبيلة اخرى.. كان يمتطي حصانه الأسود حينما سمع لهاثًا غريبًا.. فودّع شقيقه وابن عمه سريعًا ثم تحرّك نحو الإسطبل الخاص بحصانه ليضعه به بينما يتفقد بحدقتيه الحادتين عن مصدر الصوت الذي كان يؤرق اذنيه..
واخيرًا عرف.. رأى تلك الكومة السوداء التي تحمل على ظهرها حقيبة صغيرة رقيقة تشبه أغطية الفراش.. بينما اصابع بيضاء صغيرة تتشبث في حجارة السور..

دنى منها بخطوات مسموعة ليبعث الرعب في ثناياها ويشتتها حتى لا تقدر على مواصلة صعودها فتنجح بهروبها من بين ذراعيه التي ستفتك بها بعد دقائق معدودة!..
وبعنف شديد كان يجرّها الى منزله بينما تتعثر قدميها بالحجارة التي على الارض وتهشم له يديه.. وبذات الخشونة التي جذبها بها من على السور كان يلقيها على الارض بعد ان فتح باب منزله..
اوصد قفل الباب الحديدي بينما يستمع الى بكاءها المذعور لعلّه يخمد قليلًا من النار التي اضرمتها تلك المُسماة زوجته.. ولكن عليه ان يتأكد انها هي.. رغم كل ثقته انها خنساء التي عقد قرآنه عليها قبل ثلاثة اسابيع وبعد اسبوع زفافهما سيُقام في القبيلة ليحضرها ابناء القبيلة وغيرهم من القبائل.. زواج سيحضره الالاف..

بغضب جسوري كان يزيل نقابها ليُجرح خدها الناعم وتشهق مذعورة بينما تتوهج النيران في عروقه حالما تأكدت ظنونه.. واول ما اقترفته يده هو اهداء خدها الأملس صفعة قاسية لا يقدر على تحملها الرجال منه!..
وقعت على الارض مرة اخرى، تصرّخ بآهة بكاء موجوعة بجنون.. لم تعد تشعر بوجهها من قوة صفعته.. اختنقت ببكاءها الحاد ولاول مرة تحس نفسها غير قادرة على المواجهة.. ولكنه محق وما سيفعله بها الآن اهوّن بكثير مما سيفعله بقية رجال القبيلة وخاصة والدها واخوتها الذكور..

رفعت له مقلتين رقراقتين ليكزّ على اسنانه بغضب اشوس واصابعه تمتد لتشد خصلات شعرها المشعثة بسبب عنفه بينما يصيح بصوت جهوري توسعت له عيناها برعب:
– انا قسورة؟!! زوجته تحاول ان تهرب!!! يا لقسوة عقابك الذي ستتلقينه يا خنساء!

ارتجف جسدها كعصفورة يرفرف ريشها دون ان يطير.. جاهدت ان تنطق ولو بحرفٍ واحدٍ.. ان تدافع عن حقها كما تفعل مع الجميع.. ولكنها ببساطة لم تقدر.. عنفه ارعب اوصالها.. وهي التي لم تُضرب ولو لمرة واحدة من ذكر او انثى في عائلتها! لا يُستعمَل العنف مع نساء عائلتهم.. ولكنها على ما يبدو انها ستكون الانثى الاولى التي تُعنّف!..

لم تحيد عينيها عن وجهه المتوحش.. عروق وجهه كلها نافرة الى حد مرعب..
انّت مرة اخرى بينما اصابعه تحتد قسوتها وهي تجذب خصلات شعرها الأسود حتى كاد ان يقتلعه من جذوره.. وجهيره المذعر يجلد خلاياها كالسياط:
– لماذا ستهربين؟ هل انتِ على علاقة مع رجلٍ من خارج القبيلة! اجيبي يا عديمة الاخلاق!

هزت رأسها نافية بذعر.. وهي تعي الى ما وصلت اليه افكاره بسبب فعلتها المتهورة.. وبهمس قالت من بين شفتيها المرتجفتين:
– اقسم بالله ان تفكيرك ليس صحيحًا.. انا.. انا كنت اريد تحقيق حلمي فقط.. حلمي الذي تسخرون منه جميعكم.. وتمنعوني من فعله لانني انثى!

عرف الى ما تشير اليه.. وكيف لا وكل القبيلة تعرف ما هي موهبة خنساء الفهدي التي تود اعلانها للعالم اجمعه! ولكنها تحلم.. الفهداويات اسمهن ثمين تُقتَل بسببه الارواح.. والغبية تريد ان يصبح اسمها علني يحكي العالم عنه.. هبّت الغيرة المتأصلة في اوردتهم كالنيازك على روحه وهو يتخيل ان رجل غيره ينطق بأسم خنساءه.. زوجته.. ابنة حامد الفهدي..

كل افكاره المجنونة فاقمت من عصبيته المفرطة ليحرر شعرها من بين براثنه ويسحبها الى داخل منزله ليلقيها بخشونة على الاريكة الخشبية المزخرفة بنقوش حمراء قابعة في الصالة بينما يميل بجسده الضخم عليها فيغريه لهاثها المرعوب وصدرها الذي يرتفع وينزل بخوف وارتباك واضحان..
وكم كانت جذابة لبؤته وسط ظلام منزله الذي لم يكلّف نفسه ان ينير مصابيحه وهو يكاد يقتلها بسبب فعلتها الشائنة!.. فقط اكتفى بالانوار الخارجية التي تولج عبر النوافذ الزجاجية لتساعده على رؤيتها بوضوح..

مال عليها اكثر ليتحسس بأصابعه احمرار خدها والكدمة التي سببتهما يده فتبعد رأسها بخوف وتغمغم برجاء:
– لا تخبر عائلتي.. ارجوك قسورة!

رفع حاجبه بغلاظة بينما يده تستولي على مؤخرة رأسها ليضغط عليها بقوة بينما يوافيها همسه الذي يعدها بالكثير:
– اعدك يا خنساء بان لا يعرف اي مخلوق عن فعلتك هذه.

وقبل ان تتمكن من زفر انفاسها براحة كانت تصرخ بألم بسبب قبضته التي اشتدت ضراوتها وهو يهدر باحتدام:
– لانني انا الذي سيعاقبك.. ستندمين اشد الندم على تفكيرك بتلويث اسمي واسم عائلتنا.. على تلويث قبيلة الفهدي!

– انت مجنون.. اتركني لأعود الى منزلي.
قالت وهي تدفع صدره لتتجهم ملامحه ويقول ويده تضغط اكثر على عنقها حتى تكاد ان تختنق:
– سأريك الجنون بعد الزواج يا ابنة عمي.. جدي كان محقًا بكونك لبؤة يُصعب ترويضها.. ولكنك لا زلت لا تعرفينني.. فوالله عظامك أُكسّرها دون ان يتجرأ اي احد على الاعتراض بحرف!.. مبادئ القبيلة التي وضعها جدي لا تسري كلها علي.. ولا عليك يا زوجة قسورة الفهدي!

– ما كان يجب ان اوافق على الزواج بك.. لو انني وافقت على من تقدموا لي قبلك ولم اوافق عليك كان سيكون ارحم لي.
تمتمت بكره وحقد وهي تتلوى من الوجع الذي سببته يده في مؤخرة عنقها ليفلتها فجأة ويخرس جنون لسانها بأصابعه التي امسكت شفتيها تلويهما بغضب حتى انبثقت دموعها على خديها بألم من العنف الذي يمارسه عليها..
وفجأة احست بزلزلة غريبة تكوي احشائها مع تهديده المرعب:
– انتبهي الى كلامك يا ابنة عمي.. فلسفتك في الروايات والاشعار التي تكتبينها يا خنساء لا تنطبق علي.. فإحذري من عصبيتي التي قد تؤذيك بسبب كلامك.. هذا اخر تهديد يا زوجتي المصون.

ثم افلتها بشراسة ونهض مبتعدًا عنها لتتحسس بأناملها شفتيها المنتفختين.. عليها ان تبتعد عنه.. خلال دقائق قليلة فعل العجائب بجسدها.. عنفه يخيفها.. وعصبيته وصراخه يرعبانها..
حتى النطق لم تقدر عليه بسبب قساوته معها.. تخشى ان يؤذيها اكثر فلا تصل بيتها سالمة ويُعرف انها كانت تخطط للهروب..

طالعته بنظرات حاقدة وان كانت مرتعدة ثم بترنح سارت الى مدخل المنزل لتلتقط نقابها وتضعه كيفما أُتفق.. حتى انها لم تُعدّل من ربطة شعرها الذي بعثرته اصابعه الغليظة!
عقدت حاجبيها فجأة حالما لم تجد الحقيبة التي رماها ارضًا مع نقابها بعد ان ادخلها قسرًا الى منزله.. انتبت اليه وهو يضيء احد المصابيح بيد والاخرى تمسك بحقيبتها فاقتربت منه بتردد لتحاول اخذ الحقيبة فيرفعها الى الاعلى حيث لا تصلها يدها ويقول ببرود:
– لن تأخذيها الا في ليلة زفافنا يا عروس.. وربما لا!

القت عليه نظرة غاضبة ثم بصعوبة هتفت:
– لا افهم.. ماذا تعني؟

ابتسم بشراسة ثم اردف وهو يقطع المسافة التي بينهما:
– يعني.. مم.. يعني.. ماذا يعني؟
قهقه قبل ان يجيب بما كانت تخافه:
– يعني انني سأمنعك عن الكتابة.. لا عن تحقيق حلمك فقط.. بل سأردع كل الوسائل التي تحثك للوصول اليه!

لم ترد عليه، خشيةً من تحقيق ما قاله فعلاً.. لن تعارضه الان.. هناك الاهم في الوقت الحالي.. وهو ان تعود سالمة الى منزلها لتختلي بنفسها بجناحها الصغير الذي ضمّ احلامها لسنوات..
نظرت الى الباب ليفهمها فيبتسم باستهزاء وهو يراها تُنزل الغطاء الاسود على وجهها فتغطيه كاملًا.. سار معها دون ان يأبه اذا استيقظ احد ورأهما معًا.. بجراءته المعهودة وثقته المتوحشة رافعًا رأسه دون ان يبالي لأي مخلوق في الوجود..

تلبثا قبالة باب منزلها فهمست بوهن:
– اذهب الان.. سأدخل انا.

وقبل ان تتمكن من فتح الباب كانت راحته تمسك ذراعها لتوقفها مكانها.. طالعته بخوف عبر نقابها فيميل على اذنها هامسًا:
– غدًا سأزورك بما انني زوجك.
ثم تحسس القماش الاسود الذي يواري عنه وجهها واستأنف:
– فالاهتمام براحة الزوجة واجب!

وتركها لتدخل مسرعة الى جوف المنزل، شاكرة الله ان غرفتها في الطابق الارضي.. فهكذا لا يعرف بهروبها وعودتها اي مخلوق في منزلها..


طرقت باب منزل عمها ليفتح لها احمد الباب فتطرق ياقوت رأسها بخجل وتوتر ليهتف احمد مبتسمًا بحب:
– اهكذا تفعل الفتاة حينما ترى خطيبها امامها؟

– اين خنساء؟
تساءلت وهي تُعدّل من طرفي حجابها بتوتر.. وخدّاها يحمرّان رغمًا عنها فيبتسم احمد بهيام، رادفًا وهو يبتعد عن الباب لتخطو خطواتها المرتبكة الى الداخل:
– خنساء في غرفتها نائمة كالأميرات يا ياقوت.

– وخالتي خديجة؟
قالت بإرتباك اشد وهي تتقصى بعينيها العسليتين عن زوجة عمها او واحدة من بنات عمها.. او حتى عمها! وقد كان احمد متفهمًا لخوفها وخجلها الشديد من انفرادهما دون رابط شرعي يجمعهما غير انه تقدّم طلب يدها للزواج.. فدمدم وهو يتوجه الى غرفته:
– لا احد في المنزل غيري وغير خنساء.. اذهبي اليها واوقظيها.. واعدك ان امحو بنفسي خجلك هذا بعد خمسة ايام، حيث سيتم عقد قرآننا.

ابتسمت ياقوت بحب فخور وهي تبصر به ينأى بنفسه عنها ليهبها الامان والطمأنينة.. هذا هو فارس احلامها الذي حلمت به طوال طياتها.. احمد.. ابن عمها الذي تعشقه منذ ان كانت طفلة.. احمد الذي تحسدها عليه الفهداويات كلهن.. هو مغوارها العاشق الذي لم يهتم بأي من الفهداويات غيرها.. كل فتيات العائلة لم يبالي بهن كما اهتم بها.. حتى اضحى عشقه واضحًا لجدهما فنطق بكلمته امام كل رجال العائلة.. كلمة لا يخالفها كبير او صغير.. ياقوت الفهدي لن تكون الا لأحمد الفهدي.. منذ ثلاثة سنوات حيث افشى الجد بكلمته ووعده.. كانت في الرابعة عشر من عمرها.. وهو في الحادي وعشرون.. وقد كبرا الاثنان.. وهي اكثر من ستموت شوقًا ليرتبط اسمها بأسمه..

لم تبرح الابتسامة العاشقة ثغرها وهي تولج الى غرفة ابنة عمها دون ان تطرق الباب حتى.. فتشد خنساء الغطاء عليها، خوفًا ان يكون احد اخويها او والدتها.. ولكن صوت ياقوت الذي وافاها وهي تهزها جعلها ترفع الغطاء عنها بتردد فتشهق الاخرى برعب من مظهر وجهها المكدوم..

– لا تنظري اليّ هكذا.
تمتمت خنساء بحنق لتسألها ياقوت بقلق وهي تقعد بجانبها على فرشة السرير الخضراء:
– ماذا حدت لك خنساء؟ من ضربك؟

ومضت الدموع المقهورة في مقلتيها السوداوين وشعّ الحقد منهما بينما تهمس ودمعة هائجة تنزلق على خدّها المجروح:
– الحقير قسورة! فليأخذه الله!

انبسطت جفون ياقوت بخوف وهي تستقيم واقفة بحدة قبالة خنساء، مغمغمة بذهول:
– قسورة ابن عمي رفعت! زوجك يا مجنونة!

– اجل هذا الحقير.
اجابت خنساء بضيق وهي تمسح دموعها بأناملها لتتساءل ياقوت بتوجس:
– اين رآكِ حتى يضربك؟! فأنتِ البارحة كنتِ عنا في المنزل قبل ان يأتي احمد ليصطحبك بعد صلاة العشاء.

تنهدت خنساء وهي تردف بتوتر:
– البارحة كنت سأهرب!

اجفلتها الشهقة التي ابجستها ياقوت فصاحت بها بحدة ودموعها تنهمر على خدّيها لتداهمها ذكريات ما حدث بينها وبين قسورة من جديد:
– لا تشهقي هكذا.. انتِ لا تعرفين ما عانيته من قسورة وماذا ينتظرني منه! يا الله سأموت من شدة رعبي!

تحكمت ياقوت بانفعالها بصعوبة بينما تصغي الى ابجدية ما حدث من ثغر خنساء..
وما ان انتهت من السرد هتفت ياقوت بجدية:
– اشكري الله انه لم يقتلك يا مجنونة.. لو ان رجل غيره رآكِ كانت كل القبيلة ستعلم وفي الصباح سيتم دفنك!
ثم جلست بجوارها مرة اخرى مستأنفة:
– ولكن انت يا غبية الم تفكري قبل اقدامك على هذه الخطوة المجنونة! الم تفكري انهم ريثما يجدونك سيقتلونك دون ان يفكروا بسؤالك عن السبب؟! غبية جدًا يا خنساء.. جدي لو عرف كان سينهار وكذلك الامر والدتك.

ازدرمت خنساء ريقها بخوف ثم همست بصوت واهٍ:
– الحمد لله ان ما فعلته مرّ على خير.. ولكن انا خائفة من قسورة يا ياقوت.. لقد وعدني انني سأتلقى عقابي بعد الزفاف منه.. انتِ لم تري قسوته.. ولله لن تقدري على تحملها! وانا خائفة ان يردعني عن الكتابة.. بامكانه فعل كل شيء ولا احد سيقف في وجهه.

تنهدت ياقوت قبل ان تقول بهدوء:
– يمنعك عن ممارسة موهبتك اهون من ان يقتلك وتعرف العائلة عن تهورك وجنونك.

– سأقتله اذا جرّب منعي عن ممارسة موهبتي.
زمجرت خنساء بغضب وحقد لتتأفف الاخرى هامسة بوقار:
– خنساء انت عمرك حادي وعشرون عامًا.. الاكثر وعيًا وثقافةً بفتيات العائلة اجمعها.. فرجاءًا فكّري قبل ان تتصرفي.
ثم مدت يدها لتضعها فوق يد خنساء لتسندها تبثها دعمها وتابعت:
– خنساء حبيبتي موهبتك لن تعترف القبيلة بها.. غير تعلّم القرآن ممنوع ان تتعلم المرأة.. فاختصري شر قسورة خاصةً لأنك لن تقدري عليه.. الكبير والصغير يخاف منه ومن قسوته وانت تريدين ان تتحديه! واخشي على نفسك لانك زوجته الان.

هزت خنساء رأسها بضياع ولكن في صميمها تدرك انها لن تستسلم ولو تحدته.. رغم خوفها منه الا انها لن ترضخ لاوامره وليفعل ما يشاء..


لقد مرّت سنة كاملة.. سنة كاملة على وفاته وهي لا تزال تعيش على ذكرياته.. لا تقدر على نسيان حبيب قلبها وشريك حياتها.. طمست وجهها في الوسادة الحريرية وهي تشهق ببكاء مكدوم.. لا يعلم غير الله كم اشتاقت اليه.. كم تتمنى رؤيته ولو لمرة واحدة.. ان تعترف له مرارًا وتكرارًا بعشقها له.. رباه كم تحبه وكم تشتاقه!
ضربت الوسادة بقبضتها وهي تهمس اسمه بلوعة.. تناجيه.. تتمنى ان يشفق عليها فيزورها في احلامها على الاقل.. لقد كادت ان تنسى ملامحه..
اطلق ثغرها آهات موجوعة مكلومة وهي تنتحب بأسمه..
“امين.. امين.. عد الي.. آه اشتاقك! اشتاقك حبيبي.. فليرحمك الله.. آه يا رب!”

ومع الثواني التي تزداد كان بكاءها يحتد فتنزلق عبراتها كالجمر وقلبها يئن بألم.. بوجع.. بشوق.. بضياع.. صغيرة هي على كل هذه المعاناة.. ولله صغيرة.. ما زالت لم تتجاوز التاسعة عشرة بعد من عمرها.. فما هذا الظلم الذي جعل فتاة بعمرها ارملة، تترحم على زوجها الشاب؟!
لا في غمرة نومها ترتاح ولا في استيقاظها ترتاح.. كل خلية في روحها تستنجد اسمه.. تناديه وترجوه بالعودة.. أغريب شعورها بكونها تحسّ ان لا حياة لها.. لا وطن.. لا اهل! لا احد لديها… تعيش الحياة دون ارادة منها.. تتمنى لو ان روحها أُخذت مع روحه..

رفعت رأسها بحدة مباغتة بعد ان صحت من ديمومتها التي تشقي فؤادها وتعتصره عصرًا بقساوة ذكريات الماضي الجميل على صوت باب ردهتها الذي فُتح.. طالعت والدتها بمقلتيها الشجيتين اللتين تحكيان حكاية من الاساطير الحزينة.. فتدمع الام وينغزها قلبها على منظر طفلتها الصغيرة البريئة، التي لا تزال في اوائل شبابها.. بل لا تزال طفلة.. وشاء القدر ان يأخذ زوجها منها فجأة وهي في الثامنة عشرة فتترمل مبكرًا..

منذ عدة اسابيع وزوجها يخبرها ان تُحدّثها حول العرسان الذي يتقدمون لها من القبيلة.. ولكنها سترفض.. تعرف ابنتها التي اذ تعلّقت بشخص ما يُصعب عليها نسيانه.. فكيف اذا كان زوجها الذي عشقته! كيف سترضى ان تتزوج غيره وهي تموت في هواه؟ وعلى ذكراه أكسجينها تتنفسه!

اغمضت اميرة عينيها بترح قبل ان تفتحهما وتدنو من طفلتها التي اعتدلت بجلستها على سريرها.. ودون ان تقدر على كبح عاطفتها الامومية كانت تضمها الى صدرها فيتصاعد بكاء حسناء ممزّقًا نياط القلوب شفقةً وحزنًا على حالها..
شاركت اميرة طفلتها البكاء وهي تهدهدها كما كانت تفعل معها حينما كانت طفلة صغيرة:
– اهدأي يا قلب والدتك.. قطّعت لي قلبي.. ارحمي نفسك يا حسناء.. ستموتين وانتِ تتحسرين على فراق المرحوم امين.

تشبثت حسناء في جلباب والدتها المنزلي وهي تنشج بآهات ادمت قلب امير بينما تفاقم هذه الآهات من احتراق وجدانها:
– آه يا امي.. قتلني فراقه.. مزّقني الى اشلاء صغيرة.. آه يا امي.. آه لو تعلمين كم اشتاقه!

شاركتها اميرة في نوبة البكاء الشديدة، غير قادرة على تلبية ما طلبه زوجها منها.. شدّت من احتضان طفلتها وهي تقرأ عليها بصوت عذب آيات من القرآن الكريم بينما طفلتها تسترسل في نشيجها ورثائها على زوجها المرحوم:
– آه يا امي.. اليوم يمر على وفاته عامًا كاملًا.. قبل سنة افجعتونني بخبر موته.. ودمرتونني.. يا ليتني متُّ معه يا امي.. يا ليتني!

لم ترد عليها اميرة وهي تتابع بدموع غزيرة قراءة القرآن وراحتها تتنقل برفق على شعرها الكستنائي الطويل مرورًا بأكتافها وظهرها لتستسلم حسناء بخنوع الى موجة النوم والكوابيس التي سحبتها اليها..

تنهدت أمها بوصب وهي تمددها بنعومة على السرير قبل ان تبجس من غرفة طفلتها ودموعها تغرق وجهها فتنتبه الى بكرها الذي زلف منها بقلق متسائلًا وهو يلثم يدها:
– ما خطبك يا ام صفوان؟ لماذا تبكين يا غالية؟

تأملته بحزن شديد.. فأكبر اطفالها واصغرهم يعانيان.. حسناء فقدت زوجها.. وبكرها صفوان زوجته مريضة بالسرطان في اخر مراحله.. لا تدري ما هذه الابتلاءات المفجعة الذي يختبرهم الله بها.. ولكنها تصبر وما لها غير الدعاء والصلاة..

ابتسمت اميرة قسرًا هامسة بحنو:
– لا شيء حبيبي صفوان.. فقط قلبي يوجعني على اختك المسكينة.. رحم الله زوجها الذي تحت التراب الان.

– رحمه الله واسكنه فسيح جنته.. جدي حدّثني انا ووالدي اليوم عن ايهم ابن عمي رفعت.. يريدونها زوجة له.. وايهم نعم الرجال.. كل رجال القبيلة يتكلمون عنه بالخير.. مكانته واحترامه الجميع يعتز بهما.
هتف صفوان بهدوء وهو يسحب والدته مطوّقا ظهرها بذراعيه الى حيث غرفة الضيوف فتغمغم الام بتوتر:
– لن ترضى حسناء بهذا الزواج.. هي لا زالت تعيش على ذكرى المرحوم امين.

– جدي اعطى كلمته لعمي رفعت.. وكلمة جدي لا يخالفها الرجال لتتجرأ ابنتك الان على مخالفتها!
هدر صفوان بعصبية تُميز رجال قبيلة الفهدي كلهم.. فتنهدت اميرة وهي تجيب ابنها بتفهم:
– صفوان بني.. اختك تعاني.. ولله اذا رأيتَ حالها قبل دقائق ستبكي عليها.. هي صغيرة على كل ما تعانيه.. ان شاء الله غدًا سأفتح معها الموضوع.. ولكن دعوها تتحسن واتركوها فقط اليوم على الأقل.

– انا سأتحدث معها امي.
دمدم صفوان بتجهم لتهمس امه بانهاك:
– هي نائمة.. كانت منهارة فاتركها اليوم يا صفوان.. وغدًا انا من ستتحدث معها.

نهض صفوان عن الاريكة، قائلا بهدوء:
– حسنًا امي، لآجلك فقط.. انا سأغادر الان.. يجب ان ارى الاطفال فآيات لن تتمكن من الاعتناء بهم لوحدها.

اومأت اميرة ودموعها تتكدس مرة اخرى بتحسر في مآقيها بينما يغادر صفوان بعد ان قبّل جبينها..

————————–
يتبع..

لم تظهر بعد كل الشخصيات الرئيسية.. ما زال “ساري” لم يظهر بعد والذي تعرفونه من الاقتباسات التي انزلتها مسبقًا وغيره العديد..

error: