رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش

الفصل الحادي عشر
لن أكرر كلماتي أكثر..
فمعك الكره كلما يكبر..
وأفعالك كلّما تنحر…
لن اشكو بعد الآن جفاؤك..
ولن اتوسل رحمتك..
انت إخترت طريقك..
فلي سبيلي ولك سبيلك..
ولتنعم بعيدًا عني
بأنفاسك وأفعالك..
———————-
إبتسمت وهج بحنو وهي تمرّر يدها على شعره الأملس بنعومة.. ينام صفوان واضعًا رأسه في حجرها بينما هي تتأمله بعمقٍ لأول مرة ودون خجل.. فهو في عالم آخر كليًا في هذه اللحظة، غير واعيًا على نظراتها التي تتوسمه بإعجاب جلي..
لقد تحدثا كثيرًا طيلة اليوم عن عدة أمور وكان هو المتحكم الذي يسألها ليكتشف كل شبرٍ بحياتها الشخصية قبل ان تصير زوجته.. ولم يستنبط من شخصيتها اي شيء عدا انها كتلة براءة وهبها الله له..بالرغم من أن حديثهما طال لساعات الا انه لم يخلو ابدًا من مداعباته الغزلية التي كانت تجعلها تحمر خجلًا في حين يضحك هو برجولة أوجعت هدير فؤادها..
هزت وهج رأسها بلهاث وهي تتذكر كلماته الخشنة لها عن منحها ملكية أسمها لأحد غيره..
“لا أحد غيري يحق له ان يناديكِ وهجي.. لا ابن ولا أم… انا فقط من يحق له لأنك بجسدك وأسمك لي وحدي.. وهج صفوان الفهدي”ازدرمت وهج ريقها وطبلة فؤادها التي تطرق تكاد ان تصم أذنيها.. بأنامل مرتجفة انعطفت وهج لتلمس وجه صفوان برقة شديدة وكأنها في عملية إستكشافية.. جبينه العريض.. حاجبيه الثخينين.. رموشه الكثيفة بشكلٍ غريب.. وجنتيه الخشنتين.. أنفه الطويل.. وشعيرات ذقنه الطويلة بعض الشيء.. واخيرًا.. شفتيه المزمومتين..

ازداد ارتجاف يدها كما ازدادت وتيرة انفاسها.. تلهث وكأنها قطع من البازل المبعثرة واذا لم تسرع وتلملم نفسها ستُعاقب.. وهذا كان إحساسها تمامًا لذا بتوتر شديد أبعدت يدها وهي تدعو الله ان لا يستيقظ صفوان في هذه اللحظة فيكتشف ما كانت تفعل وبالتالي تضع نفسها في موقف محرج مخجل..

زفرت وهج بإرتياح حينما وجدته لا يزال نائمًا.. ثم بعبث طفولي امسكت شعرة من شعر صفوان لتقيس طولها بتركيز.. ودون قصدٍ شدّتها ليتململ صفوان ويفتح عينيه بنعاس فحدقت وهج به بتوتر وخجل.. إبتسم صفوان بخبث وسألها بصوت ثقيل اثر النعاس:
– ماذا فعلتِ بي بينما انا نائم؟

– لا شيء سيء.
اجابت وهج ببلاهة فرفع صفوان رأسه وإعتدل جالسًا ثم قال بمكر:
– أعرف انكِ لم ولن تفعلي لي اي شيء سيء.. ولكنني قلق من ان تكوني قد استغللتِ عدم وعيي لما حولي لتسرقي مني بعض القبلات.

تخضبت وجنتاها وهي تهتف بصدق بريء:
– لا والله لم أفعل.

ضحك صفوان ملئ شدقيه ثم غمغم بإستمتاع وهو يجذبها من يدها برفق ليضمها الى صدره:
– اذًا بعض اللمسات والتأملات.

احمر وجهها اكثر وهي تدس وجهها في صدره بحرجٍ ليبتسم صفوان بعذوبة ثم يشاكسها القول:
– هذه خسارة حقًا.. لقد ظننت انني سأستيقظ على قبلة وفي نهاية الأمر اعرف انك فقط كنت تتأملينني وتمرّرين يديك بنعومة على وجهي وشعري.

ضحكت وهج بنعومة ثم رفعت رأسها بخجلٍ وقبّلته على خدّه لتتسع إبتسامة صفوان الشقية..
– واحدة أخرى ولكن على مكانها الصحيح.

أسبلت وهج أهدابها وبإنصياع خجول أحاطت وجنته بيدها قبل ان تقبّله بحب.. وخلال ثوان قصيرة كان صفوان يحيط مؤخرة رأسها بيده ويبادلها القبلة بشوق وحب شديد..
وبعد ان عتق ثغرها من قبلته التائقة همس:
– هكذا يجب ان استيقظ كل يوم.. فقط بقبلة من شفتيك.

إبتسمت وهج بخجل:
– هكذا سأفعل اذًا.. والآن حرّرني لأعدّ لك كوبًا من الشاي.

قال صفوان بعبث:
– لا أريد اي شيء سوى ان اشبع منك بما ان محمود وادهم ليسا هنا.

– غدًا سيعودان حبيبا وهجهما.
غمغمت وهج بإبتسامة لتغيظه فمال عليها برأسه ليتطلع الى أغوار عينيها بينما يسألها:
– هل انتِ جاهزة لتحمل نتيجة كسر قاعدتي الهامة؟

اومأت وهج بإنصياع طفولي ليقهقه صفوان قبل ان يحملها فجأة ويسير تجاه غرفتهما ليغدقها بعاطفته..

*****************
عقدت خنساء ذراعيها بغضب على صدرها وهي تضرب بقدمها الأرض بعصبية شديدة.. كل الفوضى التي تسبّب بها قسورة لا زالت كما هي.. لم تنظفها بقصدٍ كي تغيظه.. يهددها انه سيكسر قدميها اذا خرجت من المنزل.. ليفعل وحينها ستصبح المرأة التي قتلت زوجها..

رمقت بقايا الأوراق المبعثرة على السرير والأرض بتحسر ليتفاقم غيظها منه اكثر.. لا زالت مترددة اذا ترضخ لأوامره وتهديداته وتبقى في المنزل ام تخرج وتلقي بكلماته عرض الحائط.. ولكنها للحق خائفة ان تفعل فيعود قسورة القاسي نفسه الذي منعها من الهروب بطريقة عنيفة لن تنساها ابدًا..

زفرت خنساء بضيق وهي تشعر ان ليست لديها اي رغبة لفعل اي شيء عدا ان تعرف ما الذي سيفعله قسورة بأمينة وعزيز.. ولكن أيّ كان ما سيفعله ليفعله امامها حتى تتشفى بهما كما تشاء.. كل ما يهمها هو الانتقام من الحقيرة أمينة التي تريد سرقة زوجها منها.. لو انها ليست بحامل لكانت مزّقت لها وجهها ونهشت جلدها نهشًا..

إنتبهت خنساء الى صوت الباب الذي فُتح فأدركت انه قسورة لتقرر تجاهله بشكل تام.. ولكن ماذا عن فضولها لتعرف ماذا فعل بهما؟! سمعت صوته يناديها فتمددت على السرير ببرود لا يتلاءم مع سخطها وحقدها.. لم ترد عليه لتعلو نبرة صوته وهو يهتف بأسمها لتبتسم بشر وتتمتم:
– ليفكر انني خرجت من المنزل ويفقد عقله.

طمست شهقتها بحلقها عندما فتح قسورة باب غرفتهما بعنف ودلف بتوجس ليتأكد من عدم خروجها وحينما رأى الفوضى العارمة في الغرفة وخنساء تنظر امامها وكأن ليس له أي وجود قال بغضب:
– لماذا لم تردي عليّ؟ ألم أُنادي عليك؟ ثم ما هذه الفوضى؟

رفعت خنساء دثار السرير لتغطي به وجهها بإستفزاز ليكز قسورة على أسنانه وبحركة عنيفة أبعد الدثار عنها لتصيح بحدة:
– هل ستتشاجر مع الدثار الآن لأنني أشعر بالبرد؟

– آجل.
رد قسورة بتحدي قبل ان يرفعها بخشونة عن السرير ويردف:
– من الجيد انكِ سمعتِ الكلمة ولم تخالفي امري والا كنت حقًا سأقتلك.. والآن هيّا نظفي الغرفة.

رفعت خنساء حاجبها بسخرية وقالت:
– لا بد انك تتوهم او تحلم.. اليس كذلك؟ لن أُنظف الفوضى التي تسببتَ بها انتَ مهما حدث.. وانا اساسًا أحب ان اتواجد بمكان فوضوي غير نظيف لذلك ليست لدي مشكلة ابدًا بالبقاء لأسبوع بهذه الغرفة.

– ولكن انا لدي.. ويجب ان تنظفي.
هتف قسورة بجدية لتقول خنساء بعناد:
– لن أفعل.. لن أفعل يا قسور وأريد ان أرى ما الذي ستفعله.

زفر قسورة بعصبية لتربت خنساء بيدها على صدره، هامسة بتشجيع ساخر:
– لا بأس حبيبي.. ستعتاد قريبًا جدًا وستتعايش بسهولة مع أماكن بهذا الوضع الجميل.

أمسك قسورة يدها بغضب وقرّبها منه بحركة سريعة ليرتطم صدرها بصدره الضخم ثم هتف:
– هل تستفزينني يا لبؤة وانتِ تعرفين الى ما سيؤول اليه غضبي منك؟

إبتسمت خنساء بمكر وهي ترفع يدها الحرّة لتلّفها حول عنقه ثم همست بشراسة وهي تتطلع الى عينيه دون أن ترمش:
– بالتأكيد أعرف وهكذا سأجد عدّة مبرّرات أشوّه بها أسمك أمام جدي وعائلتي.
وببراءة مزيفة أنزلت نظرها وتابعت:
– خاصةً وإنني حامل، اي مسكينة والجميع سيشفق عليّ حبيبي.

هز قسورة رأسه بتعابير مبهمة قبل ان تشعر به يرفع ذراعها التي كانت أسيرة قبضته ويضعها هي الأخرى حول عنقه فرفعت خنساء عينيها لتنظر له بخبثٍ ودهاء.. إرتسمت على ثغرها إبتسامة شيطانية لم يغفل قسورة عنها حينما وضع يديه على خصرها فهمس لها بنبرة خافتة تحمل في طياتها الكثير:
– على ما يبدو انكِ تشتاقين لي كثيرًا يا زوجتي وتعشقين لمساتي لكِ.

– طبعًا حبيبي.. ألستَ زوجي ووالد طفلي الذي أحمله؟
غمغمت خنساء بنعومة فإبتسم قسورة بغموض قبل ان تشعر به يقبّلها بشغفٍ لتبادله بذات الشغف.. وقبل ان تهم بالإبتعاد عنه كان قسورة يفصل قبلتهما ويقول بصوت اجش دون ان يحرّر جسدها:
– نظّفي الغرفة وسأكمل ما بدأته.

تعرف انه قصد ان يهينها.. تعرف ذلك جيدًا ولا تتمنى سوى تشويه وجهه لأنه سبقها بخطوة وفهم افكارها ليستغلها لصالحه.. تبًّا له ولها.. لن تدعه يفعل.. ليس بعد ما فعله بها صباح اليوم..
رشقته خنساء بنظرات قاتلة وزمجرت:
– لن أنظف واذا كنتَ ترغب لتكمل ما بدأته فنظّف بنفسك.. ومن الأساس انا لن أبقى كثير هنا لأنني سأغادر واشكوك لجدي.

لدهشتها وجدته يضحك بشدة فإستشاطت أوصالها غضبًا وهدرت:
– لماذا تضحك كالمجانين؟

هدأت تدريجيًا ضحكة قسورة وهو يسألها بخبثٍ:
– كان بإمكانك الذهاب طيلة اليوم لجدي حتى تقدمين شكوتك التافهة له الا إنك لم تفعلي.. فماذا اقول عنك، خائفة من تهديدي ام انك لا تستطيعين الإبتعاد عني يا خُناس؟

– قُل ما تشاء.. لا يهمني.
ردت خنساء بتجهم فإبتسم قسورة وقال:
– مممم أعتقد انكِ بقيتِ بدافع الفضول لتعرفي ما الذي فعلته مع اعداءنا.

لم تتحكم خنساء بعينيها اللتين ارتفعتا بفضول لتنظر اليه فقهقه قسورة قبل ان يحملها فجأة وينزل بها الى الأسفل..
– سأخبركِ اذا رأيت الغرفة نظيفة فقط.

الحقير يفهمها أكثر مما يجب.. ولكن ليذهب هو وفضولها الى الجحيم.. لن تتنازل ابدًا..
– لا اريد ان أعرف ولا يهمني.

لم تنقشع الإبتسامة عن ثغره وهو ينزلها بجانب المطبخ، قائلًا:
– حسنٌ.. سأتركك تفكرين ريثما أعود وبعد ذلك سنقرر.
وبإبتسامة ازدادت التواءًا وعجرفة مال قسورة ليقبلها مرة أخرى ثم تركها وغادر بينما ملامحه تقسو رويدًا رويدًا بأفكار مجهولة..

*****************
لم ينبس ببنت شفة وهو يراها شاردة ساهمة منذ ان عادت والدته من قبيلتها.. لا يعرف ماهيّة مشاعره تحديدًا نحوها في هذه اللحظة.. فأفكار عديدة تعبث بعقله الا انه يحاول ان يقصيها جانبًا كي لا يثور ويؤذيها اكثر وخاصةً تلك الفكرة التي تكاد تقضي عليه.. انها قد تكون تفكر بأحمد وتتحسر على انتهاء ما بينهما كليًا.. ولكن على ما يبدو انه لا يعرف بحقد ياقوت التي قد تفكر بأي شيء في هذه اللحظة عدا الرثاء والتحسّر على أحمد.. فإذا كانت سترثي احدًا بالتأكيد ليس سوى نفسها.. فقط نفسها..

أحسّت ياقوت فجأة بيده تتمرّر على شعرها فرفعت رأسها ببرود وقالت:
– نعم سيد ساري؟

– بماذا تفكرين؟
سألها ساري بعصبية غير واضحة فأجابت ياقوت بتهكم:
– لا تقلق.. لن أفكّر برجلٍ غيرك.
ثم نهضت ليمسك يدها ويقول بصوت خشن:
– لن تقدري من الأساس لأنني لن أسمح لكِ.

إبتسمت ياقوت بسخرية دون ان ترد فرفع ساري رأسها وأردف بتساؤل:
– ما الذي دار بينكِ وبين والدتك حتى تبقين طيلة اليوم واجمة بشرود؟

توسعت عيناها وهي تهدر بغضب:
– لا تتدخل بما لا يخصك.

إبتسم ساري بقسوة وهو يهتف بنبرة متملكة:
– بل يخصني بما انه يتبع لك.. كل ما يمت لك بصلة يخصني يا ياقوت.

مدّت ياقوت يدها ووضعتها على جانب صدره الأيسر حيث قلبه الذي ينبض بهدوء ثم بإستهزاء قالت:
– اريد ان اعرف فقط بماذا يفكر هذا الحجر لتقول انني أخصك بينما أجد نفسي بعيدة كليًّا عنك.

ضغط ساري على يدها الراقدة على صدره وهمس بينما يتفرس النظر بها:
– انا اجدك أقرب من حبل الوريد اليّ.. لا أجدك بعيدة اطلاقًا.. فها انتِ هنا.. في منزلي.. في جناحي.. امام نظري وتحت امري.

وقبل ان ترد عليه كان يرفع وجهها ويقبّلها بخشونة.. قبلة طويلة تخبرها انها بكل ما بها تخصه.. وانه أوشم كل خلية نابضة في جسدها بأسمه..
لم ترضخ ياقوت هذه المرة لقبلته المتملكة بل اخذت تقاومه بقوة.. لن تستلم له مجددًا.. لا يحق له ان يلمسها دون رغبتها.. قضمت شفته السفلى بعنف ليبعدها ساري عنه بصراخ:
– ما خطبك يا مجنونة؟

صاحت ياقوت بلهاث وعناد:
– لا اريدك ان تلمسني.. لا ارديك ان تقترب مني.. هل تفهم؟

قبض ساري على ذراعها واخذ يهزها بقوة بينما يهتف بعنفوان:
– انا زوجك.. يحق لي ان المسك كيفما اشاء.. ولا احد يحق له منعي.. حتى انتِ لا يحق لك منعي.

توحشت ملامحها دون اي خوف وهي تقول بغضب:
– لماذا لا تفهم انني لا أطيقك؟ انا اكرهك كما اكره الجميع واكره نفسي ايضًا.. فقط إبتعد عني ودعني وشأني.

– لن ابتعد ابدًا.. لا يحق لك ان تبعديني عنك.. ويجب ان تعتادي على الإستسلام لي دون اي مقاومة خرقاء لن تزيد سوى من عذابك.
قال ساري بحزم وهو يجذبها الى صدره بخشونة فغمغمت ياقوت بإختناق:
– لن افعل ابدًا.. لن استسلم لك فأنا لستُ جارية او عبدة حتى اتنازل بهذه السهولة عن حقي.. انا اريد الإنتقام منكم جميعًا لأنكم تسببتم لي بهذا الأذى الذي لن يتحمله احدًا غيري.

إستغربت النظرة الحانية التي ومضت في حدقتيه وهو يرفع وجهها اليه قبل ان يهمس:
– يحقّ لكِ.. إنتقمي من الجميع واثأري لأوجاعك.

– سأفعل وسأنتقم منك انتَ ايضًا فلا تظن انك لستَ ضمن القائمة السوداء.
غمغمت ياقوت ليبتسم ساري بحنو مفاجئ:
– إفعلي اذًا.. ولكن انا حقًا ارغب بمعرفة كيف ستنتقمين مني يا صغيرة.

شعت عيناها بنظرة متحدية متوعدة وقالت:
– كل شيء في وقته جميل.

همهم ساري وهو يقرّبها الى صدره ليقبّلها برقة شدة اثارت دهشتها.. لم تقاومه وهي تسمعه يهمس من بين قبلتهما الغريبة:
– انتِ غريبة.. نادرة كالألماس.. طفلة قوية.. تعصف بي.. بهيجان بحرها.

وبلحظة خائنة ضعيفة وبحاجة عارمة للإحتواء والحنان استسلمت ياقوت له.. وحرّرت روح الطفلة الحزينة التي تناجي بأعماقها لتستسلم له بلهفة كبيرة للحب والإحتواء التي خسرتهما منذ فترة طويلة كانت تحس خلالها فقط بالغربة.. وكأنها دون وطن ودون أهل..

*****************
ظهر التردد على وجه حسناء رغمًا عنها بعد ان طرح أيهم تحية الصباح.. وبعد لحظات قليلة ردت التحية ولم تُخفى على أيهم الأفكار التي تحوم برأسها..
جلس أيهم يفطر بهدوء وهو يراقبها بإهتمام لم يخجل في إظهاره وهو يتأملها بنظرات أربكتها لتغمغم:
– الحمد لله، لقد شبعت.. سأذهب لترتيب الغرفة.

لم ترى حسناء الإيماءة البسيطة التي صدرت منه بل نهضت بسرعة لتهرب من نظراته التي تربكها.. لا تود ان تتعاطف معه وتنسى بسهولة كيف تصرف معها البارحة لأنها طلبت منه فقط ان يوصلها بطريقه الى منزل أهلها.. يقلقها كثيرًا كون أيهم رجل متقلب المزاج.. فتارةً يجافيها بمعاملته ويقسو وتارةً اخرى يغدقها بشغف عشقه وحنانه..

بعد ان عاد البارحة من عمله مع قسورة الذي اخبرها عنه لم تنبس ببنت شفّة.. وضعت له الطعام على خشبة الأرض وتركته يأكل لوحده وفضلت ان تنشغل بحياكة الوشاح الذي تريد ان تهديه له.. وقبل ان يدخل غرفتهما على عكس عادتها كانت تسبقه بالنوم لتتحاشى ايّ كلام من الممكن ان يُدار بينهما..

انتبهت فجأة لدخوله الى غرفتهما فسألته بإقتضاب:
– هل تحتاج الى شيء ما؟

تطلع أيهم اليها ببرود وقال:
– سأخذك الى منزل أهلك فجهزي نفسك.

اومأت حسناء:
– سأفعل.. انتظر قليلًا فقط.

– لا تعتقدي انك ستنامين هناك فأنا سأعيدك في المساء.
قال ايهم قبل ان يستدير ويخرج فزمت حسناء شفتيها بغضب وفضّلت ان تتجاهل الرد عليه.. فليست لديها اي طاقة حاليًا حتى تتشاجر معه.. وبعد عدة دقائق خرجت حسناء من غرفتهما بحجابها وجلبابها فهتف ايهم ببرود:
– غطّي وجهك.

تأففت حسناء وهي تجاهد لتتحكم بأعصابها كي لا تثور عليه وتفقد ما تبقى من عقلها.. نفّذت ما قاله ثم بسرعة وضبت الطعام مكان أيهم ليردف ايهم بجفاء مغيظ:
– هيّا اسرعي.

إحتقن وجه حسناء بغضب شديد فهدرت بعصبية:
– لا تضغط عليّ لو سمحتَ لأنهي ما أفعله بسرعة.

تجاهلها ايهم وهو يستدير ليجلس على المقعد الخشبي فإستشاطت حسناء غيظًا وتمتمت:
– متكبر.. بدلًا ان يعتذر مني يغيظني.

– اذا كان هناك شخص عليه الإعتذار فهو انت حسناء.. ومن الأفضل ان ابقى هكذا كي لا أضايقك بما سافعله لأنني بالكاد اسيطر على غضبي منذ فترة.
هتف ايهم بنبرة حادة مبهمة بمعانيها فرفعت حسناء الغطاء عن وجهها وإقتربت منه بعد ان انتهت من التوضيب..
– لماذا عليّ ان اعتذر سيد أيهم؟ منذ ان تزوجنا وانا احاول فعل المستحيل لأرضيك ولكنك كل ساعة بعقلٍ مختلف وعلى ما يبدو انك تريد ان تفقدني عقلي معك.

اطلقت آهة من حنجرتها حينما قبض أيهم على مرفقها وجذبها بخشونة نحو غرفة نومهما.. صرخت حسناء بألم وهو يلقيها على الفراش قبل ان تتفاجأ به يعبث بالخزانة الكبيرة وخاصةً بالجزء التابع لها لتبتلع ريقها وتسأله بتوجس:
– ماذا تفعل يا أيهم؟

رشقها بنظرة شرسة لتنكمش على نفسها وقد ادركت مدى غباءها.. تأوهت حسناء وهي تنظر الى العقد الذهبي الذي يحمل أسم أمين زوجها السابق والذي رماه عليها أيهم.. رفعت رأسها لتشعر بشيء آخر يُرمى على وجهها فأنزلته عن وجهها لتتطلع بجمود الى سترة أمين السابقة بينما أيهم يصيح بها بغيرة واضحة:
– كيف تحتفظين بهذه الأشياء في حين انتِ زوجتي أنا؟ لا يحق لكِ التفكير برجل غيري.. لا يحق لك ان تحتفظي بأشياؤه فقد مات.. أمين مات إفهمي يا حسناء وانتِ الآن زوجتي انا.

إنهمرت دموعها على وجهها بحزنٍ فهي تتفهم حب وغيرة أيهم عليها ولكن لا يحق له ان يلومها.. لا يحق له فأمين كان زوجها قبله..
أغمضت عينيها بآسى على حالها حينما رفعها أيهم بعصبية وزمجر:
– لقد كنتِ تكذبين عليّ.. قلتِ انك ستبدأين حياة جديدة معي بعيدًا عن ماضيكِ اللعين الذي كان مع رجل غيري.. تغاضيت برجولة مكسورة وقلب موجوع عن مناجاتك بأسم أمين وانتِ في حضني.. ولكن ان أكتشف انك تحتفظين بما يذكرك به ويساعدك على تحمُّل فراقه فهذا ما لن أسمح به ابدًا.

ضغط أيهم على ذراعها بقوة وهو يهدر بإحتدام:
– تخيّلي فقط ان انام بين ذراعيك وانا أردّد اسم امرأة غيري.. تخيّلي يا حسناء.

– انا آسفة.
همست حسناء بإختناق ودموعها تفيض كالنهر على خدّيها معلنة عن هزيمتها التّامة لأي ما سيفعله بها..
دفعها أيهم بحدة وهو يهتف بإنكسار أخفاه بقسوة:
– لن اسمح لك يا حسناء بتكرار هذه الأخطاء الفادحة بحقي.. انا فقط زوجك.. انا فقط من يحق لك التفكير به ومنحه كل مشاعرك.

تنهدت حسناء وهي ترد ببعض التفهم:
– امين كان زوجي.. لا يحق لك معاتبتي.

هز ايهم رأسه بشرٍ لا يناسبه وهو يلتقط سترة أيهم ويمزّقها امام نظراتها الصامتة ثم فعل المثل مع العقد الذهبي لتستدير حسناء وتوليه ظهرها، قائلة:
– انا لا اريد الذهاب لأي مكان.. بإمكانك ان تغادر الى عملك.

*****************
منذ تلك الليلة البائسة وأحمد يتجاهلها.. يقضى معظم وقته خارج المنزل، تاركًا اياها لوحدها.. لم تسأله الى أين يذهب او لماذا يتركها لوحدها بهذا الإهمال.. ولن تفعل فهي مرتاحة جدًا ببعده عنه.. لا تريد منه اي شيء سوى تركها لوحدها.. تعرفت على العديد من نساء قبيلته ومعظمهن أحبتهن.. وارتاحت كثيرًا لوالدته التي احتوتها وكأنها والدتها تمامًا ولم تقدر على لوم شقيقته خنساء وهي تعاملها بطريقة حادة فهي تعرف السبب جيدًا..

نهضت عائشة حينما سمعت صوت الباب الذي يُفتح وسارت مسرعة تجاه غرفتهما لتختفي عن انظاره.. فهي لا زالت تشعر بالخوف منه بعد ليلة زفافهما الذي كاد ان يؤذيها بها..
أغلقت عائشة باب الغرفة بتوتر ثم جلست على السرير وقلبها يخفق بصخب لا تدري سببه.. سمعت صوته الخشن يناديها فأغمضت عينيها ثم ردت بصوت مرتجف:
– قادمة.. قادمة.

اخذت عائشة نفسًا متوترًا ثم خرجت اليه لتراه متكئًا بظهره على جدار المطبخ الخارجي وتعابير وجهه توضح وهنه فسألته بتردد:
– هل انتَ بخير؟

– رأسي يؤلمني.. أشعر بصداع لا يُطاق.
قال أحمد وهو يضغط بيده على رأسه بقوة فزفرت عائشة وغمغمت:
– إذهب وتمدد على السرير.. بالتأكيد رأسك يؤلمك بسبب قلّة النوم.

– تعالي معي لتدلّكي لي رأسي وبعد ذلك سأنام.
قال أحمد وهو ينظر اليها بتركيز لتومئ عائشة موافقة بتوجس فأمسكها أحمد من يدها وسحبها خلفه لتضطرب وتيرة أنفاسها بصوت مسموع..
أجلسها على السرير ثم جلس هو الآخر ووضع رأسه في حجرها بينما يهمس:
– دلّكي لي رأسي ولا تسرحي بخيالك بعيدًا.. فلو ان رأسي لا يؤلمني لما اقتربت منك ابدًا ولكن للضرورة أحكام.

إسترطت عائشة غصتها المريرة وهي تفكر بالحال الذي آلت اليه.. متزوجة من رجل لا تحبه ولا يحبها.. ويا ليته فقط لا يحبها بل يحب زوجة شقيقها ويكره عائلتها ويعتبرها عدوته.. تنهدت ثم بدأت بتدليك رأسه بخفة وهي تتطلع أمامها بشرود ليقول أحمد بغيظ:
– طلبت منك ان تدلكي لي رأسي يا عائشة لا ان تضعي يدك على رأسي فقط.

حدجته عائشة بنظرة حانقة مرتبكة.. كان قريبًا للغاية منها.. قريبًا بشكل اخافها.. يتطلع اليها بعينيه الخضراوين الجميلتين بينما أنفاسه تلفح وجهها.. وهي تائهة لا تعرف ماذا تفعل بموقف كهذا..
رفرفت برموشها قليلًا تبعد عنها التوتر ثم دلّكت له رأسه بيدين ماهرتين وهي تجاهد لتتجاهل نظراته التي تتأمل كل انش من وجهها..

لم تكن عائشة انثى فائقة الجمال.. ولكنها جميلة ولا يمكن الإنكار.. ملامحها تتسم بالنعومة الشديدة.. ببشرة حنطية وعينين بلون البندق.. أنفها صغير ذو رفعة عنجهية جذابة.. وشفتيها مُمتلئتين مرسومتين بدقة.. بينما شعرها طويل وناعم كالحرير بلون بني يميل الى الأحمر الغامق..

كانت عائشة واعية الى نظراته التي تتأملها فقالت بعصبية نتيجة توترها:
– اريد ان ازور أهلي غدًا.

– لا!
رد أحمد ببساطة فتطلعت عائلشة اليه برعب من فكرة انه قد يمنعها عن أهلها.. وتوقفت يداها عن عملها وهي تغمغم بخوف:
– لماذا؟ انتَ لن تحرمني من أهلي.

– تابعي عملك كي أتابع حديثي معك.
قال أحمد بهدوء فإسترسلت بتدليكها لرأسه وهي تسأله بقلق:
– لماذا لا تريدني ان ازور اهلي؟

– لأنني لا ارغب يا عائشة.. لم يمرّ اسبوع على زفافنا حتى ترغبين بزيارة اهلك.
اجاب أحمد ببرود فهمست عائشة بحزن:
– ولكنني إشتقت الى والدتي وأحتاجها.

زفر أحمد وهتف:
– لا عائشة.. لا.

دفعت عائشة رأسه بغضب وهدرت:
– انت لا تريدني ان ازورهم متعمدًا ولكنني سأذهب فأنا سبق وأخبرتك انني لست قربانًا تنفث به عن غضبك بسبب ما حدث معك.

بحركة سريعًا كان احمد ينهض ويضع يده على فمها بخشونة بينما يهتف بحدة:
– لا تصرّخي.. اكثر ما أكرهه هو الصوت العالٍ.. فكّري بالطريقة التي تريدينها لا يهمني.. وعليكِ معرفة انني لن أغفر لك اي خطا.. انا سأصطاد لك الأخطاء لأعاقبك عليها يا عائشة.

إبتسمت عائشة بإستهزاء وقالت:
– أتوقع منك اي شيء بعد كل الجبن الذي تصرفتَ به امام رجال القبائل.

تأوهت عائشة وهو يمسك شعرها بعنف، مزمجرًا:
– جبان.. انا جبان يا عائشة؟

– آجل جبان وعديم الرجو…
لم يسمح لها لتكمل عبارتها وهو يدفعها بخشونة على الفراش، مقيّدًا جسدها بثقل جسده بينما يقبّلها بقوة.. افكار شيطانية كانت تعصف برأسه في حين عائشة تقاومه ببكاء ورعب عسى ان يبتعد عنها.. ولكن.. كان وكأن شيطانًا يحرّكه وقد سلب منه عقله ليهاجم براءتها ويغتالها بهذه الطريقة التي سيندم عليها لاحقًا ندمًا شديدًا..

*****************
في صباح اليوم التالي..
زفرت ياقوت بضيق شديد وهي تشعر بيدي ساري على خصرها تقرّبها منه بخشونة ليتنشق عبيرها بإنتشاء قبل ان يرفع جسدها ويضعها فوق ظهر حصانه الأسود.. وخلال ثوانٍ معدودة كان ساري وراءها يضمها الى صدره بقوة تملكية واضحة بينما يهمس بصوت أجش:
– سأخذك برحلة طويلة، تجعلكِ تنسين نفسك حتى.

إبتسمت ياقوت بتهكم:
– انسى نفسي!! يا ليتها تكون آخر رحلة لنا معًا.

ادار ساري وجهها اليه بنعومة وبقصدٍ رسّخ حدقتيه بعينيها الهائجتين بينما يقول بنبرة مشتعلة:
– أعدك انها لن تكون.. رحلاتنا معًا لن تُحصى يا امرأة ساري العرّابي.

حدجته ياقوت بنظرات كارهة ليبتسم لها ساري بغموض قبل ان يضمها بقوة اكبر الى صدره ويرفع لجام الحصان ويضربه بخفة حتى يعدو ببطء..
لم تلقي ياقوت اي ذرة اهتمام لفضولها كي تسأله الى اين سيأخذها.. فجلّ ما تريده هو كسره.. الإنتقام منه.. وحرقه بأسيد حقدها.. وربما تفعل في أقرب وقت وتلسعه بسيّاط غضبها كما تعزم ان تفعل مع أحمد الفهدي..

جاهدت ياقوت لتقصي فكرة القفز عن الحصان والهروب من قيده الذي يخنقها.. فإلى اين ستذهب اذا هربت منه؟ قبيلتها التي تخلت عنها أم الى قبيلته هو؟ هزت رأسها بلا المطعونة فسألها ساري بصوت عميق:
– بماذا تفكرين؟

– بضربك!
ردت ياقوت بتهكم دون ان ترفع رأسها لتعرف اين وصلا فهذا الأمر لا يهمها البتّة..
أوقف ساري الحصان الذي كان يسير بين الأشجار ثم نزل وساعدها لتنزل.. إنتظرت ياقوت رده على جوابها فلم يتأخر كثيرًا وهو يهتف بخشونة لم تؤثر بها البتّة:
– أخبرتك مسبقًا ان توفري احلامك للفهداويات التي تكون منهن قريبتك خنساء الوقحة.. إحلمي فقط بما تقدرين عليه يا ياقوت.

– لا تجلب أسم خنساء على لسانك.
صاحت ياقوت بعصبية ثم رفعت يدها لتدفعه بكرهٍ الا انه سبقها وهو يكبّل يديها الاثنتين بقوة خلف ظهرها..
– لا تدفعيني الى ما قد تندمين عليه لاحقًا حتى لا اضطر ان اعيدك الى جناحنا وأنسى هذه الرحلة كليًا لأعود ذاك الشخص الذي تشتاقينه على ما يبدو.

– اكرهك بكل ما فيك يا ساري العرّابي.
هدرت ياقوت بإشمئزاز فهز ساري رأسه للحظات قبل ان يقول بصوت مرعب:
– لا بأس اذًا لنعود ادراجنا بما اننا لم نقطع الا ربع مسافة الطريق.. وإكرهيني كما ترغبين فسأزيد من كرهك لي حتى أقمعه من أعماقك بنفسي يا ياقوت ساري العرّابي.

وبالفعل حملها ساري مرة اخرى ووضعها على ظهر الحصان ليتبعها هو الأخر ثم انطلق بحصانه ليعود الى قبيلة العرّابي بينما ياقوت تتطلع أمامها بجمود.. كل ما تريده هو ان تكون بعيدة عنه بعد استسلامها المخزي له.. لم تأبه اطلاقًا بيده التي كانت تضغط بخشونة على خصرها.. بل تجاهلتها كليًا وكأنه حرة طليقة بينما تسمع هسيس انفاس ساري الغاضبة بإستهزاء..

بعد ان وصلا الى القبيلة وأوقف ساري حصانه سبقته ياقوت وهي تنزل دون مساعدته فإستشرس حقده أكثر ليقبض على يدها بعنف ويهمس بوعيد:
– انتِ لا تحبين الجانب اللطيف مني.. لا ينفع معكِ الا الجانب الآخر.

إبتسمت ياقوت بإستفزاز وهي تقول:
– هذه صحيح.. انا لا احب الا الجانب الحقيقي منك لا الجانب المزيف الذي تتظاهر به.

وبخشونة سحبت يدها منه وهي تدخل الى المنزل لتتفاجأ بعمّات ساري وخالاته اللواتي يتحدثن مع والدته.. القت تحية السلام ببرود ثم إستدارت لتصعد الى جناحهما فمنعها ساري وهو يجذبها وراءه..
– لنسلّم على عماتي وخالاتي قبل ان نصعد.

– وماذا عن جدتك؟
تمتمت جدته بتبرم فإبتسم ساري لها بحب ثم انحنى يقبّل يدها لتربت على رأسه بإبتسامة سعيدة ثم تطلعت الى ياقوت ومدت يدها لها بترفع..
ارتسمت ابتسامة ساخرة على ثغر ياقوت ثم رفعت يد الجدة ووضعت انفها على يدها وكأنها تقبلها..

قالت احدى عمّات ساري التي تكره ياقوت كرهًا شديدًا:
– زوجتك هذه لا تعجبنا يا ساري واخشى ان تكون تعاني من اعاقة ما فهي حتى الآن لم تحمل مع انكما متزوجان منذ فترة طويلة بعض الشيء.. لذلك انا اقترح عليكَ ان تتزوج واحدة من نساء قبيلتنا تفخر على الأقل بذريتك منها.

 

error: