رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش
الفصل التالت
ملاحقة نظراتك..
أمست عيني لا تغفو
الا بعد تشبعها بملامحك..
صرتُ منكِ أهفو
واليكِ اشكو جفاءك..
بالله عليك يا امرأة
في محرابي ترعرعت، الا
تحبينني وانا الدمع برمشك؟——————
احساس غريب يراودها.. تحس بعدم الراحة وكأنها مقيدة بشيء ضخم.. حاولت ان تسترسل بنومها ولكن الأنفاس الدافئة التي تلامس عنقها لم تسمح لها.. ففتحت عينيها لتستوعب ببطء اين هي وبحضن من! تخضبت وجنتيها لا اراديًا وهي تراه يتأملها بنظراتٍ غريبة.. لا تشبه نظرات قسورة التي اعتادتها منه.. نظرة ناعمة ولكن متأملة وكأنها تغزو اسوارها لتستنبط خباياها..– صباح مبارك لك يا عروس.
همس قسورة بصوتٍ هادئ وهو يلثم جبينها فعقدت حاجبيها بضيق وقالت بجفاء:
– صباح.. ابتعد عني لأنهض.ابتسم قسورة بمكر وهو يقرّبها منه أكثر:
– أهكذا تعامل العروس زوجها في أول أيامهما؟– أنا مميزة.
دمدمت بغرور فقهقه بصوتٍ عالٍ وغمغم بتأييد:
– مميزة جدًا.. ولكن بلسانك الطويل!استشرى الغيظ في صدرها فحاولت ان تحرّر نفسها من ذراعيه بينما تهدر بحنق:
– لساني ليس طويلًا.. انت تعتبر الذي يدافع عن نفسه طويل اللسان.
التفت ذراعاه بقوة أكبر حول جسدها ليردع مقاومتها بالتحرر منه وهتف بهدوء:
– لن أخوض معك هذه الجدالات الان يا خنساء.. لا أريد أن أقسو عليكِ في صباحك الأول في منزلي.
سكتت خنساء فجأة ثم بدهاء أنثوي أسدلت رموشها ببراءة وهمست:
– ولكنك تقسو عليّ يا قسورة.
ابتسم قسورة فهو يفهمها أكثر مما تعتقد.. لثم طرف شفتيها بقبلة هادئة وقال بصوته الأجش:
– سأحنُّ عليكِ عندما تستحقين.
ثم استطرد وهو يبتعد عنها:
– هيّا انهضي وجهّزي نفسك قبل ان تدخل النساء عليكِ.
هزت خنساء رأسها بخجل ليبتسم قسورة بسخرية على حال تلك المرأة المتعددة الشخصيات.. نزل الى الأسفل وتوجه مباشرة الى المجلس في منزل جده فتلاحقه المباركات من رجال القبيلة قبل ان يولج الى الداخل معلنًا عن تحية السلام.. وبهدوء شديد اقترب من يد جده وقبّلها ليتطلع اليه ايمن بابتسامة صادقة:
– مبارك لك يا عريس.. هل أعجبتك حفيدتي يا أسد؟
– لا تقلق على حفيدتك طويلة اللسان.. تعجبني بكل حالاتها واذا لم تعجبني أعرف كيف أدعها تعجبني.
قال قسورة ردًا على مشاكسة جده فقهقه أيمن متناسيًا قليلة ألمه على حفيدته ياقوت بسعادته بزواج قسورة وخنساء:
– لا تضغط على حفيدتي.. أنت تعرف كم أحبها ولهذا السبب فقط كنتُ أرفض كل من يطلب يدها للزواج حتى كبرت وقررتَ انت اخيرًا الزواج.
رمق قسورة جده بنظرة متمعنة فهمها الجد فتمتم:
– لا تنظر اليّ هكذا يا أسد.
تنهد قسورة ثم هتف بجدية:
– سأبعت ثلاثة من الرجال ليتفقدوا وضع القوارب.. ثم سأمرّ على عمي حامد لأعرف اذا عاد أحمد.. فغيابه بدأ يقلقني.. وانا لم راه حتى في العرس!
مرّر الجد يده على وجهه بتعب شديد وهمس بحسرة:
– أي رجل مكانه سيفقد عقله فما بالك بأحمد الذي يحب ياقوت حقًا ولا يريد غيرها.. دعه يسرح في الطرقات عسى أن يُخفّف قهره.
– ما فعلوه لن يمرّ مرّ الكرام.. منذ متى تُقحم النساء في الانتقام!
هدر قسورة بعصبية فزفر أيمن وقال:
– دعنا ننتظر قليلًا لنعرف كيف نخطط.. لا تنسى أن يوجد أيضًا زواج شقيقك أيهم بحسناء.. ولا تنسى ان قبيلة الشهداوي تضغط علينا في التجارة وتحاول ان تعرقلنا بعدة أمور.. لم أعد اعرف كيف أفكر.
– لا بد ان تُحل هذه الأمور كلها.. لا ترهق نفسك بالتفكير يا كبيرنا.
غمغم قسورة بجدية ليومئ أيمن ويحاول ان يفكر بحل المصائب هذه..
***************
غطّت حسناء شعرها بشالٍ أسود باهت بعد أن أجبرتها والدتها لتخرج وتراه.. لم يكن بوسعها فعل أي شيء سوى الرضوخ والامتثال.. فوالدها وشقيقها صفوان ينتظرانها في الخارج أيضًا..
تقدمت حسناء بخطوات بطيئة منهم وفي يدها صينية تحمل إبريقًا من القهوة وعدة فناجين.. لم تكن خائفة أبدًا بل مقهورة حانقة.. لم تلقي أي نظرة على من سيصبح زوجها بعد أيام معدودات بل إكتفت بوضع صينية القهوة على الطاولة الخشبية وجلست بجانب والدتها..
لم ترفع حسناء عينيها عن أناملها التي شبكتهم ببعضهم في حجرها.. ملامحها تطغو عليها الجمود والهدوء وكأن تمّ نحتها باحترافية يد قاسية.. سمعت صوت والدها المغتاظ من عدم سلامها على ابن عمها:
– سلّمي على ابن عمك يا حسناء.
أغمضت حسناء عينيها وهي تحسّ بقبضة فتّاكة تعصر قلبها وتمزّق أوتارها الصوتية فزفرت ببؤس ثم همست بصوت بارد دون أن ترفع عينيها عن يديها:
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
غمغم أيهم ليضيق صدرها أكثر وتستمر بصمتها على الرغم من كونها تعرف جيدًا أنه ينظر اليها وكأن بها ما يجذبه اليها!
تابع أيهم وهو يرى صمتها:
– كيف حالك يا حسناء؟
كادت أن ترد عليه ولكن قبل أن تفعل هتف صفوان:
– إرفعي رأسك.. هذا ابن عمك وزوجك قريبًا.
عضّت على شفتها السفلى التي ترتجف.. لماذا يقسون عليها وهم يعرفون جيدًا ان غير زوجها المرحوم لن تحب ولن تتقبل.. لم تعهدهم بهذا الظلم ابدًا!
رفعت حسناء رأسها وغمغمت:
– الحمد لله بخير يا ابن العم.
تنحنح والدها، قائلًا:
– باذن الله سنبدأ بالتجهيزات للعرس ليتم كما اردتَ يا أيهم بأسرع ما يمكن.
– ان شاء الله عمي.. كل ما تريده انا جاهزٌ لأقدمه ولكن أنا أريد اتمام الزواج قريبًا جدًا.. وسأتحدث اليوم مع جدي بهذا الموضوع.. فلا أحد يعرف ماذا قد يحدث لو تأخرنا أكثر.
هتف أيهم بهدوء لتزم حسناء شفتيها وتمتلئ عينيها بالعبرات الشجية التي تحكي مدى بؤسها وقلّة حيلتها..
انتبهت لها أمها فانشطر فؤادها على حال طفلتها الأقرب منها الى قلبها.. مدّت اميرة يدها ووضعتها على كتفها لتبث بعض الدفء والقوة في روحها التي تئن كربًا.. تطلعت اليها حسناء بشبه ابتسامة ثم ردت على سؤال والدها الذي يسألها عن رأيها وكأنه لا يعرفه!
– إفعل ما تشاء أبي.. كلمتك ستُنفذ فلا تسألني عن رأيي…
***************
أغمضت ياقوت عينيها علّها تنام قليلًا دون ان تهاجمها صورة من تحبه ومن تكرهه.. أحدهما حلم والأخر كابوس.. والكابوس ابيًا ان يدعها وشأنها.. يحاصرها بكل ما به من قوة وجبروت.. سمعت صوت خطواته حينما دخل جناحهما فمثّلت انها نائمة لتتهرب منه ومن محاولته لجعلها زوجته فعلًا.. فهي لن تقدر أبدًا أن تكون ملكه وهي تكرهه حد الجنون..
دوت صاخبة خفقات قلبها حينما توسد السرير.. حبست انفاسها بصعوبة شديدة وضغطت بأناملها المرتجفة على غطاء السرير.. اعتقدت انه سيحاول الاقتراب منها مثلما حاول في اليومين الماضيين فيضطر أن يبتعد عنها بسبب انهيارها الذي أجبره أن يشفق عليها.. غريب هو.. تارةً ترى القسوة كلها موجودة به وتارةً تراه متفهمًا صبورًا..
شهقت بصوت عالٍ عندما جذبها فجأة اليه ليلتصق ظهرها بصدره واستعدت بشكلٍ سريع لتضربه وتهرب منه ولكنه همس بهدوء غريب:
– نامي يا ياقوت.. لست أملك الكثير من الوقت فيجب أن أنام لأنني سأغادر مبكرًا صباح الغد.
– الى أين؟
سألته وهي تكاد لا تصدّق سعادتها والامال والتخطيطات التي زحفت الى عقلها.. أدارها ساري إليه وأجاب بينما يتمعنها بعينين منكمشتين:
– سأغادر حتى المغرب في رحلة عمل.
– جيد.. أتمنى أن لا تعد سالمًا.
هتفت ياقوت بقوة وتحدي فابتسم ساري بسخرية وقال:
– لا تقلقي ولو كنتُ ميّتًا سأعود لكِ لأبقى معكِ.
إمتعضت ملامحها ثم اعتدلت بجلستها على السرير بعد ان سمح لها بالابتعاد عنه.. وغمغمت مستغلة هدوءه وتعبه:
– هل بامكاني البقاء في غرفة عائشة في غيابك؟
– افعلي ما تريدين ولكن لا تخرجي من المنزل.. مع إني ميقن إنك لن تقدري.
ردّ وهو يغمض عينيه فتهمس ياقوت بحقدٍ:
– نام.. نام.. عسى أن لا تنهض.
ابتسم ساري وهتف بنبرة اخافتها:
– اذا فتحت عيني الآن سأخبرك من الذي لن ينهض فنامي وإخرسي.. بعد أن تغادر الشمس سأغادر.
– لم اسألك متى ستغادر.
قالت باستفزاز ليزمجر بعصبية:
– ياقوت لا تدعيني أريكِ العجائب الآن.
ابتعدت الى اقصى السرير وأغمضت عينيها وهي تبتسم لعدّة أسباب ولكن أهمها أنه سيغادر وينشغل بأمور غيرها وبهذه الطريقة فقط ستقدر على الهروب بمساعدة عائشة.. ستعود الى قبيلتها.. ستعود لا بد!..
بعد صلاة الفجر أجبرها ساري أن تعدّ له الافطار بنفسها، دون مساعدة والدته وشقيقته.. فعلت له ما اراد ليغادر فقط..
صعدت الى جناحهما فيوقفها بصوته..
– ياقوت..
توقفت مطرحها فاقترب منها وقال بتهديد:
– اياكِ واللهو بذيلك.. لن أرحمك حينها.
– ان شاء الله.
اومأت ببرود فيستأنف:
– سأحاول أن أعود مبكرًا فكوني مطيعة وإفعلي كل ما يطلبونه منك.. لا أريد أن أسمع أي شكوى عنكِ.
– ان شاء الله.. سأصعد الآن.
غمغمت فأشار لها برأسه لتغادر..
***************
بادلت آيات الابتسامة الدافئة وهي تساعدها على الجلوس.. لولا آيات أبدًا ما كانت ستوافق على الزواج من ابن عمها صفوان ولكنها مضطرة بسبب هذه الانسانة الضعيفة التي تعتبرها أكثر من مجرد قريبة.. قعدت وهج أمامها ثم سألتها بابتسامتها الحانية:
– هل أنتِ بخير الآن.
– الحمد لله حبيبتي.. ما دمتِ بجانبي باذن الله سأكون بخير.
اجابت آيات بتعبٍ فابتسمت لها وهج ومدّت يدها ووضعتها فوق يد آيات وهمست:
– باذن الله ستعودين مثلما كنتِ.
تنهدت آيات وغمغمت:
– أعتذر لأنك تضطرين على خسارة الكثير لأجلي ولأجل أولادي.
– لا تعتذري.. انتِ تعرفين كم أحب أن أساعد ما دمتُ أقدر.. وصدّقيني ما دمت أخسر بسبب عمل الخير فهذه أجمل خسارة.. لا بل هذا ربحٌ كبيرٌ يا آيات.
قالت وهج بابتسامة جادة فابتسمت آيات:
– جزاكِ الله خيرًا حبيبتي.
سمعتا صوت صفوان الذي يعلن بصوته عن دخوله فرفعت وهج سريعًا شالها عن كتفيها وغطت به شعرها..
ولج صفوان اليهما فاستقامت وهج واقفة ودمدمت:
– بما انك أتيتَ انا يجب أن أغادر.
– إبقي قليلًا.. سأخبرك شيئًا هامًا بوجود آيات.
هتف صفوان فاومأت وهج وهي تنظر الى آياة بحيرة.. قعدت على السرير بجانب آيات بينما بقي هو واقف في مكانه يتأمل زوجته المريضة التي تبتسم له بصدق:
– موعد زواجي بك سيكون مع موعد زواج أيهم وحسناء.. إتفقت اليوم أنا وأبي وأخبرتُ والدك وهو موافق.
– ليست لديها اي مشكلة.
ردّت آيات بدلًا منها ثم تطلعت اليها:
– أليس كذلك يا وهج؟
– أجل ليس هناك أي مشكلة.
قالت وهج فهز صفوان رأسه:
– ممتاز.
وتابع:
– يجب أن تعرفي أنك ستقومين بكل واجباتك كزوجة.. أي ضعفين ما تعمليه الآن.. فيوجد أيضًا أنا!
تجهمت ملامحها بشكل فوري وردت بحدة:
– أخبرتك انني لن أعتني بك أو أهتم بكوني زوجتك.. زواجنا فقط لأجل آيات والأولاد وسيبقى كذلك.
– صوتك اخفضيه.
هدر صفوان بعصبية فازدرت آيات ريقها بصعوبة وبرّرت موقف كل منهما لتهدئ من حدة الموقف:
– وهج.. صفوان يقصد أن تهتمي بثيابه وطعامه لأنني لن أستطيع الاعتناء به وانت تعرفين حالتي كلما تتدهور أكثر واكثر والحمد لله على كل حال.
ثم نظرت الى زوجها واسترسلت:
– وانت يا صفوان هي فهمتك خطأ فلا تضغط عليها.. ما تقوم وهج بفعله لن يفعله أي احد.. أرجوك لا تجازي خيرها بالسوء.
مرّر صفوان يده على وجهه بعصبية وكأن ما قالته زوجته لم يرضيه أبدًا وفعلًا لم يرضيه فكرة ان تنفيه هو بعيدًا عن واجباتها الملزمة بها والتي تهبها بسخاء قلب طيب لغيره.. فما دامت ستصبح زوجته رغمًا عنها ستعتني به..
– لم يضربها أحد على يدها لتفعل ما تقوم به الآن.. هي بنفسها من تطوعت وتكرّمت واتخذت دور الأنثى التي تحب الجميع وتتمنى مساعدة الجميع.
قال صفوان بنبرة باردة استفزازية فرشقته آيات بنظرة عتاب بينما أجابته وهج بغيظٍ وضيق:
– بالتأكيد لم يجبرني أحد.. فاطمئن من هذه الناحية يا ابن العم.. وعن اذنك الان أريد أن أغادر.
– شقيقك سيأتي بعد قليل ليأخذك فانتظريه وغادري.
هتف صفوان وهو يستدير ليغادر فسألته آيات قبل ان يخرج من الغرفة:
– هل ستخرج يا صفوان؟
توقف صفوان ثم التفت اليها واجاب ببرود:
– سأرى الأولاد وأعود اليك بعد مغادرة وهج.
تمتمت وهج بكلمات غير مفهومة وهو يخرج فضحك
ت آيات وهمست:
– أعتذر نيابة عنه.
– زوجك لا يطاق يا آيات.
قالت وهج بغيظ فردت عليها آيات بابتسامة:
– على العكس تمامًا.. صفوان قلبه طيب جدًا مثل قلب الطفل الصغير.
– واضح جدًا!
**************
تستغرب وجود فتاة كعائشة بهذه القبيلة.. مختلفة عنهم كليًا بطيبة قلبها وصدقها.. ليست مثلهم قاسية لا تعرف معنى الرحمة وخاصةً بأسلوبها بالتعامل معها هي على الرغم من كون الجميع يكرهها هنا.. ليست كشقيقها ساري أبدًا.. تأملتها ياقوت وهي تفكر اذا تطلب العون منها أم لا.. تخشى أن تطلب منها وتخذلها أو تتسبب لها بمشكلة كبيرة..
تطلعت اليها عائشة بابتسامة هادئة ثم سألتها بصوت خافت بعد ان انتبهت الى نظراتها:
– هل تريدين أن تطلبي مني شيئًا؟
– أنا.. أنا..
همست ياقوت بتوتر فدنت منها عائشة والتصقت بها ثم قرّبت فمها من اذنها وقالت بما صدم ياقوت:
– هل تودين أن أساعدك لتهربي من القبيلة؟
ابعدت ياقوت رأسها لتتمعن وجه تلك الفتاة التي تمدّ يد العون لها دون أن تطلب.. وكأنها عرفت ما تريده دون أن تتكلم.. رباه أي هبة هذه بعثها الله لها لتساعدها على الهروب؟!
اومأت ياقوت موافقة بخوف فابتلعت عائشة ريقها وهمست بشجاعة:
– سأساعدك على الهروب بما أن ساري ليس موجودًا وهكذا ستتمكنين من الهروب وتعودين الى قبيلتك.
– وماذا سيحدث لك اذا عرفوا انك السبب؟
سألتها ياقوت بقلق ورعب فردت عائشة بخوف حاولت ان تقصيه بعيدًا عنها:
– سيضربونني فقط.. في النهاية انا ابنتهم ولن يقتلوني بسببك.. لذا لا تقلقي.
– واذا قبضوا علي ولم أتمكن من الهروب ماذا سيحدث لي؟
سألتها ياقوت مرة أخرى بخوف كبير فنظرت اليها عائشة بتمعن لوهلة ثم قالت بتنهيدة عميقة:
– حينها ساري الذي سيعاقبك.. ولكن عقابه لك لن يسرّك أبدًا فساري عندما يغضب يصبح مخيفًا وقاسيًا وأنا لا أتوقع أنه سيتغاضى عن هروبك ويتوانى عن معاقبته لك.
– انتِ تخيفينني.
همست ياقوت بألم وضيق فابتسمت لها عائشة وغمغمت بصدق:
– أنا لا أريد أن أخيفك.. أنا اقول لكِ فقط ما سيحدث فلذلك حاولي أن تنجحي ولا تدعيه يمسكك.. أهربي ولا تفكري مرتين يا ياقوت.
– سأهرب.. لن أعيش مذلولة بهذه القبيلة.. لن أفعل!
هتفت ياقوت بقوة وتحدي فتأملتها عائشة بقلب حزين:
– يا ليتني أقدر على الوقوف في وجه ساري وقبيلتي.. لو أقدر لكنت أنا بنفسي أعدتك الى عائلتك.. ولكن حكم القوي على الضعيف هو من يربح.
– أعرف حبيبتي.. ولكن كيف سأهرب؟
غمغمت ياقوت فقالت عائشة بتفكير:
– أولًا سنتناول الغذاء وبعد ذلك سأخبرك.
**************
بعد ما يقارب الساعتين ودّعت عائشة ياقوت وعادت لتجلس مع أمها وهدير فؤادها المذعور يكاد يصل عنان السماء.. خائفة ومتوترة.. تخشى أن يكتشفوها ويعرفوا بهروب ياقوت.. وخائفة ان يكون توترها واضحًا فيشكون بأمرها.. ولكن ما يطمئنها ويخفف من خوفها ان لا زال هناك وقتًا ليعود ساري.. ولكن… ارتعبت وكادت أن تبكي من شدة خوفها بعد أن سمعت والدتها تسألها:
– أين ياقوت؟ دعيها تصعد الى زوجها.
رمقت عائشة والدتها بنظرات خائفة واجابت بارتباك واضح:
– ياقوت نائمة.. نائمة في غرفتي.
سمع ساري ما قالت وهو ينزل اليهما فقال بجدية:
– اوقظيها لتأتي.
– سأذهب لأتفقدها وأخبرها.
غمغمت عائشة بتوتر فيعقد ساري حاجبيه وهو يراها تهرول مبتعدة.. بعد دقائق قليلة عادت اليه عائشة وهتفت بلهاث سببه خوفها:
– لا ادري اين ياقوت.. ربما صعدت الى غرفتكما.
– الآن كنتُ في في غرفتنا.. هل تسخرين مني؟
هدر ساري بغضب قبل أن يقترب منها بخطوات عصبية ويقبض على ذراعها، متسائلًا بشك:
– أين ياقوت يا عائشة؟ اذا لم تكن نائمة في غرفتك ولا في جناحنا فأين هي اذًا؟
– لا اعرف!
ردت بتلعثم فيصرخ ساري بصوتٍ أرعبها:
– بدأت أشك بك.. هل ساعدتيها على الهروب؟! اين هي؟
انتفضت عائشة مفزوعة بين قبضته وهي تهز رأسها نافية بخوف شديد.. حاولت أن ترد عليه ولكنها لم تقدر.. كانت خائفة منه ومن عصبيته.. دفعها ساري على الأرض وبصوت جهوري كان ينادي بأسم ياقوت التي مستحيل أن تتمكن من الهروب او الاختفاء الا بمساعدة احد.. ووفقًا لما يعرفه انها بقيت طوال فترة غيابه مع شقيقته عائشة..
بكت عائشة بذعر حينما دخل والدها وجدها.. سيقبضون على ياقوت لا شك! فكرت بوجع ومرارة قبل أن تشعر بيد ساري ترفعها بخشونة عن الأرض..
لم تتجرأ عائشة وتنظر اليه فهتف فواز بتفاجؤ:
– ما الذي يحدث؟ ماذا تفعل بأختك يا ساري؟
– ياقوت هربت بسبب الغبية هذه.
زمجر ساري وهو يرفع يده ليصفع ياقوت فتصيح والدته بخوف على ابنتها وتغمغم برجاء:
– اترك أختك يا ساري واذهب لتبحث عنها بدلًا ان تضرب عائشة.
تجاهل ساري كلمات والدته وأمسك شعر عائشة بعصبية وسألها:
– متى هربت؟ اجيبي قبل أن أقضي عليك.
تأوهت عائشة ودموعها تفيض على وجنتيها بوجع شديد:
– قبل قليل.. انا السبب.. أعتذر.
صفعها ساري مرة اخرى بقسوة وقال بنبرة حادة:
– سأعود اليك يا عائشة وسأحاسبك على ما فعلتيه.
**************
تبرطمت خنساء بحنق حينما لم تجد حقيبتها التي أخذها منها قسورة في الليلة التي حاولت الهروب بها من القبيلة.. بحثت عنها في كل مكان ولم تجد أي اثر لها.. وعدها ان يعيدها اليها في ليلة زفافها فلماذا لم يعيدها بعد؟
شهقت بفزع وهي تسمع صوته الساخر:
– لن تجديها يا خنساء.. اخبرتك انك لن تلمسي القلم في بيتي.. وأنا صريح جدًا بكل كلمة قلتها.
تطلعت اليه خنساء برعبٍ.. فبعد ما دار بينهما اعتقدت انه غيّر رأيه.. جاهدت على ضبط أعصابها كي لا تثور عليه.. فمن هو ليمنعها من ممارسة موهبتها؟
قالت خنساء بشفتين مزموتين:
– لم أفهم يا قسورة.. وضّح لو سمحتَ.
ابتسم قسورة بهدوء وزلف منها لترّسخ قدميها بالارض تحتها بعناد وتحدي:
– انتِ أكثر من تفهم يا خنساء.. كلامي واضح جدًا.
– لا.. لم أفهم.. وضّح.
هدرت بعنفوان فأمسك يدها برفق وأجلسها على احدى الارائك القريبات ثم غمغم ببرود:
– لن تكتبي اي شيء بعد الان يا خنساء.. انا امنعك عن ممارسة جنونك!
– لن تفعل!
صاحت بتحدي وهي تنتصب واقفة فيلقي عليها نظرة متجهمة ويزمجر بصوت حاد:
– اياكِ والصراخ.. لا تنسي انني لم أعاقبك بعد على هروبك فمفضل ان تبقي هادئة.
عضّت خنساء شفتها السفلى وقالت برجاء:
– عاقبني بأي شيء يا قسورة على تهوري عدا منعي من ممارسة موهبتي وحلمي الوحيد.. أرجوك!
– اذًا تصرّفي كأي زوجة مطيعة وانثى ناعمة وحينها سأفكر.
هتف بهدوء لترشقه بنظرة شرسة تذّكره بنظرات جده حينما يغضب ثم بانفعال أضحكه دفعت خنساء الطاولة الخشبية الصغيرة وجهرت بجنون:
– لستُ جارية عندك يا قسورة.. انا لستُ كأي واحدة من النساء.. أنا خنساء.. خنساء الفهدي!
كادت ان تفقد عقلها حرفيًا وهي ترى قسورة يضحك ببرود وكأنه يرى مسرحية ما!
قال قسورة ضاحكًا:
– يجب أن أرميكِ عند الذئاب يا متوحشة.
– لأحرضهم عليك لا شك!
ردت باحتدام فيبتسم ببرود:
– حضّري لي شيئًا اتناوله.. انا جائع.
همت ان تعارض فقاطعها قسورة بنبرة جادة صارمة:
– افعلي ما قلته يا خنساء كي لا تندمي.. انا أتكلم لمصلحتك فنفذي بهدوء.
**************
كاد قلبها ان يقع بين قدميها وهي تفرّ هاربة.. تركض بأقصى سرعتها.. بكل ما اوتيت بها من طاقة..
خائفة.. بل مرتعبة.. تخشى ان يقبض عليها وتلتقم من جنونه ببطئ.. من عصبيته وغضبه.. سواءًا عليها او على شقيقته عائشة التي ساعدتها لتهرب من وكر هذه القبيلة المخيفة بكل ما بها..
تركض وتركض.. تتطلع وراءها وانفاسها تبجس منهكة من صدرها.. تمنت ان تهرب الى الابد وان ينساها ما دامت على قيد الحياة.. الحقير اختطفها وتزوجها رغمًا عنها.. تزوجها رغم العداوة التي تجمع بين القبيلتين..
تمكنت من الخروج من قبيلة العرّابي عن طريق النفق الذي اخبرتها عنه عائشة.. لا تدري لماذا ولكن تحسّ ان اضحى مكانها الابدي هو منزله.. منزل ساري المخيف.. الذي فرّقها عن خطيبها احمد الذي تعشق..
تصببت دموعها ارتياعًا وشوقًا وهي تسرح بخيالها.. لحظة ولوجها الى قبيلتها هي.. قبيلة الفهدي التي ترعرت بها هي وابن عمها احمد..
تتخيل حضن والدتها.. غضب جدها.. صراخ والدها.. تتخيل وتسرح بالبعيد، غير مدركة ان لا مفر لها.. ان لا مفر ابدًا من هذه القضبان التي ستطوّق حريتها لفترة طويلة.. اطول مما يجب..
كانت تسمع اصواتًا كلما تدنو من اذنيها وتتغلغل الى اعماقها بينما هي تسرع في خطواتها لتختفي من حياة ساري.. ولكن فور وصولها الى مخرج النفق صدمت ببعض رجال قبيلته الذي يقفون بجانب مخرج النفق..
“رباه!”
همست برعب وهي تجاهد على التحكم برباطة جأشها وعدم الانهيار.. ستعود بكرامتها.. اذا اعادوها هم ستذوق طعم السعير.. استدارت بخطوات مرتبكة وقدميها تتلعثم ببعضها من شدة خوفها.. اغمضت عينيها وهي ترجو الله ان لا يرونها.. ترجو الله من كل قلبها ان تكون لحدقتيهم كرملٍ يهب يفقدهم بصيرتهم لدقائق طويلة.. ولكن كل رجاءها اضمحل وذهب سدى وصوت ساري يعلو غاضبًا بينما يقترب بحصانه من رجال قبيلته:
– زوجتي هربت.. ابحثوا عنها.
لم تنتظر الفرصة ليمسكوها فركضت عائدة الى حيث كانت حتى وصل صوت خطواتها اليهم لينتبه ساري لها ويهدر بأسمها بصوت افزعها:
– ياقوت توقفي مكانك.. توقفي.
لم تتوقف ابدًا بل احتدت سرعتها ليركض وراءها بحصانه داخل النفق قبل ان تشعر بيديه ترفعانها لتحطها على الحصان امامه.. قاومت بذعر.. لا تريده.. لا تريد الحياة معه.. بكت وهي تعضّ يديه عسى ان يتركها.. حاولت ان تستدير وتحرّر بطنها من ضغط يديه.. حاولت ان تخرمش وجهه وهو يخرج بها من النفق..
– اخبر ابي وجدي اني وجدتها.. واخبرهم ان حسابي مع عائشة لم ينتهي بعد.
هتف ساري لشقيقه ليهز الاخر رأسه موافقًا قبل ان يرفع ساري لجام الحصان ويضربه بقوة فيصهل ويركض بسرعة اذعرتها اكثر مما هي مذعورة..
– اتركني.. اتركني.
صاحت ياقوت ببكاء ليقرّب جسدها اليه اكثر حتى كادت ان تلفظ اخر انفاسها من شدة ضغطه عليها.. من سينقذها منه؟ امه المسكينة ام شقيقته عائشة الي ستتلقى عقابًا قاسيًا بسببها؟.. ماذا تفعل؟ الى من تهرع لاجئة؟ من سيتمكن من ابعاده عنها؟
– ليس لها ذنب.. لا تعاقبها ارجوك!
زمجرت بيأس.. بوهن والرياح القاسية تضرب وجهها دون اي رحمة.. ولكنها لم تتلقى منه الا الصمت المهيب.. صمت يكوي قلبها من شدة الرعب.. ولكنها لن تخضع له.. محال!
هدأت خطوات الحصان تلقائيًا قبل ان يدفعها ساري بكل قسوة على الارض ويقفز هو الاخر..
لم يستجب لأي نداء وهو يحملها بين ذراعيه بينما هي تصرخ.. سيقتلها! فكرت بجنون قبل ان تشعر بظهرها يكاد يتقطع الى اشلاء وهو يرميها بعنف على الارض..
– اكرهك.. اكرهك.. ولست خائفة منك.
هدرت ياقوت بعنفوان رغم كل دموعها التي تهطرها مقلتيها المرتعبتين.. حاولت ان تنهض فيساعدها هو لتنهض هذه المرة ويهمس بهسيس:
– سأعلمك كيف تخافين مني وكيف تحترميني؟ اتأمل ان لا تكون كل نساء قبيلة الفهدي مثلك لأنهن سيتعذبن كثيرًا اذ كانوا مثلك.
ضربت ذراعه التي تحيطها بانفعال قبل ان تشعر بصفعة قاسية تهبط على خدّها.. شهقت بدموعها وكأنها ستبثق روحها.. ثم وضعت يديها على وجهها تحميه من بقية صفعاته التي سينالها وجهها..
واذ ظنت انه بهذه الطريقة سيدعها تنجو بفعلتها فهي مخطئة.. ليست زوجته من تحاول الهروب منه.. ليست زوجته من ترفع لسانها عليه وتتكلم معه بوقاحة.. اذ كانت لا تعرف الاصول فهو سيلقنها اياها غيبًا لتتماشى مع عقليته هو وقوانينه هو..
تأوهت وكل خلية بجسدها تئن المًا حالما ازال حجابها بعنف والقاه ممزقًا على الارض لتستولي اصابعه بخشونة على خصلات شعرها.. فلم تتحمل ياقوت كل هذا الوجع لتهتف:
– اعتذر.. يكفي ارجوك!
تجاهل توسلاتها وهو يرفعها ليرميها باهمال على كتفه ويتوجه بها الى غرفتهما التي تبغضها.. غرفة الامها واحزانها.. التي شهدت على دموعها بسبب نفورها منه..
– ولله اسفة!
همست بنحيب ليوافيها صوته الغاضب:
– لماذا تجبرين نفسك على تلقي القسوة؟ أما زلتِ لا تعرفين من هو زوجك؟ من هو انا؟
– اختنقت.. انزلني.
غمغمت وهي تكاد تفقد وعيها ليحطها على السرير ويقرّب وجهه من وجهها ليقبض على فكها:
– انظري اليّ.
لم تحقق له مبتغاه فزجرها بصوت مرعب:
– افعلي ما اقوله.
فعلت.. وليتها لم تفعل! وجهه الغاضب يثير ذعرها.. الم تجرّب كل وجوهه؟ الم تعاني من معظهم؟
تطلعت اليه بحدقتين بائستين بينما انفاسه المتأججة غضبًا تلفح وجهها وكأنها مطبات هوائية تزعزع فؤادها..
– من انا؟
سألها وهو يلمس طرف فمها المجروح بإبهامه لتقشعر اشمئزازًا وتهمس بجمود:
– ساري.
– ماذا اكون لك؟
سألها بحدة لتسترط غصة تشبثت في حلقها ثم هتفت:
– لا شيء.. لا شيء.
– لا تدعيني اعنفك.. اوزني كلماتك جيدًا.
قال بغضب ليتقفقف فؤادها وتهمس بألم بينما ثغره يزلف من وجهها اكثر مما تقدر على التحمل:
– زوجي.. انت زوجي ولكن دعني.
– وزوجك تطيعينه كما يجب.. سأرى عائشة واعود اليك.. عليكِ ان تعرفي ان صبري بدأ ينفذ.. وانا اريدك ان تحملي بسرعة بإبن العرّابي.
هتف بجهامة قبل ان يطبّع قبلة على عنقها تمنتها ان تكون جمرًا لا شفتيه ثم فعل المثل مع طرف ثغرها المجروح لتتأوه بألم وهي تلعن اللحظة التي ولجت بها الى حياته..
استقام ساري واقفًا ثم استأنف:
– غفرت لك لأن عائشة السبب وهي التي ستذوق العذاب هذه المرة لا انت.. ولكن في المرة القادمة لا اضمن ماذا قد افعل بك.
لم تنبس ببنت شفة بل اكتفت بانزال رأسها ووضعه في حجرها.. سالت دموعها بضيق وقهر مما تعانيه.. تكرهه.. تكرهه بجنون.. لما لا يفهم؟!
أحسّت بيد تلمس شعرها فانتفضت ظنًا انه ساري ولكنه لم يكن.. ازدردت ياقوت ريقها ووالدته تجلس بجانبها، هامسة بتأنيب:
– ألم أخبرك انك لن تقدري عليه؟ انت زوجته امام العالم كله وقوانين القبائل كلها لا تسمح لأي شخص بالتدخل بين الزوج وزوجته.. حتى عائلتك وقبيلتك كلّها لن تقدر على اخذك منه.
– انا اكرهه! اخاف منه! وزواجه بي باطل وانتِ تعرفين.
غمغمت ياقوت ودموعها تتحشرج على خدّيها لتبتسم أمه بألم:
– لا زلتِ صغيرة.. ستعرفين كيف تتعاملين مع غضب زوجك مع مرور الوقت.
ابعدتها ياقوت عنها وهي تصيح:
– ليس زوجي.. ليس زوجي.. أنا لا اعترف به كزوج.. تزوجني رغمًا عني وانت تعرفين ان لو تدخل قائد العشائر لدمّره لإبنك.. وانا متأكدة ان قبيلتي ستعرف كيف تعيدني اليها.
– ما دمتِ أصبحتِ زوجته فعلًا لا احد يقدر.. ولا اعتقد ان بامكان عائلتك ان تعيدك اليهم بعد ان اصبحتِ تنتمين اليه كامرأة!
قالت والدته بحزم فعقدت ياقوت ذراعيها رافضة كليًا ان تستوعب ما تقوله..
—————–