رواية عشق ليس ضمن التقاليد للكاتبة أسيل الباش
لن أغفر.. فلا تسألني الغفران..
لن أحنُّ.. فلا تتودد بالكلمات..
لن ارأف.. فلا ترجو بالأفعال..
أعدك انني:
سأسلخ روحك عن جسدك ثأرًا..
سألوي قلبك بتشفي لتتوسل وجعًا..
سأعبت بعقلك لتتمنى الموت عبثًا..
وستبقى تتمنى الخلاص والزوال
ولن اسمح لك بنيله ابدًا..
فقد أقسمت على جعلك قربانًا
لأوجاعي التي كنتَ انتَ سببها..
وانا لستُ بملاك حتى أغفر وأنسى..———————-
هل حقًا صارت زوجة خطيب ياقوت السابق؟ لا تزال تشعر انها داخل كابوس مرعب ستستيقظ منه لا سيما ذات يوم.. كل أحداث الأيام الماضية منذ اختطافها وحتى هذه اللحظة تتوالى أمامها وكأنها فيلم سينمائي ليس له نهاية.. لحظة خطف أحمد ويوسف لها والرعب الذي عاشته وهي معهما في مكان مجهول.. لحظة اخذها الى قبيلة الفهدي ورميها بكل إذلال على الأرض أمام الجد كريم من قبل أحمد الذي صار زوجها.. تهجمه عليها ودفاع الجد كريم عنها.. ثم مكوثها في قصر قاضي القبائل واعتناء زوجته السلطانة بها وبياقوت التي أخذت تلومها واتهمتها بإغواء أحمد.. وبعد ذلك اتمام زواجها من أحمد وعودتها الى قبيلتها.. ثم… ثم لحظة رؤيتها لوالدتها التي شطرت فؤادها لنصفين وهي تعانقها باكية، آبية ان تترك يدها وكأنها ستختفي مجددًا لتنام بحضنها سالمة تنعم بحضنها الدافئ وكأن ما قد مرّ سابقًا لم يكن له أي معنى..تتذكر حديث شقيقها ساري في اليوم التالي الذي جعلها تحسّ لأول مرة ربما بعاطفته الأخوية الشديدة.. تتذكر اعتذاره منها على كل ما مضى ووعده لها بالحماية دائمًا حتى لو إضطر ان يقتل أحمد ليعيدها الى قبيلتهما اذ لم تكن سعيدة بالحياة معه.. وكم شعرت حينها بالإحتواء وهو يعانقها ويمرّر يده على شعرها وكأنها طفلته..تنهدت عائشة وهي تنظر الى المنزل الذي صارت سيدته والمسؤولة عنه من نافذة غرفة النوم الزجاجية.. لقد كان يومها متعبًا حقًا بعد كل مراسيم الزفاف التي تمّت لتنتهي بعودتها على ظهر الحصان وأحمد وراءها.. رباه كم شعرت بالخجل وهي تتمسك بسترته كي لا تقع بعد ان رفعها بنفسه ووضعها على ظهر الحصان..
إنتفض جسدها فجأة وهي تشعر بلمساته على وجهها.. حاربت نفسها بضراوة كي لا تفرّ هاربة وهو يلمسها بهذه الطريقة.. الخوف التي تشعر به لا يمكن وصفه بالكلمات.. أصابعه تمر على وجهها متحسّسة ومستكشفة كل مكان منه وهي تقف عاجزة مرتعبة ليس لها اي شجاعة لتقاوم..
– جميلة بقلب ماكر وعقل خبيث!
قال أحمد فجأة لتحاول النجاة بنفسها والإبتعاد ولكنه لم يسمح لها ابدًا فنظرات ساري العرّابي المنتصرة تأبى ان تفارق عينيه.. وهي تشبهه.. ملامحها كملامح شقيقها تمامًا وهو يحتاج ان يثأر ولكن دون ان يلحق الضرر الجسدي بها..
توسعت عينا عائشة بفزع وأحمد يكوّر وجهها بيديه بينما يردف كمن فقد عقله:
– ساري أخذ العروس وانتِ اخذت العريس!
– انت من فرضت نفسك عليّ.
غمغمت عائشة بنبرة مرتجفة ليبتسم أحمد بقسوة وتعصف عيناه بمشاعر قاسية أليمة قبل ان يدفعها بعنف فتقع عائشة على السرير وهي تتطلع اليه بخوف وتوجس..
هزّت عائشة رأسها بذعر وهي تسمع كلمات أحمد فاقدة الروح والحياة بينما يدنو منها ووجهه محتقن بأغلفة الوجع والقهر:
– لم أفرض نفسي عليك بعد.. ولكن يجب ان افعل.. اليس كذلك؟
وقبل ان تصلها يداه كانت عائشة تصرّخ وتوثب عن السرير وتركض تجاه باب الغرفة فيمسكها أحمد سريعًا ويقيّدها بذراعيه قائلًا:
– الا تعتقدي انني يجب ان أروّض لسانك لتحترمي زوجك وتنفذي كل كلمة يقولها لكِ؟
“هل فقد عقله؟”
فكرت عائشة برعب وألم.. فعينيه كانت وامضة بحزن يُفتّت الصخور وكم رغبت بالتخفيف عنه ولومه في آن واحدٍ.. ولكنها لم تقدر اطلاقًا وهو يعاملها كأنها هي الأخرى دون روح ودون إحساس..
إغتال أحمد براءة شفتيها دون ان يأبه بمقاومتها وذعرها الذي زلزل روحها وكأنها مقيدة بحبال الإعدام.. قبّلها بخشونة دون ان يفكر بكونها طفلة لا تفقه بهذه الأحاسيس التي بدت لها مرعبة.. فقد اراد فقط ان يبثّ الروح في جسده مجددًا عن طريقها..
– لا.. لا..
كانت هذه كلمات عائشة وهي تحاول تحرير شفتيها من قيد شفتيه القاستين اللتين ادمتا شفتيها.. حاولت ان تبتعد عنه وترسو بنفسها على ميناء مسالم آمِن.. ولكن دون أي جدوى فأحمد لم يكن واعيًا على نفسه حتى وهو يقسو على طفلة أخرى ليس لها اي ذنب بما حدث.. فقط يريد ان يغرق في ثنايا النسيان.. يريد ان ينسى المرأة التي أحبها وعشقها.. يريد ان ينسى ان هذه الليلة ايضًا ليلة زفافها الثانية ومن نفس الرجل..
ضغط على جسد عائشة مقرّبًا اياها أكثر منه فأخذت تتلوى وتتخبط بعنف.. لا لا يا الله.. لن تقدر على التحمل أكثر.. ستموت من الإختناق والذعر.. رفعت عائشة يدها بصعوبة لتضعها على وجهه وتخدشه بأظافيرها الطويلة بعنف جعل أحمد يبتعد عنها أخيرًا وهو يتفرس النظر بها بحدقتيه المذهولين..
لهثت عائشة انفاسها وكأنها كانت غارقة وسط امواج البحر الشاهقة ثم رفعت أصبعها بتهديد ودموعها تنهمر على خدّيها المخضبين:
– لا تقترب مني مرة أخرى.. انا لستُ بجارية تحت قدميك يا أحمد حتى تعاملني بهذا الأسلوب.. لا أريدك ان تقربني بهذه الطريقة مرة أخرى.. إياك وفعل ذلك مجددًا.
– انتِ زوجتي وما فعلته ليس حرامًا حتى تطلبين مني ان لا اقترب منك بهذه الطريقة.
هتف أحمد بخشونة وهو يقترب منها فرجعت عائشة الى الوراء سريعًا وقالت ببكاء:
– ها قد قلتها زوجتك.. انا زوجتك ولست جاريتك او قربانًا تُنفّث عن غضبك به.
– حسنًا.. حسنًا.. اهدأي.
قال أحمد وهو يمرّر يده على عنقه وكأنه إسترد القليل من وعيه ثم أغمض عينيه وتابع بينما يتنفس بصعوبة:
– انا لم أقصد جعلك خائفة.. انا.. انا لن أقترب منك فإرتاحي.
إنكمشت عائشة على نفسها على الرغم من ثقتها من تنفيذ وعده.. ولكن هي لا تستطيع ان تردع هذا الخوف من إستوطان قلبها وهو بهذه الحالة النفسية السيئة وكأنها هي من أجبرته على الزواج بها لا هو من فرض نفسه عليها وبرضاه! لم ترى يومًا عاشقًا ساذجًا وجبانًا سوى أحمد..
قال أحمد بيأس:
– نامي يا عائشة انا لن ألمسك ولن أدخل هذه الغرفة قبل الصباح.. وكأنني سأستطيع من الأساس لمسك وقلبي ملك…
كوّر قبضته وتغضن وجهه بألم وهمس بصوت لم يصل الى اذنيها ولكنها تعرف الكلمات التي نطقها دون ان تسمعها:
– وقلبي وروحي ملك ياقوت.
ودون ان ينظر اليها خرج!..
**************
فتحت عينيها بإحساس مفعم بالخمول والوهن.. ليست لها القوة حتى للنظر الى الجهة اليمنى من السرير لتعرف اذا غادر ام لا.. فقط وكأنها دون روح الا ان قلبها يصرّخ وجعًا وهي تتذكر تفاصيل ليلة البارحة التي صارت فيها زوجة ساري العرّابي فعلًا كما ودّ وكما رغب.. حتى ان مقاومتها في بادئ الأمر لم تأتي بأي نتيجة ليجبرها على الإستسلام له بهمساته.. ليس حُبًّا بل خوفًا.. فهي على أيّ حال لن تقدر عليه مهما قاومت وهي تدرك هذا الامر جيدًا لذلك كان استسلامها له خيرًا لها من الف مقاومة لا تجلب لها سوى الألم والإحساس بالعجز.. وفي نهاية الأمر هي زوجته الآن فعلًا فما من شيء قد يمنعه عن أخذ حقوقه..
إنتفضت ياقوت وهي تحسّ بثقل ذراع ساري على خصرها قبل ان يجذبها اليه ويدفنها بصدره بينما يستنشق أريج شعرها بعمق وبصوت مسموع.. أحسّت بخفقات قلبها على وشك إختراق صدرها بينما تستحوذ رغبة قاسية عليها لتجهش بالبكاء وتفجّر كبت الأيام الماضية.. ولكنها لا تريد ان تظهر ضعفها له.. لا.. لن تفعل ابدًا..
بأنامل مرتجفة حاولت ياقوت الإبتعاد عنه ليردع ساري كل محاولاتها وهو يضمها بعنفوان اليه وكأنه لا يصدّق انها اخيرًا صارت ملكه بكل ما للكلمة من معنى.. فإحتدت شراسة مقاومة ياقوت له ليلعن بهمس قبل ان يرفع وجهها اليها فتُغمض ياقوت عينيها بقوة ليأمرها بنبرة حادة:
– إفتحي عينيك.
– لا اريد.. اكره رؤيتك واكره ان تراني.
ردت ياقوت بحقد وهي ترفع يدها لتضعها على وجهه حتى لا يراها.. فسمح لها ساري ان تضع يدها على وجهه، مستمتعًا بلمستها الناعمة عكس ما تشعر هي به تمامًا.. وكالذئب كان ساري يبعد يدها عن وجهه ويعضها ببعض القوة لتصرخ ياقوت موجوعة بيننا تحاول سحب يدها دون فائدة..
تكدّست الدموع بمقلتيها وهي تحدق بملامح وجهه المستمتعة ويدها التي تأسرها أسنانه.. تركها ساري أخيرًا لتهم بإختناق النهوض عن السرير ولكن قبل ان تحقق غايتها بالفرار منه كان ساري يعيدها الى صدره ويرتشف من شفتيها قهوة الصباح..
– صباحك مبارك يا عروس ساري العرّابي.
همس ساري وإبهامه يمرّ بعبث على خدّها.. انفها.. شفتيها.. فرشقته ياقوت بصوان حقد قلبها وهتفت بنفور:
– صباحك مشبّع بكرهي لك.
ضحك ساري بإستفزاز ووعيد:
– لاحقًا ستكون ردودك عليّ كلها ردود غزلية.
– هذه احلامك بنار جهنم ان شاء الله.
هدرت ياقوت بعصبية وهي تدفعه بثوران ليقهقه ساري بغلاظة وينهض، قائلًا:
– لا اريدك ان تدخلي نار جهنم.
عقدت ياقوت حاجبيها للحظة بعدم فهم فدنى ساري منها ووضع يده برقة على وجنتيها، متابعًا بإستمتاع:
– انا اريدك معي بأي مكان اكونه.. لذلك ادعو الله ان ندخل معًا الجنة.
ضربت ياقوت يده بخشونة وزمجرت:
– اتمنى ان لا اكون معك في أي مكان.
إبتسم ساري بهدوء وهو يبعد يده عنها ثم قال بجدية:
– هيّا انهضي وانزلي لتساعدي والدتي قبل ان تأتي عائلتك.
خلال ثوانٍ إتسمت ملامحها بالبرود وهي تهتف:
– لا حاجة لكل هذا الإهتمام الزائف بالعادات والتقاليد.. قد لا يأتوا ولن أمانع فهناك كنة جديدة لقبيلتنا ومن قبيلة أخرى.. فالنساء ستتلهف للذهاب لمباركتها اكثر حتى يتعرفن عليها.. وأعتقد ان والدتك ليس لديها الكثير من الوقت لتعتني بالضيوف الذين لن يأتوا من الأساس كي لا تذهب وتبارك لإبنتها العروس التي هي أهم.
تأملها ساري للحظات طويلة.. يستنبط الحقد والقهر من اغوار مقلتيها الباردتين.. وكأنها تكره العالم كله وتود الإنتقام حتى من اللا شيء!
رغبة قوية بمواساة حزنها الذي هو سببه جعلت قلبه يلين شفقةً ويهمس بينما يرفع قبضتها الصغيرة ويحرّر اناملها الناعمة ليوغل أصابع يده بين اصابعها:
– انتِ عروس وأهم من أهم عروس ايضًا.. عروسي كل ليلة حتى انتهاء عمري.
تطلعت ياقوت اليه بجمود وقبل ان تهم بجذب يدها الى حضنها والهفو الى حمام الغرفة للبكاء مجددًا حتى يقسى قلبها ولا تتأثر بسبب خذلان عائلتها لها كان ساري يحيط مؤخرة رأسها بيده الحرّة ويقبّلها بنعومة شديدة..
لم تبادله عاطفته الناعمة الغريبة بل بقيت تنتظر بجمود ان يبتعد عنها وكأنها كتلة من الجليد دون إحساس.. وكالعادة دون مقاومة! فقط تنتظره ليبتعد عنها بنفسه..
أغمضت ياقوت عينيها حينما طالت قبلته فلم يعتق ثغرها من إسترسال ساري بالمزيد الا صوت والدة ساري (هدية) التي تطرق الباب بخجلٍ:
– ساري.. ياقوت.. السيدة سماح في الأسفل يرافقنها بعض النساء من قبيلة الفهدي.
لم تتحكم ياقوت بإبتسامتها الساخرة وهي تفكر ها قد اتت أخيرًا والدتها لزيارتها.. الآن فقط فكرت بإبنتها.. بعد انتهاء الزفاف وجعل ساري زوجةً له فعلًا.. ولم يغفل ساري عن ملامحها التي تدل على أفكارها والتي كانت السبب بطلبه إتمام الزواج قبل ان تغادر الى قبيلتها..
******************
كانت صدمةً للنساء رؤيتهن لياقوت تختار الجلوس بجانب أم ساري في حين المقعد الذي بجوار والدتها كان فارغًا.. جاهدت ياقوت على رسم الإبتسامة وهي تنظر الى وجوههن بينما تقول:
– اهلًا وسهلًا بكن في منزلي! لقد اتعبتن نفسكن حقًا بقدومكن من قبيلة الى أخرى لتباركن لي مع ان زواجي يتم للمرة الثانية ومن نفس الرجل.
بُهتن للحظات وانفطر قلب سماح ندمًا وهي تنظر الى خنساء التي أخذت تلومها صباح اليوم بسبب جفاءها مع ابنتها التي كانت غافلة عنها وفضّلت الإهتمام بالتحضيرات لمراسيم زفافها وزفاف أحمد..
قالت خنساء بإبتسامة لتُكسر الصمت قليلًا وعجز النساء بالرد على ياقوت:
– في المرة السابقة لم نأتي لنبارك لك.. ولا ضرر من القدوم اليك مع انه زواجك للمرة الثانية يا ياقوت كي نرى المنزل الذي تقطن به ابنة الفخر والعز.
وقفت هدية، مغمغمة بإبتسامة مترددة:
– انا سأذهب لأحضر صينية القهوة.
أمسكت ياقوت يدها، هاتفة:
– إنتظري أمي!.. انا سأحضرها.. فهن قدمن من آجلي ولذلك يجب عليّ الإهتمام بضيافتهن بنفسي.
كانت تلك نغزة مؤلمة التي أحسّت بها سماح في قلبها وهي تسمع ابنتها تمنح أغلى كلمة بوجود لأم خاطفها.. أمي!! هدية أمها ومن تكون هي اذًا؟!
وقفت سماح بإبتسامة حزينة وهي ترى ياقوت تسير الى المطبخ وقالت:
– سأذهب لمساعدتها.
أحسّت ياقوت بوجود والدتها المتوترة في المطبخ فإستدارت لتطالعها وإبتسمت لها برسمية قبل ان تدير وجهها مرة اخرى فتنهدت سماح وهمست بصوت شجي:
– ألن تتكلمي مع والدتك يا ياقوت؟ ربما انتِ محقة بغضبك وحزنك مني.. ولكنني والله لم أقصد ان أجافيكِ.. انتِ لا تعرفين كيف عانيت بعد اختطافك.. لقد كنتُ معظم وقتي في الفراش أبكي وادعو الله ان يحميكِ.. انتِ طفلتي الصغيرة فكيف أقسو عليك وانتِ روحي؟
أغمضت ياقوت عينيها بقوة محاولة ان لا تبكي.. لا تريد ان تبكي أمام والدتها التي إبتعدت عنها بأمس حاجتها لها.. لا تريد ان تتعاطف معها وتسامحها وكأن شيئًا لم يكن.. هي مخذولة منها.. غاضبة مقهورة..
تمرّدت دموعها وانهمرت على خدّيها حينما أدارتها والدتها اليها وعانقتها، مغمغمة ببكاء:
– سامحيني يا ياقوت.. قلبي ليس قاسيًا حتى لا أفكر بك.. ولكنني كنت مضغوطة لدرجة كبيرة وكنت خائفة جدًا على شقيقك يوسف من التهور والتعرض للأذى بعدما سمعت رفضه لعائشة العرّابي.. وغير ذلك جدالي مع أم أحمد بسبب ما حدث.. لقد مررت بالكثير يا ياقوت.
– هذا ليس عذرًا.. ليس عذرًا.. يا ليتك سألتيني فقط عن حالي لأخبرك بتعاستي وحزني.. ولكنك لم تفعلي! لم أقضي في منزلك ليلة واحدة حتى لا تتمكني من سؤالي.. كنتُ أمامك عدة ايام ولكنك لم تفعلي.
هتفت ياقوت بمرارة قبل ان تبعدها عنها وتسترسل بوجع:
– لم أشعر بالغربة قط كما شعرت في المكان الذي من المفترض ان يكون منزلي.. لم تجعليني أشعر بشوقك واهتمامك بك كما فعلت المرأة الغريبة التي تكون أم عدوي.. انتِ قتلتيني يا أمي.. كسرتيني!
– اوافقك الرأي ولا استطيع ان الومك.. ولكن إفهميني حبيبتي.
همست سماح وهي تحيط وجنتيها بيديها فإبتسمت ياقوت بقهر وقالت بقسوة:
– هل تعرفين انني كنتُ عذراء حتى الليلة الماضية؟ كان بإمكانك فعل الكثير لو انك عرفتِ.. ربما حينها لم أكن لأخرج من قبيلتي.. السبب الذي لآجله فقط لم يهمكم الشخص الذي تزوجني لم يكن له وجود.
إبتسمت بتشفي وهي ترى الصدمة على وجه والدتها ثم تابعت بغضب مرير:
– لماذا لم تسأليني؟ لماذا لم تحتضنيني؟ كان من أقسى الأيام عليّ وانا أعيش في المكان الذي من المفترض ان يكون منزلي منبوذة أحسّ بالغربة.
أبعدت يدي والدتها عنها واضافت بقهر وحقد:
– وذلك الحقير أحمد لا أتمنى له سوى الشقاء في حياته.. أتمنى له أن يعاني طيلة حياته بسبب تخليه عني بعد ان جعلني أتعلق به من طفولتي بحب كاذب.. يا ليت كلامي فقط يصله ويعرف انه ليس الا جبان حقير وان ساري النذل الآخر أرجل منه بمليون مرة.
جففت ياقوت دموعها بخشونة ثم حملت صينية القهوة وقالت:
– هيّا لنخرج كي تذهبن لمباركة زوجته عائشة وتأخذن والدتها وبعض نساء قبيلتها معكن.
*****************
هزت وهج رأسها لتبعد تلك الأفكار المجنونة عن رأسها فعلى ما يبدو فكرة انها صارت فعليًا زوجة صفوان الفهدي قد أثّرت بها بعمقٍ.. تنهدت وهي تُرتب دثار السرير الضخم قبل ان تشهق مفزوعة بسبب يدي صفوان الذي وضعهما على خصرها..
إستدارت وهج بصعوبة لتنظر اليه بخجل فإبتسم لها صفوان بلطفٍ ثم تساءل:
– ما رأيك ان أرسل أدهم ومحود الى أمي حتى نبقى قليلًا لوحدنا؟
تخضبت وجنتاها بحمرة قانية وهي ترد:
– لا.. دعهما هنا.. انا احب وجودهما امامي دومًا ولا ارتاح ببعدهما عني.
إبتسم صفوان وهو يتحسس وجنتها الساخنة بإبهامه:
– ولكنني بحاجة الى قضاء بعض الوقت معك لوحدنا.. انا بحاجة لإستكشاف أعماقك المتوهجة يا وهج.. فسأبعثهما هذه الليلة فقط ليناما عندها لأنني لن أذهب للعمل اليوم.
ترددت وهج ثم اومأت موافقة بتوتر بسبب قربه الشديد منها:
– حسنًا.. كما تشاء.
ثم إبتعدت عنه بإرتباك وقالت:
– سأذهب لأعدّ الفطور وأقوم بتجهيزهما.
منعها صفوان سريعًا وهو يقيّد حركة جسدها بضمّها الى صدره بينما يقول بجدية:
– بإمكانهما تجهيز نفسهما بنفسهما.. لا اريدهما ان يتدللا أكثر مما يجب.. فيجب ان يعتمدا على نفسهما من الصغر يا وهج.. وبالنسبة للفطور سيفطران عند أمي.
– وانتَ ألن تفطر؟
غمغمت وهج بخجل واضح فإبتسم صفوان على براءتها وأجاب:
– سنفطر معًا بعد ان أعود.
ثم بعبث رفع وجهها اليه ولثم شفتيها بقبلة توّاقة وغمغم بشقاوة:
– انا متشوق لأثبت للنساء الحمقاوات انهن مغفّلات وإن كلامهن ليس صحيحًا.
لم تصدّق وهج ان هذا الرجل الذي يبلغ الثالثة والثلاثين عامًا يمتلك هذه الشخصية العابثة، الشقية و.. والرومنسية.. خلال اليومين الماضيين عرفت أجمل جانب من شخصية صفوان الفهدي..
اطلقت وهج نفسًا مرتجفًا وهي تراه يخرج من الغرفة.. ولأول مرة تدرك وهج انها تعشق الطريقة التي يمشي بها.. رجولية بحتة.. رجولة تثير الكثير فيها لتتمنى بكل شقاوة ان تقفز على ظهره ليسير وهي تعتلي ظهره كطفلة صغيرة..
إبتسمت وهج وهي تضرب راسها بخفة على هذه الافكار المجنونة التي بدأت تداهمها ثم سرعان ما كانت عيناها تدمع وهو تدعو بالرحمة لآيات، داهسة على أيّ تفكير بالذنب بسبب إعجاب صفوان الواضح بها.. فآيات بنفسها هي من طلبت منها ان تتزوج صفوان..
قهقهت وهج حينما فُتح الباب بقوة ودخلا الطفلان راكضان اليها ليعانقاها قبل مغادرتها.. قبّلت وهج جبينهما وهي تهمس لهما بحب:
– لا تشاغبا وتعذّبا جدتكما فهي كبيرة واسمعا كل كلمة تقولها.. حسنًا؟
– حاضر وهجي!
ردّا أدهم ومحمود نفس الرد فضحكت وهج مرة أخرى، غير غافلة بنظرات صفوان المستنكرة.. وبعد ان خرجا إقترب صفوان منها وهو يتمتم بغيظ:
– وهجي؟!
إبتسمت وهج بمرحٍ وقالت:
– آجل، وهجي.. بناءًا على طلبي منهما.
– بعد ان أعود سنتفاهم حول.. حول وهجي!
غمغم صفوان بصوت أجش قبل ان ينحني ويسرق قبلة طويلة كالحلم الذي ليس له نهاية ثم غادر، تاركًا نوافذ وجدانها كلها ترتعد بمشاعر شديدة لم تعرفها سوى معه.. رجلها الأول والوحيد.. وأب أطفالها كلهم..
*****************
– أيهم.. أيهم حبيبي.
نادته حسناء بنعومة وهي تعانق ذقنه براحتيها الدافئتين ففتح أيهم عينيه بنعاس وغمغم بصوت مبحوح:
– يا روحه لأيهم.
إبتسمت حسناء:
– هيّا إنهض لتفطر.
تثاءب أيهم بخمول قبل ان يجذبها سريعًا الى صدره ويسألها بخشونة:
– أين قبلة صباحي؟
ضحكت حسناء بخجل قبل ان تقبّله بنعومة وتبتعد قائلة بجدية مصطنعة:
– هيّا انهض ولا تكن كسولًا.. واريدك ان تأخذني الى منزل أهلي.. لقد وعدت أمي بزيارتها.
نهض أيهم بينما يقول بهدوء:
– غدًا سأخذك لزيارتك.. اليوم انا مضطر للذهاب مع قسورة لعملٍ ما.
– خذني بطريقك.. لن تتأخر.
دمدمت حسناء برجاء وهي تتبعه الى خارج الغرفة فقال أحمد بجدية:
– لا حسناء.. غدًا ستذهبين.. لا أحب أن تجاديني كثيرًا حول هذه المواضيع.
تخصرت حسناء بغيظ وهي تهتف:
– ماذا ستخسر اذا أوصلتني بطريقك؟ منذ ان تزوجنا لم أزور أهلي ومن حقي على الأقل الذهاب لزيارتهم.
تأفف أيهم بنفاذ صبرٍ:
– حسناء غدًا.. اليوم لا.. ولا تستفزيني كثيرًا بهذا الموضوع لأنني من الأساس لا احبذ فكرة خروجك من المنزل ابدًا.
زمت حسناء شفتيها بمحاولة عقيمة لتتحكم بنفسها حتى لا ترد عليه بما لا يحمد عقباه..
– أيهم حبيبي انا لست ذاهبة الى منزل غريب.. بل الى منزل أهلي.. كما انني لا أمنعك من زيارة أهلك وفقًا لما أظن لأنك تفعل يوميًا.
– ولن تقدري على منعي ابدًا يا حسناء.. اعتقد انني من الأفضل ان أفطر وأغادر حتى لا يتطور الجدال اللعين هذا أكثر.
هتف أيهم بعصبية فإمتعضت ملامح حسناء بضيق شديد لتتركه وحده وتصعد الى غرفتهما فيستغفر أيهم بصوت مسموع ثم يجلس يفطر دون ان يفكر أكثر بعناد حسناء..
****************
لم ترغب خنساء ان تفكر كثيرًا بالأيام الماضية حتى لا تعكّر صفو مزاجها.. خاصةً لقاءها مع تلك العقرب “امينة” التي تمكنت من خداعها مع انها وثقت بها فعلًا وأعطتها أشعارها..
رفعت خنساء ظهرها قليلًا لتضع وسادة خلفه وهي تكتب ما يجول بخاطرها بقلم الريش قبل ان يقع القلم منها برعب حينما فتح قسورة الباب ودخل قائلًا بغضب واضح:
– هيّا اخبريني ما الذي اخبرتك به امينة.. فصبري بدأ حقًا ينفذ وانتِ تقولين لي كل مرة لاحقًا.. فيما بعد.
عقدت خنساء حاجبيها بضيق وهي تبعد الأوراق من أمامها لتضعهم جانبًا.. ثم سألته بعصبية:
– لماذا تريد ان تعرف ما اخبرتني به تلك اللعينة؟
– لأنني اريد ان اعرف.
صرّخ قسورة بعنفوان وهو يقترب منها فإرتعبت خنساء لوهلةٍ وهدرت بحدة:
– لا تصرخ يا قسورة.
– الن تفعلي؟ تريدين الدفاع عنها وحمايتها.. اليس كذلك خنساء؟
زمجر قسورة بغضب وهو يقبض على ذراعها بخشونة فهتفت خنساء بإستنكار وذهول وهي تمسك قبضته:
– هل تعتقد انني سأفكر بحماية حقيرة مثلها يومًا؟ انا اكرهها بجنون يا قسورة.
قال قسورة بعناد:
– اذًا اخبريني.
زمت خنساء شفتيها بغضب وتمتمت وهي على وشك صفعه من شدة غيظها:
– هي تحبك وتكرهني.. هل هذا الجواب يكفيك يا سيد قسورة؟
– لا.. لا يكفيني.
رد قسورة بعصبية فصاحت خنساء بجنون:
– اخبرك ان تلك المتخلفة تحبك وتريدك.. واللعين شقيقها يريدني ولكن جدي…
– إخرسي!
قاطعها قسورة بغضب اشوس وهو يُطبّق يده على فمها فإرتجفت خنساء خوفًا منه وهي تبصر النيران التي تبثقها عيناه..
همس قسورة بوعيد مرعب:
– والله لأعلّمه درسًا لن ينساه طيلة حياته.. ولأجعل ايامه اسوأ من الجحيم نفسه هو وأخته.
ثم أبعد يده عنها ليتطلع بحدة الى الأوراق التي بجانب خنساء على السرير فأدركت جيدًا ما ينتويه لتهز رأسها بسرعة وتمدّ يدها لتأخذ الأوراق الا ان قسورة كان قد سبقها وهو يلتقط الأوراق ليمزقهم بعنف ويجهر:
– اريد ان اراكِ تكتبين مرة اخرى لأكسر لك يدك.
صرخت خنساء ببكاء وهي تضربه بجنون:
– ايها اللعين.. لماذا مزقت اوراقي مرة اخرى كالمرة السابقة؟ ما ذنبي انا وما ذنب اوراقي لتمزقهم يا مجنون؟
قيّد قسورة يديها بعصبية وزمجر بتهديد خشن:
– كلمة اخرى تقولينها وتكون ليست بمكانها الصحيح يا خنساء لأدعك ترين بسببها الرد الحقيقي للتخلف والجنون.
– مجنون.. مجنون.. سأعود الى منزل اهلي وأشكوك لجدي حتى ينتقم لي منك.
هتفت خنساس ببكاء وتوعد ليلقي عليها قسورة نظرة تشع شررًا ويقول بصوتٍِ مرعب:
– حينها لن اتردد بكسر قدميك يا ابنة الفهدي.. إفعليها وأعدك ان تبكي دمًا بدلًا من الدموع.