رواية غزلًا يوقده الرجال
اتساءل دومًا:
من المذنب انت ام قلبي؟
ادور حول نفسي بتيه
واتساءل مرة اخرى:
لمن الظلم.. لك ام لي؟
وفي نهاية المطاف اجد
ان القدر هو من رسم لنا
هذا العذاب المؤلم..
فأيا ترى قدري سيكون
دونك ام معك فيبتهج أسمي؟——————–
نزلت قدر من سيارتها التي ركنتها على شاطئ البحر وهي تتطلع حولها بتفحص ثم رفعت ذراعيها وعانقت جسدها وهي تشعر ببرد شديد لا تقدر على تحمله البتة..
تقدمت عدة خطوات من شاطئ البحر ووقفت على رماله تتأمل أمواج البحر الهادئة بعينين هائمتين بائستين..
تطاير شعرها الناعم تحت تأثير النسمات الباردة المنبعثة من البحر فأغمضت عينيها تتنشق رائحة البحر بعمق وكأنها ليست هي!.. وكأن تم تجريد روحها من جسدها لتطوف فوق البحر بنعومة دون ان تكون مكبّلة بمشاكل عاطفية تؤثر بها بشدة!
ولم يقاطع عليها هذه اللحظات الجميلة سوى يدان وضعتا سترة سوداء طويلة فوق كتفيها وجسد ضمها الى صدره بقوة فابتلعت قدر ريقها وهي تسمع الهمس الناعم من صوت تعرفه جيدًا:
– اشتقت لكِ حبيبتي.. اشتياق ليس له حدود!
تملصت قدر من حضن سامر دون ان تبدي نفورها او عدم قدرتها على تحمل حضن رجل آخر غير حضن الرجل الذي تعشق.. ثم استدارت ورفعت حدقتيها لسامر العابس وغمغمت مبتسمة بتوتر:
– شكرًا لك.
زفر سامر بضيق ثم امسك يدها وهتف بصوت مغتاظًا:
– هيا لندخل الى المطعم.. لقد حجزت لنا طاولة خاصة تناسب جمالك حبيبتي.
اومأت قدر له بابتسامة شاحبة وولجت برفقته.. وحينما توقفا بجانب المطعم حاولت ان تسحب يدها من يده لتتركه يتكلم مع النادل بارتياح الا انه لم يلبي رغبتها ابدًا بل ضغط على يدها باصرار وكأنه سيتمسك بها حتى النهاية!
بعد دقائق جلسا حول طاولة مزينة بطريقة رومانسية حقًا.. كانت الطاولة تغطيها الشموع والورود الحمراء والبيضاء وأشهى السلطات واللحوم.. ولكن كل ذلك بدى بعينيها باهتًا عاديًا دون اي معنى..
اخذت قدر نفسًا عميقًا دون صوت حالما أمسك سامر يدها ورفعها ليقبلها بمشاعر جيّاشة.. فابتسمت له بشحوب ليغلغل أصابعه بين ثنايا أصابعها ويسألها:
– تبدين شاحبة اليوم.. هل انتِ يخير؟
اومأت ثم قالت:
– اجل، انا بخير سامر.. لا تقلق عليّ.
– اذا لم أقلق عليك فعلى من أقلق؟ انا احبك قدر.. وحبي لك من يحركني ويجعلني اتصرف بهذه الطريقة.
هتف سامر بخشونة لتحمر وجنتاها توترًا وخجلًا وهي تحس بوجع رهيب في صدرها.. هي تظلمه.. تظلمه بشدة.. كيف يعشقها وهي تعشق غيره؟!
وباحساس مشبع بالذنب همست:
– سامر.. انا.. انا في الواقع احب.. احب…
– ششش! لا تقولي شيئًا لا ارغب بمعرفته! هذه الليلة لي وليست لك.. دعيني افرح هذه الليلة يا قدر.
قاطعها سامر فجأة فابتسمت له بتردد وقالت بمرح مصطنع:
– هل تعرف بدأت اشعر باليأس من الجامعة؟ مملة ومتعبة عبثًا!
ابتسم لها سامر ثم قال بجدية تامة:
– اذًا اتركي الجامعة وتعالي واعملي في مدرسة والدي.
– سأفكر.
همست وهي تعنيها حقًا فقبّل سامر يدها مرة اخرى لتحاول ان تبعدها بنوع من الهزل:
– دعني اعرف اكل.. ام انك لا تريدني ان اسمن؟
ضحك سامر ملئ شدقيه ثم أفلت يدها لتقول قدر بعد دقائق وهي تضع يدها على فمها شاهقة:
– يا الهي! لقد نسيت ان اتصل بسند.. اخبرني ان اتصل به فور وصولي الى المطعم.
ابتسم سامر بحب وهو يراها تُخرج هاتفها من حقيبتها السوداء الصغيرة.. وفي اقل من دقيقة كان وجه قدر يشحب والهاتف يسقط من يدها وهي تنهض ودموعها تنهمر على خديها..
– رباه جهاد! يا الله احفظها واشفيها!
لم يفهم سامر ماذا حدث فوقف واقترب منها ليسألها بقلق:
– ماذا حدث حبيبتي؟ اهدأي.. لا تبكي ودعيني افهم!
نظرت اليه قدر بعينين باكيتين مستنجدتين مزقتا روحه:
– جهاد.. جهاد زوجة سند في.. في المستشفى وبوضع خطير يا الله!
ضمها سامر اليه مهدئًا اياها فابتعدت عنه وغمغمت:
– انا سأغادر.. يجب ان اكون هناك.. يجب ان اكون بجوار شقيقي.
ولم تمهل نفسها امكانية للتفكير اكثر فالتقطت حقيبتها وهاتفها وهرولت خارجة من المطعم فأوقفها سامر وهو يقول بصوت حازم:
– لن تقودي وانت في هذا الحال.. انا سأرافقك.
*************
تجمهرت العائلة بجانب غرفة العمليات بانتظار احد من الاطباء يطمئنهم على وضع جهاد الصحي.. ليث متماسك بصعوبة وسيلا تبكي على صدره وهي تدعو الله ان يحفظ ابنتها، رافضة كليًا ان تترك صدره وهو الاخر لم يستطع ان يتركها.. يضمها ليستمد منها قوته وصموده والا لكان انهار هذا الجبل الشامخ..
بينما عمر وسيف واقفان بصمود غريب عجيب.. ياسين يقف بجانب عمر ليدعمه ولكن لم يجد اي كلمة تقال فما الذي سيهدئ خوفهما على اختهما الغير شقيقة؟!.. اما سيف فيقف بجانب جده يؤازره خوفًا ان ينهار عامود العائلة واساسها.. وقد توتر الجو اكثر بعد ان فقدت رين وعيها، غير قادرة على تحمل هذه الصدمة ففقد آسر تعقله جزعًا على زوجته الحامل لينقلوها الى غرفة خاصة ويبقى هو معها..
ما يقلقهم جميعًا حقًا هو عدم خروج اي احد ليطمئنهم منذ ما يقارب الستة ساعات.. وكان سند اكثر من سيموت قلقًا ورعبًا فشعوره بالذنب والقهر يتفاقم.. يلوم نفسه ولولا وجود خاله أوس ووالده أدهم بجانبه لكان الله وحده من يعرف ماذا سيحدث له..
وقد تعبت اعصاب أوس فمن ومن سيؤازر؟.. صديقه واولاده ام اخته وزوجها وطفليها ام بنته التي فقدت وعيها…؟ ام وام…؟ يشكر الله فعلًا ان غيث وناي يساعدانه بالاعتناء بشقيقته سيلين وزوجته عدن.. ولأول مرة يشكر الله ان ريس اختار الصمت والهدوء ولم يعقب على وجود سامر بجانب قدر الباكية..
لم تمرّ من عينيه نظرات ريس لقدر مرّ الكرام.. فكان أوس يراقب الجميع بهدوء وصمود.. حتى نظرات حفيده رواد لابنة حياة “ليليان” انتبه لها.. نظراتهم جميعًا كانت تتراوح بين الحزن والخوف والرجاء.. وبعض النظرات كانت نظرات قهر وغيرة او اعجاب!
بعد فترة قصيرة اقترب جواد من سامر وقال له بهدوء:
– بامكانك ان تغادر يا سامر.. لقد تأخر الوقت وقدر بالحفظ والصون مع عائلتها.. فلا تقلق وغادر لترتاح.
– عمي جواد محق يا سامر.. غادر انت وانا سأكون بخير فلا داعي لتقلق.
اضافت قدر بصوت شجي فتنهد سامر واومأ بموافقته ثم قبّل قدر على وجنتها وهمس لها ببعض الكلمات وغادر تاركًا وراءه وحش يهدئ نفسه قسرًا!.. نار الغيرة قتلته لريس.. لم يجرّبها يومًا ويتذوق علقمها مثل هذه المرة.. ان تلامس شفتا رجل غيره خدّ المرأة التي يريدها له فهذا أقسى عذاب..
لم يقدر على التحمل وهو يعرف اذا لم يغادر الان الى از يهدأ فلن يأبه بالوضع الذي هم به وسيثور كالمجنون.. ولكن يد ناعمت امتدت لتمسك بيده هي من اجبرته على التفكير بعقلانية فهدأ رغمًا عنه..
أغمض ريس عينيه ثم ضمّ جسد جدته المرهق اليه وهمس:
– كفّي عن البكاء يا لين والا حقًا سأتهور لعدة اسباب!
– اصمت انا بماذا وانت بماذا!
تمتمت لين بتأنيب ودموعها تسيل فابتسم ريس وقبّل جبينها متمنيًا ان تتحسن صحة جهاد فجدته لين الاغلى على قلبه لن تتحمل اكثر.. وقد خافوا كلهم عليها بسبب مرضها بالقلب ولكن الحمد لله لم تتأذى واكتفت فقط بوجود حفيدها المفضل – ريس – بجانبها ليدعمها ويعتني بها..
بعد عملية دامت لتسع ساعات خرج احد الاطباء من غرفة العمليات ليقفوا جميعهم ويقتربوا من الطبيب بينما يهتف ليث:
– كيف هي ابنتي يا حضرة الطبيب؟
طالعهم الطبيب للحظة ثم قال:
– بامكانك ان تتفضل معي الى مكتبي لأشرح لك كما يجب.. فلن ينفع الحديث والشرح هنا.
– انا سآتي ايضًا.
تمتم سند ثم سار هو وليث وراء الطبيب..
قعدا قبالة الطبيب ثم همس ليث:
– اخبرنا يا حضرة الطبيب.. كيف حال ابنتي؟
تطلع الطبيب اليهما للحظة وفرك يداه ببعضهمها ثم قال بتأثر:
– من الواضح ان حادث السير كان عنيفًا وقويًا على المريضة فالاصابات التي نتجت لم تكن هينة وبسيطة ابدًا!
– ماذا تقصد يا دكتور؟
تساءل سند بتوجس فقال الطبيب بهدوء بعد ان تنهد:
– اصابات المريضة كانت متعددة.. فقد تم حدوث خلع بعظام كتفها الايمن، اي تمزق الاربطة المفصلية بسبب…
– دكتور اخبرنا بالضبط هل ابنتي بخير؟ اخبرنا الاضرار التي نتجت عن الحادث، لا التفصيل الطبي هذا.
قاطعه ليث وهو بالكاد يتمالك اعصابه فتمتم الطبيب بوجوم:
– ابنتك ستبقى تحت المراقبة في العناية المشددة لأربع وعشرين ساعة حتى نتأكد من تخطيها مرحلة الخطر.. وضعها الصحي غير مستقر كليًا بالاضافة الى حالتها النفسية الي ستتدهور بسبب الحادث والذي قد يؤثر على امكانية شفاؤها.. بالاضافة الى ذلك فهي بعد استيقاظها على الاغلب ستواجه صعوبة كبيرة في السير على قدمها اليمنى او قد لا تقدر ان تسير عليها ابدًا فساقها اليمنى متضررة بشكل كبير ووفقًا لتقرير الاسعاف انهم واجهوا بعض الصعوبة باخراجها من السيارة بسبب ساقها.
شحب وجه سند بألم شديد وهو يهمس:
– اكمل يا دكتور.
– واضيف انها ستتألم جدًا حينما تتنفس وقد يؤثر ذلك على نفسيتها اكثر فقد تعرض صدرها الى اصطدام عنيف مما سبّب لها…
قاطعه ليث مرة اخرى غير قادرًا على سماع المزيد:
– دكتور هل ستكون ابنتي بخير؟ لن تفقد الذاكرة او تصاب بغيبوبة.. اليس كذلك؟
– لا، لم تتعرض ابنتك لاصابات خطيرة في الرأس.. مجرد جروح خفيفة ولكن الضرر الاكبر كان في عضلات الجسم ولكن تأثيرها ايضًا كبيرًا.
قال الطبيب بهدوء فزفر ليث وهو يشعر ببعض الارتياح.. على الاقل اصاباتها اقل خطورة.. ثم غمغم:
– ومتى ستستيقظ يا دكتور؟
– ليس قبل اقل من اسبوع.. نحن لا نفضل ان نوقظها الان لأنها لن تتحمل الالم الجسدي وقد تزداد حالتها الصحية والنفسية سوءًا.. ولكن غدًا ستتخطى مرحلة الخطر ان شاء الله.
اجاب الطبيب فسأله سند بشوق:
– هل بامكاننا ان نراها؟
– ليس اليوم.. غدًا ان شاء الله.
رد الطبيب بابتسامة لهذا الرجل الذي كاد ان ينهار وهو يأتي مع الاسعاف يرجوهم ان ينقذوا حياة زوجته..
***************
في صباح اليوم التالي..
كانت اول من فكّر بها عمر هي.. لونا.. الفتاة المرحة التي تغيظه وتجعله ينسى الدنيا لينشغل بها فقط.. فبأنامل تعكس شعوره الذي يفيض شوقًا واحتياجًا كان يدوّن رقمها ويتصل بها.. وبعد ثوان قليلة كان يوافيه ردها الوقح:
– نعم؟.. ماذا تريد مني؟ لا املك الكثير من الوقت لأتحدث معك فهيّا قل ما لديك.
ابتسم عمر رغمًا عنه وهمس بصوت اجفلها قلقًا:
– هل نلتقي يا لونا؟
انتصبت لونا واقفة وهي تسأله بقلق:
– عمر ما خطب صوتك؟ هل انت بخير؟
– انا بخير ولكنني ارغب برؤيتك.
– انا حاليًا في العمل ولكن قد اهرب بعد قليل فاخبرني اين نلتقي؟
– تعالي اليّ.. الى عملي.
بعد ما يقارب النصف ساعة كانت لونا تقف بجانب عمر وهو يفتح لها باب سيارته.. دخلت الى السيارة وهي تشعر بالقلق والحزن لآجله فوجهه مرهق بشكل كبير وهي ما زالت لم تعرف تمامًا ما الذي حدث ولكن بدى واضحًا لها انه ليس بخير وانه يحتاج الى شخص ما يقف بجانبه ويدعمه وقد وقع اختياره عليها هي من بين الجميع.. ويا للغرور الانثوي الذي شمخ في ثناياها فهي معجبة للغاية بهذا الرجل المجنون بكل ما فيه!
دخل عمر هو الاخر الى سيارته وقال بهدوء:
– ستفطرين معي وسأشتري الفطور للعائلة فأنا خرجت دون ان اخبرهم حتى!
عقدت لونا حاجبيها بحيرة فكلمات الجملة التي قالها غير مناسبة لبعضها اطلاقًا.. ما العلاقة بين شراء الطعام لعائلته وبين كونه لم يخبرهم بخروجه؟!.. ومع ذلك التزمت الصمت فهي تريده ان يتكلم بنفسه وتمّ ما ارادته فهمس عمر بصوت رجولي حزين:
– اختي جهاد في المستشفى منذ البارحة ووضعها الصحي ليس جيدًا.. الم تسمعي بالحادث الذي حدث يا حضرة الصحفية؟
– بل سمعت ولكنني لم اعرف انها اختك!
غمغمت لونا بتأثر ثم مدّت يدها لتضعه على ذراعه، قائلة:
– ستتحسن ان شاء الله.. اطلب من الله ان يشفيها وانا سأدعو لها.
تنهد عمر بضيق فهمست لونا بدموع التأثر:
– عمر انت قوي.. أقوى رجل رأيته وأوسم رجل.. حتى منظرك يبدو مخيفًا بعض الشيء ولكنه يشع دفئًا وحنانًا ولهذا اجد نفسي تميل اليك وتأبى الابتعاد عنك!
ضحك عمر وهو يسألها بنبرة لم تخفي حزنه ابدًا:
– هل تتحدثين بتهور دائمًا حينما تحزنين؟
تخضبت وجنتاها بحمرة قانية وهي ترد ببراءة:
– ليس دائمًا ولكن غالبًا نعم.
ابتسم عمر وهو يكتم تنهيدة اصرار وتصميم.. فقد حسم امره وقرّر ان يقدم على خطوة مهمة في حياته كلها.. ولكن لا بأس بالتروي والانتظار لفترة معينة..
***************
خوف! خوف! خوف!.. هذا ما كان يعانيه سند بعد ان اخبرهم الطبيب بتدهور وضع جهاد الصحي.. فها هي قد عادت الى غرفة العمليات بعد ان كانت قد خرجت منها سالمة.. دموعه مترقرقة في مآقيه تشكو لرب العباد قلّة حيلته.. يرجو الله ان تكون بخير.. يردد دعاءه بكل حواسه وبكل خلية نابضة في جسده دون ان ينتبه لخروج الطبيب من غرفة العمليات..
هزّ رأسه بجنون وعدم استيعاب حينما ارتمت قدر بذراعيه تنشج بصوت عالٍ وببكاء مزّق روحه.. الجميع من حوله يبكي.. صراخهم المفجوع يقطّع الافئدة.. لقد خسروها! عرف انهم خسروها.. ماتت وهي غاضبة منه.. لن يسامح نفسه ابدًا فهو السبب.. لو لم يغضبها لما كان سيحدث ما حدث..
نزل على الأرض يبكي كطفلٍ صغير.. كطفلٍ فقد أمه.. يبكي بندم وشوق.. لقد توفت حبيبته وزوجته.. توفت وانتهت حكايتهما قبل أن تبدأ حتى.. زمجر سند بوجع مرير وهو يضرب الأرض بقدميه ويديه:
– انا السبب.. انا السبب.. ليتني انا من متُّ.. كيف سأعيش دونها؟ لن اقدر يا الله!
قعدت قدر بجانبه على الأرض وعانقته بقوة محاولة ان تخمد المه الهائج الذي يعصف بفؤاده فابعدها سند عنه بانفعال وقام يهجم على غرفة العمليات، صارخًا:
– افتحوا الباب.. دعوني اراها.. جهاد لم تمت! لن تتركني الان.. لن تفعل جهاد.. ولله سأعتذر منها وسأفعل كل ما تري ولكن لتعيش لأجلي.. لنكمل حياتنا معًا! لا يا الله ارجوك!
– سند اهدأ ارجوك! انت تخيفني عليك!
غمغمت قدر ببكاء ففتح سند عينيه بتعب شديد.. يشعر ان نارًا تخرج من جسده المتعرق… تطلع حوله وهو يشكر الله ان كل ما حدث كان كابوسًا مؤلمًا للغاية وليس حقيقة مفجعة.. ليس حقيقة يعني ان حبييته لم تمت بل لا زالت زوجته في قسم العناية المشددة..
اخذ سند يشكر الله بصوت عال وهو يعانق شقيقته الصغرى بقوة اوجعتها:
– الحمد لله يا رب.. لم تمت جهاد.. الف شكر لك يا الله.
رقّ قلب قدر لحالته المنهارة فهمست وهي تمسح بسرعة دمعة انسابت على خدها:
– جهاد لم تمت يا سند.. ستكون بخير لن شاء الله فإتكل على الله وباذن الله ستعود لك كما كانت واحسن.
اومأ سند بارتياح ثم قال:
– يجب ان اذهب لأراها.. اريد ان اطمئن عليها يا قدر.
– امنحني فقط عدة دقائق لأغير ثيابي وارافقك.
غمغمت قدر وهي تبتعد عن شقيقها فهز سند رأسه موافقًا
– حسنٌ.. لا تتأخري يا قدر فيجب ان اذهب بسرعة واتأكد من كونها بخير.
****************
ستفقد مها عقلها قريبًا جدًا لا شك!.. ما هذا السجن الذي وضعوها به؟ لا خروج.. لا هاتف.. لا اصدقاء.. لا شيء!! عمها يحرض والدها عليها ويستمر بجنونه ببث السموم في عقل والدها ليزوجها ابن صديقه المحترم.. ابن العلم والنسب.. من عائلة متدينة بكل ما للكلمة من معنى.. عائلة ذي مكانة مرموقة ومستواها المادي عال جدًا وصيتهم معروف في البلدة كلها..
كلما يقرر هيرمان الحديث مع عائلة والدتها يحدث شيء ما ويمنعه والى متى سيدوم هذا الحال هي حقًا لا تعرف..
بعد دقائق فُتح الباب ليدخل والدها ويقول بصوت بارد:
– لن تبقي اكثر في منزل ابي.. ستعودين الى المنزل لنتكلم كما يجب.
لم تنبس مها ببنت شفة فقال امير بهدوء:
– غدًا سيأتي الشاب ليتعرف عليك.
– انا لا اريده.
هتفت مها بقوة فارتسمت على شفتي امير شبه ابتسامة باردة:
– لن اجبرك على الزواج به فاطمئني يا مها من هذه الناحية ولكن انا ان لم اجبرك على الزواج فسأمنعك عن الزواج ايضًا!
اطلقت مها زفيرًا حارًا ثم بعد تفكير بسيط دنت من والدها وعانقته بتردد وهي تهمس بآسى:
– الم تقسو علي كثيرًا يا أبي؟ في النهاية انا ابنتك وهذا اول خطأ أقترفه بنظرك!
– استغفالك لي اوجعني جدًا.. انا منحتك كل الثقة في كل الأماكن ولكنك غدرتني فلا تتوقعي مني اي تفهم.
قال امير بجدية وعاطفته الابوية تكاد تتغلب عليه ليضمها ولكنه لم يفعل! فابتعدت مها عنه قليلًا وغمغمت:
– و الله اني كنت دائمًا ارفضه لانني اعرف ان هذا ما سيحدث.. هيرمان كان دومًا صديقي المقرب فقط يا ابي وانا لم استغفلك ابدًا والله.. بيني وبينه لم يحدث ابدًا ما يشك به عمي.. جريمتي هي فقط انني احببته…
دمعت عيناها وهي تصحح كلماتها:
– اقصد عشقته يا ابي! هذه هي جريمتي التي يجب ان تكون بنظركم فقط.
ثم ضمته مرة اخرى وهي تسترسل ودموعها تتحرر من مقلتيها وتسيل على وجنتيها:
– ابي انا لا اعرف حقًا لما عمي يحرّضك عليّ هكذا.. كان بامكانك ان تحل ما بيني وبينك بالتفهم فانت اكثر انسان متفهم في الوجود.. دومًا تستمع لي ولشقيقتي بصبر وهدوء.. دومًا تدللنا ولكن هذه المرة قسوت جدًا عليّ!
لم يرد امير عليها ولو باشارة حتى! فلم يود ان يظهر لها تأثره بكلماتها لانها بالنهاية هي ابنته.. قطعة من روحه وقلبه.. وربما لو كان عقله غير متفتحًا حقًا لكان لم يتأثر.. ولكنه هو خاصةً من مواليد المانيا.. عاش هناك اغلب عمره وهذا ما يضعف قسوته عليها وقوة غضبه منها..
قال امير بعد دقائق طالت:
– جهزي اغراضك ولا تنسي اخذ كل شيء يخصك لأنك لن تنامي بعد الان خارج منزلك الا في حال كان منزل زوجك!
****************
بعد اسبوع..
همّت قدر ان تغادر بعد ان رأت ريس يدخل الى منزل خالها أوس خوفًا من المشاكل التي سيتسبب بها اذا بقيت.. فتطلع ادهم بنظرات واجمة متفرّسة اليهما وهتف بصوتٍ عالٍ ليسمعه ريس الذي يدخل اليهما:
– قدر.. اتصل بي والد خطيبك سامر.. يود ان يكون موعد عقد القرآن بعد شهر.. ما رأيك حبيبتي؟
وكأن تمّ ضرب فؤادها بمطرقة حديدية قاتلة فزمجرة فؤادها واختناق انفاسها كانا مخيفين بحق..
نظرت بطرف عينها الى ريس الذي وقف على المدخل لتجد ملامحه مظلمة مخيفة..
تنهدت قدر ثم همست بتوتر:
– أليس من الأفضل ان لا نتسرع كثيرًا بتعيين موعد عقد القرآن؟ دعها على الاقل لبعد ثلاثة أشهر يا أبي.
– لماذا التأخير يا قدر؟ انا الرجل يعجبني وهو يعجبك فلماذا نتأخر؟
قال ادهم بجدية فأتاه الرد من ريس الذي هتف بفظاظة:
– لأنها لا تريده ولن تكون الا لي.. قدر ستتزوجني ان شاء الله انا.
اغتاظ أوس من تصرفات حفيده فصاح بحدة:
– وبأي حق يا ريس تتزوجك انت؟ لا تحبها ولن تقدّرها ابدًا! انت فقط اناني وتحتاج الى من يحطم رأسك!
– ومن قال انني لا افعل؟!
هدر ريس بعصبية باغتتهم جميعهم وأولهم قدر التي أحست انها تحلق فوق فوق.. بين الغيوم وفوق العالم أجمعه.. فانتصب أدهم واقفًا وهو يسأله بغضب:
– ماذا تقصد يا ولد؟
مرّر غيث يده على وجهه بعصبية وهو يسأل ريس باكفهرار:
– وماذا عن الفتاة التي ستخطبها يا ريس؟ ماذا عن رغد؟
اكتفت قدر بالصمت المبهم وهي ترى صدر ريس الذي يرتفع وينخفض دلالةً على غضبه وانفعاله ثم سرعان ما كانت ملامح وجهها تتسم بالارتباك الشديد وريس يطالعها بنظرات عميقة.. عميقة ومربكة للغاية!
– لا تهمني! من الأساس سأنفصل عنها عاجلًا ام آجلًا.
ثم نظر الى ادهم وأجاب على سؤاله بثقة:
– أقصد انني اريد ابنتك لي.
رفع ادهم حاجبيه باستهزاء وهتف:
– وكيف تريدني ان ادع ابنتي تنفصل عن سامر لتتزوجك انت؟ ما الذي سيجعلني اوافق عليك فالفرق بينك وبين سامر خطيبها كالفرق بين السماء والارض! فهل تعتقد انني سأوافق عليك وارفض اشهم الرجال سامر؟!
لم يقدر غيث ان يصمت رغم غيظه من ابنه.. ولكن ان يتم التقليل من شأنه بهذه الطريقة فهذا لن يرضى به ابدًا.. ابنه ابن الجايد والمئات يتمنون نسبهم!
وقف غيث وقال بهدوء وهو ينظر الى ادهم:
– لا تنسى يا ادهم ريس ابن من يكون.. وانا لن اقبل ان يتم التقليل من شأن ولدي وامامي ايضًا.. ابني اخطأ ومن حقك ان تغضب ولكن لا ان تقلّل من شأنه وتقارنه برجل آخر.
– ادهم لا يقصد ما فهمته يا غيث.
دمدمت سيلين مدافعة عن زوجها فأيّدتها ناي:
– بالتأكيد يا غيث ادهم لا يقصد ما فهمته ولكن الانسان حينما يغضب لا يعرف ماذا يقول.
قال ادهم ببرود وكأن تم وضع غشاءًا على عينيه بسبب غريزته الابوبة واهتمامه بمصلحة ابنته:
– بل أقصد ما قلته.. مصلحة ابنتي اهم من العالم اجمع!
– وكرامة ابني اهم من العالم اجمع!
هتف غيث ثم نظر الى زوجته وابنيه وقال:
– هيّا لنغادر.
انقبض قلبها حقًا فاذ كان حلمها الارتباط بالرجل الذي تحبه مستحيلًا فالآن صار معدومًا لأن على ما يبدو ان تفكك العائلة سيتم بسببها هي وريس!
ارتجفت شفتاها بخوف وقلق ونظرت الى خالها بتوسل ليحل هذا الجدال فزفر أوس بضيق وتدخل قائلًا بجدية:
– يا جماعة صلّوا على النبي.. النقاشات لا تتم بهذا الاسلوب!
– عليه افضل الصلاة والسلام.. خالي محق بكلامه.
همست قدر بتوتر فرمقها ادهم بنظرة حادة جعلتها تشعر بالخوف من والدها لأول مرة!
ترددت ناي بتلبية امر زوجها فأمرها مرة اخرى بعصبية لم يستنبطها غيرها:
– هيا يا ناي.. سنزور أهلي.
استجابت ناي له ونهضت ليقول أوس:
– غيث انت في منزلي وانا لن أرضى ان تغادر هكذا.
ثم تابع وهو يتطلع الى ادهم:
– اذ كنتما انتما الكبار من ضخّمتما الامور الى هذا الحد فماذا سيفعل الصغار؟!
– ولله يا أوس انا لا أضخّم الأمور وفقط اقول رأيي فمن حقي كأب يهتم بمصلحة ابنته ان يختار لابنته زوجًا يصونها ويحافظ عليها فسعادتها من سعادتي وانا أجد قدر مناسبة تمامًا لسامر.
قال أدهم بهدوء فاستغفر غيث بصوتٍ عالٍ..
– ومن قال ان لا تهتم بمصلحة ابنتك؟ من حقك ان ترفض طلب ابني ولكن لا ان تقلّل من شأنه وتقول له ان الفرق بينه وبين خطيب ابنتك كالفرق بين السماء والارض!
ثم جذب ناي من يدها وتابع:
– والان اعذرني يا عمي أوس ولكن يجب ان نقف حقًا بجانب عائلتي كما انا وعائلتي دومًا نقف بجانبكم لذلك عن اذنك.
وغادر غيث ويد ناي بيده فتبعه ريس لأول مرة بصمت كما فعلته شقيقته قمر!
***************
كيف لم يعرف؟ فكّر حمزة بجنون بعد ان سمع من خالته ان جهاد في المستشفى منذ ما يقارب الأسبوع وأكثر.. لقد كان مسافرًا منذ فترة الى السويد مع شقيقه وترك والدته مع خالته وممرضة فلبينية صبورة نالت على رضاه بعملها ولم يعود الا صباح اليوم اي قبل ساعات قليلة..
سار حمزة بين ممرات المشفى ثم توقف بجانب قسم العناية المشددة ليسأل احدى الممرضات عنها فابتسمت له باغواء وهي ترد:
– تعال معي وسأخبرك تمامًا بأي غرفة تكون شقيقتك!
– ليست شقيقتي!
ردّ حمزة باشمئزاز وكأن ما ينقصه فقط ظهور هذه الممرضة الحمقاء.. لو كان بوضع غير لكان عرف كيف يتعامل معها ولكنه متلهفًا الآن للاطمئنان على ابنة الجيران! هذا جلّ ما يهمه..
سار حمزة وراءها دون ان يأبه بالكلمات البلهاء التي تتفوه بها هذه المرأة الساذجة.. شكلها يذكره بحبة الباذنجان الضخمة التي يقطعونها الى عدة شرائح ثم يقومون بقليها!
كادت ان تشق الابتسامة الساخرة سبيلها الى ثغره ولكنه الجمها قسرًا بعد ان لمح قدر فترك الممرضة تسير وهي تتكلم لوحدها وسارع نحو قدر ليوقفها بصوته:
– انسة قدر.
توقفت قدر وطالعته للحظة ثم قالت:
– سيد حمزة.. اليس كذلك؟
– صحيح.
رد حمزة بابتسامة فغمغمت قدر بعفوية:
– كيف حالك؟ لا بد انك اتيت من اجل سند وجهاد.
– بالفعل اتيت لأطمئن عليهما!
قال حمزة فاردفت قدر بحزن:
– من الجيد انك اتيت لأن وجودك سيخفف على سند حزنه فانت صديقه المقرّب!
ثم مدّت يدها الى الامام لتدعه يتقدم وهمست:
– هيّا دعنا نصعد معًا لنطمئن عليه وعلى جهاد.
وقبل ان يدخلا الى المصعد استدارت قدر بعد ان سمعت نداء عمر عليها وريس بجانبه!
ازدردت قدر ريقها بارتباك وهي ترفع عينيها الى ريس الذي اخذ يقترب منهما وامارات الغضب تنجلي بوضوح على وجهه بينما عمر يهدر وهو يزلف من حمزة البارد بعصبية مخيفة:
– انت! ما الذي تفعله هنا يا حقير؟ ما الذي آتى بك الى المستشفى؟
———————
يتبع..